لماذا تنعقد قمتان متتاليتان، احداهما في أبوجا، والأخرى في طرابلس (الغرب)، حول مشكلة دارفور، الاقليم السوداني الذي برز على ساحة التفاعلات الدولية قبل عامين؟.. ولماذا تأتي قمة طرابلس إذا كانت قمة أبوجا قد نتج عنها “البروتوكول الاطاري” لحل الصراع في دارفور في ما بين الحكومة السودانية، وحركتي التمرد الرئيستين في دارفور، “حركة تحرير السودان” و”حركة العدل والمساواة”؟ والأهم، لماذا يسارع الحلف الأطلسي “ناتو” بإعلانه على لسان أمينه العام باب دي هوب شيفر، عن استعداد الحلف لتقديم مساعدة لوجستية للاتحاد الإفريقي، ضمن مهمة حفظ السلام التي يقودها في دارفور ب “التنسيق” مع الاتحاد الأوروبي ب “شفافية”؟
مثل هذا التساؤل، متعدد الشعب، وإن كان يوضح مدى التعقيد الذي ينتاب أزمة غرب السودان، أي: إقليم دارفور؛ فهو، في الوقت نفسه، تعدد الأطراف العربية والإفريقية والدولية التي تتابع ما يحدث في هذا الاقليم، كل من وجهة نظر مصالحه الاستراتيجية.. قطعاً.
صحيح أن قمة طرابلس قد أكدت ضرورة حل الصراع في دارفور في الاطار الإفريقي، ورفض أي تدخل أجنبي.. وصحيح، أيضاً، أن الاتحاد الافريقي قد وقف عند حدود طلب المساعدة اللوجستية من حلف الناتو؛ وهو ما حاول تأكيده ألفا عمر كوناري، رئيس لجنة الاتحاد الافريقي، حيث أشار إلى أن الجنود في السودان سيكونون أفارقة حصراً، ولن يتم نشر أي قوات غير إفريقية”، هذا من دون أن يدلي بالمزيد من التفصيل.
هذا وذاك صحيحان.. ولكن يبقى من الصحيح، كذلك، التساؤل حول المدلول الحقيقي الذي تتضمنه إشارة شيفر، الأمين العام لحلف ناتو، تلك التي مفادها: “أن الحلف الأطلسي (سوف) يتقاسم المسؤوليات في المنطقة مع الاتحاد الأوروبي”.
هنا، يصبح من حقنا أن نؤكد مرة أخرى المقولة التي كنا قد أثبتناها في مقال سابق، نعني: “فتش عن القوى الكبرى في كل أزمة”.. ومن ثم، يصبح من حقنا، أيضاً، أن نتساءل: ترى، هل تنطبق هذه المقولة على ما يحدث، راهناً، في السودان بصفة عامة، وفي إقليم دارفور على وجه خاص؟
المدخل إلى الاجابة عن هذا التساؤل، هو ملاحظة: أنه عقب صدور بيان من الكونجرس الأمريكي (في: 22 يوليو/ تموز الماضي)، يعتبر أن ما يحدث في الاقليم، اقليم دارفور، هو حرب ابادة عرقية، طالب أعضاء الكونجرس ادارة الرئيس بوش بالتحرك لاستصدار قرار من مجلس الأمن، يفوض الأمم المتحدة استخدام قوة متعددة الجنسيات للتدخل في الإقليم من أجل: “المدنيين المشردين وعمل الإغاثة هناك”.
وبالفعل، فإن مشروع القرار الذي سعت الولايات المتحدة إلى استصداره من مجلس الأمن، مدعومة في ذلك من ألمانيا وبريطانيا وأستراليا، بحجة أن ما يجري في دارفور هو: “عملية إبادة جماعية”، والذي يقضي ب “فرض عقوبات على السودان”، قد صدر بعد ذلك بأيام قلائل (في: 30 يوليو/ تموز الماضي)، ومفاده: “التهديد بعمل دبلوماسي، و/أو اقتصادي، ما لم تنزع الحكومة السودانية أسلحة ميليشيات الجنجاويد (المتهمة بارتكاب فظائع ضد سكان دارفور)، وتقديم أفرادها إلى المحاكمة خلال 30 يوماً”.
الأمر الجدير بالتأمل والانتباه، هنا، هو: الاستعداد الذي أبدته بريطانيا بإرسال خمسة آلاف جندي، وبمشاركة استراليا، إلى دارفور، وذلك قبل تقديم مشروع القرار الأمريكي إلى مجلس الأمن.. وهو ما يعني: أن التوجه إلى التدخل العسكري في غرب السودان، هو توجه واضح، وأن تمرير مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن، لم يمثل سوى الخطوة الأولى لإنجاز هذا التوجه.
قولنا الأخير، هذا، تشير إليه، وتؤكده، ملاحظتان:
الملاحظة الأولى، وهي تلك التي تتعلق ب “التوجه الأمريكي نحو تشكيل عامل ضغط على الحكومة السودانية”.. إذ إن صدور مشروع القرار الأمريكي، ك “قرار” عن مجلس الأمن الدولي، يضع الحكومة السودانية في مأزق، حقيقي؛ خاصة إذا ما عاد المتمردون ضدها في إقليم دارفور إلى طاولة المفاوضات مجدداً. فها هنا، سوف تتقلص القدرة التفاوضية للحكومة في مواجهة المتمردين.
وبالرغم من أن الحكومة السودانية كانت قد بادرت، بالفعل، إلى القاء القبض على بعض العناصر من ميليشيات الجنجاويد، بل وقدمت عدداً منهم إلى المحاكمة، وصدرت أحكام إدانة ضدهم.. إلا أن المتمردين، مدفوعين، في ما يبدو، بالتأييد الأمريكي والبريطاني، لم يجدوا في هذا التحرك إجراءً كافياً لمعالجة الأزمة. ومن ثم، تم تجاهل التحرك السوداني، واستمرت الولايات المتحدة في سعيها إلى استصدار قرار من مجلس الأمن.. إلى أن صدر.
من الواضح، هنا، أن نفس هذا المشهد (السيناريو)، كان قد تم من قبل في ما يخص المتمردين في جنوب السودان، وبالتحديد: الحركة الشعبية لتحرير السودان، أو: حركة جون قرنق.. إذ، كلنا لا يزال يتذكر قانون الكونجرس الأمريكي المسمى: “قانون سلام السودان” وهو القانون الذي شكل عاملاً ضاغطاً على الحكومة السودانية في مفاوضاتها مع حركة قرنق، ولولاه لما تم التوصل إلى كل الاتفاقات بين الحكومة والحركة: بهذا الشكل الذي رأيناه، وبهذه السرعة التي شهدناها، وبكم تلك التنازلات من جانب الحكومة، كما تتبدى عبر نصوص الاتفاقات ذاتها. وبما أن المطلوب انجازه بخصوص جنوب السودان، قد تم (لاحظ أن: جنوب السودان وشماله، يدخلان، راهناً، مرحلة انتقالية مدتها 6 سنوات، يقرر بعدها الأول ما إذا كان يمكنه الاستمرار في إطار السودان الموحد، أم يقرر الانفصال؛ هذا، دون أدنى تدخل من الأخير).. لذا، فالمطلوب، الآن، أمريكياً، وربما من قبله بريطانياً، تكرار نفس المشهد بخصوص غرب السودان؛ ومجموعة الحجج في هذا الشأن متعددة، بل وقوية، خاصة عندما يتعلق الأمر ب “الانسانيات” (تشريد البشر، وبؤسهم، واغتصاب النساء.. إلخ).
الملاحظة الثانية، وهي تلك التي تختص ب “لماذا السودان؟؛ ولماذا الجنوب من قبل؟، ولماذا الغرب الآن؟.. والأهم، لماذا الحركة الشعبية لتحرير السودان، وحدها، في ما يخص الجنوب؛ ولماذا حركة تحرير السودان، وحدها، في ما يخص الغرب؟”.
صحيح أن السودان يعاني مشكلات خاصة بالاثنيات والعرقيات المتعددة، في داخله، والتي يصل عددها إلى 572 عرقية؛ وصحيح أن السودان يوجد به أكثر من 30 حركة تمرد، تسعى جميعها للانفصال وتكوين دويلات مستقلة، أو أن تتمتع ب “الحكم الذاتي” على أقل تقدير.. إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضاً، ضرورة التساؤل حول تخصيص حركة قرنق وحدها بالتفاوض مع الحكومة السودانية، دون الحركات الموجودة في الجنوب (لاحظ أن: قرنق، بعد توقيع اتفاق “السلام”، سيكون نائباً للرئيس السوداني، بعد إتمام المرحلة الأخيرة من التسوية، خلال ثلاثة أشهر)؛ وكذلك الحال في ما يخص حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، دون الحركات الموجودة في الغرب (لاحظ أن: هناك ثمة علاقة، بل وتنسيق، بين الحركة الأخيرة وحركة جون قرنق).
إنها الموارد الطبيعية: النفط أولاً، ثم الموارد المعدنية ثانياً.. ناهيك عن ما يتمتع به السودان، في إطار منطقة القرن الافريقي ككل، من أهمية “جغراستية” (جغراستراتيجية)، ثالثاً.
ف “حركة تحرير السودان”، مثلها في ذلك مثل حركة قرنق، ترغب في اقتسام عائدات النفط الذي تم اكتشافه في جنوب ووسط السودان.. وهو ما بدا بوضوح في مسودة “البروتوكول الاطاري” الناتج عن قمة أبوجا؛ إذ جاء فيه، أن: “اقرار الفيدرالية في الحكم مع اقتسام السلطة والتوزيع العادل للمسؤوليات بين الحكومة الفيدرالية والمركز في كل المستويات، أمر مهم لضمان مشاركة الولايات عامة ودارفور خاصة”(المادة الرابعة).
والأهم، أن التمرد في دارفور لم يظهر إلى السطح إلا عند اكتشاف النفط.
أضف إلى ذلك، أن إقليم دارفور يتمتع بمميزات، تجعل من محاولات التدخل العسكري “الغربي” فيه أمراً مفهوماً، بعيدا عن أية دوافع إنسانية.. فهذا الإقليم يتمتع باحتياطي ضخم من الفوسفات يضاهي الصحراء الغربية، وربما يتفوق فيه عليها؛ هذا، فضلا عن اليورانيوم والكوبالت.. ثم، فإن إقليم دارفور يلامس في موقعه الجغرافي كلاً من مصر وليبيا وتشاد؛ وبصرف النظر عن كثير تفاصيل حول أهمية مصر ك “دولة محورية كبرى”، وليبيا ك “دولة نفطية كبرى”، فإن تشاد: وصلت نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي لها (خلال العام 2003؛ وكما يذكر موقع C.I.A، من خلال The World FactBook)، إلى 15%، وهو معدل من حيث نسبة النمو، وليس من حيث حجم الاقتصاد يتفوق على المعدل الذي حققته الصين، في العام نفسه.. وباستخدام التعبير الذي استخدمته مجلة “الايكونوميست”، يمكن القول: “شكراً للنفط”.
هذا وإن كان يؤكد المقولة الرئيسية في مقالنا هذا، أي: “فتش عن القوى الكبرى في كل أزمة”.. إلا أنه، في اعتقادنا، غير كاف لتأكيد المحاولات الغربية، المستميتة، ل “فدرلة” السودان.. المحاولات: التي تثير عدداً من التساؤلات، حول: مستقبل السودان، ذلك البلد الذي يمثل البوابة “الجنوبية” للأمن العربي؛ بل، دون ما مغالاة، “البلد العربي المفتاح” إلى منطقة القرن الإفريقي وباب المندب والمحيط الهندي، وهي المنطقة التي تضاف إلى منطقة الخليج العربي، ليمثلا معاً دائرة “قوس الأزمة” في القرن الحادي والعشرين.
والتساؤل المطروح:
ألا توجد “علاقة سياسية” بين ذلك، وبين ما دار من قبل، ولا يزال، بخصوص “جنوب السودان”؛ وكذلك ما يدور، راهناً، بشأن دارفور؟
وإذا كانت هناك مثل هذه العلاقة؛ ترى، هل تمثل أزمة دارفور، أو هي في طريقها إلى أن تمثل، غطاءً لتدخل دولي، محتمل، في السودان؟
“فتش عن القوى الكبرى في كل أزمة”.. هي المقولة التي تحدد، في اعتقادنا، الإجابة الصحيحة عن هذه التساؤلات، وغيرها.