مقالات من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

فهم القوة الإسلاميون وحديث الذبابة- 2-2 بقلم شوقي إبراهيم عثمان-ميونيخ – ألمانيا

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
5/19/2005 6:54 م

فهـم "القــوة"
الإسلاميون وحديث الذبابة
2-2


لقد أتت ثورة الإنقاذ في ظرف تاريخي غريب 1989م، فقبلها كانت الحكومة الانتقالية لسوار الذهب 1985-1986م، ثم حكومة الصادق التي استمرت ثلاثة سنوات 1986-1989م. ولكن قبل كل هذا كان نظام النميري الذي استمر 16 سنة 1969-1985م.

نظام مايو عاصر أحداث كبرى مثل الثورة الليبية في الفاتح من سبتمبر 1969م، ومعركة الكرامة في الأردن وفيها تم ذبح الفلسطينيين 1970م، ووفاة جمال عبد الناصر بالسم سبتمبر 1970م، واتفاقية أديس أبابا 1972م، وثورة 15 مايو الساداتية 1972م، وسياسة الانفتاح الاقتصادية للسادات 1975م، والثورة الإيرانية 1979م، وذهاب السادات للقدس 1979م، والحرب العراقية الإيرانية 1980م، وتمرد د. جون قرنق 1983م.

ولقد فشل النميري في قيادة السودان أو أن يكسب تعاطف الشعب السوداني، بل كان نظامه نظام شؤم على كل البلاد، وفي تقديري أن فشل شخص النميري يعود إلى أنور السادات. فلقد فرش الأخير للمشير جعفر النميري "سريرا" في قصر عابدين منذ 1972م، وأصبح عضوا لصيقا بأسرة أنور السادات وزوجته جيهان، وهنا، لا شك يمكننا تخيل الباقي، إذ أصبح النميري مستمعا لدروس أنور السادات بعد أن أستحوذه بقصصه الخرافية التي لا تنتهي..بينما اكتفى النميري بنفسه مستمعا ومراقبا للأحداث!! وبالطبع، أثبت السادات أنه يستحق ولاء النميري، ففي انقلاب هاشم العطا 1972م لعبت المخابرات المصرية والليبية دورا كبيرا في إرجاع نظام مايو لسدة الحكم، ولكن سرعان ما أختلف السادات والقذافي، واصبح بعدها النميري مثل اليتيم، لا يعرف له أبا إلا السادات، فوحدا أجهزة المخابرات السودانية والمصرية وأصبح شعبا وادي النيل فريسة لبطش أجهزة المخابرات المشتركة. وانتهى النميري بترحيل الفلاشا، والسقوط في حضن الولايات المتحدة. والسؤال: هل يمكن توقع شيئا مخالفا..وماذا يكون دور السادات؟!

على العموم، هل يمتلك المشير جعفر النميري في جعبته الكثير من الإسرار؟ أم كان "شاهدا ما شفش حاجة"..! وبما أن الوعي ماضوي، هل سرق السادات زمن النميري، وهل جعفر النميري نادم لعلاقته بالسادات؟ وإذا كان لديه أسرار تاريخية فهل يخرجها، أم يخشى أن يقطع ذلك البلعوم..كما قال أبو هريرة في اعتراف نادر!! ولكن نحن، بثاقب نظرنا، قد لا نرى جعفر النميري سيتكلم عما يعرف من أسرار نسبة إلى أن 99% من دوافع وتحركات السادات في فترة حكمه كانت بإيعاز من المملكة العربية السعودية، هذه النقطة لا يدركها كثير من المؤرخين السياسيين، لذا سيصمت المشير جعفر النميري حتى لا يسقط في الحرج!!

عموما، فترة مايو التي بلغت ستة عشر عاما كانت فترة تفريغ وتدمير للسودان من كل الوجوه. ولسؤ حظ السودان، كانت فترة السبعينيات هي الفترة الذهبية لنفط الخليج، فهجرت كل فئات السودانيين بلادهم بالكامل لدول الخليج وتركوا السودان لجعفر النميري!! وكأن لسان حالهم مصائب قوم عند قوم فوائد!! لذا لا تجد أدبيات سياسية كثيرة عن فترة جعفر النميري..انتهت المباراة بالتعادل!! فاليساريون الفارون نعموا بخيرات الخليج، بينما الإسلاميون حصلوا على بطاقة قوانين شعبان الإسلامية من أمير المؤمنين.

في عام 1985م وهو عام الانتفاضة الشعبية، وصل حال البلاد إلى حالة مذرية، وحالة بائسة ومريعة..وكأن السودان ضرب بقنبلة ذرية!! الصادق المهدي في حكومته يرسل الوفود تلو الوفود للدول الخليجية طلبا للقروض، فكانت ترجع خاوية الوفاض؟! وبدلا من أن يشمر الصادق عن ساعديه لبناء بلد دمرته عصابة مايو لمدة ستة عشر عاما، أخذ الصادق يركز على استرجاع ما صادره نظام النميري من أراضى ومزارع ومنازل تعود لبيوت أهل المهدي..!! من حقه أن يسترجعها. ولكن ما يستغربه المرء..أن هذا الموضوع استغرق كل سنوات حكم الصادق!! فبدلا من أن ينزل للشوارع والحقول..والمزارع والمصانع يستحث ويستفز كل الفئات الشعبية في كيفية زيادة الإنتاجية أو الإصلاح أو التنمية..الخ ركن الصادق في مكتبه وحاله ليس أفضل من أية موظف في الخدمة المدنية..!! الصادق لا يفهم في التنمية، ولا يفهم سايكلوجية تحريك الجماهير. مكانته محفوظة بالوراثة، بينما صعوده لسدة الحكم مضمون من الدوائر الانتخابية، "فماذا تريدون مني..!!". هكذا قالها مرة ردا على مذكرة أساتذة جامعة الخرطوم الحادبين على البلاد في ذلك الوقت..

بما أن العمل السياسي ميراث تربوي لأسس ومفاهيم وقيم يحملها جيل لآخر، يلحظ المراقب أن فترة مايو كانت ثقب كبير في العمل الوطني وموروثاته لا يمكن رتقه بسهولة، فبينما هربت قبيلة اليسار للخليج، تنعم الإسلاميون بدعم البنوك الإسلامية، وبدعم أموال التنظيم الحركي وحلقات الوصل مع الجيوب الخليجية والدولية. وعلى العموم، لم تكن الصراعات سوى صراعات مثقفين، ومتعلمين، بينما غالبية الشعب البسيط هو الذي دفع ويدفع الثمن. فالأمريكيون كانوا راضين عن نظام مايو تماما، لأن السادات وضع جعفر النميري والسودان معا في جيبه الخلفي. هذا الرضى الأمريكي لا يخلو من سعادة تامة، فهذا البلد القارة، الغني بالثروات، قد تم تدميره تماما وأثقل بالديون والفساد، لقد أركعوه..، وهكذا يمكنهم ضمه للإمبراطورية الأمريكية بأقل الضغوط السياسية ودون تكلفة أو جهد يذكر.

في يونيو 1989م قفزت ثورة الإنقاذ للسلطة..!! وفي التوقيت الصحيح. ويصادف هذه السنة من التاريخ وقوف الحرب العراقية-الإيرانية، وأذكر في حكومة الديموقراطية الثالثة 1986-1989م أن تحرك الشيخ الترابي بمعية الإسلاميين، وأيضا رئيس الوزراء الصادق وقتها، لعمل وساطة ما بين العراق وإيران لوقف دماء المسلمين. فقوبلت هذه الوساطة باستهجان من قبل الإعلام الخليجي، واستغربت وقتها لهذا الاستهجان، ولكن، تدور الأيام وتثبت أن هذه الحرب مؤامرة خليجية غربية على إيران. ولسؤ حظهم، يستلم الشيخ الترابي وتلاميذه السلطة في السودان. ووقفت دول الخليج ضد المشروع السياسي الإسلامي السوداني، لأنه ببساطة ليس مشروعها. ولقد يستغرب القارئ إذا قلنا أن وقوف دول الخليج ضد هذا المشروع الإسلامي السوداني كان بقوة تفوق وقوف الدول الغربية ضده، مع وضع الفهم والاعتبار للتناقضات الخليجية. فمثلا ميول الإنقاذيين لدولة قطر، يفسره العداء ما بين الدولتين قطر والسعودية، أو دولة الكويت تحججت أن السودان وقف مع العراق! هذا العداء قد يكون غير محسوس في السودان وقتها، ولكننا في بلد مثل ألمانيا تلمسناه فعليا، وأدواته كانت تلك المنظمات المدنية الإسلامية الخليجية التي ركزت على الترابي شخصيا للتعمية، فاستغلوا دخان الشيخ الترابي –أو ذبابته- لتمرير ضربهم للمشروع الإسلامي في السودان. ولا يمكن فصل تلك المنظمات المدنية عن أجهزة المخابرات الخليجية، من حيث التمويل أو رسم الخطط والإستراتيجية. دول الخليج نفسها تلعب نفسها لعبة الهيمنة على الإقليم العربي بدعم غربي. ولكن لعبة الهيمنة هذه انحسرت لانكسار الدول الخليجية بسبب حرب العراق، أو حروب الخليج، وتدخل الولايات المتحدة بنفسها في المنطقة دون الاعتماد على "الأصدقاء".

وهنا يمكننا مقارنة السودان بإيران. لم يمض عام على الثورة الإيرانية وحتى أطلقوا عليها حرب ضروس، كذلك ورثت ثورة الإنقاذ نظاما هو في حالة حرب مع الدكتور قرنق وحركته. والحروب في التحليل المتأني ليست كلها شر، فبعد هزيمة 1967م بني جمال عبد الناصر الجيش المصري مرة أخرى، وبنى حائط الصواريخ المشهور، وأخذ يستنزف إسرائيل "حرب الاستنزاف" بقوة أضعاف ما قبل هزيمة يونيو. هذه التجربة، تجربة الصواريخ، تؤهل مصر أن تتقدم في هذا المجال، وبعد أن انقطعت العلاقة المصرية مع الدول الغربية التي وقفت مع إسرائيل في حرب يونيو، لم يعد هنالك شيء يوقف مصر، وهنا، وفقط هنا استشعروا الخطر القادم على إسرائيل، فدبروا خطة تسميم عبد الناصر، وأعد السم خبير السموم الأمريكي ريموند كلونز، فسموه بسم الاكونتين وذلك في الساعة الرابعة إلاّ ربعا من بعد ظهر يوم 28/9/ 1970 وفي الساعة السادسة تقريبا استشهد جمال، ولم يوقع طبيبه الخاص أن الوفاة ناتجة عن نوبة قلبية، وحامت الشكوك لحظتها حول سكرتيره..والقصة طويلة.

معنى ذلك، أن الحروب، واقتصاد الحرب يستفزان الشعوب لكي تنهض فوق رماد الهزيمة أو فوق رماد الحرب. وهكذا كانت الحرب العدوانية على إيران، فبدلا من تدمير الثورة قويت الثورة، وبدلا من تدمير هذا البلد بحيث لا يقوم مرة أخرى قام أقوى مما كان.

وهنا لنرى كيف استفادت ثورة الإنقاذ من تلك الحرب المستعرة في الجنوب. فبالرغم من التعبئة المعنوية والإعلامية والجهادية لدفع الشباب للقتال والاستشهاد في الجنوب، لم تقم ثورة الإنقاذ بعمل ما يسمى اقتصاد حرب. فمن معاني اقتصاد الحرب هو التقشف، وينطبق التقشف على الكبير والصغير. فبسياسة اقتصاد حرب كان بالإمكان ضرب عدة عصافير بحجر واحد، منها تحفيز الشعب لزيادة الإنتاجية، ضرب الفساد والمفسدين، وضع القيادات "المتأسلمة" تحت المرصد، وهم الأفواج التي أغرقت تنظيم الحركة الإسلامية كما وليس نوعا سعيا نحو المناصب والغنائم.

وبدلا من زيادة طبع عملة النميري القديمة، كان الأفضل أن تلغى بالكامل، وبذلك كان بالإمكان التخلص من ميلان تركيز المال في يد القلة التي كسبت تلك الأموال بالحرام، مثل المضاربة في أسواق السلع، والمتاجرة في العملة في عهد النميري..الخ. بإلغاء تلك العملة، يمكنك ضرب التضخم بضربة واحدة وفي دقيقة واحدة – هكذا فعلت ألمانيا في 1949م. وبما أنه توزيع الثروة بشكل عادل يفترض في ضربة البداية، أن الأجر، أو المرتب، هو حاصل قسمة الناتج الاجتماعي القومي الكلي على عدد السكان، كان بالإمكان عمل هيكل راتبي فئوي للجميع يتناسب مع حجم الإنتاجية والسلع والخدمات، ولكن مع تثبيت أسعار السلع والخدمات بشكل إجباري، وأيضا لكي لا ننسى، يمكن تحرير الاقتصاد. تحرير الاقتصاد لا يعني بالضرورة فقط تحرير أسعار السلع. فهو، مما يعني حتى ولو ثبتنا الأسعار، عدم احتكار مجال اقتصادي معين لفئة محظوظة معينة أو للدولة، وتكافؤ الفرص، وتشجيع ومكافئة المجتهد الذي يعمل مشروعه الخاص، وحرمان الذي لا يعمل أو الذي يعمل بطرق ملتوية بدون جهد حقيقي.

لو لغينا عملة النميري المشئومة بالكامل دون وضع الاعتبار لمالكيها في بداية يونيو 1989م، لما سقط مجموع الشعب السوداني في الفاقة والفقر، ولما انحدرت الأخلاق بهذه الكيفية التي نراها اليوم، رغم تحسن الاقتصاد بالمجمل، ولكن هذا التحسن لا يمس القاعدة الشعبية في العمق؛ ما زالت القيم الاجتماعية مضروبة في الصميم. فبدلا من إلغاء تلك العملة، لجأت الإنقاذ إلى سياسة اقتصادية تسمى التنمية بالتضخم، أو الاستثمار بالتضخم، فطبعت ما يحلو لها من العملة القديمة، وخفضت من قيمة العملة المحلية قبل الدولار. هذه السياسة الاقتصادية، هي فلسفة موازين رياضية في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الغربية، لا تضع أية اعتبار للعامل الاجتماعي، بل تقول: "من لا يملك قوة عمله أو إنتاجية في السوق لا يحق له العيش". وهنا لنا أسئلة للأستاذ عبد الرحيم حمدي، محرر الاقتصاد السوداني، هل يعتني علم الاقتصاد بالموارد أم بالبشر، بمعنى آخر، هل هو علم يختص بالبشر أم بالموارد؟ ما زال تفكير الاقتصاديين السودانيين أثير الفلسفة الاقتصادية الغربية، يهتم بالموارد أكثر من اهتمامه بالبشر. وللتدليل على ذلك، كيف تصبح الأسرة السودانية عاجزة عن شراء رطل من اللحم مع هذه الثروة الحيوانية الضخمة؟ كذلك السؤال التالي له: من قال أن تحرير الاقتصاد يستوجب تحرير أسعار السلع والخدمات؟ حتى في ألمانيا لم يحرروا أسعار السلع والخدمات منذ 1949م وحتى نهاية الستينيات، ولقد تدرجوا، فرضوا أسعار جبريا أولا، ثم منعوا لاحقا المضاربة dumping في تخفيض أسعار السلع، ثم مع ظهور الاتحاد الأوروبي حرروها مطلقا..ولقد استغرقت هذه العمليات ثلاثة وخمسين عاما. كان يمكن أن يكون التحرير الاقتصادي تحريرا كاملا ما عدا تحرير أسعار السلع والخدمات، حيث تضع الأجهزة الاقتصادية خطة تحكمية بتقوية قطاع الجملة، ثم القطاعي، ثم المستهلك الأخير، وفي هذا الإطار السلعي price frame الكل حر، يتاجر، أو يصنع..الخ. لو وضع هذا الإطار، لكيف التجار والمصنعون أنفسهم معه عاجلا أو آجلا، بدلا من تلك الفواتير المزورة التي يلعبون بها في الجمارك، ولدى الضرائب، فلا أحد يعرف التكلفة الحقيقية للسلع المستوردة، أو السلع المنتجة، وأصبح القطاع التجاري غابة تنهش في لحم المواطن الشريف والأسر المغلوبة على أمرها التي لا تطلب سوى الستر. فهل النتيجة التي وصل فيها الحال الاجتماعي من السؤ هدف الإسلاميين؟ بالقطع لا.

لقد أكتشف الإسلاميون لاحقا، أن الأهداف والقيم الأخلاقية الفاضلة المنشودة للمجتمع لا يمكن تأصيلها دون اقتصاد مميز يوفر لكل فرد ولكل أسرة حياة كريمة؛ لقد فهموا أخيرا أن التعويل فقط على نفخ مزمار التمسك بالأخلاق، وتحريك العواطف والغرائز الإسلامية، ليس كافيا، فصمتوا. فهل كانوا ضحية "المثال" أو الكتب؟ إذن، أول الدرس الذي تعلمه الإسلاميون هو أن العاطفة الإسلامية وحدها ليست كافية ولا بد من إعمال العقل جنبا إلى جنب مع الشريعة، أو مراجعة الفقهيات الموروثة مع التحديق في الواقع. ولكن هذه الخطوة قد تلقى عقبات من قبل بعض الجيوب الإسلامية التي "عشقت" تروس عجلات مصالحها الاقتصادية مع مؤسسات دول الخليج، أو هي التي مبهورة بسذاجة بدول الخليج. فتطوير "اقتصاد إسلامي" سوداني مميز ستحاربه دول الخليج، نعم، بواكير هذا الاقتصاد المميز موجود في رحم المستقبل، ولكن هنالك من سيترصده بالإجهاض. إلى الآن الاقتصاد السوداني لا يقوم على أسس إسلامية رغم اللافتات التي تكتب عليها "إسلامي" و"إسلامية"، واضف إليهم حتى ما يسمى بالبنوك الإسلامية.

ولكن من أكبر أخطاء ثورة الإنقاذ أنها لم ترعى صناعة الورق. فمخلفات صناعة السكر السلولوزية كافية لعمل أرقى مؤسسات صناعية للورق، بدلا من تضييعها في عمل الأمباز والأعلاف. المتتبع للثورات، والانتقالات النوعية في حياة الشعوب، يكتشف أن صمود هذه النقلة لا يمكن أن يتم بمعزل عن تحصين عقل الشعب ضد التدخلات، والمؤامرات التي تنسج لدفن تلك الثورة وتحطيمها. فخذ حتى ثورة عبد الناصر التحررية أسست دورا للنشر ضخمة في مصر، أو قوت من المتوفر منها قبل الثورة، مثل دار المعارف، ودار الكتب، ودار الشعب للكتاب، ودار الهلال، فاصبح الكتاب في متناول أفراد الشعب المصري حتى 1970 بملاليم. ولكن بعد هذا التاريخ، اكتسحت مصر كتب دول الخليج السلفية والوهابية، وأصبحت مئات المطابع المصرية الصغيرة في خدمة هيمنة الجناح السلفي الخليجي بقيادة ابن تيمية ففقدت مصر البوصلة..ودخلت في نفق عميق من الدخان وأخذت تترنح!!

إذن فما أحوجنا نحن السودانيين بالذات لهذه الصناعة الورقية، لأنه إذا اعتبرت شعب السودان خليطا ضخما من الأعراق والثقافات المتنوعة يعتبر "الكتاب" بلا شك عامل تقريب للثقافات والاختلافات، مزيل للإحن خاصة الوهمية منها، وعامل للتجانس والتآلف والتقارب. ومن باب أولى، يعمل الكتاب على تأصيل الروح الوطنية والقيم الإسلامية السمحة، وخلق تيار فكري رئيسي مشترك ومتجانس يعني بالقضايا الاجتماعية التحويلية الضخمة، مثل قضايا الاقتصاد والتنموية.

ومن القضايا التي قصمت ظهر الإنقاذ الإسلامية الانقسام إلى وطني وشعبي. ولكن التأسي بقول الله تعالى "عسى أن تكرهوا شيئا هو خيرا لكم" ليس بعيدا من البال. فالشيخ الترابي ظاهرة إسلامية فكرية لا جدال فيها، ولكن هل يدري هو نفسه تأثير أفكاره في الإقليم العربي؟ فهز أركان المذهب السني القائم على حكم العوائل، والتشكيك في "مدرسة الخلافة" الفقهية التاريخية يحرك بطون "قريش الحداثة" ويقلق مضجعها. ولن أستغرب أن يتحججوا بحديث الذبابة فيصنعوا منه دخانا فقهيا كثيفا لكي يضربوا المشروع الإسلامي السوداني برمته ويحطموه. فليس أقل من مناقشة الشيخ الترابي في محبسه، فليس القضية في رأي قضية فلان وعلان، القضية الأهم هي كيف تأصيل حكم إسلامي حقيقي نافيا ومخاصما لانقلاب سقيفة بني ساعدة التاريخي. هذه الدولة الإسلامية المنشودة، التي بشرت بها الرسالة الإسلامية الأصلية، يعجز العقل السني التقليدي في الوصول إليها، لأنه يفتقد بالضرورة فهم أدواتها، ويفتقد فهم تاريخ المسلمين المنكوس في كثير من زواياه ومفاصله.

الإنقاذ، بحلوها ومرها تستحق الإشادة، هذه لا مراء فيها، إلا من أصابه العمى، وأكل قلبه الحسد، لا يرى في عمل الآخرين إلا انتقاصا من قدره، وهذا عين الذات الدون. فمثلا، وقفت الأحزاب التقليدية وقفة غريبة ضد ثورة الإنقاذ، وقفة غير أخلاقية وغير مبررة. وإن لم يكتمل بناء الإنقاذ تماما وإن شملته بعض أو كثير من جيوب الفساد، وإن لم يكتمل الطموح بترفيع السودان، تتحمل أحزاب المعارضة التقليدية أيضا جزءا كبيرا من المسؤولية. فالموقف السلبي هو موقف سياسي محض ولا يمكن أن تقنعنا هذه الأحزاب بغير ذلك، رغم الكثير من البخور والدخان الذي تطلقه بأنها تعمل من أجل الشعب السوداني. فطحن الكلمات في الهواء، لا يعدو من كونه صناعة التاريخ في الهواء. وعكس هذه الأحزاب، أثبتت الإنقاذ أنها دولة عمل وفعل. فمن لا يريد العمل والفعل، ليلجأ لعالم الكلمات..التي لا تغني فقيرا ولا تشبع جوعانا.

كان بإمكان هذه الأحزاب التقليدية أن تدخل تحت راية المؤتمر الوطني منذ سنوات عديدة، ولو فعلت، لحدث نوع من التوازن، ولما حدثت أزمة دارفور أو الشرق، ولما اخترقت تلك الجيوب الفاسدة بناء الخدمة المدنية، أو المؤسسات الاقتصادية، ولما تطاول علينا الإنجليز والأمريكيون، ولشاركت منذ البداية في صنع بصماتها في اتفاقية السلام مع الجنوب. ولكن، أنظر إليهم الآن، يشيرون إلى تلك المفاسد..بالإصبع، أو يطالبون بمؤتمر دستوري جامع..!! فالسؤال من عزل من؟ ألم تعزل هذه الأحزاب نفسها؟ إذن لتتحمل هذه الأحزاب التقليدية هذه النتيجة، ولتقبل بال 14% وإن لم تقبل، فإلى مزبلة التاريخ بدون رجعة!!

وحقيقة، لقد حجزت هذه الأحزاب التقليدية مقعدها في مزبلة التاريخ مبكرا، ولكن تلعب الصحافة المطبوعة دورا كبيرا في إيهامنا بأن هذه الأحزاب موجودة. وليس صدفة أن يعمل الصادق المهدي لقاءه الشهري في منزله للفيف من الصحافيين، معظمهم من فصيلة اليسار أو من غير الموهوبين، الذي يتخلله أطايب الطعام وألذه، وفيه من الثرثرة الذهنية ما يعجب الإنتليجينسيا، وقديما قالوا أطعم الفم تستحي العين. ولقد شهد بعضهم بدماثة الصادق، وأدبه الجم، ولكن بدوري أسأل، فهذه الصفات هي لنفسه – إن أحسنتم فلأنفسكم، ولا تؤهله أن يكون رئيسا لدولة أو رئيسا للوزراء، فصفات رئيس دولة أو رئيس وزراء صفات أخرى لا يمتلكها السيد الصادق المهدي. تأتي أهمية هذه اللقاءات في نظر السيد الصادق، لكونها أسلوبا إعلانيا لنفسه، يعجز نفسه أو حزبه أن يوصلها للناس، وبتعبير آخر، يرغب السيد الصادق أن يقول لنا أنه ما زال هنالك.

إذن، تلعب الصحافة المطبوعة دورا مخادعا لجماهير الشعب السوداني عندما تهمل واجباتها الأساسية، مثل إلقاء الضوء على المبدعين والمنتجين في خدمة هذا الشعب في صمت ومكافأتهم معنويا، أو هروبها وإغماض عينها من تتبع أوكار الفساد وجيوبه في بنية الدولة والمؤسسات، وتشغلنا بهذه الأحزاب التقليدية وتخريفاتها. فمتى تحول الصحافة دائرة اهتمامها لشيء أفضل؟ وإذا حولت الصحافة دائرة اهتمامها لشيء أفضل فماذا يكون مصير هذه الأحزاب التقليدية؟ صدقوني، سينساها الشعب السوداني. إذن لماذا لا تحول الصحافة اهتمامها نحو الأحزاب الصغيرة الشابة الجديدة؟ لماذا لا تلقى الضوء على أفكار قياداتها الشابة؟ لماذا لا تركز الصحافة على القيادات السودانية الجنوبية في هذه الفترة الهامة؟ لماذا لا تركز وتلقي الضوء على نورين مناوي برشم في دارفور وحركته؟ يقول مناوي:

"أنا في تقديري مجمل مشكلة دارفور تتلخص أسبابها في الظلم الاجتماعي والتهميش السياسي والتنمية وإذا كان الناس يعتقدون أن بعض الحركات طرحها متطرف فأننا نقول أن المطامع السلطوية علي مستوي القطر، ولكن أعود أقول أن خلاصته مشكلة دارفور تنموية بالدرجة الأولى وهناك تهميش في الحكم ببعض الجوانب. ولذلك لابد من معالجة القضية الأساسية وهي قضية التنمية، أما بالنسبة للحكم فالمسألة يجب أن تعالج في إطار السودان الموحد. أنا لا أستطيع أن أقول أن حصة دارفور في الحكم يجب أن تكون كذا وحصة كردفان كذا. هذه مسألة غير منطقية أنا في تقديري أن كل إنسان يجب أن يأخذ المنصب حسب الكفاءة وتزكية المركز له. وفي تقديري أن الجانب السياسي والحكم ليس بالهم الأساسي بالنسبة للمواطن البسيط الموجود في دارفور فهو أيضا يعاني من جهل وقلة عدد المدارس وعدم تهيئة الظروف المناسبة للتعليم وضعف الخدمات الصحية في عدد المستشفيات ووفرة الدواء وكذلك بقية الخدمات والطرق غير مهيأة وبعض أجزاء دارفور تنعزل بشكل كامل في فصل الخريف عن بعضها وعن المركز لوعورة الطرق وعدم صلاحيتها للحركة، هذه جملة من المشاكل وهي حقيقة أهم من المشاكل السياسية المتمثلة في المظالم السياسية التي تخص وتهم النخبة المتعلمة، وهؤلاء يقدمون الجانب السياسي علي مشاكل التنمية، وفي تقديري هذا طرح خاطئ وعلي الناس أن يفكروا في المشاكل التنموية قبل المشاكل السياسية. ووضع الحلول لقضايا مجال التنمية يجب أن يسبق الحلول السياسية، وأرى أن بعض الناس يتمسكون بالجانب السياسي اكثر لا نجد ذكراً في أدبياتهم للتنمية بقدر «الجعجعة» في مجال السياسة".أ.هـ.

أعتقد، وسيؤيدني المئات من القراء أن كلمات نورين مناوي برشم صحيحة، لقد حان الوقت أن نفرق ما بين احتياجات المواطن البسيط وما بين "الجعجعة" والمظالم السياسية التي تخص وتهم النخبة المتعلمة. فبالله من أحق باهتمام الصحافة، السيد الصادق المهدي أم نورين مناوي برشم؟ ألا تسقط الصحافة المطبوعة في النفاق السياسي عندما تهتم بالسيد الصادق وتعتم على نورين مناوي برشم؟

بعد انقسام الإسلاميين لم تعد الحركة الإسلامية هي نفسها بعد ركوبها سنام السلطة وانقسامها، ففضلا للكلمات السابقة التي ذكرنا فيها الصدمة النفسية والفكرية لذات المسلم الحركي عندما أكتشف أن الدعوة الإسلامية، أو تفعيل الدولة الإسلامية لا يعتمد وحده على العاطفة، أو تحريك الغرائز كما يفعل السلفيين. لقد انتهت تلك الغشاوة، أو تلك البراءة، أو السذاجة. لقد حدث في ذات المسلم انقلاب ذاتي، فلم يعد يمكن جره كما في السابق اعتمادا على الحماسة أو العاطفة الإسلامية. فإضافة لهذا التحليل، سنجد بعض الفصائل الإسلامية لها اجندتها الخليجية، وستركز على "أهمية" الدعوة الإسلامية، ليس لأن هذا الأسلوب هو الأنجع في صنع مجتمع مسلم حقيقي، بل لأن ممولي هذه الفصائل السودانية من قبل مؤسسات دول الخليج يشترطون عليهم أن يكون الاختراق المذهبي عن طريق "الدعوة الإسلامية". ولقد فصلنا في مقالة سابقة عقم أسلوب "الدعاة" ولا يكون إلا في مجتمع متخلف، سحبت منه كتب التراث، وعطلت فيه الفقاهة الجماهيرية، وتم حصر الفقه في بضعة أفراد بعينهم، بينما يستحمر الجمهور!! هذا الفصيل الإسلامي "الخليجي" سيشاغب الحركة الإسلامية السودانية قاطبة، وسيحرفها عن القضايا الأصلية المفصلية. لذا نقترح أن يركز الإسلاميون على قضايا خلاف مسألة "الوحدة الإسلامية"، إذ السؤال الذي سيعصف بعقل الإسلامي الحركي هو "سنتوحد على ماذا"؟ فحتى الصادق المهدي يطرح في "معاذيره"، وما أكثرها، هذا السؤال. من الأفضل أن يناقش الإسلاميون قضايا خارج ذواتهم، مثل طبيعة الاقتصاد الإسلامي، أو ماهية "الدولة الإسلامية"..فحتى قضية "الشورى" التي يتغنى بها الإسلاميون هي موضع شك. فكلمة الشورى التي ذكرت في القرآن أتت في أربعة آيات، وكلها لا تفسر الدولة الإسلامية، فالرسول (ص) عندما كان يستشير بعض أصحابه كان نوعا من تأليفهم بعد أن هربوا من القتال في معركة أحد "أستغفر لهم وشاورهم في الأمر.."، ولم يك محتاجا لشورتهم "..وإذا عزمت فتوكل على الله.."، وعليه، لم يعمل الرسول (ص) "جهازا" ثابتا من الصحابة للشورى، كما يتخيله محمد عمارة، أو غيره من الباحثين بأنه نواة الدولة الإسلامية.

ولكن الأهم، أن تقيم الحركة الإسلامية السودانية مشروعا طموحا لا يقل عن صناعة الورق ومؤسسات طباعية كاملة، وعليهما تقوم طباعة كل كتب التراث الإسلامي طباعة شعبية رخيصة وتسليمها للمجتمع، وفي تقديرنا، هذا المشروع الطموح هو البديل الحقيقي لمشروع "الدعاة" الذي يسمسر عليه بعض المحسوبين على دول الخليج، وهو الكفيل بنقل المجتمع نقلة نوعية نحو فكر إسلامي منفتح ومتجذر، أما غير ذلك فهو ضرب من خداع الذات. الوحدة الإسلامية يجب أن تقوم على رؤى وخيارات فكرية حقيقية وليس على أسس عاطفية. ولكن في حالة العدم، لتكن الوحدة الإسلامية على أسس سياسية، أقله الوقوف ضد المخططات الغربية الاستعمارية، كما الوقوف في وجه تصدير الدين للسودان من الدول الخليجية.

شوقي إبراهيم عثمان
ميونيخ – ألمانيا
[email protected]


للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved