بقلم: بريمة محمد أدم
[email protected]
بسم الله الرحمن الرحيم
المقال الرابع والأخير:
خلاصة: في هذا المقال أستخلصت الأسباب وراء الظواهر الأيكولوجية للرعاة وماذا تعنى بالنسبة لتنميتهم وقدمت بعض المقترحات التى تساعد في تنمية المنطقة، وأهم ما في أبجديات التنظير نحو فجر أفضل للرعاة هو إستصحاب فكرة التجوال والتراث الرعوى (الذى يخالف تراث المجتمعات المستقرة) كمرتكزات (أو خطوط حمراء) لا يكمن أن نتجاوزها في أى تصور تنموى، ثم عرجت علي إدخال فكرة (البديل التراثى) وفكرة (التبعيض الأسرى، أستقرار جزء من الأسر الرعوية) وفكرة (العصى والجزرة) أغراء الرعاة بتعليم إبناءهم بخفض أو رفع نسبة ضرائب بهائمهم، كأسس يمكنها أن تساعد في عكس إتجاه التراث الرعوى بصورة ممرحلة والتقليل من التجوال بصورة تدريجية. وفي المقال دعوة إلي سبر غور تحديث عدة وأدوات الرعاة، حتى نقلل من الأثار السلبية علي البيئة وهناك دعوة إلي إدخال وسائل الأتصال الحديثة في البيئة الرعوية كوسائل لفتح بصيرة الرعاة إلي عالم يختلف عن عالمهم الرعوى. فإن محاولة تنمية الرعاة أو أستقرارهم هى في حقيقتها محاولة ذات أبعاد عدة منها البعد التراثى، البعد الأقتصادى والبعد البشرى والبعد البيئى الأيكولوجى. والأخذ بهذه الأبعاد الأربعة دون الأخلال بأحدها سوف يؤدى إلي أنجع الحلول التنموية للرعاة. وتعتبر نقطة الألتقاء نحو وحدة هذه العناصر هى أيجاد حلول تنموية ناجحة أو ناجعة للأسباب البيئية التى تجعلهم يتجولون: المياه، النباتات، الحشرات والأوحال. فإلي حيثيات المقال.
في هذا المقال نجيب علي سؤال: هل يمكننا التوصل إلي معادلة لتنمية الرعاة من خلال فهم علاقتهم بالبيئة؟ ونريد أن نلفت نظر القارئ قد نصل إلي إجابة وقد لا نصل إلي إجابة، وما يحقق الأجابة المرجوة يتوقف علي أى مدى تتطابق الرؤى التى نقدمها مع نهج حياتهم اليومى (الذى قدمناه في المقالات السابقة)، فالمسألة هنا مسألة إجتهاد في الرأى، وقد تصيب وقد تخطئ، وأرجو أن يصححنى القراء إذا ما زلفت أو أخطأت في قراء ظاهرة معينة وأستنباط ما يمكن منها.
وقبل الخوض في الموضوع، دعنى نطرح السؤال الجوهرى: هل الرعى كحرفة أو مهنة تصلح في القرن الواحد والعشرين، بكل ما يحمل ذلك السؤال من معانى إقتصادية ومادية (وسائل الرفاه الأجتماعى)؟ وهذا السؤال وحده إذا أستطعنا تحديده يعنى أننا وجدنا نصف الأجابة والتى تعنى واحد من أثنين: إما إستقرار الرعاة أو عدم إستقرارهم. ومن هذين الفرضيتين يعنى أننا ملزمون بأجراء مقابلة ما بين فوائد الأستقرار أو الترحال بالنسبة للرعاة. وخطورة السؤال هو إلغاء إحد طرفى المعادلة والتى تحتم إلغاء الرعى بأعتبار أنه لا يمكن تحريك المجتمعات المستقرة لكى تصبح رعاة بعد أن كانوا مستقرين ينعمون بوسائل الرفاه الأجتماعى وأقرب للنمو الأقتصادى وأكثر بعداً من تأبط الظواهر البيئية الأيكولوجية (الخزعبلات البقارية) التى تحكم قبضتها علي رقاب البقارة والتى نريد فكاكها عنهم بكل السبل. وبنظرة سريعة لحركة التأريخ البشرى يرى المتأمل أن الحياة على وجه البسيطة بدأت بجمع الثمار (المدخل إلي حرفة الزراعة) وأستئناث الحيوان (المدخل إلي حرفة الرعى) ثم لكى يمتلك الأنسان السيطرة علي الموارد بصورة أفضل ويهزم أعداءه التقليديين من بنى البشر والحيوانات المفترسة والكاسرة أبتدر فكرة الصناعة اليدوية (مدخل للصناعة) وأنداحت حركة التأريخ الأنسانى تواصل مسيرتها التراكمية في الخبرات المكتسبة وتأسس لنفسها نظم حياتها ووسائلها التى تمكنها دوماً من أمتلاك ناصية العلم والمعرفة كأنجع السبل لمواجهة التحديات المستقبلية. ذلك الأتجاه يدهض الرعى الذى تعتوره أمية طاغية مما جعل هدف التنمية الرعوية في حقيقته ينحصر في أستقرار الرعاة كوسيلة لمحاولة فكاكهم من الأحوال والأهوال البيئية القاهرة. إذن في نصب أعيننا أننا نريد اللحاق بالمجتمعات المستقرة، ولكن لماذا فشلت المحاولات التنموية حتى اليوم؟ ولماذا يظل الرعاة يغالبون تلك البيئات القاحلة والظروف القاهرة وهم يذهبون إلي المدن ويرون نعيمها ويشروب عصائرها و(مبرداتها، كما يقولون) ثم ما يلبثوا أن يعودوا من حيث أتوا إلي تلك البيئة البائسة. ذلك المبرر وحدة (عودة الرعاة بعد زيارة المدن إلي البادية) دليل قاطع علي حسنة الرعى بالنسبة لهم مقابل الأستقرار، ولكن ما الذى يجعلهم يستحسنون الرعى؟ هل لأنهم أميون لا يستطيعون المنافسة في أطار المدن؟ هل لأنهم لا يجيدون أى من المهارات المدنية والفنية لذلك يعودون؟ لماذا لا يعلمون أبناءهم حتى يجدوا لأنفسهم موضع قدم وسط أصحاب المدن والمجتمعات المستقرة؟ هل لأن الوظيفة فيها من الذل والهوان الذى يجعلهم ينفرون منها؟ مهما كانت وجاهة الأسباب التى تجعلهم يستقرون أو يعودون، فإن جوهر الأمر ينبنى علي سيكولوجية الأنسان الرعوى ونظرته الشمولية للمدنية والأستقرار كنظم إجتماعية ذات ثقافة مغايرة لما ألفه، بأعتبار أن الأنسان المستقر أقل مرتبه من الأنسان الراحل من ناحية العز والجاه (المسار عز العرب)، ويرى الفقر والذل والهوان في حياة الأستقرار، ذلك يعنى لكى يقتنع العرب الرحل بحسنة الأستقرار أنهم يريدون رؤية حسنة الأستقرار في أصلاح حال القرى والمدن التى يقتلها الفقر والجوع والمرض، كما يريدون ظهور بوادر حسنات الأستقرار في زويهم المستقرون الذين فقدوا ثروتهم وألزمهم الفقر للركون إلي الأستقرار، مما يعنى أن الرعاة سوف يظلون الحلقة الأخيرة في محاولة تنمية الهامش السودانى وأريفافة وقراه، ويظل أغنياء الرعاة أخر من يستقر (يركن إلي حياة الفقر) وأخر من يستجب لنظرياتنا التنموية، إذن علينا أن نبد بالحلقة الضعيفة في السلسة من فقراء البقارة فهم الأقرب إلي الأستقرار وبأستقرار الفقراء سوف تتفتح آفاق تعليمية لأبناءهم مما يعنى سحب بساط الجاه من تحت أقدام الأغنياء الجهلاء (إن صح التعبير) الذين يستمسكون بالتراث المتخلف وهذا ما أسمية بنظرية (البديل التراثى، سوف أشرح النظرية أكثر). ولم يكن جوهر نفور الأنسان الرعوى من حياة الأستقرار مرده إلي ضعف مقدرته التنافسية في أطار الحضر، بل يعود السبب إلي (القهر) البيئى الذى أحكم قبضته في حياة الأنسان الرعوى مما جعل الرعاة ضمن مكونات النظام البيئى الذى تتحكم في جزئياته قوانين بيئية صارمة، فتجدهم يتحركون تبعاً لظروف الأمطار أو جودة النباتات أو ظهور الحشرات، فنشأ أسلوب حياة يتكامل مع البيئة ومكوناتها وظواهرها بصور يصعب معها فك الأرتباط بين ثقافة الرعاة وتراثهم وأسلوب حياتهم والبيئة التى تحيط بهم.
إذن نخلص أن التراث الرعوى يلزم أنتهاج أسلوب مغاير للتنمية يتماشى مع ذلك الموروث الرعوى، ومن أهم أسس هذا التراث ومن ثم البرامج التنموية التى تبنى عليه هو الأخذ بمدأ التجوال، كحقيقة أولية وليس أزلية يجب نبدأ منها ثم نتخلص منها في نهاية المطاف إن أستطعنا إلي ذلك سبيلا، فإن لم نستطع فعلينا تطويرهم في أطار التجوال (بأعتبار أن السودان متعدد النظم الأجتماعية، منها المستقر والمتنقل وكل له حسناته وترهاته). إذن كيف يمكننا الأخذ بمبدأ التجوال لنصل إلي ترك التجوال؟ وقبل الأجابة علي هذا السؤال الذى يعتبر لب البحث في هذه المقالات، دعنى نجب علي سؤال هل الرعى حرفة أو مهنة ذات جدوى في محتواها الأقتصادى؟ فقد ثبت علمياً وبما لا يدع مجال للشك أن الرعى (التجوال) في حزام السافنا في أفريقيا هو من أنسب الوسائل لأستغلال الموارد البيئية المتاحة من مياه، مراعى، بيئات نائية، أماكن وعرة أو هامشية لا تصلح لأى نشاط أقتصادى أخر، وأنه النشاط الأقتصادى الوحيد الذى يلائم البيئة أيكولوجياً حيث يسمح التجوال بتجديد نمو النباتات وإعادة البيئات النباتية لحيويتها وأتاحة الفرصة للنباتات لإكمال دورة نموها ويبعد الحيوانات من الحشرات الضارة والذباب والأوحال في الصعيد فترة نزول الأمطار ويجنب الرعاة مشقة علف الحيوانات أو حصرها في بيئات جافة شحيحة المراعى والمياه. نخلص أن الرعى في حزام البقارة هو أنسب نظام أقتصادى يواكب إيكولوجية المنطقة وتربتها الحشة ومنسوب ومعدلات أمطارها (وهنا أتحدث من مصادر علمية ومن أراد دهض هذه الرأى فهلم إليّ). ودعنى أيضاً نقدم مثالاً علي جدوى الرعى في القرن الواحد والعشرين، ففي أمريكا أم الحضارة يوجد رعاة متجولون، ليس بالحيوان البقرى ولكن أيضاً حيوانات أخرى أخذت فكرة تجوالها من نظرية الأستغلال الأمثل للموارد عند الرعى. فمحترفى تربية النحل في أمريكا تحولوا إلي رعاة. فالمناخ الأمريكى يشبه إلي حد كبير حزام السافنا في أطاره الطيق، ففى جنوب القارة توجد المناطق الأستوائية ذات دراجات الحرارة العالية والمياه الوفيرة والنباتات الأستوائية، ثم يتدرج المناخ إلي الصحراوى في الوسط ثم إلي المناخ البارد الذى يصل أوج برودته في حدود كندا شمالاً. بدأ أصحاب النحل الذين يفقدون الأزهار والرهيق في فصل الجاف (سواء كانوا في الشمال أو الجنوب) بترحال المناحل علي شاحنات ضخمة من مكان إلي أخر، تلك الشاحنات بها مكيفات الهواء وأنوار كهربائية، وتلفزيونات تأتى بالفضائيات وغرف معدة بأحسن الأساس ومطابخ مجهزة، هل النحل يستحق كل هذه الزخم من الصرف البزخى (والهيلامانة) لكى يرتع في الأزهار طوال العام، أم هو ضمن (جنون البقر) الأمريكى؟ من يقل أن النحل يستطيع أن يجمع عسلا في غياب الأزهار، ولكن لكل زراعة فترة بوار فلماذا لا يتركون النحل المسكين يأخذ قصداً من الراحة في فترة الجفاف؟ الأمر أخطر من ذلك أن العسل الطبيعى يدخل في مستحضرات طبية وأدوية هامة لا يمكن الأستغناء عنها، فأذا ما توقف الأنتاج تلجأ تلك الشركات إلي بدائل أخرى لسد حوجتها مما يعنى كساد سوق العسل حتى في موسم حصاده، وهناك مثال في السودان يؤكد علي فقد المنتوجات لقيمتها التنافسية عندما لم تستوف قوانين العرض والطلب، الصمغ العربى الذى ينتج السودان 80% من أنتاجه العالمى، فقد قام وزير التجارة الأسبق أبوحريرة، الذى عرف حوجة السوق العالمى لبضاعته بمضاعفة سعر القنطار عدة مرات في عهد حكومة السيد الصادق المهدى، مما جعل الشركات التى تعتمد عليه عالمياً غير منافسة في السوق العالمى وقد قادت النتيجة أن تأتى تلك الشركات العملاقة ببدائل مصنعة بالنسبة للصمغ العربى مما جعلنا نخسر السوق العالمى في أهم منتجاتنا الوطنية، أصحاب النحل في أمريكا عرفوا ذلك الفخ تماماً وتحولوا إلي بقارة (أقصد رعاة) بصورة حديثة لأستيفاء شروط العرض والطلب. نخلص إذن ليس الخطأ في الرعى كحرفة ولكن حقيقة تنقصنا الأمكانيات كدولة وشعب، مما يعنى علينا بالأبتكار لكى نقهر الظروف البيئية البائسة وتحويل حرفة الرعى إلي نشاط إقتصادى جاذب وليس طارد، ذلك التحليل يؤدى إلي أن الأخذ بمبدأ التجوال سليم إقتصادياً وإيكولوجياً، كما نصل إلي أن الهدف من محاولة إستقرار الرعاة ليس القضاء علي حرفة الرعى بل تنمية الأنسان الرعوى وتنمية موارده الرعوية بصورة أفضل يمكن أستغلالها والتحكم في إنتاجها وعائداتها. وذلك لعمرى أعقد إشكال تنموى أقعد المحاولات المتكررة لأيجاد حلول وسطية ما بين حسنة الرعى كنظام إقتصادى ناجح ومساوئه كنظام إجتماعى فاشل (نسبة الأمية بين الرعاة قد تصل درجات خرافية) وكل المحاولات التنموية التى تقدمت إندرجت تحت محاولة بناء نظام إجتماعى فاعل مقابل تحطيم الرعى كنظام إقتصادى، في حين يرى الرعاة حسنة الرعى. ولكى نخرج من هذه الفرضيات الأزلية علينا أن نأخذ بمبدأ التجوال كنظام إقتصادى ثم نحاول بناء نظام إجتماعى فاعل يواكب ذلك النظام الأقتصادى الفاعل (عكس النظريات التنموية السابقة)، ومن خلال مستقبل التجربة والأعتراك المكانى والزمانى بين الأفكار التى تدعو إلي الأستقرار المرشد (سوف أتحدث عنه بعد قليل) والأفكار التى تدعو إلي الترحال عن وعى ربما نصل إلي نمط إقتصادى جديد يخالف الأستقرار والترحال في مضامينه الأقتصادية والأجتماعية. تجربة الأقطاع في أروبا، نظام إقتصادى بنى علي أستغلال المجموعات المستضعفة في تلك المجتمعات، وحينما برز اللبراليون الذى يرفضون الهيمنة بأنواعها الإقطاعيه أو الدينية، فقد قام أهل الأقطاع بمجارات المستجدات بتغير النمط الأقطاعى بتحرير الكيانات العمالية المستضعفة وإدخال نظام الأجور، ذلك لا يعنى بأى حال إلغاء الأقطاع من وجه البسيطة فما زالت الأسر الأروبية تمتلك القلعات الحصينة وتكدس أموالها حتى اليوم ولكن بأسس جديده. نخلص إلي إننا يجب تحويل الرعى إلي نظام إقتصادى جديد أكثر فاعليه ولا يعادى موروثهم التقليدى.
دعنى الأن ندخل الباب من حيث يدخل البقارة الرعاة ونبدأ في تحليل تراثهم وظواهرهم البيئية بأنها معطيات أولية نحاول إعادة قراءتها وننفذ من خلالها إلي ما هو الأسلوب الأمثل لتنمية الرعاة:
التراث البقارى ينبنى علي أساس أن المسار أو الترحال هو الأفضل وأن المستقرون هم الفقراء أو البؤساء وأهل الترحال هم أهل العز والجاه والسلطان، إذن الحكمة تقول: أن الأنسان دوماً مدفوع نحو الأحسن (أى أن البقارة دوماً مندفعين نحو مزيد من الترحال) فدعهم يترحلوا حتى حين، وضع نصب عينيك نظرية (البديل التراثى) نحو البناء علي أستقرار الفقراء، ذلك يجعل القارئ الحصيف يتبن أن جذب الفقراء نحو برامج التوطين والتعليم سوف يزيد من أسهم الفقراء في سلم الجاه المزعوم، مما يؤدى إلي منافسة الأغنياء نحو الألتفاف علي مصادر الجاه بتعليم أبناءهم وذلك ربما يؤدى إلي تراث رعوى جديد يرى حسنة التعليم والذى يحمل بالنسبة لنا بوادر التغيير المرتقب في الأقتصاد الرعوى، وهناك نظرية أخرى أسميها نظرية (التبعيض الأسرى) تنبنى علي أغراء البقارة بأستقرار جزء من أسرهم والحفاظ علي الجزء الأخر متنقلاً (حفاظاً علي مسيرة الرعى المقدسة)، النظرية الثالثة هى نظرية (العصى والجزرة) والتى تقول من يدخل أبنه المدرسة يعفى من كذا من ضرائبه كل عام، ومن لم يستجب ترفع نسبة ضرائبه كل عام، ولأن الرعاة لا يقبلون بدفع فلس من أموالهم للضرائب فإن حسنة هذا الأتجاه سوف تنعكس علي تعليم الصغار. إذن تعليم أبناء الرعاة هو أهم أساس لتبديل التراث الرعوى، ولكن كيف يتسنى لنا تعليم الصغار ونحن تتحكم فينا الظروف والظواهر البيئية؟ إذن الخطوه القادمة هى مصارعة الظواهر البيئية تنموياً ومحاولة فك خناقها وتأثيرها علي الرعاة، ففى الفقرات الثلاثة القادمة سوف نعد قراء ماهى الظواهر البيئية وماذا تعنى لهم وكيف نواجهها؟.
أولاً: الظواهر الأيكولوجية الحيوانية (سمكة أم كورو، طائر معيطيب، الضفادع ..) في محصلتها مؤشرات ودلالات أو أرهاصات (أجهزة أنزار أو رصد) لنزول أو أنقطاع المطر، والسبب في ذلك رغبتهم ليكونوا في متناول المياه أوالخروج من أماكن الأوحال والحشرات قبل أن تهجم عليهم، علماً أنهم لا يريدون الهروب إلي أماكن جافة.
ثانياً: معرفة حركة الأجرام السماوية والنجوم هى أيضاً محاولة لرصد فترات إنتظام الخريف أو قرب نزوله أو تقصى الأتجاهات.
ثالثاً: أن الظواهر النباتية هى دلالات ومؤشرات لوجود المياه الجوفية ومعرفة جودة المرعى.
نخلص من النقاط الثلاثة السابقة أن علينا فك الأرتباط بين الرعاة والظواهر الأيكولوجية حتى يستعيد الأنسان حريته ويتحكم في مستقبله، دون أن يعنى ذلك أستقراره (حتى لا نخالف شروط التراث الرعوى)، وهذا يعنى أننا نريد الوصول إلي إنسان رعوى متحرر من القيود البيئية، أى أنسان رعوى محترف لحرفة الرعى عن قناعة ومعرفة كما في رعاة أمريكا والدول المتحضرة.
ومن الدراسة المتأنية لتلك النقاط وكل المقالات نستنتج الأتى:
1. رغبة الرعاة في رصد نزول وتوقف الأمطار.
2. معرفة أماكن المياه الجوفية.
3. معرفة جودة المراعى.
4. رصد فترات ظهور الحشرات.
5. رغبة الرعاة في تفادى الأوحال.
وخلاصة القول هنا أن هناك أربعة أسباب وراء حركة الرعاة وأرتباط سيكولوجيتهم بالبيئة وهى:
1. المياه.
2. النباتات.
3. الحشرات.
4. والأوحال.
إذن محاولة فك الأرتباط بين الرعاة والظروف البيئية تحتم إيجاد حلول للأسباب سابقة الذكر، ففى الفقرات التالية سوف نتطرق إلي كيفية معالجة هذه الأسباب حتى يكمن تحقيق التنمية البشرية لشعب البقارة، ومعالجة هذه الأسباب في أطار التجوال تؤدى إلي بروز إتجاه نحو الأستقرار المرشد، بأعتبار أن الذين يتركون حرفة الرعى جملة يعرفون أنهم يتجهون نحو وضع أقتصادى أفضل، أما الذين لا يسعفهم الخروج إلي وضع مستقر أفضل إقتصادياً يظلون رعاة (كما في أبناء القرى، فمنهم من نحج في مستقبله وأسس حياته في المدن، ومنهم من لم ينجح يظل مزارعاً في أطار القري)، فما الخطأ في هذا الأتجاه؟
ومن تلك الأسباب الأربعة التى تحرك الرعاة وتؤثر فى حياتهم ومماتهم سوف يظل سبب واحد في المستبقل يؤرق الرعاة ولا يستطيع علماء البيئة والنبات والحيوان التعامل معه بصورة مرضية للرعاة. هل أستطعت التكهن بذلك السبب أيها القارئ، ثم أن هناك سبب ثانى تعتبر معالجته في غاية الصعوبة من تلك الأسباب الثلاثة المتبقية، وقبل أن نجيب علي اللغز دعنا نتطرق إلي شئ أخر تماماً، هو رفاه الأنسان الرعوى (عدة المنزل، عدة الغطاء، عدوات البناء، الراديو، التلفزيون، الثلاجة، الصحف)، التعليم، الصحة وغيرها هل يمكن توفرها أو إيجاد الحلول لها في حالة معالجة الأرتباط بين الرعاة والأسباب الأربعة التى توثر فيهم (مرة أخرى لا نعنى إستقرار الرعاة). الأجابة بالأيجاب!.
دعنا نستنبط حلول سهلة تتماشى مع حركة التجوال. فيما يخص المياه، يعرف الرعاة أماكن المياه الجوفية أحسن من غيرهم من خبراء الجيولوجيا والحفريات، ولكن تنقصهم المعدات اللازمة لحفر آبار دائمة، فهم يحفرون تلك الآبار كل سنة ثم يتروكونها تغمرها المياه وتدفنها الأوحال كل عام ثم يعاودون حفرها العام المقبل، إذن الحكمة تقول يجب أن يحفرونها عام واحد ثم تظل تلك الآبار مفتوحة للأعوام القادمة، وذلك شئ بسيط يجب أن تبنى الأبار بالطوب أو صبها بالأسمنت علي غرار الآبار الأرتوازية (ما يسمى عند البقارة بالسوانى) والبقارة لديهم المقدرة لتحمل تكلفة صب آبارهم (ما علينا إلا توفير الخرسانة وبأى ثمن) وذلك يعتبر المشروع التنموى الأول. المشروع الثانى للمياه هو تحويل كل أماكن الأبار إلي آبار إرتوازية أىّ دوانكى (وهذا المشروع يحتاج إلي تحريك العون الخارجى، كاليونسيف وغيرها) فإذا توفرة المياه بواسطة هذه الطريقة نضمن أشياء أخرى أهمها تفرغ أبناء الرعاة إلي التعليم (لأنهم بطبيعة الحال يداومون في أماكن الآبار لتجهيز المياه للأبقار كل يوم) وفي نفس الوقت نضمن مياه صحية مما يقلل نسب الأمراض المعدية وأمراض الحصى الكلوى وغيرها. المشروع التنموى الثالث هو تقليل التطييق علي الرعاة من جراء الأوحال بأنشاء معابر للوديان والخيران (ولا أقول كبارى، فنحن ليس لدينا عربات) هذه المعابر (الضيقة) تكون ذات تكلفة متواضعة ويمكن تمويلها بالعون الذاتى وبناءها بسواعد أبناء الرعاة في فترات الصيف أو من ضرائب أبقارنا التى لم يكن لنا فيها نصيب وحتى يومنا هذا. المشروع الرابع هو التطلع إلي تحويل المعابر إلي جسور وكبارى وتحويل كل المسارات إلي طرقات مسفلته (أو ردميات ترابية) وذلك يؤدى إلي تنمية القرى المستقرة وأماكن الرعاة، مما يسهل حركة العربات والشاحنات مع الرعاة والتى تساعد في تسويق المنتجات وجلب الأدوية والعناية البيطرية ونقل الصغار إلي أماكن المدارس. أما في حالة النباتات فأن الأمر لا يعدو أن يكون ضرباً من الوهم في أطار التخلف العام الذى يعيشه القطر، فإن أبسط أسس التعامل مع النباتات في أطار مرعى جماعى هو إعادة إبزار النباتات ذات القيمة الغذائية والجودة العالية، ذلك الأمر وحده يحتاج إلي محطات إكثار البذور ودور للأبحاث وطائرات تقوم بنثر تلك البذور علي مساحات شاسعة وكذلك أختراع مبيدات للحشائش الضارة دون سواها، وبدلاً من سبر غور هذا الجانب يجب الأتجاه إلي تحسين نسل الأبقار بمواصفات بيئيه ونباتيه، أى إنتاج حيوانات يمكنها التغذى علي النباتات التى تعتبر غير مستساغة لحيوناتنا الحالية (إنتاج بقر يقضى علي الحلو والمر من الأعشاب) وتظل هناك جوانب مشرقة في التعامل مع النباتات كمعرفة ساعتها البيولوجية والتعامل معها تباعاً وخلاصة القول هنا إننا نريد حركة رعى منتظمة، بحل مشكلة المياه نكون قد قطعنا شوطاً عظيماً نحو بناء نظام رعوى منتظم في حركته. أما فيما يخص الحشرات (العامل الأصعب)، فإن أمر محاربتها أمر شبه مستحيل (اللهم إلا إذا أنتجنا أبقار ذات خواص لا تسمح للحشرات بالأقتراب منها وذلك مع تطرفه لا يجدى لأن الأنسان مستهدف من الحشرات مثلما الحيوانات، فالحشرات كالأرهابى يستهدف العدو والصليح)، ولا أريد أن يقول لي شخص أن المبيدات الحشرية متوفرة وعلينا برش الباعوض والذباب. هذه الفكرة تنطوى علي خطر عظيم للبيئة أشد من خطر الحشرات علي الرعاة (وأرجوا أن يضع القارئ في مؤخرة ذهنه خلافنا الأصولى، نحن دعاة حماية البيئة مقابل دعاة وقاية المحاصيل، أشبه بالخلاف بين أنصار السنة والصوفية)، فالرعاة بتجوالهم أستطاعوا تفادى الحشرات الضارة، ولكن بأبادة الحشرات نكون قد قضينا علي أهم مكونات البيئة وهو الذباب نفسه الذى يعتبر من أهم عوامل التلقيح للنباتات والزرع علي السواء، بالقضاء علي الذباب نكون قد أدخلنا المزارع في ورطة تلقيح أغلب المحاصيل بيده (علي طريقة تلقيح البلح) وقضينا علي كل مزارع النحل، وقد تظهر أمراض جمة وتتكاثر جراثيم وبائية نحن لا نعرف عنها شئ حتى الأن بحسبان أن أغلب الحشرات تتغذى عليها. فإن الشواهد البيئية تشير إلي ذلك بصورة لا تدع مجال للشك، فإن أى مخلوق خلق لحكمة يعرفها خالقه قبل أن نعرفها نحن البشر. وهنا بعض الترهات في هذا المجال، ففى وقت سابق وجد الناس أن النمر يمثل خطر في جنوب دارفور علي المواطن، فدعوا فريق من خبراء البيئة للأستشارة في أمره، فأشار الخبراء الذين أتوا من العاصمة إلي قتل النمور وبدأت التصديقات تصرف جزافاً من إدارة حرس الصيد للصيادين، وما أن تقلصت أعداد الوحوش المفترسة حتى ظهرت مشكلة أخرى، فقد إزدادت القرود بصورة مزعجة تهدد كل المحصول وبجميع أنواعه، مما ينذر بمجاعة في المنطقة بسبب القرود. فدعى نفس الخبراء إلي حل مشكلة القرود، فوجد الفريق العجب، فقد كانت النمور تتغذى علي القرود مما جعل نسبتها قليلة ولم تؤثر في الزرع، فأنبرى الخبراء ينادون بأعادة النمور كأفضل وسيلة للقضاء على القرود، هذا ما يسمى بأختلال الهرم الغزائى الأيكولوجى، النظام البيئيى الأيكولوجى محكوم بنسب صارمة بين مكوناته الحياتية (بما فيها الأنسان والنبات). وهناك أمثلة أخرى لا يمكن حصرها، تؤكد عدم صلاحية المبيدات أصلاً للأستعمال، لأن المبيد لديه جوانب سلبية لا يمكن تفاديها قد تؤدى إلي أمراض سرطانية للبشر، الحيوان والنبات. أضف إلي كل ذلك أن الحشرات التى توجد في مناطق البقارة هى أمتداد للحشرات في المناطق الأستوائية وقد تمتد تلك الصلة إلي جنوب أفريقيا، فحن أبناء البقارة لا نمسح بأن تصبح أرضنا وأهلنا مكان للسميات (ومبقرة للحشرات الأفريقية، وأقول ذلك بكل صدق)، نخلص هنا علي البقارة تحمل لثعات الذباب وأهم طرق المكافحة هى المكافحة البيولوجية، تربية حشرات تتغذى علي حشرات أخرى ضارة (أى الأتيان بحشرات أخرى تقوم بنفس دور الحشرة المأكوله في أداء وظيفتها البيئية ولكنها أقل ضرراً بالنسبة للأنسان والحيوان والبيئة). يجب أن يلاحظ القارئ أن المحافظة علي البيئة هى من أساسيات التنمية في الدول المتحضرة والمتقدمة.
أهم ما يمكن أستنتاجة في محاولة فك الحصار (الحشراتى) والتخلف الذى تفرضة الحشرات علي الرعاة بزفهم ما ظهرت، أن نبى نظم لا تتضارب مع فترة نشوب الحشرات. وبمعرفتنا اللصيقة بفترات ظهور الحشرات الضارة، يمكننا بناء نظام تعليمى وتدريبى ومهنى يواكب الفترات التى تخلو من الذباب، فإن الفترة ما بين نوفمبر حتى أوائل شهر مايو تعتبر خاليه من الذباب في أغلب بقاع جنوب كردفان، فإذا أفترضنا أن شهر نوفمبر ضمن فصول الترحال فأن الفترة ما بين ديسمبر حتى منتصف مايو يجب أن تكون مرحلة دراسية لكل أبناء الرعاة في جنوب كردفان وهم مع زويهم، أما بقية العام الدراسى يجب أن يطابق فترة الأستقرار في مراعى الشمال التى تخلو من الحشرات الضارة، الفترة ما بين منتصف إغسطس إلى منتصف أكتوبر هى من أنسب الفترات لهذه المرحلة الدراسية. وبذلك نصل إلي أن الطفل البقارى يجب أن يكون مسجل في مدرستين في العام الواحد، مدارس الصيف ومدارس الخريف، أو مدرسة واحدة متنقلة بين مواقع الصيف والخريف وليس من الصعب نقل الأساتذة من مدارس الصيف أو مواقع الصيف إلي مدارس الخريف أو مواقع الخريف وبالعكس. كما يجب أن يلاحظ القارئ أن فترة منتصف مايو إلي منتصف أغسطس وكذلك الفترة ما بين منتصف أكتوبر إلي أوائل ديسمبر يجب أن تكون فترة عطلات مدرسية لأنها تصادف فترة التجوال. ويجب أن يلاحظ القارئ أيضاًَ أن الفترة الحرجة لأبناء الرعاة هى مرحلة الأساس، فمن إجتازها فقد حقق مستقبل تعليمى، أما ما بعد فترة الأساس فهى سهلة حيث يستطيع أبناء الرعاة الأستقرار في المدن أو المدارس الداخلية ومواصلة تعليمهم. وهذا النظام التعليمى الذى أقترحه يغطى رقعة جغرافية تمتد من جنوب دارفور غرباً مروراً بجنوب كردفان إلي النيل الأبيض وجنوب النيل الأزرق شرقاً. كما أن الفترات المشار عليها يجب أن يستفاد منها في التدريب المهنى وتوظيف الرعاة موسيمياً والأستفادة من سواعدهم في دعم العون الذاتى في تلك الفترات. فهل من آذان صاغية!
يعتبر أيضاً الأتجاه نحو تطوير معدات الرعاة إتجاه سهل، فأن تحويل العدة الفخارية والقرع والصحون والبروش إلي معدات وعدوات حديثة أمر ليس صعب، فإن المصنوعات السراميكية، التى يصنع منها الكمبيوترات وكثير من العدة الحديثه، مواد خفيفة الوزن (والظل) وغاية في الرقى. كذلك تحويل طرق عمل الزرائب من الشوك إلي زرائب حديثه، وتحويل حطب البناء إلي إعمدة ثابته، وإيجاد مراتب تمنع تسرب الماء إلي داخلها، وأدخال أدوات أستقبال المحطات الفضائية (الدش) والتلفزيون كلها أدوات يمكن أدخالها في البيئات الرعوية والتنقل بها.
إذن محاولة تنمية الرعاة أو أستقرارهم هى في حقيقتها محاولة ذات أبعاد عدة منها البعد التراثى، البعد الأقتصادى والبعد البشرى والبعد البيئى الأيكولوجى. والأخذ بهذه الأبعاد الأربعة دون الأخلال بأحدها سوف يؤدى إلي أنجع الحلول التنموية للرعاة. وتعتبر نقطة الألتقاء نحو وحدة هذه العناصر هى أيجاد حلول تنموية ناجحة أو ناجعة للأسباب البيئية التى تجعلهم يتجولون: المياه، النباتات، الحشرات والأوحال.
نخلص بهذه الدعوة إلي كل أبناء الرعاة وإلي كل المهتمين بالتنمية البشرية والرعوية والبيئية، فأن الله لم يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإن علينا أن نغير منهجنا في تناول قضية الرعاة وتناولها في أطارها والمساعدة في إيجاد الحلول لها. وهنا ندعو كل من يمتلك فكرة أو وجهة نظر أو يعرف كيف نحقق بها ما طرح، عليه أن يقدم فكره وجهده حتى نخرج هذا الشعب من الظلم والجهل والأمية والأوضاع المزرية التى يعيشها.
والله ولى التوفيق.
بريمة محمد أدم، واشنطن دى سى، الولايات المتحدة الأمريكية.