مقالات من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

جنوب كردفان : طموحات التَّسامح، الوحدة المحليَّة والتَّعايش السِّلمي (1) بقلم الدكتور/ قندول إبراهيم قندول

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
5/15/2005 8:49 م

جنوب كردفان : طموحات التَّسامح، الوحدة المحليَّة والتَّعايش السِّلمي (1)

الدكتور/ قندول إبراهيم قندول

[email protected]
مقدِّمة

على مر التاريخ تعاملت حكومات المركز - بما فيها حكومة الإنقاذ الحالية - مع الهامش وأهله باستعلاء شديد، وكانت ردود فعل تلك الحكومات عنيفة كلما عبر أهل تلك الأطراف سلمياً عن عدم الرضا بما يجري في مناطقهم بعد مناصرتهم لهذه الحكومات بالتأييد المطلق للانقلابات العسكريَّة أو عبر التصويت لها كما حدث في الانتخابات الجزئية التي أفرزتها العمليَّة الديمقراطيَّة العام ١٩٨٦م. ففي كل هذه الأحوال كان إقحام الدين والعرق (دائماُ الإسلام والعُروبة) في المعادلة السياسيَّة والاجتماعيَّة لتزداد مشاكل السُّودان تعقيداً ويستعصى حلها، داخلياً وإقليميا. فكثيراً ما يخلط الناس - جهلائهم وعلمائهم اعتباطاً وتعنُتاً - بين الدين والعِرق والسياسة، ونتيجة لتسييس الدين، أو قل وتديين السياسة، اندلعت حروبات أهلية طويلة الأمد أُستعمل فيها كل أنواع العُنف الديني والعرقي والثقافي ضد الإنسانية، فسقطت الملايين من القتلى وآلاف من الجرحى والأرامل وعشرات الآلاف من اليتامى، وخرج الملايين من النازحين داخل الوطن، فضلاً عن المركز المخجل الذي إحتله السودان في ذيل قائمة أفقر دول العالم على الإطلاق. إن الأديان - وبخاصة الإسلام - تدعو إلى المحبة والتعاون على البر والتعايش السلمي بين مختلف الأعراق، ولكن غالباً ما يستغل الحُكام الدين والعِرق دون غيرهما لإثراء الفتن بين الذين لا حول ولا قوة لهم. ففي السودان تكثر وتطول خُطب الساسة بأن الإسلام يواجه حملةً تنصيرية مضادة وعلى هذه الوتيرة تجدهم يستَنفرون "كُلَ" الأُمة لصون عقيدتها، وأنَّ العروبة مُعرضةٌ لحملة إقصاء أفريقية فيقف "كُلَ" القوم دفاعاً عن قوميتهم. هذا النوع من الضوضاء والغوغاء دائماً يكثُر في المحافل الإسلاموعروبية. أما علي المسرح الإفريقي فتغلب عليه عبارة هذه "مُشكلة سودانية" فلابد أن تُحل بحوار سوداني-سوداني ولا حاجة لأية وصاية خارجية أو تدخل أجنبي. وفي حقيقة الأمر، فإنَّ السودان لا هو عربي خالص الإسلام ولا أفريقي كامل الطوطميَّة ولا حتى بينهما وتكاد تنطبق عليه المقولة الشعبية "تمخض الجملُ يوماً فولد فأرأ ميتأ"! هذه هي أزمة الهوية الدينية والعرقيَّة التي يُعانى منها السودان(١) وهذه هى غطرسة النخبة التى ختمت على أصبارهم الغشاوة فلا يرون مد أُنوفهم وتغلب عليهم الخشية من ظلالهم غِلاً فى حب الذات.
يهدف هذا المقال مناشدة أبناء إقليم جنوب كردفان/جبال النوبة بمُختلف أعراقهم، دياناتهم وانتماءاتهم السياسية إلى التَّسامح والتَّصالح فيما بينهم والالتحام في وحدةٍ محلية للاستفادة مما جاء في اتفاقية السلام والعمل معاً للمحافظة على ما تم الحصول عليه وكسب ما لم يتحقق.(2) فالتَّصالح والوحدة هما مسؤولية كل أهالي الإقليم ورغبتهم الأكيدة وإستعدادهم التام لنبذ إفرازت وتسربات الحرب السلبية. ولتحقيقهما لابد من القراءة والفهم الصحيح للإتفاقية لتفنيد القصور فيها والبحث عن وسائل لمعالجتها وتذليل العقبات التي قد تقف - عمداً أو بغير عمد - حيال التطبيق الفعلي لما إرتضوه. لذا خُصص هذا البحث المختصر لمعالجة موضوع المصالحة والوحدة بين أبناء الإقليم وذلك للإهمال والأضرار التي تعرض لها الإقليم ومُعاناة أهلُه خلال حرب العشرين سنة الماضية. إذ يغطى هذا المقال ثلاثة جوانب. ففي الجانب الأول- موضوع الجزء الأول-عنينا بالسرد التاريخي المختصر لتظلمات أُرتكبت بواسطة حكومات المركز في حق كُل أهل الهامش السوداني من وجهة نظرتها العنصرية والدينية؛ وفي الجانب الثاني – الجزء الثانى من البحث- حاولنا إلقاء الضوء على إستغلال السياسيين للدين والعِرق لخلق الفتنة بين أهالي إقليم جنوب كردفان؛ أما الجانب الثالث ففيه ناقشنا الأخطاء الجسيمة التي أدت إلى المفاصلة والخصومة، مع ذكر عوامل الوحدة والتعايش السلمي وإعادة تنمية التناسُق الحياتي في الإقليم وكيفية إستغلال موارده لخدمة أهله بدلاً من التناحر والإقتتال.

تظلمات المركز للهامش.. ملحمة النَّاس البسطاء

إبتداءاً، إشتدت وتيرة العُنصريةُ وسيطرت على مخيلة سودانيى الشمال النيلي ضد الهامِش العام ١٩٢٤م عندما كتبت جريدة "حضارة السودان"، التي كان يملكها السيدان علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي، تعليقاً لاذعاً ضد على عبد اللطيف قائد حركة اللواء الأبيض الوطنية فى عددها الصادر في ٢٥ يونيو ١٩٢٤م.(٣) إذ ينحدر على عبد اللطيف من أُم دينكاوية وأب نوباوي وعلى هذا النسب والإنتماء القبلي لم يرض عنه السيدان مثلما كان رد فعل المستعمر الذى أغضبه علي عبد اللطيف. فغضب البريطانيين أخفَّ وطأة لأن علياً جاهرهم بالعداوة من أجل وطنه، ولكن أن تُعاديه "حضارة السودان" فهذا أمر مريب! إحتوى التعليق على ما لا يُمكن أن يتفوه به أو يُكتب ولكنهم كتبوه وما كانوا ليكتبوه. فقد طالب التعليق - صراحة - القضاء الفوري (القتل الناجز) على علي عبد اللطيف، وتساءل في إستنكار، أي بلدٍ سافلٍ هذا الذى يُقاد بأمثال علي عبد اللطيف، ومن أية سُلالة أو أُسرة وقبيلة ينحدر حتى يستحق كل هذه الشُهرة. تالله لو كان علياً منهم لما تجاهروا به ولأخفوه وهم منكرون ثُمَّ لألقوا المعاذير لو كُشفَ عنه الغطاء لكى يحموه- على أسوأ التقدير- ثٌمَ إتخذوا يوم موته ذكرى وقبره مزاراً. عقب هذه الحادثة بأربعة عشرة عام تمّ تكوين مؤتمر الخريجين العام ١٩٣٨م الذي كان امتداداً لحركة اللواء الأبيض فى مناهضة المستعمر، غير أن المؤتمر إتخذ أُسلوب الملاطفة بدلاً عن مواجهة المستعمر. وكما هو معلوم فإن قيادة المؤتمر كانت ذات جذور عربية -شمالية، وعلى هذه الخلفية لم يتم توبيخهم لنشاطهم هذا ولم يسأل أحد عن أيِ فصلٍ ونسبٍ ينتمي أفراد المؤتمر، ربما لأن القيادة كانت من أهل الحل والعقد. إن هذه المفاهيم الخربة تسيطر على عقول عدد كبير من الإخوة الشماليين النيليين - إن لم يكُ جُلهم - بعد أكثر من ثمانين سنة والتي أفصح عنها الدكتور منصور خالد في إحدى موسوعاته بأن ما يُقال فى دوائر أُنسِ النُخب الشمالية الخاصة تجاه العناصر غير العربية فى السودان لا يمكن أن يُكتب لما به من نعرات تمييز "شبه مستتر" ضدهم.(٤) فقد عبّر جاهراً بهذه النعرة كاتب ومنظِّر ثورة الإنقاذ البروفيسور حسن مكى فى إحدى مخطوطاته بأن حزاماً أسوداً من البشر أحاط العاصمة المثلثة فى إشارة إلى معسكرات النازحين الزنوج من الجنوب، جبال النوبة ودارفورحول العاصمة. وبما أن السودانيين يعانون من عمي الألوان فى وصف ألوان البشرة، فإن تصنيف حسن مكى يرى فى هذه الإحاطة تهديداً لكيان اللون القمحى، الأخضر، الأزرق، و ربما، الحمرة (الحَلَبة) التى أباها (رفضها) المهدى، لكنه تناسى أن لونه أسود ولم يتأبّط الشر(لم يخفى الشر تحت إبطه) فى أن يلقى هذا الوصف على النازحين بُغية نيل الثناء والترقى كعادة الذين يعملون فى بلاط الحكّام أو لكراهية منه لهؤلاء. فليس سراًً ولا جديداً أن الإخوة الشماليين ينعتون أهالى الريف السوداني - خاصة أقوام الغرب – جملة بالغرابة (فور، نوبة وبقارة أو ميسيرى أو عربى "ساكت" لمن اتخذ العروبة نعتاً له) وأقوام الجنوب، بالجنوبيين وكلهم عندهم عبيدُ. وما يُضحك ويُبكى أنهم عندما يُضبطوا فى سمرهم وألسنتُهم تلوك هذه التعابير الصريحة والعارية من الاحترام لإشهار العُنصرية، تواروا خجلاً وأتوا مدافعين قائلين: كُلنا "عباد" الله، ليس عبيد، فإنا كُنا والله مازِحون، فإستخف دمكَ (خليك خفيف الدم وما تكون حسّاس ومتعقد) فتعال وآنس مجلسنا! هذا مثلٌ نضربه من أنباء قومٍ يدينون بالدين القيّم ولكنهم مسرفون فى إستغلال العِرق كأداة للفتنة والسُخرية ثُمّ الدين- زوراً-لمحاولة تقويم ما افسدوه ولا تأخذهم المخافة من النهي الإلهي ﴿ لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم و لا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكُنَّ خيراً منهُنَّ ﴾ (الحجرات ٤٩/١١)، وكل هذه السخرية دائماَ ما تطلق على أهل الهامش. إن ذكر هذه الحقائق ليس دعوة للكراهية والعنصرية ولكنه دعوة لأهل الطرف السودانى أنه لا مجال ولا مجاملة للسخرية والنظرة الدونية ضدهم، وإننا على أشد اليقين أن بعضاً من أهل الخرطوم والتخوم ومن حولهما-خاصة أصحاب الحل والعقد- قد يسيؤون فهم المقصد من هذا الطرح فينعتونه- مُسبقين-بعنصرية كما إعتاد الكثير. وإننا لكنن من الخاطئين إن لم نقل أن مفهوم العنصرية يتعدى النطق بها ليعنى فيما يعنى "ممارسة التمييز بواسطة أغلبية أو أقلية إثنية (عِرقية) تملُك كل شئ، من السلطة-أية سلطة – والمال، وفي بعض الأحيان تحالف مجموعة أو مجموعات عِرقية صغيرة بحُكم مصالحها، ضد عِرق أو جماعة عِرقية مُعينة مستضعفة لا تملك شيئاً". بالطبع هذا التمييز لا يمكن أن يمارسه أهل الريف فليس لهم فيه شأنً يُغنيهُم حيث لا سلطان لهم على شيئ ولا لهم مالٌ مكنوزٌ لدعم هذه الممارسة.
ففي السنوات التي سبقت إستقلال السودان (١٩٤٧-١٩٥٣م) لم يشارك أهل الهامش ولم تتم مشاورتهم بصورة جدية بواسطة نخبة الشمال فى المناقشات التى أدت الى تقرير مصير السودان ومن ثم عُجل بالإستقلال العام ١٩٥٦م في غياب تام لهؤلاء الأقوام لتشبُث الكثير من النخبة وإدعائهم بفهم جميع قضايا أهل السودان دون غيرهم وظنهم،- تسلطاً و جهلاً- مقدرتهم على حمل الأمانة وحدهم، كأنما لم يقرأوا قول الله تعالى: ﴿ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبينَ أن يحملنها فأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا ً﴾ (الأحزاب ٣٣/٧٢). وما المشاكل التي يعيشها أهل السودان اليوم إلا نتيجةً لهذه الغطرسة. على أية حال، وقتذاك تحدى الأُستاذ إبراهيم بدرى ، عُضو اللجنة المكلفة بتعديل الدستور، النخبة عندما اتخذ موقفاً منفرداً ضدهم فتنبأً محذراً إياهم بنشوب العداوة بين أهل الريف والمركز مستقبلاً ما لم تُناقش وتُعالج مشاكل القُطر كلها بطريقة صحيحة خاصة قضايا الفلاحين، الرُعاة والرُحل من أهالي جنوب كردفان، دارفور، جنوب السودان وجنوب النيل الأزرق، تفادياً لأية عاصفة غضب قد تأتي عاتية. لم يقف إبراهيم بدرى عند هذا بل مضى يطالب بوضع الضمانات الكفيلة للحفاظ على أية مكتسبات يتحصل عليها هؤلاء الناس.(٥) إذن، ماذا كان رد فعل النُخبة لطلب زميلهم المتواضع من المستعمِر لبنى وطنه؟ أخذت العزة بأنفس بعضُ أعضاء اللجنة فنسوا أو تناسوا إخوتهم عند الحاجة ومن أجل مصالحهم الخاصة إختلفوا، واشتدت حدة رفض مقترحات إبراهيم بدرى إلى أن إستقال منهم عددٌ كبير. فأراهم الحاكم العام غضبه من هذا التصرف غير المسؤول وألغى اللجنة. نفس الموقف يتكرر اليوم حيث رفضتت المعارضة الشمالية المشاركة فى اللجنة المكلفة بكتابة الدستورالإنتقالى.(٦) إننا نرى من الحصافة (الحكمة) واللباقة أن يعمل الرئيس لإسراع عملية إنفاذ الإتفاق بإصدار قرارات تلبى ما تنادى به المعارضة – زيادة نصيبها من القسمة الضيزى فى السلطة والثروة- لأن السواد الأعظم من الشعب السودانى نفد صبره على المكاره وملّ الإنتظار كما أن الحركة ليس بيدها سُلطة إصدار القرارات لتعجِّل بتنفيذ ما إتفقت عليه مع الحكومة. مهما يكن من أمر هذا المد والجذب فإن هذا التلكوء تفوح منه رائحة غير طيبة توحى بتهديد الإتفاقية ذاتها وهذا ليس مستبعداً ولا جديداً من ساسة الشمال لا من أجل شيئ غير الحفاظ على كراسى الحكم بأى ثمن. وستثبت الأيام أن المعارضة ستنضم لاحقاً مع الحكومة فى صفٍ واحد كالبنيان المرصوص ضد الكل بما فى ذلك الهامش ليتكررتجاهل أهل "الحل والعقد" للحقوق الشرعية لساكني الأمصار الأمر الذى يتسنى لأهل الهامش الإنتباه والأخذ به فى تعاملهم معها.
وفي العام ١٩٥٣م إستخدم الأُستاذ محمد أحمد محجوب – رئيس وزراء حكومة ما بعد الإستقلال كلمة "موضع الاعتبار" (Due consideration) كإشارة نُخبية شمالية فارغة المحتوى لصون حقوق الجنوبيين إذا إختاروا البقاء فى الوحدة مع الشمال. ففى ليلة ظلماء من ليالى مؤتمر جوبا، قضى رئيس القضاء آنذاك مولانا محمد صالح الشنقيطى، السيد سرور الرملى وآخرون ليلاً طويلاً يمارسون الضغط "السياسي" الذي أُشتم منه رائحة الإرتشاء ووعود جمة بإعطاء مناصب لكليمنت أمبورو، جيمس طمبرة، بوث ديو وآخرين حتى سالت لُعاب هؤلاء الممثلين الجنوبيين للوعود المنقوضة مسبقاَ فإختاروا الوحدة. ولكن عندما أتى الإستقلال بسودان متحد تقاعست النُخبة عما وعدت به أهل الجنوب فأُهمِل الجنوب، الشرق، الغرب وبعضاً من أجزاء الشمال نفسه فنقض أُولى الأمر ما عاهدوا الله عليه وأسرّوا النجوى والهمز بأن أهل هذه التخوم غير مؤهلين بالتعليم المناسب أو غيره ليتبوأوا مناصب عُليا أو وسطى. وعندما تعلم القوم أتى المركز المستخلِف على أهل السودان بسبيبة الدين والولاء الطائفي والقبلي أو العشائري وأخيراً العرق. ولمّا فطن هؤلاء الناس واتخذوا الإسلام ديناً لهم عاكفين، وحافظين للكتاب، وبالولاء مخلصين ومغلين، لم يُعطوا ما لهم من حقوق سياسية وإجتماعية وإقتصاديَّة مشروعة. هذه هي طبيعة تفكير أهل القصر ونظرتهم الإستعلائية (Condescending attitude) إلى أهل الهامش مهما تحلوا بالأمانة والقوة والكفاءة. فإذا ما توفرت فيهم هذه الخصائص، أُستغلت إلى آخر الزُبد فيها ثُم يسرحونهم تسريحاً غير جميلٍ الى الصالح العام أو غير العام جزاءاً وِفاقا بما لم تقترف أيدهم بسوءٍ وما نطقت به ألسنتهم بالحق.
لم يضع الإستقلال حداً للفوضى والتطرف الطائفي والإقطاعي فركّز حزبا الأُمة والإتحاد الوطني جهديهما في التنافس لجمع المال والنفوذ دون الإلتفات لمعاناة الشعب، خاصة أهل الريف السودانى بدون إستثناء. عليه، وبعد مرور أقل من ثلاثة سنوات على الإسقلال، سلّم عبد الله خليل الحكومة للفريق إبراهيم عبود فى ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م.(٧) هذا الانقلاب السلمي الأول لم يُنعت بأنه إنقلاب عُنصرى أو بأنَّه خيانة عُظمى ضد الدولة يُعاقب مرتكبوها بالقتل كما كان حظ قادة حركة اللواء الأبيض التي إستهدفت الإستعمار وطغيانه. من الصُدف والعجب أن نجح عبود نسبياً فى تحقيق بعض التنمية إلا أن معظمها إنحصر فى مثلث الخرطوم-مدنى-كوستى. لكنه، وبوحي من غريزة التسلط، لم يفوِّت الفرصة فقام بحملة تدمير شاملة لمُركب النسيج والعقد الإجتماعي السوداني بإعلانه ثورة التعريب - التى بداها عبد الرحمن على طه - والأسلمة القسرية. كما كان هجومه شرساً من أجل القضاء على التمرد فى الجنوب بقيادة وزير حربه اللواء حسن بشير الذى إرتبط إسمه بمحاولة حرق الجنوب بمن فيه وما به - هكذا روي لنا - فمضى البعض يقول ويتغنى: "حسن بشير ما بخاف الدين"! إن هذه الوحشية تمارس اليوم بلا رحمة على أهل الهامش.
نتيجة لهذه السياسة الهمجية والفوضى ثُمّ تدنى الأحوال المعيشية للعامة والنخبة فى منغوسة رغد العيش حتى إنتفخت بطونُهم سُمنةً ونضرت وجووهم وظنوا أنها نُضرة نعيم الجنة، ثار الشعب الجائع على عبود فعاد الجيش إلى الثكنات فى ٢١ أكتوبر ١٩٦٤م. أعقبت حكم عبود حكومة سر الختم الخليفة الإنتقاليَّة التي كانت مشغولة في الحرب الكلامية بين القادة السياسيين والزعماء الطائفيين بدلاً من التركيز على التنمية فلم تقدم أى شيئ فسرعان ما أفلت. ففي هذه الفترة – أي العد الديمقراطي الثَّاني- لمع نجم السيد الصادق المهدى فى العقد الثالث من عمره ونجح في حمل حقيبة رئيس الوزراء ليصبح أصغر رئيس وزراء السودان بمساندة أهل غرب السودان (دارفور وكردفان).(٨) كانت حكومة السيد الصادق المهدى أسوأ من سابقاتها لإنتجاها مواقف أكثر تطرفاً لجمع الثروة ومشاكسة السيد الصادق لعمه السيد الهادى على السلطة السياسية والدينية. ففي عهده الأول توقفت التنمية على أحسن الفروض إن لم تتدنى بسرعة عالية فضلاً عن الفوضى السياسية. كذلك فيه أيضاً إزداد الدمار في الجنوب وإمتد إلى الجزء الجنوبي الغربي من كردفان العُظمى وما المناوشات ضد الدينكا من قِبل المسيرية الزُرُق والحُمُر اللذان تم تسليحهم بواسطة اللواء فضل الله حمّاد (خال فضل الله برمة ناصر ووزيرالدفاع فى إحدى حكومات الصادِق المهدى الإئتلافية) إلا مثالاً لهذه الفوضى وإستغلالاً للإنتماء العرقي لنثر الهول بين المواطنين. هكذا إندلعت الشرارة الأُولى للفتنة الكبرى بأيدٍ حكومية سودانية ضد مواطنيها.
لقد أغضب تدهور الأوضاع مجموعة تنظيم الضُباط الأحرار من ذوي التوجهات الاشتراكية والقوميَّة العربيَّة. هذه المجموعة العسكريَّة، مدفوعةً بالتطرف للعُروبة ومُختفيةً في جلباب الفكر اليسارى، إنقضت على السُّلطة بقيادة العقيد جعفر محمد نميرى في صبيحة الخامس والعشرين من مايو ١٩٦٩م. كان معظم ضُباط الإنقلاب من الشمال النيلى ولم يوصف هذا الإنقلاب بالعُنصرية، وكان هذا هو الإنقلاب "الوطني" الشمالي الثاني "الناجح" والذي نفّذ آليته أبناء الأطراف السودانية. عقب الإنقلاب مباشرةً، برر الإنقلابيون فعلتهم هذه بأُن ما قاموا به كانت ضربة إستباقية لإنقلاب عُنصري كان يخطط له الأب فيليب عباس غبوش وعليه كان لابد من التحرك السريع لوقف قيام أو نجاح هذا العمل العُنصري! إذاً لم يكن لديهم دافع وطنى حين يجيؤون ووقتما يذهبون عن السلطة فهم فى تفكير دائم للمحافظة عليها. ما كان لنميرى - بعد أن بسط سُلطته - إلا أن بدأ إصطياد قادة النوبة والضُباط منهم. فمنهم من دُفع له، أو أُعتقل أو أُجبر على الفِرار بجسده بما فيهم الأب غبوش الذي قاد معارضة شرسة ضد النظام ووصلت هذه المعارضة ذروتها عندما شن هجوماَ على مطار جوبا أثناء إحتفال النِّظام "المايوي" بأعياد الوحدة فى مارس ١٩٧٧م. (٩) لم يمكث نميري في السُّلطة طويلاً، وسرعان ما نشب صراع سلطوي بين رفاق الأمس، فقام الحزب الشيوعي السُّوداني بمحاولة انقلابية فاشلة في يوليو١٩٧١م بقيادة الرائد هاشم العطا الذى سيطر فعلياً على العاصمة المثلثة لمدة ثلاثة أيام. كان هاشم العطا من الشمال النيلى ولكن إنتماءه للشيوعية برأه مؤقتاً من عضوية الشمال نسبة للعداء الشديد بين الدين (الإسلام) والشيوعية (الإلحاد). ولحساسية السودانيين المفرطة ضد أي شئ يمس الدين بسوءٍ لدرجة التضحية بالنفس، وجدت ثورة مايو ضالتها فعزفت على هذا الوتر الحساس مستغلة الدين وإستطاعت أن تأمِن الدعم لإستمراريتها ولكن إلى حين كما سنرى لاحقاً. مهما تعددت أسباب إنقلاب "ثورة مايو المجيدة" تبقى حقيقة واحدة هى: أن هذه المغامرة العسكرية خُلِعت تماماً من صبغة العُنصرية لأن أغلب القادة، وعلى رأسهم الرئيس نميري، من أهل الشمال ولكنه من حيث النسب ينتمى إلى قبيلة الدناقلة غير العربية فكان هو الآخر موضع السخرية. لو لا أن نميرى جنح للعروبة وزاد قليلاً فى فظاظة وغلاظة قلبه على الكل لما مكث ستة عشر عاماً شداداً فى الحكم. مرة أُخرى، كانت الجهوية، العنصرية والدين الركيزة التي تتوكأ عليها النخبة في الشمال.
في العام ١٩٧٥م غامرت مجموعة غير راضية عن نظام ثورة مايو لتركيزها التنمية فى الشمال دون غيره فقامت بمحاولة تقويض النظام بقيادة المقدم حسن حسين عثمان. ضمت هذه المجموعة شباب من الغرب، خاصة، كردفان (عرب البقارة، نوبة وغيرهم). كان حسن حسين عثمان عربي الإنتماء، فيما كان عبد الرحمن شامبى وعباس برشم من النوبة. لم يغنِ إنتماء حسن حسين إلى العروبة وصحبه إلى النوبة من نعتهم بالعُنصريين ومحاولتهم الفاشلة من صبغة العُنصرية لتكون هذه هى المرة الثانية بعد خمسين سنة من حادثة اللواء الأبيض أن تُستعمل فيها كلمة العُنصرية ضد أهالى جنوب خط العرض ١٣ شمال أو قُلْ أكثر من ثلثي القطر. وفى الثاني من يوليو ١٩٧٦م، أى أقل من عام من المحاولة العنصرية الفاشلة آنفة الذكر، دخل الخرطوم العميد محمد نور سعد، على رأس مجموعةٌ أُطلق عليها إسم "المرتزقة" والتي تم تدريبها في ليبيا. وفى أبشع صورة لإستغلال الدين، أُعطي لكل فردٍ من المجموعة - كذباً وإفتراءاً - مفاتيح لدخول الجنة جزاءاً للشهادة إن قُتِلوا فى سبيل قلب نظام النميرى كما لم يفصحُ حتى الآن عن جوائزهم إن نجحوا فى تغيير نظام ثورة مايو الظافرة أو ما سيؤول إلى ذويهم إن هم قُتِلوا دون المرام. كانت غالبية هؤلاء "المرتزقة" من دارفور المكلومة التى تحرقها نيران جيش الحكومة وجنجويدها. إتضح فى نهاية الأمر أن حزب الاُمة – بزعامة السيد الصادق المهدي، وبالتضامن والتنسيق مع جبهة الميثاق الإسلامي - بقيادة الدكتور حسن الترابي، والحزب الإتحادى الديمقراطي- بقيادة الشريف حسين الهندي - إتحدوا في الجبهة الوطنية لإسقاط نظام مايو. ولكن المحاولة فشلت في مذبحة دموية لم يشهدها تاريخ السودان وقتذاك وتم دفنهم في مقبرة جماعية ضحلة بالحزام الأخضر بالخرطوم. والأسوأ من هذا أن أعداداً كبيرة من الغرابة تم القبض عليهم بالإشتباه، فأُسيئت مُعاملتُهم وأُودعوا السجون لجرائم لم يرتكبوها(١٠) فضلاً عن حملات الكشات التى إستهدفت أهل الغرب ثُمّ ترحيلهم على قطار الغرب لتنظيف العاصمة من الشماسة المنبوذين لأنهم يمثلون خطراً أمنياً على أهل الخرطوم! هكذا خّرب القادة الشماليين بيوت الناس بأمرهم وبأيدي غيرهم ليصبح هؤلاء الغير مذنبون فيما بعد على الرغم مما هم فيه من ضنك العيش وغلظة الحياة وخشونتها. ومن مفارقات الأقدار أن تسلل السيد الصادق من طرابلس ليبيا إلى سواكن السودان دون إستشارة أو موافقة أنصاره (معظمهم من الغرب) ليُعانق ويُبايع نميري على السمعِ والطاعة فيما سُميت بالمصالحة الوطنية العام١٩٧٧م وإنضم إلى عضوية المكتب السياسى للإتحاد الإشتراكى السودانى. فعل ذلك ورفاقه في النضال ما يزالون فى السجون وجراحهم لم تلتئم بعد ولم تُقام الحولية بعد لمن قضى نحبه ولم يتطرق السيد الصادق إلى هذه المظالم أبداً!
يُعتبر العام١٩٨٣م وما تبعه من فكِ الإرتباط بإتفاقية أديس أبابا المبرمة العام ١٩٧٢م مرحلة حرجة فى مستقبل السودان السياسى الحديث. قُبيل إلغاء الإتفاقية وجه نميري ضربةً إستباقية (Pre-emptive Strike) على الجنوب بتقسيمه إلى ثلاثة ولايات ثُم إعلان السودان جمهورية إسلامية - ربما بإيحاء من تنظيم الأخوان المسلمين التابع للشيخ الدكتور حسن التُرابى- وتطبيق قوانين سبتمبر على القُطر كله مما أغضب الجميع، فخرج الدكتور جون قرنق من الخرطوم غضباناً ليؤسس ويقود الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان على أنقاض الأنيانيا 2، وكذلك الأسقُف غبوش الذى عبّر عن رفضه لهذه القوانين بالتحريض على الإستيلاء على السُلطة فى محاولة انقلابية فاشِلة العام ١٩٨٤م. لم يكن مُدهشاً أن توصف هذه المُغامرة بعُنصرية (١١) ووُصِف أنصارغبوش من النوبة والجنوبيين بعُنصريين، وطابور خامس – أي مُتعاطفين مع الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان. هذه النعوت بالطبع كان لها وقع السحِر على مسامِع السودانيين ثُم تفكيرهم تجاه النوبة إضافة للإستهجان الذى تعرّضت له شريحة من أبناء النوبة من مزاولة مهنة مُذلة للإنسانية، كما كان لها آثار مُغايرة وسالبة أيضاً على هذه المجموعة المتهمة. كاد رأس غبوش أن يُقطفُ كرد فعل الحكومة لهذه المحاولة لولا عطاء ولُطف الله، فعفا نميري عنه وعن رفاقِه بعد ضغوط محلية وعالمية فى مسرحيةٍ تلفيزيونية قُصِدَ منها الإهانة بالرجُل الشيخ الكهل. وبنفس القدر نال محمود حسيب - أحد قادة إنقلاب مايو والذي كان طُعماً للتمويه - حظاً غير حميد من النِظام. ففى إحدى جلسات الإتحاد الإشتراكى السودانى- الحزب الحاكم والوحيد - طالب محمود حسيب، سلمياً، الحكومة أن تقوم بمعالجة التظلمات التاريخية والنهوض بالتنمية والخدمات في جميع أنحاء القُطر فأُتِهِم بأنه يشجع على الإنفصال وفى زخم الإصوات العالية والمُناهِضة من أعضاء الحزِب لم يجد حسيب آذاناً صاغية فضاعت ودُفِنت مطالبُه ثُم عُزِل كما كان مصير مذكرة إبراهيم بدرى المماثلة.(١٢) إلا أن نميري مضى قُدماً فى إنشاء جمعية ود النميرى التعاونية دون معارضة من أو قل بموافقة نفس المجلس أو المكتب السياسى الذى عارض حسيب.
إصطفى نميري لنفسه الأخوان المسلمين وقرَّبهم إليه في نهاية السبعينيات إلى مُنتصُف الثمانينيات. ولكن في مارس ١٩٨٥م قلّ العسل وقصر شهره وندُب صبر نميري وضاق صدره على أخوانه (الأخوان المسلمين) عندما أوجس منهم خيفةً بإنهم يخططون للإطاحة به فضلاً عن التدهور الإقتصادى الذى عمّ السودان حتى رفع الدعم عن السلع الضرورية وسخر من الإضرابات ومظاهرات الغلاّبة – يحلو للنخبة مناداتهم بالشمّاسة - التي عمّت السودان. ولكي يلفت نميري أنظار الناس بعيدأ عن أخطاء حُكُمِه وتدهور الأوضاع المعيشية، إزداد نميرى غضباً على غضبه المألوف فقرر إعتقال جميع قادة الأخوان المسلمين بما فيهم الشيخ حسن الترابي - قُبيل أسابيع فقط من أُفول نظامه فى ٦ أبريل ١٩٨٥م - وإعتلى الأثير ينكر صلة الرحم بهم وليصفهم ب"أخوان الشياطين" فى أشد عبارات الندم بالثِقةِ فيهم. ولا أحد يعلم ماذا سيكون مصير الأخوان وقتذاك عندما توعد نميرى بالتعامل معهم ريثما يعود من الولايات المتحدة الذى ذهب إليها ليجلب المال اللازم لإسكات الأفواه! العودة التى طال إنتظارُه لها فى قاهرة المُعز التى غشاها ضُحاً، إلى أن عفا عنه وإستقبله نفس "أخوان الشياطين" كبطل فى موكب شعبى مُهيب ورسمي مُريب بعد أكثر من خمسة عشر سنة. لعمرى ما كان لمِثلِ هذا الترتيب الطويل المدى أن يتم بينهم وبين الغرابة أو الجنوبيين. فلا غرابة، ففى ٢ مارس ٢٠٠٥م أعلن حزبا الإنقاذ الحاكم وحزب نميرى - حالف قوى الشعب العامِلة- أعلنا الإندماج فى جبهة واحدة لمُجابهة ما سمياه التحديات والمؤامرات التي تحاك ضد وحدة الوطن.(١٣) هذا الإعلان فيه عدم المسؤلية وعدم الإعتراف منهما - خاصة الحكومة - بدور الحركة الشعبية لتحقيق السلام ووحدة الوطن على أُسسٍ جديدة. مراميهم في هذا الإدعاء أن يخرقوا الإتفاق الذى أُمهر لتفشل الحركة فى سعيها لتحقيق الإستقرار. حقاً قد أدمنت النُخبة الشمالية الفشل وإفشال الآخرين، وأصروا على القيادة وأن يكون هم السبّاقون لفعل الخيرات وعليهم أن يختموا بالموافقة أولاً على أي شئ أما مجهود الآخرين فيذهب هباءاً منثوراً وإلا ما معنى هذا الإندماج بعد هذا البُعاد الطويل وفى هذا الوقت بالذات؟ كل هذه عراقيل وتواطوء فى إنفاذ العهد الذى حقق الكثير للجنوب وإنتزع بعض الحقوق لجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وفتح فرصة كبيرة لكل الفرقاء للإجتماع والإجماع لمعالجة ما عجز الإتفاق الثنائى عن حله.
بعد إنتفاضة السادس من أبريل١٩٨٥م تبددت آمال السودانيين وغمّتهم الحسرات بعد أن سُرِقتْ إنتفاضتهم كما أُختِطفت ثورة ٢١ أُكتوبر ١٩٦٤م. ففى أبريل، أودع الشعب ثِقته فى الفريق أول عبد الرحمن محمد الحسن سوار الدهب(١٤) والدكتور الجزولى دفع الله.(١٥) الأول أعلن إنحيازه إلى جانب الشعب ليحقق مطالبه، أما الثانى فقد ظهر كممثل لنقابة أطباء السودان وقائداً من قادة الإنتفاضة ولكن حقيقة الأمر أنهما إسلاميين محسوبين للجبهة القوميَّة الإسلامية. كان خذلان الرجلين للشعب السودانى، على هذه الخلفية، وقوفهما ضد مبادئ وأهداف الانتفاضة "الأبريلية" التي حوت - فيما حوت - رفع المُعاناة عن الشعب، إلغاء حالة الطوارئ، إيقاف حرب الجنوب، تحريرالحُريات العامة، إلغاء قوانين النميرى والعودة لدستور١٩٥٦م المُعَدّل في ١٩٦٤م، وعقد المُؤتَمر القومي الدستوري لمُعالجة مشاكل السودان المزمِنة. لم يتحقق شيئاً واحداً من هذه القائمة فضلاً عن دخول الحرب أوجها وإمتدت جذورها مُستصحبة معها عدم الإستقرار الأمنى إلى مُديريتي جنوب كردفان وجنوب دارفور. كان هذا يحدث والأحزاب الطائفية والإقطاعية منغمسة في الإحتراب الداخلي (Intra-fighting) والإحتراب فيما بينها(Inter-fighting) فضلاً عن ظهور أحزاب عديدة بدون أجندة لتُنازِل الكيانات التقليدية، ومن هذه الأحزاب - على سبيل المثال لا الحصر - حزب "البهجة"! ولولا التُقى لجزمنا أن هذه التكوينات الجديدة كانت من صُنِع الأحزاب التقليدية لشُغل الناس عن أهداف الإنتفاضة الحقيقية أو لتشتيت الأصوات فى الإنتخابات البرلمانية التى ستنتظم البلاد بعد عام من إستيلاء الجيش على السُلطة كما وعد. تبيّن هذا المخطط عندما قامت حكومة الجزولى، فى سابِقة فريدة، بإتهام رئيس الحزب القومى السودانى –الأب فيليب عباس غبوش - والنوبة بتدبير إنقلاب أفريقى عُنصرى ضد حكومته الإنتقالية. لم يختلف غضب الجزولى من غضب نميرى، فى الحقيقة كان الجزولى أكثر غضباً لذلك قام ينادى أهلَ السودان بأن حرباً أفريقية قد أُعلنت ضد العُروبة والإسلام في أبلغ تعبيرٍ تفوح منه رائحة العُنصُرية النتِنة والتطرُف والغُلو الديني. وعلى إثر هذه المكيدة، إختفت قيادات الحزب هرباً بأنفُسِهم مما سيلحق بهم من عذاب الناس. لم يمضِ وقت طويل وهدأ بال الجزولى بعد أن أودع غبوش السجن إلا ليذهب على الهواء مباشرة من محطة إذاعة أُم درمان فى برنامج "أيام زمان" ليتذكَّر الجبال وليقرأ من قصيدة كتبها أيام كان طبيباً تحت التدريب (Houseman) واصفاً جمال المنطقة وطيبة ونبل خصال سكانها، حيث كانت مدينة كادقلى بجبال النوبة مقراً لتاهيله. إن كان الجزولى لشغوفاً حقاً بالمنطقة التي أهّلته لقدَّم لها من الخدمات الصحية - بحكم كونه طبيباً ويعلم جيِّداً ما يحتاجه سكان جبال النوبة. الغرض من متابعة وذكر هذا الحدث هو تبيان أن أهل السلطة فى السودان دائماً لا ينسون فقط الناس حالما يتقلّدون العرش ولكن يقتلونهم ويسعون في جنائزهم يذرفون دموع التماسيح. على أية حال، لم تُثبت التهُمة ضد غبوش فخرج من السجن ليخوض حملة إنتخابية قصيرة فى العاصمة القومية ففاز فوزاُ عظيماً على الذين جَمعوا له كيدهم فى دائرةٍ بالحاج يوسف بالخرطوم بحرى إحدى دوائر العاصمة المثلثة.
جاءت الإنتخابات الجُزئية العام ١٩٨٦م - لظروف الحرب - وإنتهت لكن لم يفُز حزبٌ بأغلبية ساحِقة تُمكِّنه من الإنفراد بالسُلطة. كان لحزب الأُمة، بقيادة السيد الصادِق المهدى، حظُ تكوين حكومات إئتلافية مع كل الأحزاب تقريباً ما عدا الحزب الشيوعي السُّوداني، وتقلّد السيد الصادِق للمرة الثانية رئاسة الوزارة التى تأخّر تكوينها نتيجةً للصراع الذى إحتدم بين الأحزاب على تولي الوزارات السيادية حتى كاد فعلهم هذا أن يؤدى إلى فراغ سياسي ودستوري في البلاد لولا قبول سوار الدهب - الذي أصرّ على الأ يخلف وعده ولا ينقض عهده - التكليف والتشريف لمواصلة خدمة الوطن إلى أن تنتهي لعبة الحقائب.
كان أهل غرب السودان (كردفان ودارفور العُظميين) سبباً مُباشراً في فوز حزب الأُمة فى الإنتخابات ولكن عمد السيد الصادِق إختصار Truncation)) مراكز قوة الحزب ودعامته عبر تاريخ السودان القديم والحديث فقام بدعم ثُمّ تقنين ميليشيا المراحيل العربية فى كلٍ من كردفان ودارفور(١٦) لتطبيق سياسة، فرِقْ تسُدْ، وقام أيضاً بتسليح ما يُسمى بالقوات الصديقة التابعة للأنايانيا ٢ المكونة من قبيلة النوير المُناهضة للحركة الشعبية التى تسيطر على قيادتها قبيلة الدينكا عدو النوير الأول للتحرش بالحركة الشعبية. ما يدعو للحيرة والاستغراب، أن السيد الصادِق إستنّ سُنّةً سئية بخلق جيشين فى السودان، واحد صديق والآخر غير صديق فأصبح السودان أول دولة على البسيطة قسّمت أو تُقسِّم جيوشها - أو أهلها - هذا صديقٌ حميم وهذا عدوٌ لدود! هذه الحالة الشاذة تُوجدُ فقط فى دولة السودان وبفعِل رئيس الوزراء الذى كان عليه أن يكون المثل الأعلى فى القِسط ولكنه لم يستعصم. هذه هى، لَعَمرى، الممارسات التى تهدد وقد تشتت ذات الوحدة الوطنية التى يتباكى عليها السودانيون. مهما يكن من أمرٍ، فإن الشعب السوداني - خاصة أهل الجنوب والغرب قد خُدِعوا مرة ثانية، ورُبما في المستقبل القريب. هذا بالطبع ليس ببعيد لأن حكومات السيد الصادِق الإئتلافية نُعتتْ كثيراً ب"حكومات الغرَّابة" عندما فشلت فى تحقيق الرفاهية للمواطنين مع العِلم أن هذه الحكومات كانت إئتلافية وكذلك يجب أن تكون المسؤولية تضامنية وأي نجاح أو فشل تكون المُكافاءة والمُحاسبة مُشترَكة. هذا ترصُد بواسطة النخبة للإصرار على عدم قبول أيةِ قيادة تأتى من هذه المَدائن لأن مُشاركتُهم فى حكوماتهم السابِقة فشلت وهذا منظورٌ عُنصريٌ مُبين ضد الهامش وأهله! فحديثاً تبوأ بعض أبناء الهامش مناصب الولاة وغيرها في مناطقهم ولكن بدون موارد أو سلطة حقيقية ففشلوا فشلاً كبيراً وإنقلب عليهم أهلهم ساخطين فاستبدلوهم بمن هم منهم، أى من الشمال النيلى، وبكل موردٍ "سمين" يُصرف منه القليل للعام وأكثره مأخوذٌ أو مكنوز ومردود إلى حيث أتى.
في نوفمبر من العام ١٩٨٨م أدرك مولانا السيد محمد عُثمان الميرغنى المخاطِرَ التى تواجه الوطن فهرول لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه بتوقيع مُبادرة السلام مع الدكتور جون قرنق فى أديس أبابا. أُستِقبِل مولانا السيد محمد عُثمان الميرغنى لدى عودته بطلاً هُماماً وصانعاً للسلام الذي طال انتظار الشعب السوداني له. لم يُرضِ هذا المشهد رئيس الوزراء السيد الصادِق المهدى ولا صِهره الدكتور التُرابى ورفضا المُبادرة أولَ الأمرِ، ولكنه، أي السيد الصادق، وعد بالموافقة عليها بعد توضيح بنودها ولكنها أُسقطت فيما يسمى وقتذاك بمجلس الشعب عندما أصرّ الإتحاد الديمقراطى على قبولها كما هى (As Is). فلا ندرى لماذا تصعُب الأشياء على السيد الصادِق دون غيره ليحتاج إلى التوضيح فى كل مرة كما سنرى فيما بعد. إن التفسير الوحيد والمنطقي لهذا التقاعُس وهذا الرفض هو الطمع فى المزيد من مكتسِات سياسية، أو على أقلَ تقدير، أرادوا أن تكون المُبادرة منهم وكذلك مختومة "تصدَّقت" (Approved) كي تنال إعجابَهم كارِهون وثُمّ بعد ذلك هم لها ناقضون. ولكن أن يأتي السلام بمُبادرة من النِد السياسى (الإتحاد الديمقراطى) والجنوبيين فهذا أمرٌ نَكِر. كان على رئيس الوزراء أن يُفسِّر القبول الشعبى للمُبادرة بأنه مطلب الجمهور للسلام ويستجيب لهم لكنه آثر خيار التردد فى أخذ القرار واللامُبالاة. لِمَ لا وقد لم يتّخذ أهل الشمال الحرب الدائرة فى الجنوب بالجدية لأنها - كما يؤمن الكثير - تحرق اليابس والأخضر خارج دار السلام، أى بعيدة من مُثلث الخرطوم-مدنى-كوستى. وهذا ما رمى إليه السيد الصادِق فى إحدى تعليقاته حين قال: إذا لم يُرد قرنق أن يُوقف الحرب فأهله هم الذين يموتون. هذا الإطراء والنظرة العُنصرية من رئيس الوزراء تجاه "شعبه" أزعج وإستفزَّ ممثل حزب المُؤتمر الإفريقى السودانى(Sudan African Congress) الدكتور وولتر كونيجوك، وما كان للبرلماني الوزير، فى حكومة الصادِق، من حول ولا قوة إلا أن يستقيل إحتجاجاً على هذا المسلك غير المسؤول. لا شماتة، ولكن لو أستشهد فلذ كبد أحدهم فى هذه الحرب الجهادية لوقفت فى الحال. فالحال كذلك، لم يولد لنميرى بعلاً وأُعفىَ إبن السيد الصادق من الخدمة فى الجنوب وطال حال المشير جعفر نميرى المشيرعُمرَ، أما أبناء الترابى والميرغنى وغيرهم من الرؤوس فلم نسمع عن خدمتهم فى أى صف من الصفوف الأمامية سوى رغد حياتهم وإيذاء بعضٌ منهم للناس. فقد غلبت المصالح الشخصية على الثوابت فدفع عامة الناس بأبنائهم للحرب وإستخلف الكثير فى حصون مشيّدة. فمن الذين أغضبهم موت أو إستشهاد الإبن فى الجنوب وأضحى يطالب بإنفصال شمالٍ ما من جنوبِ ما، المهندس الطيب مصطفى (خال الرئيس البشير). فلو كان الأمر بيد الخال وإبن أُخته لأوقفوا الحرب أو لشطرا السودان إلى دويلات ولكن هيهات! فلإرادة السودانية ستعرض لإمتحان صعب وميزان راجح فى خلال الست سنوات القادمة فإما العيش معاً بإحسان أو الفِراق عن تراضٍ فهذا يعتمد على تصرفات النخبة وصدقهم هذه المرة للوعد.
في ليلة الثلاثين من يونيو١٩٨٩م إستولى الجيش على السُلطة ِالمدنية - بإسم الإنقاذ - دون أية مقاومة عسكرية أو شعبية مضادة نسبة للإنهيار الذي وصلت إليه البلاد واستعداد الشعب لقبول أى تغيير فى النظام. تبيَّن لاحقاً أن الإنقلاب كان من عمل الجبهة القومية الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابى الذى خطّ أمر إعتقاله بنفسه للتمويه وأدت السهولة التي تم بها الإنقلاب الى عدة تساؤلات عن مدى جهل أو معرفة رئيس الوزراء السيد الصادِق بهذا المخطط وما إذا كان هذا على نمط سلًِم تسلَم أو جاء دورى على كرسى العرش. لا غرابة فى الأمر، فالرجُلين وجهين لعُملة واحدة كل واحد منهم يُستغاث فيُغاث بالآخر، لأن الإثنين تربطهم أواصر المصاهرة فبالطبع وحسب هذه العلاقة، يجتمعون ويأكلون ثُم يشربون "شاى المساء" مع بعضهم بعضاً كما تفعل الناس. هذا لا يهمنا كثيراً فمن حقهما - كما لأى شخص الحق - أن يمارسا حياتهما الإجتماعية كيفما يريدا ومع من يختاراه ولكن أن يظهرا على المنابر كألدَّ الخصام فى أمورٍ تهم الناس ويتفقان في تلك الاجتماعيات على تبادل أدوار الحكم فهذا إستفزاز للشعب والمُريدين.(١٧) مهما يكن من أمر، فقد تمكّن الصادِق من الخروج من السودان فى ديسمبر١٩٩٧م وظهر فجأة في أسمرا بجانب المعارضة وأثار نجاحه في الهروب من عيون أمن الجبهة وظهوره المفاجئ تساؤلات وروايات كثيرة منها أن تأشيرة الخروج قد حُررت وأن الهدف من الخروج هو تفكيك المعارضة فضلاً عن الأسلوب الذى تعامل به السيد الصادِق معها. وكالعادة لم يعجب الوضع فى إريتريا السيد الصادِق فقرر العودة إلى السودان لمواصلة النضال من الداخل وذلك لسببين على حد تعبيره: الأول إيقاف نزيف الدم - لم يوضح أى دماء يريد إيقافها. أما السبب الثانى هو تجفيف دموع الأُمهات الثُكَلى، وهذا سعيٌ حميد إن كان صادقاً حقاً فى سعيه ذاك. وللقيام برحلة العودة الشاقة إستعان بذات الرئيس عمر البشير الذى اطاح بنظامه "الديمقراطى" الشرعى فقابله ووقّع معه مذكرة تفاهم-أنكرها في بادئ الأمر - في جيبوتي سُميت "نداء الوطن".(١٨) إحتوت هذه المذكرة ما يُفيد أن الرئيس عرض على الصادق المهدي أن يكون النائب الاول له وليكون مسؤولاً عن ملف محادثات السلام وليس الأستاذ علي عثمان محمد طه أو الدكتور غازي صلاح الدين ولكنه أضاع الفرصة بالتردد(١٩) لأنه يتطلع دائماً للرئاسة. وهكذا أعاد التاريخ نفسه ليجد السيد الصادِق نفسه ثابتاً لا يتغير ولا يتبدّل، ما عدا المقامات الكثيرة والمقالات الطويلة ولتحل أسمرا محل طرابلس ليبيا، وتحولت سواكن إلى جيوتى وليحل المشير البشير مكان المشير نميرى.
كما ذكرنا سلفًا فإن حكومة نميرى قسّمت الجنوب إلى ثلاث ولايات ضعيفة وشغل أهله بحروبات للتنافس على وظائف فارغة غير موجودة أصلاً، وكذلك نفس الشئ فى الشمال خاصة كردفان حيث قُسِّمت الولاية إلى شطرين، جنوب وشمال كردفان. لم تغّير الإنقاذ سياسة فرِّق تسد وإنما عمقتها فقطّعت القُطر ورفعت عدد الولايات إلى ٢٦ ولاية وأكثر من١٠٠ محلية أو مديرية، كان نصيب كردفان العُظمى منها ثلاث ولايات هى: شمال، جنوب وغرب كردفان، وفشل مخطط حاكم جنوب كردفان الأسبق السيد حبيب مختوم فى خلق ولاية شرق كردفان التى سعى أن يرضى بها أصحابه فى تلك الجهة.(٢٠) على أية حال، سواء أكان خلق الولايات بالجنوب أو الشمال فإنها أُنشئت على أُسس ومعايير قبلية وإثنية دون وضع نُظُم حكم أو توفير موارد كفيلة لدعم هذه المؤسسات الهُلامية. كانت خطة الجبهة هى إضعاف هذه المناطق وإفتتان أهلها وخلق مناخاً ملائماً للنزاع مستقبلاً إذا ما تغيَّر النظام وأتى نظامٌ آخر يرى ضرورة رجوع الولايات الحديثة الى الولايات الأم(Parent States) . هذا المستقبل غير المرغوب ظهرت بوادره جليّةً فى المعارضة الشديدة عندما أُلغيت ولاية غرب كردفان وأُدمجت أجزاؤها في كلٍ من شمال وجنوب كردفان، شُلخت مقاطعة أبيي مؤقتاً من جنوب كردفان لتضاف فى إستفتاء لاحق، يقرر فيه جزء من الأهالى مصير المنطقة، إلى مديرية بحر الغزال، إستعداداً للإنضمام إلى الجنوب فى حالة الانفصال، كل هذا بموجب إتفاقية السلام الحالية. تجدر الإشارة إلى وضع كاكا التجارية وجبل الداير التابعين أصلاً لجنوب كردفان ولكن تمّ ضمهما إدارياً إلى مُحافظتي أعالى النيل وشمال كردفان، على التوالى. فما هو إلا مسألة وقت وستنفجر القنابل الموقوتة فى ولايات الجنوب، دارفور الكبرى، الشرق، النيل الأزرق والشمالية في أية محاولة لنزع السلطة من أيدى مُدمني السلطة الحاليين إن لم تُوضع التدابير اللازمة لإحتواء الموقف والتعامل معه بحكمة. فواجب ومسؤولية قادة أهل الهامش أخذ هذه المعطيات فى الإعتبار لدرء شر المركز ومخططاته في تخريب نسق ونسيج الشعب السوداني بإستغلال الدين والإثنية ثُمّ السلطة الزائفة.
في شهر رمضان من العام١٩٩٠م شهد السودان إعتداءاً عنيفاً على حرية الفرد للحياة لما أعدم النظام ٢٨ ضابطاً - يُقال إنهم ينتمون إلى حزب البعث العربي - وعدد غير محدد من ضُباط صف وجنود دون تقديمهم لمحاكمات عادلة بتهمة محاولة قلب النظام القائم. ما كان لهذا النظام الإسلامى أن يسفك دماء المسلمين فى واحدٍ من الأشهُر الحُرُمِ علماً أن أحداً لم يُقتل فى هذه المحاولة حتى يستحق هؤلاء الجنود هذا الموت الناجز والعَجول (السريع). كان الأجدر أن تتم محاكمة هؤلاء المتَّهمين أمام قضاء عادل ومستقل لتُثبت براءتهم أو إدانتهم عملاً بالمقولة: المُتَهم برئٌ حتى تُثبت إدانته أو اليمين على من إدعى والبيِّنة على من أنكر. فو الله ما كانوا ليقتلوهم لو كانوا منهم أو كانوا ذويهم. ولتأكيد ما نرمى إليه، فقد أُتهمت مجموعة من حزب المؤتمر الشعبى التابع للدكتور الترابى - أصدقاء الأمس وأعداء اليوم- بمحاولة وصفت بأنها "تخريبية" لتقويض النظام. لم ترق العملية التخريبية هذه– حسبما تبرر الإنقاذ - للمحاكمات النّافذة فإختار النظام –فهو الآمر و الناهى- أن يحاكموا صورياً فسُجن بعضٌ -لأن السجنَ أحبُ إليهم وليلحقوهم بشيخهم- وأُطلق سراح البعض وما زال أكثرهم فارون هاربون والقبض عليهم مطلوب! إن إستحياء الذين تمت محاكماتهم الصورية-لعدم وجود المحاولة أصلاً- لأمرٍ حسُن ولكن أن تتبنى الحكومة سياسة "خيار فقوس" فتُستحِى من تشاء وتُمِيت من تشاء من مواطنيها دون وازع أو الخوف من عدالة فالق الكون لهو البلاء المُبين ويضفى غيوماً كثيفة على حصافة (حكمة) الحكومة فى معاملة رعيتها بالمساواة. هذه هى طبيعة حكومات السودان، تفرق بين الإخ وأخيه وبين المرؤ وصاحبته وبنيه لتسُد هى ولا تخاف عُقباها مستخدمة الإثنية مرة والدين مراتٍ عديدة خاصة فى الريف السودانى.
من هذه الأنباء والقصص ما ورد على لسان النائب الأول لرئيس الجمعورية الأُستاذ على عثمان محمد طه فى خطابه يوم الإحتفاء بتوقيع إتفاقية السلام عندما إعتلى المنصة ليتلو بخشوعِ فيه عنادٍ بيًِن وخادع ظاهر، قوله تعالى ﴿ إنه من قَتَل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً﴾ (المائدة ٥/٣٢)، فتحَّولت فرحة كثيرٍ من السودانين إلى حُزن عميق لمّا تذكّروا موتاهم الذين قضى نحبهم فى تلك الحرب الجائرة خاصة عندما ُعلم الناس- مسلمين وغير مسلمين- أن أهل الدين فى السودان مدركين أنّ قتل نفسٍ واحدة بدون حقٍ أو فسادٍ شبيه بقتل الناس أجمعين وأنّ إحياء نفسٍ واحدة هو إحياء للعالمين ولكنهم عمدوا وأصروا على قتل أهليهم إبتغاء الفتنة وهوى الحياة الدنيا وإلا ما معنى الإستمرار فى إثم الفتنة والقتل كل هذه السنين؟ هل إنتهى فساد أهل الجنوب، الجبال، النيل الأزرق فى التاسع من يناير٢٠٠٥ لتوقف الحرب هناك وما زالت شعوب دارفور (حفِظة القرآن) على فسادهم يعمهون وعليه تستمر الحرب فيه؟ كلا والله إن هذه الأقوام لم تبدأ الحرب على الحكومة هوىً منها وإبتغاء الفساد وإنما لدرء الظلم وبحثاً عن العدل والقِسط التى فشلت كل الحكومات فى بسطهما. فإنهم لم يعثوا فى الأرض فساداً ولم يمشوا عليها ينشرون البغضاء ولم يقتلوا زرعاً ولا ضرعاً بل مشوا على الأرض هوناً فلقد شغلتهم أهوال الحرب عن هذه المفاسد، فالفساد كله فى رأس السمكة المتعفنة، أى حكومة المركز. فشهادة السيد الصادًق تُبرئ قوم هذه المناطق وتثبت تورط الحكومة بقوله: إن إتفاقية السلام تؤسس لحماية وضع سياسي وواقع خدمة مدنية فاسدة في الشمال وأن طرفي الإتفاق يكرسان جهودهما لحماية المفاسد الموجودة حالياً وأن الحكومة ترفض المساءلة والمحاكمة في قضية الفساد وترفض إنعقاد الملتقى الجامع الذي يناقش مثل هذه القضايا والسعي لحماية الفساد بإسم السلام (٢١). بهذا شهد شاهد من أهلها الذى نسى هو الآخر مطالبته الخزينة العامة بدفع مبلغ خمسة وثلاثين مليون جنيه تعويضاً لأُسرته عن الأضرار التى لحقت بها فى عهد المشير جعفر النميرى حالما أصبح رئيساً للوزراء فى العام ١٩٨٦م. فالحرب على أهالى تخوم النيل الأزرق، الجنوب والجبال دافعها الهيمنة على الموارد وفيها أُستغل الدين و العِرق معاً، أما الحرب التى تحرق أحشاء بعض أهل دارفور فعنصرية بحتة حيث لا مجال لإستغلال الدين أو التعذر به كشماعة لأن كل أهل أمصار دارفور معتصمين بحبل الله وللوح كاتبين ثُمّ إن أكثرهم له حافظون. هذه هي جزء من الأسباب التي دفعت أهالي المناطق المهمشة إلى حمل السِّلاح.
حديثاً كادت مواقف الدكتور غازى صلاح الدين عتبانى المتطرفة أن تؤدى لإفشال المحادثات التى أدت أخيراً إلى إتفاقية السلام عندما جمع أهل إقليم جنوب كردفان ونثر بينهم بذور الفتنة الدينية والعِرقية. ففي الجانب الديني حاول أن يُثبت حقيقة لم يختلف فيها إثنان بالإعلان ان المسلمين أغلبية فى الولاية وناشدهم بألا يقبلوا بإطروحة الحركة الشعبية التى تدعو إلى فصل الدين عن الدولة ناسياً أو متناسياً الجهاد الذى أعلنته حكومته الإسلامية ضد غالبية مسلمى الولاية العام١٩٩٢م. (٢٢) فالخلاف الديني لم يكن عامل تناحر وإحتراب في جنوب كردفان إلى أن إبتدعت الحكومة تمكين الفتنة مستغلة الدين فجمعت من العالم الإسلامى ما جمعت لجهاد النوبة فى حملة الفتح الكبرى بدئاً بجبل تُلشى بجبال النوبة. أما على الصعيد العِرقى فتفوه الدكتور غازى أن النوبة يُمثلون أقلية(٢٣) في الولاية، الأمر الذى نرى عدم إضاعة الوقت والجهد والمجادلة فيه. وعلى هذه الخلفية يرى هوعدم تغيير إسم الولاية من جنوب كردفان إلى ولاية جبال النوبة ومن المُؤسف حقاً أن أهل الولاية صفقوا له وإتبعوا سعيه الذي أعمى به أبصارهم وبصيرتهم للنظر إلى ماضي ومعرفة التغيرات التي طرأت لهذه المنطقة ولإسمها عبر السنين. فالتاريخ يدوّن-بإختصار شديد- أن مدينة تالودى فى أقصى جنوب الجبال كانت عاصمةً لمحافظة كردفان الكبرى ثُمّ إنتقلت العاصمة إلى الأُبيض في العام ١٩٢٢م تنفيذاً لقانون المناطق المقفولة الذى فرضه المستعمر (Closed District Ordinance). وفي العام١٩٧٤م قسّم نميرى كردفان إلى محافظتين غير متساويتن "إثنياً" – شمال وجنوب كردفان - ثُمّ إنشطرت محافظة جنوب كردفان إلى ثلاث ولاياتٍ - كما ذكرنا سابقاً - بواسطة الإنقاذ. كل هذه التغيرات والتسميات السابقة لم تستقطب أهل المنطقة للتعبير عن الرفض وكل هذا الهراء من القادة أو المواطنين لم يجد سبيلاً إلا عندما سحُرت أعينُ الناس.(٢٤) ومهما يكن من أمر، فإن إسم جبال النوبة إسمٌ تاريخي معروفٌ محلياً، إقليمياً ودولياً مثله كمثل دُنقلا، ودارفور اللذان يرمزان إلى قبيلتي الدناقلة والفور التي ساكنت تلك المناطق مع إثنيات أُخرى دون إستهجان لهم. لعمرى كانت وستكون جبال النوبة موطناً لجميع القبائل، عرب البقارة، النوبة، الفلاتة، الهوسا، البرنو، البرقو، الداجو، الشماليين العرب وغير العرب، الجنوبيين إلخ دون إقصاء لإحدٍ ولا تقليل لدين معين ليكون الدين لله والأرض للجميع، ليفوِّت أهل جنوب كردفان الفرصة على الحكومة فى مخططها اللا وحدوى. نفس الإقتسام للولايات والمحافظات طال الجنوب الكبير ودارفور الكبرى مع إنتهاج أسلوب فرِّق تسُدْ.
لم تكن أحزاب المعارضة الشمالية راضيةً مرضية بالإتفاقية لكنها رحبت بها وأرسلت تأييدها المقتضب، ومع الأسف، أعلنت أن الإتفاقية ثنائية إقصائية وغير مؤهلة لحل مشاكل الوطن المزمنة وأنها، أى الإتفاقية، غير مُلزِمة إلا لطرفى الإتفاق.(٢٥) لا خلاف فى أن الإتفاقية كانت ثنائية وإنها غير مرضية لطرفى الإتفاق ومناصريهما لما بها من ثغرات ولكن محاسنها أكثر من مضارها وبإمكان الفرقاء - الحركة، الحكومة، المعارضة وشعوبهم - التعاون للعمل معاً لتسوية ما هم فيه مختلفون خاصة بعد الهدوء النسبى للمناوشات العسكرية، لأننا والعالم لا يمكن أن نراهن بأن كل أهل السودان سيتفقون فى شيئٍ واحد بين ليلة وضحاها. فاليقين أن الفرقاء يمكن أن يجلسوا فيما يحلو لهم تسميته بالمؤتمرالقومي الدستورى أوالمؤتمرالجامع لوضع لَبِنات التحول الديمقراطى. فالمعارضة بفعلها هذا قد أرسلت إشارة مغلوطة وخاطئة للحكومة بعدم تماسك جبهتها وبالتالي تُمكِّن الحكومة من التباطوء فى إنفاذ بنود الإتفاق والعودة إلى المربع الأول وهذا شرُ شيطانٍ رجيم. أما أحسن التأويل أن تبتلع الحكومة المعارضة نفسها وبذلك تضيع الإتفاقية والشعب السوداني معاً في هذا الزخم وما تعدد المنابر في كلٍ من القاهرة وأبوجا إلا تكتيك حكومى لتفتيت كل شئى وبرهان ما نقول أن الإتفاق الذي تم بين الحكومة والتجمع المعارض ما هو إلا الخطوة الأُولى لهذا الاتجاه(٢٦) لأن هذا الإتفاق لا يختلف كثيراً عن الذى وقِع فى التاسع من يناير كما به ثغرات كبيرة وأكثره عيباً أنه مضيعة للوقت، والموارد.
كانت وما زالت تقلبات مزاج السيد الصادِق تجاه الإتفاقية وكل شئ مُحيرة. وما الإرهاصات والمناورات السياسية التي ما زال يطلقها هنا وهناك إلا مصدر قلق لأى تحول ديمقراطى أو غيره. فقد خرج السيد الصادِق فى رحلات خارجية وداخلية أثناء وبعد توقيع الإتفاقيه ليثرثر كثيراً فى كل شئٍ سوداني، إقليمي ودولي. كما كتب وما زال يكتب ويقول نفس الشيئ مرات، ثُمّ أصدر مبادرات كثيرة (Too many initiatives) وبيانات جمّة ولقاءات عديدة ظاناً أن هذه المبادرات والبيانات ستحل الصراع نهائياً! وليته كان يدعو لثقافة السلام بين أنصاره، مُريديه - وحتى خصومه ليكسبهم - ولكنه آثر غير ذلك. ففى أمر الإتفاقية أعلن السيد الصادِق في لقاء إعلامي مفتوح نظَّمه نادي دُبي للصحافة، ترحيبه بإتفاقيات السلام في السودان لأنها بديل عن الحرب، وكونها تنطوي على وعد بالتحول الديمقراطي وإحترام حقوق الإنسان، من خلال التوجه نحو سلام عادل، ولكنه في ذات الوقت صعقها بأنها ملزمة فقط للحكومة والحركة وذلك لأنها لم تشمل القوى السياسية الشمالية وبعض الأحزاب الجنوبية (٢٧) وأنه سيواصل التعبئة للجهاد المدنى. وفيما يتعلق بالأمر الإقليمى، فقد نقد السيد الصادِق عدم التطرق لقضية المياه. قضية المياه ليست من إختصاصات الحكومة والحركة الشعبية للبث فيها كما فعلت بموارد الثروة الأُخرى. حقيقة، ليس للحركة الحق فى الضلوع لهذا الأمر الشائك لأنه يمس دول جوار كثيرة فلا "ينبغي" لها أن تُناقشه مع الحكومة إلا إذا كان قد وصل السيد الصادِق إلى خلاصةٍ مفداها أن الجنوب قد إنفصل وأصبح دولة ذات سيادة تطالب بحقوقها "المكتسبة" من موارد مياه النيل الأبيض التى تمر به! وحتى في حالة إنفصال الجنوب فإن إتفاقيات المياه سيُعاد النظر فيها بواسطة كل دول حوض النيل ذات السياة والتى تشمل: تنزانيا، بوروندي، رواندا، يوغندا، الكونغو، أفريقيا الوسطى، كوش الجديدة - دولة جنوب السودان الجديدة- السودان الشمالي، إثيوبيا، مصر أُم الدنيا وربما إريتريا. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يصبر السيد الصادِق عسى ولعلّ أن يصوت الإخوة في الجنوب لصالح الوحدة أو الإنفصال ويكفينا الله شر أداء الواجب المنزلى مرتين. وباللهِ القسمُ، لو تطرقت هذه المحادثات الى موضوع المياه لتدخلت مصر بثقلها ولطال النقاش وانتظار الناس للسلام ثُمّ لن يتم لأن مصر لن تفرِّط فى قضية المياه مهما كانت متانة العلائق الأخوية بين شطرى وادى النيل.
أما القضية الثقافية التى تطرق لها السيد الصادِق، فلا نرى مبرر له للحديث عنها فى نادى دُبى لأن الإتفاقية قد أمّنت عليها خاصة البنود (١-٥ و١-٦) والتي تقر بأن للشعب السوداني تراث عريق وآمال مشتركة فهو يحتاج لإقامة نظام حُكم ديمقراطي يضع في الإعتبار الإعتراف بالتنوع الثقافي، الإثني، العرقي، الديني، واللغوي، والمساواة بين الجنسين.(٢٨) كما تنص تفاصيلها صراحة على تطوير وتنمية التراث الثقافي المحلى، لمختلف الكيانات فى السودان دون تمييز أو إقصاء أو طمس، وحمايتها لتحقيق السلام الشامل والدائم. فما هو وجه الغموض الذى يحتاج للتوضيح وأي تراث وأية ثقافة يتحدث عنها السيد الصادِق؟ هل يراهن السيد الصادِق ليغمز للإخوة العرب بدُبى أن التراث والثقافة العربية فى السودان قد أُهملت وفى خطر الإندثار؟ إن كان هذا هو المقصد، فهو والله للهو الحديث ولغوه لأن التراث والثقافة المهيمنة في السودان هي الثقافة العربية والتي أُعلنت الخرطوم عاصمة لها العام٢٠٠٥م. هذه هي الثقافة التي قال عنها الدكتورعون الشريف قاسم بأنها ليست عِرق أو دم وإنما هي لسانٌ أو لغةٌ ليثبت عروبية الثقافة السودانية(٢٩) لأن اللغة بلا ريب هى الغالبة فى وطننا الحبيب وستكون كذلك لسنين عددا على الرغم من تنكر كثير من العرب عروبية السودانيين كما جاء على لسان الزعيم (العربى دائماً والإفريقي أحياناً) العقيد معمر القذافى- على سبيل المثال لا الحصر - حينما أصدرحُكمه علي هوية السودان العربية مُنذ العام١٩٩٠م. جاء على لسان الزعيم نقلاً عن الكاتب عبد الغني بريش الايمي فيوف: "العروبة ليست إنتماء أو إدعاء إنما هي دم وعِرق وخصائص ومميزات وهذه الخصائص والمميزات العربية لا تتوافر في السودان لكننا نثمن على السودانيين إتخاذهم من العربية لغة رسمية وشعبية لهم".(٣٠) إن إعلان العقيد هذا لم يتناقض فقط مع تصريح عون الشريف بل زاد وقام بتقديم الدم على العِرق كنايةً على أن الأهلية للعروبة تجب أن تكون بالدم الخالص وهذا ضربٌ من الخيال إن وجد هذا النقاء فى السودان الذى نعرفه بإستثناء قبيلة الرشايدة العربية الخالصة. (٣١)
هكذا نجد التناقُض والأضداد في تحديد هوية السودان المرفوضة من قِبل العرب والأفارقة على حدٍ سواء. هذه الحقيقة يجب قولها فإنه لا خير فينا إن لم نقُلها ولا خير فيكُم إن لم تقبلوها. ولنأخذ العبرة والحكمة أيضاً من قول الدكتورفرانسيس دينج ماجوك عن المُجاملة المُفرطة في أهلِ السودان حيث قال: "إنما يفرقنا كثيراً، المسكوت عنه. فنحنُ معشر السودانيين نتسمُ بالإحترام الزائد وربما الميول الخفي للتفاؤل في طريقة تبسيطنا للمشاكل الجسام التى تواجُهنا". (٣٢) فهذه الأمثلة حتماً ستُساعدنا في تسمية الأشياء بأسمائها Call spade, spade)) بدلاً من إشارات مُبهمة كأن تقول للمعلقةِ "كوريك أو مِجراف أو حتى جاروف" صغير أو العكس. ولكن أن يمشى رجلٌ فى مقام السيد الصادِق المهدى بين الناس ويقول أن قضية الثقافة لم تحسم فهذا بوقٌ يُنفخ فى غير موقعه من أجل الكلام فقط. فالحمد لله من قبلُ ومن بعدُ، فقد وضعت الاتفاقية نصاً صريحاً واضحاً – لا يحتاج لتوضيح - لمُعالجة قضية الإعتراف والنُكران هذه لتقفل الأبواب والشبابيك أمام الذين يحاولون الهروب من الواقع لخلق وقائع وهمية أُخرى. فليس سراً أن تهميش الثقافات المحلية عامة والإفريقية خاصة كان من أسباب الحرب؛ فجاءت إتفاقية السلام لمعالجة هذا الإعوجاج فى المواد عالية دون إخلال أو إنتهاك التراث والثقافة العربية التي فُرضت على الناس أجمعين نهاراً وليلاً ردحا .
أما تقلُب وجه السيد الصادِق ليس بشئٍ جديد ويجعل من الصعوبة بمكان إقناعه بأية إتفاقية حتى التى يبرمها بنفسه فلا "يعجبه العجب ولا الصيام في رجب" كما تقول الناس. فها هو يظهر بوجهين لمجموعتين مختلفتين عندما حاول تشخيص عِلات الإتفاقية بتاءاتِ ثلاث ورُباع. فمثلاً في لقاء جماهيري بالجلاباب بعد التوقيع على الأتفاقية ذكر أن الإتفاقية إحتوت على تناقضات وفيها مواد التباغُض وكما أنها تُأمِّن التحالف مع الأضداد.(٣٣) أما المجموعة الثانية والتي كان محلها جامعة الخرطوم، فقد قال لها أن الإتفاقية تحتاج إلى التصديق، التوضيح، التعديل والتوسيع فزادها أربعة ناسياً تائي تردده لقبول مبادرة الميرغنى للسلام العام ١٩٨٨م لغموضها وحاجته لتوصيحها وتوكعه عن قبول منصب النائب الأول للرئيس لكيما يقود وفد المفاوضات لعدم الرضا بمنصب النيابة، فالحمد لله أنه تردد فى هذه الأخيرة وإلا لكانت الطامة الكبرى لأنه كان سيتطرق لقضية المياه التى من الممكن أن تتخذ منحى آخر ومنعطف خطير.(٣٤) كان للسيد الصادِق ان يجمل كل هذا "الكلام" فى أن الإتفاقية تحتاج للتعديل ويجب أن يكون هذا التعديل فى مؤتمرٍ دستورى أو ملتقى جامع بعد أن يجمع الناس (أنصاره وغيرهم) بمقدراته وطلاوة حديثه، إن أراد، لتقوية المعارضة الوطنية ومن ثَمَّ دعم الإتفاقية، ليس ركوعاً للإنقاذ أو الحركة الشعبية وإنما إمتثالاً للغالبية العُظمى التى تساند حزبه. إن هو إختار ذلك، لجعل من نفسه سياسياً ناجحاً. أما تردده وعدم التركيز والثبات على المواقف يجعلان منه غير ذلك.
مهما يكن من الأمر، يصر السيد الصادق على أن يكون هو الوريث الوحيد لحُكم السودان. فقد كتب فى صفحة "الرأي" بجريدة الشرق الأوسط العدد ٩٥٨٧ بتاريخ ٢٦ فبراير ٢٠٠٥م، رداً للراحل يوسف بدرى الذى سأله عن سبب كثرة نبرة إعتذارية فى خطبه ، بعد الخطبة التى ألقاها فى مناسبة عامة فى العام ١٩٨٦م. رد قائلاً: " صدقت. أنا أشعر بأن ما ورثتُ من حقوق مادية ومعنوية غير مستحقة بمجرد صدفة الوراثة! لذلك أجدنى مهموماً بأمرين الأول إعتذار، والثانى بذل جهد خارق لأجعل ذلك الإرث مُستحقاً. أى أن أكتسب إرثى. كنتُ و لا زلتُ كثير التأمل فى مسألة الوراثة. إن التوارث فى كل شيئ ظاهرة فى طبع المجتمعات الإنسانية أيدتها الشرائع المنزلة كما جاء فى القرآن:"فهب لى من لدنك ولياً. يرثنى ويرث من آل يعقوب وأجعله ربِ رضيا". ولكن الإسلام جاء بأحكام أقرّت التوارث فى الشأن الخاص، و أبطلته فى الشأن العام ليقوم على الشورى" (٣٥). لم يكن الصادِق المهدى، كعادته، دقيقاً فى الأمر الأول الذى يشغل باله فى حضرة الجموع الغفيرة وهى كلمة "إعتذار"، التى تحتاج إلى التعريف وتستوجب منه التوضيح، لأن "إعتذار" أو الإعتذار دائماً مقرون بذنبٍ أُرتكب أو جُرمٍ أُقترف أُو ظُلم بحق مظلومٍ وهلمجرا. ومع الإعتذار ينحدر ما يشبه التوبة: الإعتراف بالخطأ و الندم عليه ثُمَ الإقرار بعدم إرتكاب الخطيئة مرة أُخرى. هل ترى أنه كان مهموماً ومعتذراً فى السر والعلانية عما أٌرتكب من هذه الموبقات؟ إنا والله لم نسمع إعتذاراً من رئيس الوزراء فى أمرٍ خاص أو شأنٍ عام يتعلق بالأمة السودانية على الرغم من أنه كان فى قمة السلطة (١٩٨٦-١٩٨٩م) ولكنّا سمعنا الشكوى و نواح الأرامل و بكاء الأيتام. قرأنا وقرأ غيرنا التحذير من العشرة الذين كان رئيس الوزراء قائداً أعلى لهم لكنه لم يسمع فلو سمع، لربما ما كان الحال والمآل فى السودان. يجزم المرؤ الفهم فى الأمر الثانى أن كل همّ الصادق ليس فقط أن يرث آل الإمام المهدى كأمرٍ خاص ولكنه يتطلع ليرث السودان بما فيه ومن عليه بما أسماه الشورى وهكذا نجده لا يهدأ له بال إلا أن يبلغ هذه الغاية وما نداءه للجهاد المدنى والتحول الديمقراطى إلا مسعاه الحثيث وجهده الخارق ليكتسب إرثه وإنا لفى شك أن السيد الصادق قد إستفاد من دروس الماضى بعد كل الإخفاقات التى مُني بها على الرغم من إعترافه بأن تجربة الإنقلابات العسكرية السودانية التى أقامت نظم ثورية شمولية مخرِّبة خير درسٍ واعظ لقفل الباب أمام المتآمرين على الأنظمة الديمقراطية الشرعية.
الامثلة الواردة تعكس الصورة الحقيقية التى تسعى لتحقيقها غالبية نخبة الشمال النيلى الحاكمة، فهى تؤمن أن مسؤولية النهوض وحماية السودان تقع على كتفها وحدها وهى المستخلفة عليه دون سواها لذلك تبذل وتسخِّر ما لديها لتحقيق ذلك. فغالباً ما تستغل التباين ، العرقى، الدينى والثقافى لإثراء الخلافات وتأجيج الفتن على أسس جهوية، التهديد ثُمّ العنف كأسلوب للإستعاب بالجملة.

خلاصة
غضت حكومات المركز الطرف عمداً عن مُشكلات البلاد – خاصة الهامش - الحقيقية وبالتالى فشلت فشلاً كاملاً ومُخجلاً فى إيجاد الحلول الناجعة لها. وسواء أن عبّر أهل الهامش عن عدم الرضا سلمياً ردت حكومات المركز بعنف شديد مما إضطرهم للجوء لقوة السلاح مما نتج عنه حروبات طويلة سقطت فيها الملايين من الضحايا. كثيراً ما تستغل هذه الحكومات التنوع الدينى، الثقافى والعرقى لتمريرأجندتها بزرع الفتنة. إن إتفاقية السلام الشامل التى أُبرمت فى التاسع من يناير٢٠٠٥م وضعت حداً للحرب، وإن لم تعالج كل قضايا الوطن ولم ترضِ طموحات الشعب السودانى عامة ولكنها أتاحت الفرصة للفرقاء السودانين للبناء رأسياً على أُسسٍ جديدة لتكوين دولة السودان الجديدة التى سترسخ مبدأ المساواة بين الجميع دون تمييز بسبب اللون، العٍرق، الدين أو الجنس وتكون المشاركة المتساوية للجميع ((Equal participation دون إقصاء (Exclusiveness) للآخر. لابد للشعب السودانى، خاصة أهل الهامش السودانى، من التصالح فيما بينهم وترميم ما أفسدته الحرب لتحقيق التنمية المنشودة والتى أدى فقدانها أو عدم توازنها للإحتراب. كما على الجميع الجلوس معاً للتعاون لوضع إستراتيجية محكمة لتفويت الفرصة على حكومة الإنقذ أو أية حكومة آتية من المضى قُدماً فى سياسة فرق تسد والتهميش.

هوامش وإحالات


(1) Deng, F M, War of Visions: Conflicts of Identities in the Sudan, Washington, 1995.
(2) لفظ ولاية جنوب كردفان/جبال النوبة يرمز إلى الموقع الجغرافى دون المساس أو الإخلال بالتسمية السياسية أو الإدارية بموجب بنود إتفاقية السلام. كما أن لفظ شعب جبال النوبة تطلق لأهالى منطقة جبال النوبة بمختلف أعراقهم ما لم يذكر صراحة شعب النوبة أو النوبة لتعنى النوبة.
(3) Khalid, M, The Government they Deserve: The Role of the Elite in Sudan’s Political Evolution, London, 1990.
سُجن على عبد اللطيف و أُطلِق سراحه عام 1923 بسبب مقالٍ كتبه مطالباً بحق تقرير المصير للسودان من الحكم الإنجليزى-المصرى. بعد هذه الحادثة قام على عبد اللطيف بتأسيس تنظيم اللواء الأبيض. على الرغم من وطنيته إلا أن أهداف التنظيم تغيّرت لتنادى بوحدة وادى النيل الأمر الذى لم يجد تفسيراً إلى اليوم إلا أن أغلب الظن يشير إلى ان التنظيم تلقى دعماً من الحكومة المصرية. اشترك على عبد اللطيف فى المظاهرات العنيفة فى مدينة عطبرة عام 1924م، مما أغضب البريطانيين الذين أودعوا ثقتهم في كل الضُباط السود بالإضافة الى الشايقية. علل الإنجليز ثقتهم في الضُباط السود بأنهم سيقاومون التأثير المصرى الذى كان يخطط لوضع السودان تحت تاج الملك فاروق. أما بالنسبة للشايقية فكان الإستعمار يرى إنهم غير متحمسين لدعم المهدية.
(4) Khalid, M, The Government they Deserve: The Role of the Elite in Sudan’s Political Evolution, London, 1990.
(5) نفس المصدر أعلاه.
(6) إستياء عارم وسط المعارضة/مصير غامض لمفاوضات القاهرة والتجمع يحمل الحكومة مسؤولية فشل محادثات الدستور جريدة سودانيزاونلاين الإلكترونية. 04/26/2005.

(7) Khalid, M, The Government they Deserve: The Role of the Elite in Sudan’s Political Evolution, London, 1990.
لم يكن إبراهيم عبود طامعاً في حكم البلاد وكانت طموحاته لا تعدو فتح ورشة للسيارات بعد التقاعد من الخدمة العسكرية كما أسرّ هو لدوائره المقربة والخاصة.
(8) تفاصيل صراع السلطة بين السيد الصادِق المهدى وعمه السيد الهادي المهدي وزملائه في حزب الأُمة توجد فى: محمد أحمد محجوب، الديمقراطية فى الميزان: تأملات فى السياسة العرية والأفريقية، مطبعة جامعة الخرطوم، 1989م.
(9) Hoagland, Ed, African Calliope: A Journey to the Sudan, New York, 1978; and Asharq al-Awsat, August 26, 1993.
(10) Bola, A, Masarat Jadeeda, Eritrea, August 1998.
(11) يعتبر الأسقف فيليب عباس غبوش من أشهر السياسيين في السودان ومن ابرز قادة جبال النوبة على الإطلاق. أفنى غبوش كل حياته من أجل قضية النوبة والمهمشين في السودان. يتمتع بدعم كبير من النوبة، الجنوبيين، كذلك له أنصار وتحالفات قوية مع البجا فى شرق السودان، الفور في الغرب وعدد كبير من نوبة شمال السودان.
(12) See Khalid, M, Nimeiri and the Revolution of Dis-May, London, 1985.
(13) جريدة سودانيز أُون لاين الإلكترونية، 7 مارس 2005م.
(14) ينحدر الفريق أول محمد الحسن سوار الدهب من أسرة مشهورة ومعروفة بالتصوف الديني والاعتدال. بنى سوار الدهب حياته وشهرته عليها وعُرف بين الناس وأترابه بالإعتدال. كما يتمتع بإحترام رفاق السلاح. تردد سوار الدهب في الاستيلاء على السلطة أثناء الإنتفاضة ليفى بعهده لنميرى إلا بعد تهديد صغار الضُباط بالأخذ بناصية الأُمور إن لم يفعل ذلك. فاجأ سوار الدهب العلم كله، خاصة الدكتاتوريين، عندما سلَّم زمام الحكم للمدنيين بعد عام فقط من توليه الحكم كما وعد فأوفى بعهده وصدق وعدَه ولم ينتقص منهما شيئاً أو يحنث.
(15) الدكتور الجزولي دفع الله طبيب من قرية الشبارقة على الضفة الشرقية من النيل الأزرق بالقرب من مدينة واد مدنى بمحافظة الجزيرة. كان نقيباً لأطباء فقاد إضرابات نقابة الأطباء ضد نظام نميرى فأصبح رئيساً للوزراء بعد إنتفاضة السادس من أبريل 1985م.
(16) في عهد السيد الصادِق المهدى تم تسليح القبائل العربية فى كردفان، أجزاء من شمال وجنوب دارفور وأُطلق عليها اسم قوات المراحيل. أُسنِدَ إليها الدفاع عن الرعاة والرحل ضد ما أسماه بالمقاومة الجنوبية، إلا أن هذه القبائل إستعملت نفس السلاح لتشن هجمات على ما جاورها من القبائل الأُخرى في كلٍ من كردفان ودارفور. الجدير بالذكر أن حزب الأُمة الذى يتزعمه السيد الصادِق يجد سنده والولاء المطلق من أهالى كردفان ودارفور وأن معظم أعضاء البرلمان من حزب الأُمة كانوا من هذه المناطق ومن القبائل التي ارتكبت ضدها هذه الجرائم.
(17) الدكتور حسن الترابي متزوج من شقيقة السيد الصادِق المهدي - وصال المهدي - ومن الطبيعي إذاً الحفاظ على هذه العلاقة الأُسرية وبأي ثمن. وهناك ظن إن الاثنين يخططان لتبادل حكم البلاد وكذلك أبناءهم وأحفادهم من بعدهم. مثلاً عندما صار السيد الصادِق المهدى رئيساً للوزراء، عيّن الدكتور حسن الترابى نائباً عاماً. ونسبة للشكوك المحاطة بمعاملات البنوك الإسلامية (القوة الإقتصادية للجبهة القومية الإسلامية)، كوّنت لجنة للتحقيق فى هذه المعاملات خاصة بنك فيصل الإسلامي، ولكن وصل الرجلان لتسوية بموجبها ان يُوقف رئيس الوزراء اللجنة من مواصلة عملها مقابل أن يطلق الترابى (النائب العام) سراح الدكتور الشريف التهامي - محسوب حزب الأمة - الذي كان فى السجن بتهمة الفساد عندما كان وزيراً للطاقة في عهد نميرى.
See Khalid, M, The Government they Deserve: The Role of the Elite in Sudan’s Political Evolution, London, 1990.
(18) راجع كتابي الصادِق: العودة وتهتدون. عاد من الخارج مع السيد الصادِق بعض من أفراد جيش الأُمة الذى إلتحق به فى إريتريا وأُتخذوا دائرة المهدى مقراً لهم. كان معظم الجنود من غرب السودان (كردفان ودارفور). ونسبة للمعاملة الحسنة والخاصة التي وجدتها القيادة وأُسرها دون أفراد المجندين غضب الجنود وكاد الوضع أن ينفجر. على اية حال، لقد هاجم بعض الجنود الغاضبين الدكتور عمر نور الدائم نائب السيد الصادِق الاول وصاحب الولاء الثابت لحزب الأُمة.
(19) محمد طه محمد احمد. الرئيس عرض على الصادق المهدي السلام قبل علي عثمان.. صوت طلابي قال للصادق المهدي سنطبق في الخرطوم ما فعله الامام المهدي.. تاء تردد الزعيم جعلته يرفض ملف السلام. جريدة سودانيز أُون لاين الإلكترونية، 16 يناير 2005م.
(20) Al-Bashir, I H, In Search of the Lost Wisdom: War and Peace in the Nuba Mountains, Khartoum, 2002.
(21) جريدة "البيان"، 22 فبراير 2005م.
(22) في العام 1992 أصدرت مجموعة من علماء المساجد بإقليم شمال كردفان فتوى أعلنوا فيها ان النوبة فى جنوب كردفان كفار ومرتدين توجب مجاهدتهم على الرغم من أن غالبية النوبة مسلمين. إذاً الدعاية الإعلامية التى قادها الدكتور غازى صلاح الدين عتبانى ومناصري الجبهة بأن غالبية أهالى جبال النوبة مسلمين تثبت أن الحملة الجهادية ضد النوبة كانت إجتهاد عنصرى قُصِد منه إبادة النوبة.
(23) بهذه الجريرة يمكن القول أن الدكتور غازى صلاح الدين عتبانى قد اثبت إدانة الإنقاذ فى إبادة النوبة الذين "كانوا" أكثرية ولكن تمت تصفيتهم فى عملية الجهاد وأصبحوا "أقلية". بموجب هذا الإعلان تعرض النوبة للقتل العشوائى كما تم إبعادهم إلى معسكرات التجميع مشابهة لتلك التى أُجريت بالنازية فى الأُبيض، سودرى، بارا إلخ.. فى شمال كردفان.
(24) كانت تالودى العاصمة التاريخية لمحافظة كردفان الكبرى قبل نقل العاصمة الى الأُبيض نتيجةً لتمرد النوبة ضد الإستعمار. كذلك لقد تعرضت المنطقة لتغيرات سياسية و إدارية ولكن لم تجذب هذه التغيرات إنتباه السكان ولا أثارت كل هذه الضجة المفتعلة أو الإختلاف بين أهالى المنطقة. خلافاً على ذلك فقد تغيّرت أسماء أماكن كثيرة فى جنوب كردفان ومناطق أُخرى من السودان بواسطة الإنقاذ دون إعتراض من أية جهة. كان سبب الضوضاء والصراخ من الحكومة أثناء المحادثات ضد تغيير إسم الولاية إلى إقليم جبال النوبة التواطؤ للإسراع بعملية السلام. هذه السنة غير الحسنة التى أقدمت عليها الحكومة، خاصة فى جنوب كردفان، ستكون دائماً مصدر صراع فى المستقبل إذا ما رغِبت الناس فى العودة إلى الأسماء الأصلية.
(25) جريدة سودانيز أُون لاين الإلكترونية، 16 يناير 2005م.
(26) نص الاتفاقية الموقعة بين حكومة الخرطوم والتجمع المعارض. جريدة سودانيز أُون لاين الإلكترونية، 21 يناير 2005م.
(27) شبكة الجزيرة الإلكترونية للأنباء، 25 مارس 2005م. خطبة السيد الصادِق المهدى فى صلاة الجمعة بأُم درمان.
(28) Machakos Protocol, July 20, 2002. United States Institute of Peace. www.usi.org/library/pa/sudan/sudan_machakos_07202002.html.
(29) في لقاءٍ تلفيزيوني أجراه الدكتور علي بشير في 18 مارس 2005م مع الدكتور عون الشريف قاسم متسائلاً عن عروبة السودان وكيف يرد على الذين يقولون بأن العرب والمسلمين متخلفين رجعيين.
(30) نقلاً عن الكاتب عبد الغني بريش الايمي فيوف فى مقالٍ نشره على جريدة سودانيز أُون لاين الإلكترونية بعنوان: العربية ليست عرق انما هي لسان، جريدة سودانيز أُون لاين الإلكترونية، 24 مارس 2005م.
(31) منصور خالد، السودان: أهوال الحرب..و طموحات السلام قصة بلدين. ص 39 2003. دار تراث-لندن.
(32) Deng, F M, What is not said is what Divides, 1989, Management of the crisis in the Sudan. Proceedings of the Bergen Forum 23-24 February 1989, edited by Abdel Ghaffar M Ahmed and Gunnar Sorbo, Center for Development, University of Bergen.
(33) جريدة سودانيز أُون لاين الإلكترونية، 16 يناير 2005م.
(34) محمد طه محمد احمد. الرئيس عرض على الصادق المهدي السلام قبل علي عثمان.. صوت طلابي قال للصادق المهدي سنطبق في الخرطوم مافعله الامام المهدي.. تاء تردد الزعيم جعلته يرفض ملف السلام؛ جريدة سودانيز أُون لاين الإلكترونية، 16 يناير 2005م.
(35) الصادِق المهدى. السياسة و الوراثة.. و عيوب رؤى التطلع العربى للتحول الديمقراطى. جريدة الشرق الوسط. العدد 9587 . 26 فبراير 2005.

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved