أبوذر على الأمين
أمام دعاوى التغيير الجذري الذي سيحدث كما تدعو وتبشر له اتفاقية السلام ، يبدو غريبا تبني اتفاقية السلام بين الحكومة والحركة للديمقراطية . كما أن كيفية انفاذ هذه الديمقراطية يبرز صعوبات تشكك فيها كخيار استراتيجي وتظهر التفاعلات الراهنة على المجال السياسي خيار الديمقراطية كخيار تكتيكي شديد الغموض لآن طرفي الاتفاقية ذاتهم يوظفونه ميدانا لشرعنة الصراع والتنافس فيما بينهما من جهة و بينهم والقوى الأخرى بأكثر مما هو منهج لتغيير جزري .
يظهر ذلك أولا في شرعية القوة التي تأسست عليها الاتفاقية ذاتها ، كما تبرزها حقائق قسم السلطة والثرة والمجال (الشمال الحكومة – الجنوب الحركة) . وثانيا يمثل مبدأ الحصص (الأرقام) القاعدة الأساسية للتعامل خارج نطاق الشراكة (الحكومة – الحركة) إذ تتمترس كل منهما خلف النسب لتحديد التعامل مع القوى الأخرى وتبرر لذلك بعدم الرغبة في أجراء تغيير على الاتفاقية وبنودها .
إن الطريقة التي أسست وبنيت عليها اتفاقية السلام (شرعية القوة) والتي تعطي الحكومة حق مطلق في الشمال ، كما تعطي الحركة حق مطلق في الجنوب ، توضح أزمتها ، بل وتكشف زيفا كثيرا يتم تسويقه على أساس أن تغييرا جوهريا سيتم لسودان جديد .
إن أزمة التغيير الذي تدعو وتبشر له اتفاقية السلام تظهر في انعدام الثقة بين أطراف الاتفاقية (الحكومة – الحركة)وهو ما دفع أولا بتأسيس الاتفاق على مبدأ شرعية القوة من جهة - وبين طرفي الاتفاق والقوي السياسية الأخرى .
ذلك لأن تحديد التعامل وفقا للنسب المكتسبة أو بالاحرى المتفق عليها بين طرفي الاتفاق تطرح مشكلات التعامل مع قوي سياسية أخرى موجودة ضمن المجال السوداني المقسم الآن لشمال حكومي - وجنوب حركة شعبية .
وضمن هذا المجال تتفاعل رؤية جنوبية ضمنت كامل حق التعامل في الجنوب ، لكنها بالمقابل ترى أنها وتماما كما ظلمت كجنوب بالإهمال والتهميش وضعف التنمية ، ظلمت أيما ظلم كجزء وشريك له حق المشاركة على المستوى القومي ، وهذا الحق يجب أن يرد وأن يتم الاهتمام به بجدية كاملة ورعاية خاصة " وتمثل نسبة ال 10% للجنوب ضمن ولايات السودان واحدا من هذه الحلول" .
كما أنه ونسبة لعدم الثقة أولا في الطرف الشريك الذي ربما يحاول حصر الجنوب داخل الإطار والمجال الجنوبي باعتبار أنه نال كل ما يرجوه وأكثر مما يستوجب مقابل أن يكون الشمال مجال مطلق للحكومة وأن تضمن الشراكة مع الحركة للحكومة (ممثلة الشمال) ضبط إيقاعات الحركة هناك بعيدا عن أي مهددات تمس استمراريتها كقوة حاكمة .
إن هذا الإطار يوضح بجلاء المعركة الحالية حول الدستور الانتقالي حيث تحصنت الحكومة والحركة خلف ا لنسب لتحتفظ ب 80% وتبقي هامش 20% لمشاركة القوى الأخرى ، وسنعود لهذا الأمر لاحقا .
لكن أزمته الكبرى تبدوا في طابعة الثنائي ، ليس في طرفيه فقط (الحكومة – الحركة) بل في تقسيم المجال الجغرافي بين (شمال – جنوب) ، وتقسيمه للسلطات والثروة والقوة (الجيوش) بين طرفي الاتفاق .
لأن التأسيس على مكتسبات طرفي الاتفاق سيعمل على تفجير الصراع بصورة أكثر حدة كما هو الحال في دارفور ، كما سيعمل على استنهاض وتوليد عدم ثقة الأطراف الأخرى خارج الاتفاق حول كل الخيارات والتوجهات المطروحة. ذلك أن الاعتراف بالتعددية الاثنية والثقافية في السودان لا تنطبق على الجنوب تماما ، وعلى المناطق الثلاث – جبال النوبة ، الانقسنا، أبيي – لحد ما . بل على مناطق أخرى من السودان لها وضع مشابه أو قريب لوضع الجنوب .
و التهميش لهذه المناطق والقوى فيه يدفعها لإحساس بحدوث تعدي على حقوق ضمنت للجنوب وسلبت منها ليرعاها المركز دون وجود رؤية تضمن تلك المصالح والحقوق ولا كيفية انفاذها من قبل تلك الجهات .
كما أن الحدث عن إمكانية تطبيق اتفاقية السلام على مناطق السودان دون النص على ذلك صراحا لا يمكن التأسيس عليه لجملة أسباب ؟.
لأن الاتفاقية أساسا لم تنص على ذلك تحديدا ، ولأنها لم تعط المناطق الثلاث كل ما أعطته للجنوب وجعلتها وسطا بين ذلك . ولأن تقسيم الثروة والسلطة والقوات لم يترك لها مجال تقرأ من خلاله إمكانية أن يشملها ذلك الاتفاق بالإنصاف التام . وأخيرا لأن الاتفاق بين الحكومة والحركة لم يأتي طوعا بل عبر الحرب وصراع القوة المباشر ، وهذا هو أخطر المؤشرات التي لا تنبئ بتحول جزري قد يحدث على الأقل في المستقبل القريب.
إن التحول الجذري يبدوا صعبا وحلما خرافيا إذا نظرنا للطريقة التي ستتوسل بها اتفاقية السلام لإنفاذ الديمقراطية والانفتاح السياسي والذي يقوم في جوهره على أساس تفتيت المركزية وتبني رؤية نظام فيدرالي يكون ضمنه للولايات الحق في اشتراع دستور وانتخاب حاكم الولاية ومجلسها التشريعي بل وتأسيس كل نظام إدارتها .
مع التسليم بضرورة الخطوة وأهميتها ، إلا أن أزمة استحالة تأسيس تغيير جذري عليها تكمن في الإبقاء على الخلفية والإطار التنازعي الذي سينعش الصراع بين هذه الولايات بصورة تزيل إن لم تهمش المركز حتى بالشكل الضابط للنظام الفيدرالي ، لتبقى الولايات جزر متصارعة لا يحكمها ضابط تتبدد ثرواتها وطاقاتها بأسواء من المستوى الذي بددت فيه القوى السياسية ثروات وطاقات السودان خلال الحقب الماضية .
إن هذا الطرح يوضع الآن ويفسر المعركة الدائرة حول الدستور الانتقالي ولماذا ترفض الأحزاب المعارضة المشاركة بل ولماذا تشكك القوى الأخرى (دارفور - الشرق) وتتوجس من مآلا ته .
وهو ذات السياق الذي يوضح تبسيط د. منصور خالد المخل وغير الموفق بمقارنته للذي يحدث الآن –في إطار رفض القوى السياسية المشاركة ضمن لجنة أو مفوضية الدستور الانتقالي- بما حدث بعد ثورة أكتوبر 1964م إذ يقول " ... ما الذي حدث بعد ثورة أكتوبر 1964م ممن تكونت الحكومة .. هل تكونت من القوى السياسية جميعا؟ أليس صحيحا أن القوة الأساسية في حكومة أكتوبر هي جبهة الهيئات ، وكانت الأحزاب تمثل تمثيلا رمزيا ؟ هل قضية دور الأحزاب في ثورة أكتوبر أهم من دور الطرفين في حرب اشتعلت 20 عاما ؟ في حكومة الانتفاضة من الذي تولتها .. الأحزاب؟ الحكومة أقامتها النقابات وقبل الناس هذا .. إذن وجود حكومة في الفترة الانتقالية بهذا الشكل أمر تقتضيه طبيعة الظروف" .
المفارقة تأتي من حيث أن اتفاقية السلام جعلت السلطة والثروة والجيوش (القوة) حكرا بين طرفيها مجردة كل القوى الأخرى من هذه الامتيازات التي تسمح لهما بفرض كل شئ على الآخرين وربما حتى خيارات التصويت في حالة الانتخابات (الحرة) ، وهو ما م يحدث في الحالات التي مثل لها د. منصور خالد . لذلك ستبقى هذه القوى متوجسة تتعامل بلا ثقة مع الطرفين الشريكين بما يسمح لها برفض مطلق لكل شئ لتبدأ من جديد المنازعة السياسية وإعادة إنتاجها .
كما أن القوى التي تصطرع الآن في دارفور والشرق تتوجس من التوجهات الحالية لصياغة الدستور الانتقالي الذي سيتطور وفق ذات اللجنة أو المفوضية لدستور دائم وتبدي ملاحظات غاية في الأهمية برزت في إطار نقاشاتها لمقترح صحيفة الأيام "لفك الاشتباك" .
تقول د. آمنة ضرار الأمين العام لمؤتمر البجا " المعالجة الحقيقية لوضع دستور دائم يعالج كل مشاكل السودان وتفعيل كل الآراء السياسية وآراء المجتمع المدني يمكن أن تتم حسب المرحلة الثانية من المقترح (تقصد مقترح صحيفة الأيام) وهي الوصول إلى دستور دائم يوضع بعد إجراء الانتخابات ، وبعد أن تكون الرؤية قد اتضحت بشأن الشرق ودارفور ... إذا تم وضع دستور دائم للبلاد في فترة الست أسابيع وما زال هناك تفاوض سيجري حول تلك المناطق فان هذا الدستور سيضطر إلى إعادة وضعه من جديد لان هناك أمور ذات صيغة دستورية ما زالت معلقة ... حتى إذا قيل لنا ن تلك الأمور المعلقة ستعالج في دستور الولايات فهذا غير صحيح لأن لأي مواطن الحق في المشاركة في الدستور المركزي الفيدرالي".
وتبقى قضية تعديل الاتفاقية الذي تتحجج به الحكومة والحركة في مواجهة القوى الأخرى متمترسه حول نسب المشاركة حجة مدعاة لشكوك دائمة تدفع بالقوى الأخرى للمنازعة والعودة للعبة نفي الآخر . ذلك لأن الحكومة والحركة طرفي الاتفاق يسمحان لانفسهما بالتعديل على تلك الاتفاقية ، ولكن عندما يجرى تعديل فريد ووحيد يمس مجال مشاركة القوى الأخرى - نقصد مد الانتخابات من نهاية السنة الثالثة للسنو الرابعة - فأن التوجس وعدم الثقة في التعديلات التي قد تمس الخيار الديمقراطي من الشريكين تبدو مبررة خاصة مع غياب وسلب هذا الحق (التعديل) من الأخريين وعدم ضمانه من طرفي الاتفاق .
وفي إطار وضع الحكم الفيدرالي الذي تتبناه الاتفاقية كواحد من المتغيرات الجوهرية التي ستضعف المركز لصالح الولايات ، تبدوا مبادرة ولايات سنار القضارف - والبقية تأتي- بتكوين لجنة صياغة دستور الولاية حتى قبل أو في تزامن مع الدستور الانتقالي مدعاة للصراع و مفرخة عظيمة للتنازع ربما يشمل ذلك حتى المركز الفيدرالي القادم ذاته . إذ من شأن هذا الاستباق أن يولد الشكوك حول التأسيس لوضع متميز للحكومة والمؤتمر الوطني في غياب محددات واضحة للفيدرالية الضابطة لدستور الولاية هذا من جهة .
ومن جهة أخرى تحيل هذه المبادرات التصور حول أيلولة صلاحيات المركز للولايات برمته إلى تحد كبير إذ كيف ستؤسس هذه الصلاحيات وما هي حدودها ، والأخطر من ذلك هل ستكون للولايات الحق في صياغة دساتيرها وفقا لأولياتها ومصالحها وتوازن القوى ضمنها ، أم أنها ستكون مضطرة بل ملزمة بمراعاة اتجاهات وخيارات المركز الفيدرالي، بمعني هل التغيير الجديد سيبرز من أسفل (الشعب – الولايات) باتجاه الأعلى المركز ، أم العكس من الأعلى المركز الفيدرالي إلى الأسفل الولايات . وضمن هذا الإطار كيف ستتم معالجة نسبة التمثيل 10% للجنوب خاصة ضمن الولايات التي تخوض حرب ضد الحكومة (دار فور) والتي ترى أنها مهمشة أكثر من الجنوب أن لم تكن مثله .
إن سياق ثنائية اتفاق السلام بمكتسباته التي جيرها لطرفيه لا يسمح ببروز تغيير جوهري على المجال السياسي ، بل يؤسس لتغييرات شكلية الطابع ستعيد تأسيس التنازع وتعميق ثقافة رفض الآخر بل وطرده خارج كل الأطر المطروحة ، بل ستعطي التنازع أبعاد أخطر من تلك التي توفرت على المجال السياسي سابقا بشكل مفزع يمكن تجدوا إرهاصات ذلك ضمن تغرير مجموعة الأزمات الدولية الذي نشرته الصحف مؤخرا ، وضمن نقاشات وحوارات وتفاعلات القوى السياسية الراهن . وسنواصل أبراز الصعوبات التي تواجه التغيير الجذري تأسيسا على اتفاقية السلام بين الحكومة والحركة وفقا لذلك .