مقالات من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

في رحاب الدستور (2) من يكتب الدستور الانتقالي؟ بقلم إبراهيم علي إبراهيم /المحامي-واشنطون

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
5/20/2005 4:29 م

كتب الأستاذ عبد الباسط سبدرات في ذيل كتابه " الدستور:هل يستوي على الجودي؟ يقول "بين كل حين يأتي الدهر ومستجدات الأحداث بلجنة قومية يوكل لها أن تشرع في كتابة مسودة للدستور.. لتستقر على منضدة البرلمان أو جمعية نواب أو مجلس انتقالي أو مجلس وطني... ثم يأتي الدهر بحدث أو يحدث تغييراً يوقف الحديث عن صفحة ليست خاتمة الصفحات...لتبدأ ساقية اللجان تدور في لجنة قومية جديدة والكل في لجنة يسعى لدستور يدوم أو يحظى بديمومة التطبيق.." انتهى.

تحكي قصة الصراع الدائر الحالي حول مفوضية الدستور الانتقالي ومن له الحق في كتابته وصياغته قصة فشل أخرى للنخب الحاكمة وعجزها عن صيغ تمكنها من الوصول إلى دستور دائم يتوافق عليه الناس ليصبح هاديهم ومرشدهم لنظام دولتهم. فقد شهد السودان العديد من اللجان: فنية، و قومية، ولجاناً انبثقت من صلب الجمعية التأسيسية لإعداد وكتابة الدستور. وقد أخبرنا بمصير تلك اللجان وتلك المشروعات في مقالنا السابق.

مهمة هذه المفوضية يتلخص في مراجعة الدستور، وإعداد بديل للدستور الحالي، حيث عليها أن توفق بين الدستور الإسلامي لسنة 1998، ونصوص نيفاشا التي تريد أن تؤسس لدولة تختلف جوهرياً عن تلك الدولة القائمة. وقد حرصت الحركة الشعبية منذ البداية على تفادي أخطاء اتفاقية أديس أبابا التي تم تضمينها لتصبح جزءا من الدستور، حيث تمت توليفة غير موفقة بين دستور يكرس لدكتاتورية الفرد، وبين نصوص أديس أبابا التي جعلت من الجنوب جنة ديمقراطية على ارض السودان ينتخب فيها أعضاء المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية. فلم يحتمل النميري كل هذا فأودى بها، أو فلنقل أودى بها تضمينها في الدستور. ولعل هذا ما دفع بقيادة الحركة الشعبية أن ترفض عملية "ضم الاتفاق" لدستور 1998، خوف أن يحدث التناقض القاتل، فآثرت بدلا عنه عملية أخرى هي المزج والدمج والاختلاط، مع احتفاظ كل طرف بثوابته قدر الامكان. وهنا تكمن المشقة والصعوبة أن لم تكن الاستحالة، إذ أن دخول أي طرف ثالث من شأنه أن يخل بهذه المعادلة وهذه الثوابت.

ويثبت ما هو حادث الآن أن المسألة محسومة للطرفين، فالمفوضية تم تشكيلها وبدأت أعمالها، وسارت حثيثاً في ذلك لدرجة أن بعض القيادات السياسية التي اعترضت عليها مبدئياً قد انتقلت الآن لمرحلة مناقشة النصوص التي صاغتها هذه المفوضية.! ومضت المفوضية يقودها الطرفان في عملها لا تأبه بالآخرين الذين أوجب نص نيفاشا "منحة" مشاركتهم بتلك النسب التي تبلغ الخمس، عملا بسياسة "خذها أو أتركها"، وسارت لا تلوي على أحد وغير مهتمة بأمر هذه المشاركة، وما يترتب على انعدامها من آثار قانونية وخيمة. وقد عبر المتحدثان باسمها بما يعني ذلك مرارا.

ولعله من المفيد هنا أن نشير إلى الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه الطرفان بإيراد مثل هذا النص "مشاركة القوى السياسية الأخرى" الذي أصبح بمثابة أول نص يضع الحبل حول رقبة الاتفاق. فلم يكن هناك داع لهذا النص الذي لم يفرضه إلا الحياء السياسي، حيث كان بامكانهما الانفراد بالاتفاقية مثلما فعلوا مع بقية النصوص.

وكان الأجدى للطرفين أن يقوما بصياغة قانون/ميثاق للحكم الانتقالي مثلما حدث في العراق، وترك موضوع الدستور للجمعية التشريعية القادمة بموجب الانتخابات التي ستجري في نهاية العام الرابع. و لا غضاضة أن ينفرد الطرفان بذلك إذا كان المراد وثيقة أم قانوناً لإدارة الحكم الانتقالي، و لو تم ذلك لما وجد معارضة من احد.

أما بعد أن علمنا إن القصد هو كتابة مشروع دستور جديد، إذن فليكتبه الجميع. فالدستور ليس غنيمة من غنائم نيفاشا يتعامل معه الطرفان على هذا الأساس، فهو يحتاج إلى مشاركة شاملة ونظرة عصرية لبناء دولة حديثة على أسس جديدة وإنسان مصان الكرامة والحرية.

والدستور ليس قانوناً مؤقتاً للحكم أو وثائق فنية، إنما هو الميثاق الشعبي الأعلى الذي لا يعلو عليه شيء، والذي يعبر عن القيم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقانونية لهذا الشعب، سواء تراضت عليه الأغلبية أو تيسر له الإجماع. وبعبارة أخرى هو ما يجيزه ويقره الشعب عبر ممثليه أو عبر الاستفتاء المباشر. أما مهمة هذه اللجان أو المفوضيات فتنحصر في تقديم مشروع الدستور المقترح لممثلي الشعب أو للجهة التي تشرف على الاستفتاء. وهنا تكمن أهمية وخطورة أعمالها.

وعضوية هذه اللجان يجب أن تكفل للجميع، فهي ليست موضوعاً للتنافس الحزبي والمكايدات. وكون هذا الدستور انتقالياً ومؤقتاً لا يعطي أحدا الحق في مصادرة حقوق الآخرين في المشاركة في صياغته وتحقيق إجماع حوله، كما لا يعطيه الحق في إلغاء بعض الحقوق الديمقراطية والحريات الأساسية أو تجميدها أو تأجيلها. كما يجب أن يساوي بين جميع الفئات الشعبية والقوى السياسية، والإقليمية والنوعية في شرف كتابته، وأن لا يضع أسباباً للتمييز بينها مهما كانت المبررات، وان يعمل على ضمان صيانة مبدأ سيادة القانون على الجميع منذ البداية دون ميزة لفئة سياسية ما، وان يأتي بحكم رشيد. فمن يحرم من كتابة الدستور سيحرم من المشاركة السياسية المتساوية، وهنا مدخل الشر.

و تضمن قومية المفوضية دستورا يرضي الجميع ويكسب احترامهم وينال تلك الديمومة المفقودة. وكنا نأمل أن يتم تشكيل المفوضية على أساس حزبي و إقليمي لأن ما يشهده السودان هو تمرد أقاليم على المركز ولا أحد راضي أو سعيد بهذه الوحدة كما أسلفنا في مقالاتنا السابقة. وهي فرصة ضائعة كان يمكن أن يعبر بها الشعب بأنه قادر على تأسيس نظام سياسي ووحدة قوية مبنية على التراضي والاختيار الحر Election and Choice وكان يمكن أن تشكل فرصة ثمينة لترسيخ معاني الوحدة الطوعية العادلة.

ولا يمكن لنا الحديث عن وحدة مبنية على الطوعية والاختيار إلا بإرجاع الأمور إلى منصاتها الأصلية، وان نرجع إلى المكونات لاستشارتها، وان يكون المعني بهذا الرضا هو الأقاليم المكونة للسودان، الثائر منها والمتململ. وبالطبع لا نقصد تراضي نخب العاصمة حول هذه الوحدة، فهذا أمر فوقي قد جربناه وفشل. فيجب أن تكون الوحدة نابعة من الأساس والقاعدة، وان يكون الاقتراب منها إقليمياً هذه المرة وليست وحدة يمليها هؤلاء الأقطاب.

واحدة من مشاكل السودان هي ما يعرف بمصادرة الإجراءات Dismissal of Process فنحن دائماً نتحدث عن أشياء ونقفز فوق الإجراءات ولا نلتزم بالوسائل والطرق التي تؤدي إليها. نتحدث عن وحدة طوعية بالتراضي ولا ندعو ممثلي الأقاليم للجلوس والتفاوض حول هذه الوحدة، كأنما هذا التراضي والطوعية المقصودة هي تراضي الأحزاب المتمركز في العاصمة وحدها.

قضايا التمثيل Issues of Representation يمكن حلها في تكوين مثل هذه المفوضيات عبر اللجوء إلى القوى السياسية والإقليمية والنوعية واختيار قوى تمثل تلك المجتمعات وتتركز فيها رغبتها وقوتها الموجهة نحو الأهداف التي يرغبون في تحقيقها، مع الاحتفاظ بالتوازن السياسي الذي فرضته الاتفاقية.

وباستثناء ما هو واقع الآن من وجود الحركة الشعبية كطرف أساسي وشريك أصيل له مصلحة مباشرة في صياغة نصوص الدستور الانتقالي لما له من أهمية قصوى في تنفيذ اتفاق السلام وتحديد مصير "تقرير المصير" نفسه، فرغم هذا الصراع الطويل، فإن القوى الإقليمية ظلت دوماً مهمشة في التمثيل والمشاركة في مثل هذه اللجان الهامة والحيوية بالنسبة لمستقبل وحدة دولتهم. فالقوى الإقليمية ظلت دائماً تحرم من صياغة الدستور حيث أصبحت الغلبة لقوى المركز أو للقوى المنتصرة عسكرياً. وبتحليل بسيط على نسق الكتاب الأسود لجميع اللجان السابقة يمكن الوصول إلى هذه النتيجة حيث استأثرت بها دوماً النخب الحاكمة، وأن عضويتها ظلت باستمرار حكراً لأقطاب العاصمة. ولن يستوي الحال ويستقيم الأمر في السودان إلا بعد اختفاء عبارات مشهورة مثل " مع مراعاة تمثيل الأقاليم" من أدبيات السياسة السودانية، ومن وثائق المنظمات والأحزاب، ومن اللجان القومية التي تصوغ مستقبل البلاد.

وعلينا الاسترشاد بتجارب العالم والدول التي تشبه إلى حد بعيد السودان. ففي استراليا مثلا استمرت محاولات الوصول إلى صياغة دستور دائم مدة عشرة سنوات تقريباً. وقد تمت صياغة الدستور بواسطة مجموعة من اللجان مثلت فيها المستعمرات الست ونيوزيلاندا، ثم تم إقرار الدستور نهائياً بواسطة مؤتمر لممثلي الولايات الست الذين تم انتخابهم لهذا الغرض. وقد استهدى محرري الدستور الاسترالي بالتجارب الفدرالية لكل من الولايات المتحدة و كندا وسويسرا. وفي الولايات المتحدة أيضا تمت صياغة الدستور والوثيقة الفدرالية بواسطة ممثلين للولايات الثلاث عشر المؤسسة للاتحاد وقد تم كل ذلك بناء على مبدأ المساومة بينهم.

تحتاج المفوضية إلى رجال يتمتعون بثقة مواطنيهم، وطنيين غيورين على بلادهم، وأبطال أصحاب قلوب نظيفة خالية من أي أفكار مسبقة أو مرارات، وعقول نظيفة قادرة على الإبداع والخيال الخلاق، من المختصين اختصاصاً عالياً في فقه بناء الدولة ومؤسساتها وعلى قدر جيد من المعرفة الدستورية، كما يحتاج إلى مشاورات مستمرة بين كافة الأطراف والفصائل.

والصراع حول عضوية هذه اللجان لا يخلو من عواقب سيئة على المتصارعين أنفسهم. وقد اثبت التاريخ أن الخلافات حول عضوية اللجان الدستورية الهامة قد أدت إلى إحداث انقسامات حادة بين القوى السياسية وانقسامات عضوية في الأحزاب نفسها، وميلاد أحزاب جديدة. فقد سبق أن انقسمت أحزاب كثيرة بسبب الصراع حول عضوية هذه اللجان أو بسبب ما ارتضته قواها التنفيذية من صياغات لمشروع الدستور رأت فيه مخالفة لتطلعاتها. وقد بدأت هذه الانقسامات في الظهور منذ المناداة بالدستور الإسلامي عام 1967.

وتجربة الدساتير المكتوبة كان لها انعكاسات سيئة على الإسلاميين وكلفتهم وحدتهم في عام 1999، حيث انقسمت الإنقاذ بُعيد صياغة دستورها لعام 1998 و كان الخلاف على حسب ادعاء الترابي يتجذر في منح الأقاليم سلطة انتخاب حكامها ومجالسها التشريعية في حين رأى المتنفذون في الإنقاذ غير ذلك، وبعدها حدث ما حدث من انقسام يعلم الناس جميعاً ظروفه وأسبابه الأخرى الخفي منها والمعلن. ثم نشهد حالياً بوادر انقسامات أخرى في حزب الحاج مضوي، وفي حزب الأمة وغيره. وربما نشهد المزيد من الانقسامات، خاصة وان دستور الدولة الإسلامية الآن يشارك في كتابته من هم ليسوا بمسلمين!!!!
انتهى

إبراهيم علي إبراهيم المحامي
متخصص في شئون الكونجرس
واشنطون.


للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved