لا شك أن شخصية الصحفي محمد طه محمد أحمد شخصية مثيرة للجدل، وهذه الشخصية لم أرها في حياتي، ولم أقرأ لها حتى مقالة واحدة، ولكن، لا أجده يختلف كثيرا عن معظم الإسلاميين، فالأمية الإسلامية ضاربة على كل المستويات، وفي كل الاتجاهات، حتى على مستوى مستشارية التأصيل التابعة للرئاسة أو وزارة الأوقاف. ولقد ضربنا مثلا لهذه الأمية الإسلامية عندما كتبت مستشارية التأصيل بعد اجتماعها الكبير وضم هيئة علماء السودان، هكذا أسمها، ووزارة الأوقاف، وعمداء كليات..الخ حتى أذاع بيانها الشيخ مولانا أحمد على الإمام من شاشة التلفزيون..الذي ختموه بقولهم "وقى الله بلادنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن".
الفتنة قرآنيا تعني الاختبار أو الامتحان..وللفتنة مساران، وهي تعني أن يضعك الله أمام مسارين وعليك أن تختار بينهما، إما طريق الضلالة فهي مضلة وإما طريق الحق والنجاة وهي منجية! وكذلك الامتحان في المدرسة أو الجامعة يقود إما إلى نجاح أو إلى رسوب، طريقين لا ثالث لهما. وكما الامتحان في المدرسة أو الجامعة إجباري، فتنة الله سبحانه أيضا مسطورة وإجبارية، وهي من فعل الإرادة الإلهية وتقديراتها وحكمتها، لكي يثبت الحجة على عباده، فهو سبحانه لا يغيب عنه شيء، ولكن لا يظلم عباده، فإذا أدعى أحدهم الإيمان وكان في علم الله أنه ليس كذلك، يقيم الله الحجة عليه باختباره، يقول سبحانه: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"، العنكبوت 2-3.
وعندما يقول أحدهم "شر الفتنة"..كما قالت مستشارية التأصيل في بيانها عن قضية الأستاذ محمد طه محمد أحمد، فهنا طبقا لما سبق قوله، فهي قولة كمن يوسم إرادة الله وحكمته بالشر، فالفتنة ليست شر أو شرور، والفتنة في حد ذاتها ليست شر لأنها قضاء محكم، ولكن نتائجها هي التي قد تقود إلى طريقين: طريق شر أو إلى طريق منجية وعليك أن تختار وأنت في كامل اختيارك وحريتك. لذا الصحيح أن تقول "أعوذ بالله من مضلات الفتن..وليس من شر الفتن..!!". من أين تعلمت هذا؟ تعلمته من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
ولقد تعود رجال الدين بدون فحص ترديد أن الفتنة شر، وأن يقولوا أعوذ بالله من الفتنة، وهذا لتقليدهم مخلفات أدبيات المفسرين الأمويين وشراحهم والمبررين لأفعالهم الظالمة لإرهاب العامة من الجمهور. لماذا؟ لأنه لو وقف شخص ما أمام سلطان ظالم وباجحه وقال له: أفعل هذا ولا تفعل هذا! فهي بالقياس فتنة للحاكم وإقامة للحجة: لأنه عليه أن يختار!! لذا يرغبون أن يخرس الجميع ولا تقوم للحق قائمة فيرهبونهم أن الفتنة شر!!
بالقياس، عندما تجهل مستشارية التأصيل هذه المسألة التي شرحناها، وهي أعلى قمة دينية في السودان، فأين يصبح الأستاذ محمد طه محمد أحمد من الإعراب؟! إذن ما أجهل الأستاذ محمد طه محمد أحمد؟ ما يحزنني في هذه القضية أنها صنعت جوا متكهربا، لا عقلانيا، لا يتفق مع الإسلام الذي يقوم على الحرية والحوار والفهم والتفقه. ولكن المشكلة، وكما فهمت من بعض المقالات، أن الأستاذ محمد طه محمد أحمد صنع لنفسه أعداء، ولنا أن نتشكك في دوافع هؤلاء الذين أخرجوا سيوفهم وكما يقولون للدفاع عن الرسول (ص)، بينما هم يرغبون من الانتقام من الأستاذ. خاصة أننا لا نرى أن هذا الأستاذ قصد عن عمد إساءة الرسول (ص)، ولكنه انتهزوها فرصة! فماذا كانت النتيجة؟
بما أنني من المؤمنين أن الأمية الإسلامية تضرب كل المسلمين، كبيرهم وصغيرهم، وبما أنني من أنصار القول أن الشباب المسلم بالمجموع هو ضحية للمؤسسة الدينية، التي تسحب عن المجتمع كتب التراث عن عمد ثم تطالبه بالتقوى، تأتي حرية الفكر ودراسة تراث المسلمين بحرية في مقدمة الضرورات اللازمة للفهم وللتدين وللاقتراب من أعتاب الفضيلة. إذن هذا الهياج الذي مارسوه ضد الأستاذ محمد طه محمد أحمد لا يفيد إلا العكس، إرهاب الجميع، وتنفير الجميع. ولا أدل على قولنا هذا من جهل الجميع بأن "المقريزي" هذا الذي أتت سيرته على الألسن سطرته المقالات ليس هو المقريزي المؤرخ والفقيه المصري المشهور، لا علاقة بينهما، فالصفحة التنصيرية الأمريكية، استخدمت أسم المقريزي من باب السخرية..فسمى الجارح لرسولنا الكريم (ص) نفسه "دكتور المقريزي"!
ولا يمنع القول أن الأستاذ محمد طه محمد أحمد قد خانه التوفيق، وسقط في شر أعماله، فأغتر وكأن لسان حاله أنه محا أميته الإسلامية، وأن قضايانا الإسلامية تمام التمام، ولم يتبقى له سوى التصادم مع تلك الصفحات العنكبوتية التنصيرية التافهة، بينما كان عليه الاشتغال بتهذيب نفسه والاشتغال بتنقية التراث الإسلامي وكشف ملاعب السلفيين الوهابيين الذين يسممون عقولنا بالخرافات الأموية التي تعشعش في عقولهم خدمة لسلاطين الخليج، وتصدنا عن فهم هذا الدين الحق والزود عن الرسول (ص) وآل بيته الطاهرين. هذه الخرافات الأموية هي التي يجب التركيز عليها وفضحها.
أقول عن ثقة، وليس هنالك من أتملقه، أو ليس لي مصلحة دنيوية أسعى لها، أنني محوت أميتي الإسلامية بجهد جهيد، وأجزم أن الدين الذي نتعبد به هذا هو أموي في كل شيء، في شكله ومضمونه وروحه. هنالك خدعة عمرها أربعة عشرة قرنا ومستمرة إلى اليوم. ولن تفهموا هذه الخدعة حتى تأخذوا علومكم الدينية والتاريخية من أدبيات أهل البيت ومدرستهم. وتذكروا دائما أنهم هم على حق، وهم الذين اضطهدوا على مر التاريخ، ولقد مدح الله القلة، وذم الكثرة، ولا تغركم الكثرة – انظروا حولكم هل ترون كتب التراث في بيوتكم أو في المدارس أو المكتبات؟ انظروا حولكم لماذا يطبعون لكم القرآن بدون تفسير؟ انظروا حولكم لماذا يحصرون التفقه على بعض أشخاص؟ انظروا حولكم لماذا يأتي تفسير القرآن كتفسير الطبري، وابن كثير، وابن جرير، وتفسير القرطبي، والزمخشري، والرازي، والجلالين..الخ وأسأل نفسك بعدها أين تفسير الرسول (ص)؟ وعندما تقرأ تفسير الآية الواحدة عند هؤلاء ستجد مقابلها عشرة تفسيرات كعصف العقل! واسألوا أنفسكم لماذا منعوا حديث الرسول (ص) قرنا ونصف؟ واسألوا أنفسكم لماذا حرق عثمان بن عفان المصاحف؟ يقولون لكم لتوحيد القراءة، ولكن حقيقته لحرق تفسير ما دونه علي بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهم عن الرسول (ص)! واسألوا أنفسكم من هؤلاء "السلف"؟! ستجدونها كلمة خادعة. وهل هنالك عاقل يتعبد بالسلف؟ هل هنالك عاقل يتعبد بأيديولوجية؟!
نقول للكل، أن محوي لأميتي الإسلامية أتى متأخرا، وأحمد الله على ذلك، من أراد الله له الخير فقهه وفتح بصيرته بناء على الفطرة، ولقد جنبني الله تلك "البرمجة" الأموية وكنت على فطرتي أعواما طويلة فسهل على الفهم. ويعني ذلك، الخير كل الخير من محا أميته متأخرا. وليس معنى ذلك بالمجموع أن تحتقر كتب التراث، أو تذبلها، نحن لا نقصد ذلك البتة. ولكي نوصل لك المعنى، فكر في الذهب أين يوجد؟ يوجد في التراب، فهو مخلوط بالتراب، كذلك تراث المسلمين يشبه هذه الحالة. ولكي تستخلص هذا الذهب يجب أن تكون ماهرا في صنعتك، أن تشمر عن ذراعيك، وتحضر كيرك ونيرانك وغرابيلك..الخ.
وعندما تمحو أميتك الإسلامية لا تحتاج لكي تتنطع مثل هؤلاء المتنطعين في شكلك أو ملبسك..الخ أو في عدوانيتك، القضية كلها تنحصر في الفهم، والإقناع والاقتناع، وفي السلوك الطيب. ولكن تذكر دائما ليس هنالك قدسية للسلف، فكل كشيء في تراث المسلمين وتاريخهم قابل للبحث والدراسة والتحليل، والجرح والتعديل، والأخذ والرفض. لذا تجد الشيخ الترابي يدوخ السلفيين عندما يركز على القرآن – عندما يسحبهم للقرآن! بينما هم يتشبثون بالسلف تقليدا لبني أمية، فعلى سبيل المثال، قلب الأمويون بعض أحاديث الرسول (ص) الصحيحة..وأولوها عن عمد بشكل خاطئ نكاية بآل البيت! يقول الحديث: "الخلفاء بعدي أثني عشرة بعدة نقباء بني إسرائيل، وكلهم من قريش". هذا الحديث حير رجال الصحاح والمفسرين والحفاظ والمؤرخين، فقال مالك، والشافعي، وابن حنبل لا يجوز أن يكون خليفة المسلمين إلا من قريش! بينما قال أبو حنيفة يجوز. وهنا سخر الشيخ الترابي منهم في قناة الجزيرة وأصابني بالسرور والحبور عندما قال لهم، هل يعني لو في السودان عايزين حاكم نجي السعودية ونفتش لينا على قرشي ونروح نضعه حاكم علينا في السودان؟ طيب وين كلام الله أن أكرمكم عند الله اتقاكم، ولا فرق بين عربي وأعجمي..!! وكيف الخليفة عمر مثالهم الأكبر كان سيستخلف سالم مولى بني حذيفة لو كان حيا وهو ليس قرشيا بل من الموالي أيضا.
قديما دخل الأتراك في ورطة مع هذا الحديث النبوي لكي يحكموا العرب، وبما أنه أبو حنيفة قد جوز الخلافة لغير القرشي فما كان من الأتراك إلا التمذهب بمذهب أبي حنيفة بشكل انتقائي وفرضوه بالحديد والنار على مجموع العرب والمسلمين خمسة قرون أو أكثر، ليس لأنه المذهب الأصدق أو الأصح، بل لأنه يجوز لغير القرشي خلافة المسلمين! وما زلت في مصر إلى اليوم تجد المحاكم الشرعية تعمل بمذهب أبي حنيفة بينما عامة المصريين أنفسهم إما شافعيين أو مالكيين في معظمهم. لذا يقال المذهب الحنفي رفع بسيف السلطان!! وكذلك المذهب المالكي على يد أبي جعفر المنصور العباسي بدون تفصيل من جانبنا! ومن علامات الأمية الإسلامية في السودان، يأتي شخص مثل علي عبد الله يعقوب ويقول مقاوحا الشيخ الترابي أن الإسلام بني على أربعة! إنه يقصد المذاهب الأربعة! لذا تجد كل الدول المسلمة في أوروبا مثل تركيا، ألبانيا، الشيشان، البوسنية..الخ أحناف، تابعين لمذهب أبي حنيفة! بعض الجهلة الإسلاميين يفسر هذه الظاهرة بأن مذهب أبي حنيفة هو الأسهل بينما لا يكون مدركا أن هذا الحديث النبوي هو السبب! فإذا "السلف" الأموي لوى بعنق حديث واحد نكاية بآل البيت، فنتج عن ذلك تاريخ دموي، وسفكت بسببه دماء، وقامت عليه ممالك..الخ، فكيف يكون حال بقية التراث المنكوس على رأسه، والمقلوب رأسا على عقب؟
بناء على ما سبق قوله يجرنا الحديث إلى حقائق أخرى، خاصة نخاطب بها قبيلة اليسار والقوى الحديثة التي تنتهج نهجا مصادما لكل ما هو إسلامي بشكل أعمى وبدون إعمال العقل. نقول لهم، أن السودان مقبل في الفترة القادمة على مرحلة حريات وديموقراطية وستلعب فيها الشريعة الإسلامية دورا كبيرا، وعليه، لا يمكن الخوض في السياسة السودانية دون فهم حقائق الدين الإسلامي ومحو الأمية الإسلامية. ونؤكد أن محو الأمية الإسلامية هو شيء مغاير لما يروجه الإسلاميين السلفيين، وكما قلنا، هؤلاء لا يروجون سوى الشق الأموي من التراث الإسلامي. إذن محو الأمية الإسلامية ليس فقط ميزة لإخراس هؤلاء، بل هو الآلية الحقيقية لكي يكسب الفرد دينه ودنياه وميزة تفاضلية لهزيمة المتاجرين بالدين. فحتى الشخص الذي يرى نفسه سياسيا محضا على المسرح السياسي، ولا يرى في نفسه داعية إسلامي، سيعجز في طرح نفسه سياسيا إذا لم يك ملما بحقائق هذا الدين بشكله الصحيح – بمعنى آخر أن يمحو أميته الإسلامية.