عبود ـ حسن بشير ـ مقبول الأمين ـ حمد النيل ، وآخرون...
كرمتهم بريطانيا .. وتجاهلتهم الخرطوم.
الكاتب : د. بكري الصايغ
درج بعض الكتاب السودانيين أن يكتبوا عبر الموقع ـ سودانيز أونلاين ـ، العديد من المقالات عن الفترات المبهمة في تاريخ السودان، محاولين فك الطلاسم عنها وكشف ما خفي من أسرار وغموض الكثير من الأحداث التاريخية الهامة، وإزاحة الستار عن بعض فصولها المجهولة، هادفين بذلك توسيع دائرة المعارف التاريخية وإلمام المواطنين بالحقائق الكاملة التي ظلت طويلا خافية عنهم، مستندين في كتاباتهم على ما يملكون من ثر الوثائق والنادرة والأوراق الجديدة (القديمة). لقد لمعت أخيراً أسماء بعض الشخصيات في "سودانيز أونلاين" بشكل لافت، وأثروا ساحة التاريخ السوداني المهمل المبعثر.. لقد شجعني هذا الاهتمام منهم، لأن أبدي رغبتي في الغوص معهم في بحر التاريخ الغامض، وأكتب اليوم عن دور "قوة دفاع السودان" أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ساعياً في إماطة اللثام عن خفايا حروب الجنود والضباط السودانيين في معارك الحرب العالمية الثانية.
تقول بعض الصفحات القليلة حول هذا الموضوع، أن السودان، كان قد لعب دوراً كبيراً وقيادياً أثناء الحرب العالمية الثانية. وشارك مع قوات الحلفاء بقوة ضاربة من خيرة جنوده وضباطه الذين أبلوا بلاءً حسناً، وضحى كثيرون منهم بأرواحهم في هذه المعارك التي جرت كلها خارج حدود السودان (لا توجد إحصائية دقيقة بأعداد الشهداء والجرحى السودانيين). أكتب هذه المقالة اليوم، ودول أوروبا ـ بصورة خاصة ـ تحتفل هذه الأيام بمرور الذكرى الستين على انتهاء الحرب العالمية في 9 مايو 1945، والتي حققت فيها قوات التحالف النصر الكامل على قوات المحور وانهيار الرايخ الثالث الألماني. إن الذي يعيش في أجواء الاحتفالات الكبيرة الباهظة في أوروبا، يلمس الجدية التي سعت لها هذه الدول لإبراز هذه المناسبة بالشكل اللائق الكبير. لقد شملت الاحتفالات العديد من المفاجآت الكبيرة كماً وكيفاً. فقد قام بعض الرؤساء الأوروبيين (بعد التشاور والتنسيق فيما بينهم)، بإصدار قرارات فورية التنفيذ بالإفراج الفوري عن كل الوثائق والمستندات القديمة وحتى الخطيرة منها والمتعلقة بأسرار الحرب العالمية الثانية، والتي ظلت حبيسة الخزائن الحديدية والسراديب المحكمة لأكثر من ستين عاماً، وهي الوثائق، التي ما كان يسمح لأحدٍ بالإطلاع عليها لما فيها من خطورة المعلومات العسكرية والطبية وما جرى سابقاً في محارق اليهود والغجر والمخنثين، ولما كانت الأوامر الرئاسية واضحة بصورة لا تقبل النقاش، فقد تم تداول الكثير من هذه الوثائق، وحصلت الدور الصحافية الكبرى على الكثير من المستندات التي وجد بعضها طريه للنشر والباقي لاحقا. لقد استغلت المحطات الفضائية الأوروبية الفرصة، فراحت كل منها تسعى لتقديم الجديد المثير عن محتوى هذه الوثائق، فقد تم عرض الكثير من الأفلام الوثائقية الجديدة (القديمة)، التي عرضت لأول مرة، والتي أثار بعضها حفيظة كثير من المشاهدين، الذين احتجوا على كثير من محتوياتها ومضمونها، وأنها مواد ما كانت محل حقيقة ويقين. فقد أظهرت بعض من هذه الأفلام الوثائقية الدعائية، أن الزعيم النازي أدولف هتلر، كان رجلا مرهف الحس شديد الاهتمام بالأطفال والعجزة، ويملك الخبرة في العناية بالحدائق والكلاب، ولا يميل للعنف أو إيذاء الآخرين، وأنه وقع أسير بعض الجنرالات الكبار، الذي استغلوا طيبته وحب الشعب له، فدفعوه دفعاً لإعلان حروب ألمانيا على الكون كله. لقد قامت هذه المحطات الفضائية أيضا بإجراء العديد من اللقاءات مع بعض الشخصيات التي عملت سابقا في سكرتارية مكتب هتلر في سنوات الأربعينات، وكانوا شهود عصر ذلك الزمان، وقالوا كل الحقائق التي دافعوا فيها عن هتلر!! وهي المقابلات التلفزيونية التي ما زالت محل نقد كثير من الألمان وخاصة اليهود. أجرت إحدى محطات التلفزة الألمانية لقاءات مع بعض الأسرى الألمان الذين كانوا في سنوات الأربعينات قد قبعوا طويلا في سجون ومعتقلات النازية، وسردوا كيف أنهم قد تعرضوا لأنواع لا توصف من الإيذاء البدني والنفسي، وأن مجموعة أخرى، أغلبهم من البولنديين، كانت قد أجريت عليهم تجارب طبية على مستوى متطور وعال، بغية تحويلهم إلى نوع آخر من الحيوانات .. يحمل الصفتين الإنسانية والحيوانية!! وأبرز هؤلاء الشهود صوراً فوتوغرافية تؤكد صحة وصدق ما زعموه، ورغم بشاعة كل ما قيل ونشر في الصحف والمجلات، وبث في المحطات التلفزيونية، فقد كان وقف هذه الحكومات الأوروبية ثابتاً لا يتزعزع، وأنه لا حجب ولا ستر ولا إخفاء لأي مستندات مهما كانت محتوياتها تحمل القسوة وتجلب الهلع والإيذاء النفسي لمطلعيها، وأن هذه الحكومات ستقوم بلا خوف أو وجل، بعرض ونشر الأدوار التي قامت بها الشركات الأوروبية في أعوام الحروب بمساعدة هتلر وإمداده بالمال والمعدات (وهي الشركات التي ما زال بعضها تعمل حتى اليوم، كشركة سيمونز الألمانية، والدوتش بانك، وشركة كروب، والمرسيدس). بل ووصل الأمر إلى أن ألمانيا (مثلا) ستقوم بعرض كل الوثائق التي قد تصيب شرارتها دولاً شاركت ألمانيا وكانت الحليف لهتلر يومها (إيطاليا واليابان)، وتقول ألمانيا في وجهة نظرها، أنه من حق جميع الشعوب قاطبة أن تلم بكل الحقائق عن جرائم هتلر وجنرالاته، وما جرى من أهوال في زمنهم (هناك من يقول، أن اليهود الألمان، هم أصلا وراء فكرة كشف المستندات الجديدة، واستغلالهم لمناسبة ذكرى الستين عاماً، لتجديد صورة وذكرى مأساتهم!!).
من الأفلام الوثائقية الجديدة والتي تم عرضها لأول مرة، أفلام حكت عن المعارك التي دارت في شمال أفريقيا بين قوات التحالف والجيش الألماني، وهي المعارك التي دخلت التاريخ تحت إسم (حرب العلمين). لقد استعرضت هذه الأفلام، كيف أن روميل الألماني، والملقب عالميا باسم (ثعلب الصحراء)، بالرغم مما كان عنده ن حنكة ودراية بأساليب حروب الصحراء، ويملك ملكة الكر والفر وله قوة عسكرية ضاربة، فقد ذاق في النهاية مرارة الهزيمة، وخسر كل معاركه في هذه الصحراء العربية. لقد بينت هذه الأفلام الألمانية ـ وبكل صدق وبلا تزييف للحقائق ـ كيف أن الجيش الإنجليزي بقيادة الجنرال مونتجومري، ومعه آلاف من الجنود والضباط السودانيين، قد راحوا في بسالة ضارية يقتحمون المواقع الحصينة للألمان، ويلتحمون معهم وجها لوجه في بعض المعارك بالسلاح الأبيض. لقد حوت الأفلام أيضاً على مئات اللقطات تصور جثث الجنود من الجانبين مبعثرة على طول الشواطئ وامتدادات الصحراء بدءاً من الحدود الغربية لمصر ومروراً بالسلوم وطبرق وانتهاءاً بالعلمين. ثم كانت هناك أيضا لقطات كثيرة تصور وقوع الجنود الألمان كأسرى حرب في أيدي قوات التحالف، ولقطات لجنود سودانيين يبتسمون في فرح، وتحد أقدامهم ثلة من الجنود الألمان المقيدين. كان هناك فيلم يحكي قصة عودة روميل إلى برلين، حيث رفض هتلر مقابلته وأمره بالانتحار نتيجة (خيبته الثقيلة) وفشله فيما أوكل إليه من مهام عسكرية، وتم فيما بعد تشييعه في موكب رسمي كبير وكبطل ألماني قومي.
وهنا ( بعد هذا السرد عن الاحتفالات الأوروبية ودور قوات التحالف والسودانيين، والتي كانت ضرورية كمدخل للكلام عن أبطالنا السودانيين)، أقول أن الجيش الإنجليزي بجلالة قدره وعظمته، وبما كان عنده من قوة عتاد ورجال، ما كان يمكنه أن يحقق هذا الانتصار بدون المشاركة الجادة والفعالة من الجنود والضباط السودانيين التابعين لـ "قوة دفاع السودان". فقد دافعوا بضراوة شديدة في كل حروب شمال أفريقيا، وكان لهم الفضل في حماية حدود مصر الغربية حتى لا يدخلها الجيش الألماني، فقد كانت هناك خطة ألمانية ترمي إلى أهمية احتلال مصر بصورة خاصة، وعبرها يمكن فيما بعد احتلال دول القارة. (من مهازل القدر، أنه وبينما كان "قوة دفاع السودان" تدافع عن حدود مصر الغربية، كان الضابط المصري ـ وقتها ـ أنور السادات، يعمل جاسوساً من داخل القيادة العسكرية المصرية كجاسوس محترف لصالح المخابرات الألمانية، وقد برر السادات فعلته هذه بعد انكشاف أمره، أنه كان يتعاون مع الحكومة الألمانية، أملاً أن ينتصر هتلر في حربه العالمية، ويقوم بعدها بطرد الإنجليز من بلاده!!). لقد كانت هناك أيضا أفلاما وثائقية أخرى عن حروب قوات التحالف المدعومة بضباط وجنود سودانيين، والتي جرت في داخل الأراضي الإثيوبية، التي كانت تحت سيطرة وحكم الدولة الإيطالية في أعوام الأربيعنات وما قبلها. لقد خاض الجنود والضباط السودانيين معاركا في غاية القسوة والشراسة ضد القوات الإيطالية في منطقتي "كرن" و "تسني"، استرت طوال ثلاثة أعوام بالتمام والكمال، تكللت كلها بالانتصارات الساحقة لجنودنا وضباطنا البواسل، واستسلمت أعداد كبيرة منهم للقوات السودانية. إن هذه الفترة من تاريخ "قوة دفاع السودان" 1939 ـ 1945، غير موثقة توثيقاً سودانياً كاملاً، وإن كل ما كُتب عن هذه الحقبة لا يتعدى بضع قصاصات نشرتها الصحف السودانية وقتها. ونلمس الآن، أن لا أحد من المهتمين بالتوثيق السوداني، قد سافر إلى لندن وإيطاليا (اللتين وثقتا حروبهما بأمانة شديدة) ليجمع منهما ما يخص السودان. بل ومن الأشياء التي تثير الاستغراب، أن أرشيف القوات المسلحة يذخر بآلاف من هذه الوثائق النادرة والصور التي تحكي قصة معارك السودانيين (والتي ما رأت النور حتى اليوم)، بسبب تمنع المسئولين في هذه الوزارة من السماح بتداولها وعرض محتوياتها، بحجة أنها تحتوي على معلومات وبيانات سرية. ورغم أن القوانين السودانية الحالية تسمح بعرض أي مستند وثائقي يكون قد مر خمسين عام على تاريخه إلا أن عمليات الحجب والرفض وعدم السماح حتى لدار الوثائق المركزية بالإطلاع على هذه المستندات القديمة، هي سنة وزارة الدفاع بالخرطوم. (حاول كاتب هذه المقالة، أثناء تواجده وعمله بوزارة الثقافة والإعلام عام 1979 الحصول على معلومات من أرشيف وزارة الدفاع، ودور القوات السودانية التي كانت تعمل ضمن قوات الأمم المتحدة بالكنغو، خصوصا بعد ما تردد وقتها في عام 1961 أن هذه القوات السودانية بالكنغو، هي التي قامت بتسليم باتريس لوممبا إلى العميل الألماني المرتزق، أدولف اشتاينر، والذي قتله فور استلامه من القوات السودانية، وكانت مدن أفريقية كثيرة قد شهدت مظاهرات وقتها ضد الخرطوم، بما فيها حتى العاصمة السودانية نفسها).
من الأسماء السودانية الكبيرة التي لمعت في سماء حروب شمال أفريقيا وكرن وتسني والعلمين وطبرق والسلوم، نجد أن إسم اللواء محمد طلعت فريد هو الأكثر شهرة (نتيجة كتابات بعض أصدقائه عنه). إن الذي يعرف طلعت، يعرف أنه وتحديدا بعد سنوات الحرب كان "يعرج" في مشيته ( وهي العاهة التي لم تكن عنده قبل الحرب)، ويعود السبب ـ والعهدة على الرواة ـ ، أن مدفعه الثقيل، الذي كان يحارب به لم يكن به أصلا قاعدة يرتكز عليها، فكان طلعت يضطر لأن يضع هذا المدفع بصاروخه الثقيل على حجره طوال فترة الاقتتال والتي تدوم أحيانا بالأيام الطوال، مما أثر عليه تماما فيما بعد. من أسماء الأبطال السودانيين الذين وردت أسماؤهم في كثير من الوثائق، نجد إسم الفريق إبراهيم عبود، اللواء حسن بشير نصر، اللواء المقبول الأمين الحاج، اللواء عمر محمد الطيب، اللواء أحمد عبد الوهاب، اللواء رضا محمد فريد، اللواء حمد النيل ضيف الله، ومن الذين شاركوا في حروب شمال أفريقيا، الفنان أحمد المصطفى، الفنان حسن عطية، الفنان إبراهيم الكاشف، والذين وردت أسماؤهم كجنود فس سلاح المدفعية، وأطربوا وقتها جنودنا بروائع الأنغام والألحان. هناك أيضا جنود وضباط سودانيين وردت أسماؤهم كأبطال في الحرب العالمية، رغم أنم لم يشاركوا في أي حروب أو معارك. فقد وقع على عاتقهم ـ وقتها ـ حماية المدن السودانية من خطر أي غارات جوية قد تقوم بها الطائرات الألمانية (هناك رواية وردت في كتاب حسن نجيلة ـ ذكرياتي في البادية ـ تقول أن إحدى الطائرات الألمانية كانت قد أغارت على مدينة سودانية وقتلت ... "حُمارة كلتوم!!". تحي أوراق تاريخية أخرى، أن مجموعة كبيرة من الضباط والجنود السودانيين، كانوا يقومون بنقل الذخيرة والمؤن والأدوية من بورتسودان إلى داخل مناطق الحروب في شمال أفريقيا وإثيوبيا. في عام 1960 قامت أميرة بريطانيا الراحلة ـ مارغريت ـ بزيارة خاصة للخرطوم، بدعوة من رئيس البلاد وقتها الفريق إبراهيم عبود، وهناك التقت بكبار الضباط الذين سبق لهم أن حاربوا جنباً إلى جنب مع القوات الانجليزية، وكررت لهم الأميرة شكر الملكة وشكرها الخاص. كانت بريطانيا قد قامت وبعد الحرب مباشرة بتكريم هؤلاء الأبطال السودانيين في احتفال كبير، ومنحتهم الأنواط والأوسمة الرفيعة. يبقى من هذا الاستعراض (والذي نأمل أن يثريه أهل الخبرة والمعرفة، وأبناء وأحفاد هؤلاء الأبطال)، أن نسأل والعالم يحتفل بذكرى انتهاء هذه الحرب، إلى متى ستظل ذكرى هؤلاء الأبطال العظام (المذكورين في هذه المقالة وغيرهم)، محل إهمال متعمد من جهات حكومية كثيرة (وزارة الدفاع، وزارة الإعلام، دار الوثائق المركزية، الصحافة السودانية، كليات التاريخ بالجامعات)، ولماذا لا تشيد الحكومة متحفاً خاصا، كما في الدول الراقية، يحتوي على كل ما كتب ونشر عن دور "قوة دفاع السودان" في ذلك الوقت؟ وأخيرا جدا... لقد قامت الحكومة البريطانية وقبل أسابيع مضت، بوضع أكاليل من الزهور على قبور جنودها وأيضا قبور الشهداء السودانيين في منطقة العلمين والسلوم بمناسبة ذكرى الانتصار على الفاشية وتحرير العالم من خطر الزوال. التحية والإجلال لهؤلاء الأبطال، وستظل ذكراهم خالدة دوما في ذاكرة أوروبا التي تقدر الجميل وتحفظ المعروف!!