الولايات المتحدة الأمريكية عندما طالبت كثير من الدول بإصلاحات ديمقراطية أسقطت من حساباتها الخرطوم رغم أن الدعوة وصلت قاهرة المعز ليس لأن السودان ينعم بظل الديمقراطية بل لأن السودان يعتبر من الدول الثيوقراطية خارج مركز العولمة ( الفجوة غير المندمجة) وهي حوض الكاريبي وبعض الدول الإفريقية والقوقاز والبلقان وتعتبر هذه الدول (خارج الشبكة ) لأن درجة تأثرها بالعولمة ضعيف أو يكاد يكون منعدم. لهذا لم تكن واشنطن متحمسة لفرض الممارسة الديمقراطية وتوسيع الحرية في السودان ما يهمها في هذا الإطار أن حكومة الخرطوم المرتقبة ديمقراطية كانت أو أوتوقراطية أو توتاليتارية أو بيروقراطية يجب أن تصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي وحتى دعوتها لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط لم تكن هدفاً مثالياً نظرياً بقدر ما هو خطة عملية تصب مباشرة في رصيد الأمن القومي للإمبراطورية الأمريكية والهدف الأول والأخير ليس مبادئ الديمقراطية ولا قيم حقوق الإنسان بل نشر الرأسمالية في كل أنحاء العالم والدعوة إلى الديمقراطية ماهي إلا تغليف للمصالح الأمبريالية بورق (سيلوفان) ديمقراطي. وواشنطن في دعوتها الرامية إلى ديمقراطية الشرق الأوسط لم ترسم أي سياسات مستقبلية لتطبيقها وترسيخها, وممارستها بقدر ما أنها تكرس كل طاقاتها لإخراجها للوجود رغم أن تضاريس الحكم في منطقة الشرق الأوسط تختلف تماماً عن أي منطقة فهناك حكم الجمهوريات الوراثية والحكم الملكي المحافظ والملكي الليبرالي والأنظمة الديمقراطية التي تفتقر دساتيرها لمكانيزمات المحاسبة والمساءلة وغيرها.
هل ستطالب الحركة الشعبية بفصل الدستور الروحي عن المادي كما هو الحال عند المسيحيين الذين ميزوا باكراً بين (مالقيصر لقيصر وما لله لله) و الشراكة المرتقبة بينها وبين حزب المؤتمر الوطني الحاكم هل ستستند على الديمقراطية أم على الدستوريةConstitutionalism؟. الديمقراطية تتضمن السماح للمواطنين بممارسة السلطة السياسية , سواء بشكل مباشر أو غير مباشر, والدستورية تتضمن الترتيبات الأيدولوجية والمؤسسية التي تعزز الحد من استبداد الحكومة أو الدولة. المحاسبة الديمقراطية للشعب , والمحاسبة الدستورية للقانون الأساسي (الدستور). هذا الرأي يعطي الأولية في الإصلاحات للدستورية على الديمقراطية . وعلى زمة الأمريكي فريد زكريا مدير تحرير دورية (فورين أفيرز)أن الليبرالية الدستورية تختلف نظرياً وتاريخياً عن الديمقراطية. فهي لا تتعلق بالإجراءات لإختيار حكومة, بل تنصب حول أهداف هذه الحكومة وحماية استقلالية الفرد وكرامته ضد القهر. إذاً الدستور هو الحارس الأمين للديقراطية وبدونه تصبح الدميقراطية حسناء في حارة السقايين معرضة لجميع الإنتهاكات. ورأينا كيف أن الديمقراطية في السودان سرت بقطع من الليل ثلاث مرات ولم تلتفت إلى أهلهالأنه لم يكن هناك دستور قوي تأوي إليه والسودان منذ أن تركه الإنجليز لم يكن لديه دستور يحفظ ماء وجهه السياسي.
عبثاً يظن البعض أن الديمقراطية هي مخزن يحوي بداخله رزمانة من الحقوق الدستورية ولكن الصحيح أن الدستورية تؤدي حتماً إلى الديمقراطية ولا تؤدي بالضرور الأخيرة إلى الدستورية. والدستورية العصرية هي دستورية وضعية كما يصفها الفقيه الدستوري الكبير الراحل أيمن رباط وأن وضعها يتم بعملية عقلية من النخب الفكرية والسياسية الخبيرة بدهاليز السياسة والقانون وباختصار فهي في العصر الحديث وجود حكومة أو سلطة محدودة مقيدة بقوانين. وهي صناعة غربية ومن مظاهر تطوردور الغرب السياسي والفكري, لا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبولندا. ظهرت الفكرة الدستورية في هذه الدول بفعل العوامل الإقتصادية والإجتماعية, وبتأثير النظريات الفلسفية والسياسية, فتشكلت فيها الأنظمة الدستورية على اختلاف أنواعها من برلمانية , ورئاسية, ونيابية إلى أن خرجت الأصول الدستورية من تلك الدول الأربع إلى جميع بلدان العالم, ولم يعد تقريباً الآن دولة في العالم تتنفس من دون دستور.
أما بالنسبة للدستور الإنتقالي السوداني الذي ما زال في غرفة الوالدة وفي حال تبلورت نخب سودانية سياسية و فكرية لوضع ملامحه فإن خيوطه التي تنسج ما بين الخرطوم ورمبيك لعهد دستوري جديد ستظهر للعيان بالفعل وستبدد كل الهرطقيات الدستورية الراهنة.
__________________________________________________