بقلم: بريمة محمد أدم
[email protected]
بسم الله الرحمن الرحيم
في المقال السابق تحدثت عن علاقة الرعاة بالبيئة والظواهر الأيكولوجية ودورها في تفسير سلوكياتهم وتحركاتهم ونمط حياتهم وأستقلالهم للبيئة وأستهلاكهم وقوانين العرض والطلب لديهم. وقد تحدثت عن ظواهر محددة تشمل بعض البرمائيات والطيور والحشرات. وأريد أن أشير إلي أن صعوبة تنمية الرعاة أو الرعى ترتبط بصورة أو أخرى بأرتباط سيكولوجية الرعاة بالظروف والظواهر البيئية، كما أشرت إلي ذلك في المقال السابق بالبراسيكولوجى أو البراسيكو-إيكولوجى. ويجب أن يلاحظ القارئ أن علوم التنمية: كأستصلاح وتخطيط الأراضى، إدارة المراعى والألاف، المحافظة علي البيئة والتربة ومساقط المياه، تربية الحيوان وغيرها من العلوم التى تهتم بالبيئة وتطويرها وحسن إستغلالها، قد أهملت الجانب النفسى في علاقة الرعاة بالبيئة، مما جعلها تكون أشبه بالمدينة الفاضلة لأفلاطون في أطروحاتها، ذلك يعنى علي المهتمين بتطوير القطاع الرعوى التقليدى تنزيل تلك العلوم علي واقع الرعاة التقليدى. وكلمة تقليدى هنا تعنى شيئين: التجوال والأشتراك الجماعى في المرعى، فهذين الصفتين لا توجدان في الأقطار الأروبية التى طورت تلك المناهج، فتلك المناهج إذن تصلح للقطاع الحديث أكثر مما تصلح للقطاع التقليدى. وتحويل القطاع الرعوى التقليدى إلي القطاع الحديث يعتبر مشكلة معقدة أقعدت كل محاولات التنمية وحتى اليوم، وفي نظرى تعود الأسباب إلي الأرتباط السيكولوجى أو البراسيكو-إيكولوجى بين الرعاة والبيئة، والذى نحاول أستشفافه من خلال هذه المقالات. في هذا المقال سوف أتحدث عن الأرتباط بين الرعاة والنباتات والذى يعنى أرتباط الرعاة بما يسمى بالساعة البيولوجية ودورها في تحديد نمط سلوكيات البقارة. وقد سقط لدى سهواً في المقال السابق أن ننوه بأننى أتحدث تحديداً عن البيئات والظواهر الأيكولوجية في بلاد الحوازمة في جنوب كردفان كنموزج لبقية الرعاة. وأريد أن ألفت نظر القارئ أن تلك الظواهر قد توجد في بيئة معينة أو لا توجد ولكن ما يجب التأكد منه أن هناك ظواهر بيئية أيكولوجية أينما وجد الرعاة، فهى بمثابة أجهزة أنزار مبكر لمعرفة نزول الأمطار أو أنتهاءها وغيرها حتى يتحركون ليكونون في متناول المياه أينما كانوا.
ونبدأ هذه الدارسة البراسيكو-إيكولوجية بما يسمى بالساعة البيولوجية أو ما تعرف ب
Bioloical Clock
وهى معروفة لكل دارسى علم البيولوجى أو ما يسمى بعلم الأحياء –ومهما كان نوع ذلك الكائن الحى، سواء كان إنسان، حيوان أو نبات. نأخذ بعض الأمثلة لكى نوضح ماذا تعنى الساعة البيولوجية (الغريبة)، مثلاً فترة البلوغ عند أى كائن حى تجدها مرتبطة بعوامل فسيولوجية وهرمونية وتفاعلات كيميائية في داخل جسم الكائن الحى تحدد متى ينضج أو يبلغ ذلك الكائن فترة معينة في نموه، ذلك النضج أو البلوغ يتم بصورة غير إراديه من الكائن الحى ولكنها تحدد سلوكيات حياته القادمة، فالأنسان في سن الطفولة وفي سن الرشد، كما يقول الأمريكان تهكماً، يعتبر حيوانين مختلفين، في سلوكياتهما وتصرفاتهما، ذلك التحول من مرحلة في النمو إلي مرحلة أخرى مربوط بالفطرة (الساعة البيولوجية). فالنباتات، كائنات حية لا تختلف عن الكائنات الأخرى في ساعتها البيولوجية – فأشجار الفاكهة لا تزهر أو تثمر إلا إذا بلغت عمراً محدداً، ولا نفهم حتى اليوم نوع التغيرات السلوكية أو الأنفعالات النباتية نتيجة للساعة البيولوجية، والرعاة لا يهمهم معرفة تلك الخصائص، ما يهمهم هو متى تظهر بوادر التغيرات الشكلية (ما يسمى ب الفينولوجى في علوم النبات)، كما أن سمكة أم كورو (راجع المقال السابق علي صفحات سودانيز أون لاين) تبكى، وسبب بكاءها تعرفه هى وخالقها فقط، فالرعاة يعرفون أنها بكت لأن الصيف طال وعليهم بالقيام بأعمالهم تباعاً لذلك أن فترة الأزهار أو الثمار والتى تعنى شئ أخر في تطور النبات ولعلماء النبات، فهى تعنى عند الرعاة مثلاً بداية نزول أو توقف الأمطار. أن تلك الظواهر النباتية (التى تحكمها الساعة البيولوجية للنبات) تعتبر مؤشرات هامة لحركة الرعاة في مراعيهم، فالرعاة لا يفهمون حتى الساعة الزمنية العادية فكيف بهم أن يفهموا تلك الساعةالغامضة، ولعلك تكن صائباً إن قلت أن الحياة البدوية تنبنى علي فهم مبسط للظواهر البيئية. فقد قيل في رواية خرافية، أن البقارة ذات مرة وجدوا قطعة أرض محروقة سوداء تغطى مساحة واسعة، فأستغربوا منها، فقال أحدهم إذهبوا إلي البصيرة أم حمد (الخبيرة في البادية) لتكشف لنا كنه هذا السواد الذى يرقد علي الأرض. فأتى بها وحينما نظرت إلي الحريقة قالت سبحان الله إنها قطعة من الليل والنهار أجل لها، وهذا الكلام يعنى أنها قطعة من الليل لم يحن وقت صباحها بعد، أنظر هذا التبسيط المخل في فهم الظواهر الغريبة، قطعة من الليل وسط النهار. ذلك الفهم المبسط للحياة في حد ذاته من معوقات التنمية الرعوية وعلينا أن نأخذ القطاع الرعوى بفهم مبسط حتى نصلوا إلي النتيجة المرجوه، فأطفالى مثلاً، حينما يرونى نصلى، يقولون لماذا تصلى، نقل لهم (الزول الذى يصلى سوف يعطيه الله نقود حتى يشترى بها اللعب) وفي الليل نضع قطعة نقود صغيرة تحت مخدة الواحد منهم لتفى بالغرض. ذلك ليس يعنى أن الرعاة بلهاء، ولكن محاولة أستقرارهم قسراً أفضل منها السجن، فهم يرون الأنسان المستقر هو الفقير، وأن العز والجاه في المسار ومن أمثالهم (العربى عزه المسار)، فإن محاولة التنمية بما يتفق مع تصور المجتمعات المستقرة يتناقض مع موروثهم التراثى. إذن علينا أتباع فهمهم للظواهر البيئية عامة والنباتية خاصة وجعلها من أبجديات التعامل معهم.
وقبل أن نخوض في الخواص النباتية والساعة البيولوجية وعلاقتها بالبراسيكو-إيكولوجى الرعوى، نريد أن نلفت النظر أن الساعة الغريبة ليست وراثية كما يظن البعض (وهنا سوف أخرج عن سياق الموضوع قليلاً)، ولو كان الأمر كذلك لأستطعنا التنبأ بكثير من حركة الرعاة، تجوالهم، سلوكياتهم وأستهلاكهم. فإبن الجزار يصل سن البلوغ قبل أبن المزارع الكادح (كما يقول البقارة أبن الجزار بيأكل المخ، فالساعة البيولوجية لأبن الجزار أسرع من ساعة أبن المزارع الكادح) وكما رود في الأثر أن المرأة كانت في غابر الأزمان تصل سن البلوغ في سن 120 سنة، وأن سيدنا نوح قد بلغ من العمر أكثر من ألف سنة (منها 950 سنة في الدعوة) وأن زوجته قالت عندما سمعت أن هناك أناس يأتون أعمارهم في الستين، قالت لو حضرتهم لأقضى ذلك العمر تحت شجرة. وكم هو طول تلك الشجرة؟ و قد كان طول الأنسان حوالى ستون زراعاً (ذلك يعنى أن حركة النمو أسرع كلما تقادم الزمن). إذن ليس من المستبعد أن في أزمان قادمة نصل سن البلوغ في يوم واحد أو أقل (تقلص حاد في فترات نمو النباتات)، مما يعنى أن الرعاة يتجهون إلي حركة دائبة في الترحال وربما يترحلون عدة مرات في اليوم الواحد. ولكن أنظر أن أغلب الحشرات اليوم تكمل دورة نموها في خلال 24 ساعة، فهى تولد، تكبر، ثم تصل سن البلوغ، ثم الأنجاب ثم تنقرض. فتلك الحشرات تكون قد عاشت حياتها بالطول والعرض (حيصت) أيما (حييص) ثم ودعت، أى أن الأحساس بالزمن شئ نسبى، فالأنسان الذى يسكن في المريخ يوم واحد فقط، ثم يعود إلي الأرض، إفتراضاً أنه عاش يوم واحد، يجد سكان الأرض مضى عليهم أكثر من مئتى سنة ضوئية بحساب الأرض (الساعة البيولوجية بالنسبة له بطيئة مقارنة بساعة الحشرة)، إذن ليس مهم ما تؤول إليه الحياة الرعوية في المستقبل في مجال الترحال المستمر، فأحساسنا بالعمر وعجلة الزمن وطوله كلها عوامل نسبية (فالحشرة التى عاشت يوم واحد أكملت فيه كل أطوار حياتها، لا تختلف عن الأنسان الذى يعيش في المريخ ملايين السنين بحساب الأرض، فهو لا يرى نفسه شاخ وهو طفل، كما أن الحشرة لا ترى قد فات عليها شيئ في حياتها)، فالعلاقة النسبية ما بين فترة الطفولة، الكحولة والكبر ربما تظل كما هى عليه (العلاقة الزمنية محكومة بقوانين فيزيائية معقدة). ذلك يعنى أن الساعة البيولوجية تتأثر بعوامل خارجية بالأضافة للعوامل الوراثية الكامنة في النبات، مما يقود إلي النتيجة أن الأنسان الرعوى تتحكم في مصيرة كل الظروف البيئية والنباتية وذلك غير المعتاد عند المجتمعات المستقرة.
ولقد ظلت، وسوف تظل العوامل المهمة للرعى التقليدى هى النباتات والأمطار (وليس المياه، فهى ذات أهمية في القطاع الحديث) كعوامل ساعدت في سرمدية الحياة البدوية الرعوية التقليدية. فالنباتات إذا توفرت لها الظروف الملائمة سوف تنبت، تزهر ثم تثمر في أوقات محددة مما يسهل معرفة حركة الرعاة من بيئة إلي أخرى. لكن، الله غالب، تعتبر النباتات أكثر تأثراً بالأحوال البيئية والمناخية في مراحل نموها، كدرجات الحرارة، فترة نزول الأمطار وتوزيعها خلال العام، رطوبة الجو وغيرها، مما يعنى أن نضوج النباتات غير منتظم ومن ثم حركة الرعاة سوف تكون غير منتظمة تباعاً، ذلك يجعلنا نخلص أن علينا فهم الخواص البيولوجية للنباتات (ومنها الساعة البيولوجية) لأنها المحرك البديهى للرعاة كضمن عوامل تنمية الرعى.
دعنا أولاً نأخذ أمثلة لكى نقنع أنفسنا بصحة دور الساعة البيولوجية في التنمية والتى تظل مهملة تماماً في مجال الرعى. فقد وجد العلماء أن أسماك السالمون في أمريكا تهاجر من المحيط الأطلنطى نحو المياة العذبة عند منابع نهر المسيسبى في فترة وضع البيض (وفترة وضع البيض تحكمها الساعة البيولوجية)، مما جعل الصيادون يعدون شباكهم لأنتظار مجيئها في الهواء الطلق بعيداً عن المحيط وهيجانه. وبنفس الطريقة يصطاد صيادوا كندا طائر البطريق، عجول البحر والطيور المهاجرة، فقد قامت كثير من الدول بسن نظم وقوانين لحماية تلك الحيوانات البرية البريئة، التى تحكمها ظروف خارج إرادتها تأتى بها إلي نفس المكان وفي نفس الزمن من كل عام. حديقة الدندر، في النيل الأزرق، مثال أخر. ففى فترة معينة تقوم أسراب النعام بهجرة موسمية إلي المناطق الشمالية من الحديقة، وقد كانت تلك المناطق غابات كثيفة ثم صارت أراضى زراعية جرداء بفعل مشاريع الزراعة الآلية مما جعل النعام والطيور والحيوانات البرية ذات الهجرات الموسمية تتعرض للأبادة والصيد الجائر. في جنوب كردفان، يعرف الرعاة طائر أبومنقور، الذى يهجر جنوب كردفان مع هجرة الرعاة إلي شمال كردفان، حيث يضع البيض في تخوم خور أبوحبل في أشجار الصباغ والصحب، ومع بداية موسم الحصاد يفقس الصغار ثم تهجر مع أمهاتها إلي مرافئ جنوب كردفان ومروجها الخضراء. ونتيجة لتقلص النباتات في مناطق شمال كردفان ونتيجة لطبيعة طائر أبومنقور الغريبة، حيث يدخل أنثاه داخل جحور الأشجار في فترة الحضانة ويزيل ريشها (يمعط ريشها حتى لا تطير، أنظر الرجالة حتى عند الطيور) ثم يقوم بأغلاق الجحر عليها بالطين اللبن ويترك فتحه صغيرة لكى يناولها الأكل هى وصغارها وكفتحة لرمى الفضلات (البراز) إلي الأرض، صار الطائر هدفاً سهلاً للصيد وقت الحضانة (ما عليك إلا البحث عن أكوام البراز تحت الأشجار، فأذا وجدت الكوم حتماً تصطاد الأم وكل الصغار، لحم طرى). لا أحد يحرك ساكناً وحتماً سوف ينقرض أبومنقور وسوف تتدهور الحياة البرية نتبجة للأهمال المزرى. إذن هناك مؤشمر تنموى ينبنى علي فهم الخصوصية البيولوجية (الساعة البيولوجية، الفطرة الربانية) للطائر أو الحيوان المعين ، حتى يمكن حمايته أو الأستفادة منه.
السؤال هل يمكننا تحديد الفطرة (الساعة البيولوجية) في النباتات حتى نستطيع أن نحدد نمط حركة الرعاة؟. تتأثر النباتات ليس بالأحوال البيئية فقط بل أيضاً بالرعى. فقد ظهر جلياً أن أغلب أسباب تحول الرعاة من مراعى إلي أخرى هو سبب ظهور نباتات غير مستساغة للحيوانات بسبب الرعى. فإن الرعى الجائر (وأينما وجد الأشتراك الجماعى في المرعى يوجد رعى جائر) يؤدى إلي مايسمى بالتعاقب النبتى عاماً بعد عاما، حتى تظهر نباتات غير مرغوب فيها نتيجة لمقاومتها للرعى بأسلوب أنها غير مستساغة وبالتالى يغير الرعاة منازلهم إلي منازل أخرى في الأعوام المقبلة. فالرعاة يذهبون إلي حيث يوجد نبات الحسكنيت مثلاُ أو الدفرا فإذا تغيرت تلك النباتات بنبات البقيل أوالمهلب البرى يتركون المكان معللين أن الأرض بردت (أى قلة نسبة الأملاح فيها)، كما تراهم يحفرون الأبار في أماكن أشجار الدبكر أو الخروب ويسترشدون بكثافة أوراقها وحجم ثمارها علي غزارة المياة الجوفية، فإذا جفت أو ماتت تلك الأشجار لأى سبب أخر، يتركون حفر الآبار ويقولون أن المياة في الأرض غيرت مجراها، أنظر البراسيكو-إيكولوجى في أستغلال البيئة، فبواسطة النباتات يعرفون أماكن المياه الجوفية ونسبة الأملاح في النباتات. وهم ينتقلون من مكان إلي أخر حسب نضج النباتات، فبظهور بعض ثمار النباتات يعرفون أن الأمطار أوشكت علي الأنتهاء وفي بعض الأحيان أيضاً يعرفون قرب نزول المطر من خلال أخضرار بعض الأشجار، أو تساقط أوراقها في بعض الأحيان كالحراز، كما سميت الظاهرة تهكماً حرب الحراز للمطر، فهو يسقط أوراقه قبل نزول المطر، أنظر البراسيكو-إيكولوجى، هل صحيح يسقط الحراز أوراقه لأن الخريف أوشك علي النزول، أم يسقط أوراقه لأنها فترة أسقاط الأوراق له، أم يسقط أوراقه حتى يستطيع تجميع أكبر قدر من المياه في عروقه وتخزينها لفترة الصيف، فمهما كانت الأسباب التى يسقط بها أوراقه، فالرعاة يعرفون شئ واحد أن الخريف أوشك علي النزول ولذلك أسقط الحراز أوارقه فهم يقومون بالتجهيز لفترة نزول المطر. ومعروف لدارسى علوم الغابات أن ظاهرة أسقاط الحراز لأوراقه ظاهرة أيكولوجية معروفة، فالحراز موطنه الأصلى الهند وتم أستجلابه إلي أفريقيا، فموسم الأمطار في موطنه الأصلى يعادل فصل الجفاف في السودان، لذلك أحتفظ بساعته البيولوجية والتى تحرك الرعاة دون أن يعوها. إذن مع عدم مقدرتنا تحديد نمط نمو النباتات في البيئات البرية، فإن الرعاة ينتظرون مؤشراتها إنتظاراً (لا يهم تطول مدة الأنتظار أو تقصر) حتى يقومون بأعمالهم تباعا، ذلك هو الجانب البراسيكو-أيكولوجى الذى أقعد محاولات التنمية عند الرعاة.
دعنا ننظر إلي بعض الظواهر البراسيكو-إيكولوجية النباتية: الرعاة يعرفون متى ما أخضر نوع معين من النبات ماذا يعنى لقرب أو بعد فصل الخريف، فشجرة الهيبل في جنوب كردفان تبدأ في الأخضرار (تشق أوراقها) مثلاً قبل شهرين تقريباً من نزول المطر (أرجو أن لا تضع سقف زمنى لمتى تخضر، ربما تخضر في مايو هذا العام ويونيو العام المقبل، الساعة تتأثر بعوامل خارجية)، أما شجرة الأرد لا يهتمون حتى متى تشق ولكن أذا ما وصل الفرع الجديد زراعاً سوف ينزل المطر. وهناك بعض الأرتباط شبه السيكولوجى ما بين الرعاة ونوع الأشجار وبعض الظواهر البيئية. فحينما نغدوا في رحلة التدلى (من الصعيد نحو القوز تجاه الشمال) وفي منطقة هضاب الورل شمال جبل "وطا" في جنوب كردفان دائماً ينزل مطر غزيراً، والمنطقة طينية، تغوص العناقريب حتى الحبال في الوحل ونتسربل حتى الركب في الطين. وفي تلك المنطقة كنت أداعب العم دبى، الذى يقرأ بعض الأوراد علي فرع شجرة الأرد لحجب المطر، قائلاً له لقد جاء وقت أن نفحص صلاحك. فلا تصلح لتلك المهمة أى شجرة أخرى غير شجرة الأرد، فهو يقرأ ويتفل علي فرع نحضره له ثم يشير به إلي صرة السحابة ويرشقه يميناً وشمالاً، أى يخطانا المطر إتجاه اليمن أو الشمال، ثم بعد نهاية الأوراد يلزم أن يصعد أحدنا في شجرة ويضع الفرع في إحد جحورها ويثبته بقوة ونظل نرقب الفرع بكل أمل أن لا يسقط، فإذا سقط، ذلك يعنى أنكسار الحاجب، فعلينا بالركض سريعاً نحو الفريق لأن المطر سوف ينزل. وقد رأيت العم دبى نفسه يركض معانا أو يتغطى بفروته وهو راجع نحو الفريق. وحينما يرانا النساء ونحن ركوض يلقن هل المطرق (الفرع) وقع أى سقط، فإن قلنا نعم يجمعن العدة ويشدن حبال البيوت تحسباً لنزول المطر. وهنا نشير هل شجرة الأرد ذات صلاح دينى من بين الأشجار حتى يختارونها لتلك المهمة، وإن كانت كذلك كيف عرفوا ذلك، وهل سقوط الفرع هو بسبب عتاوة الرياح أو لم يثبته الطفل الذى وضعه جيداً، أو لأن العم دبى أصبح فاسداً (وهذا هو التفسير الذى يعجبنى، ففى الصباح وبعد العبلكة في الطين نقول للعم دبى عليك بمراجعة شيخك فأنا أشتم رائحة الفساد، وهنا يضحك الجميع حتى تتعالى الأصوات، والعم دبى يؤكد بأصرار علي سلامة عوده)، لكن أنظر ليس هناك تفسير عندهم إذا سقط الفرع غير أن المطر سوف ينزل، ذلك السلوك البراسيكو-إيكولوجى لا يمكن تفسيره بمعطيات علمية لكن بالنسبة لهم شئ شبه قطعى.
وعندما ينزل الرعاة إلي أراضى القوز في أوائل فصل الخريف، تشكل بعض النباتات أهمية خاصة للرعاة –فمثلاً نبات اللصيق (عند المسيرية) أو الشيلينى (عند الحوازمة) ينفخ بطون الأبقار حتى الموت، وقد ينتفخ القطيع بأكمله مما ترى الرعاة يتجارون في هلع طوال اليوم، ويقومون بسقى الأبقار الماء الساخن، أو السمن وفي عدم وجودهما يقومون بأخراج البراز من بطن البقرة بالأيدى وفي أسوأ الأحوال يقومون ببقر بطن البقرة في إتجاه الجانب الذى يخذن الأعشاب. وأسوأ ما لاحظت في هذا العشب الوباء إذا هربت البهائم فإنها تموت بالجملة، فالرعاة الأن عرفوا الكثير عن ذلك العشب والذى ظهر في أواخر السبعينات (إن أسعفتنى الذاكرة)، فهم يعرفون أذا أنتفخت البهائم على الرواعية جمعها في مكان واحد (أى تحبس من الحركة)، كما يعرفون أن البهائم أذا سرحت في الصباح في هذا العشب (فترة السربة) عليهم أن يعشوها (فترة العصرية) في أعشاب أخرى كأبوصابع أو الدفرا، وفي بعض الأحيان يتفادى الرعاة فترة الموت التى تسبق فترة الأزهار بالرحول إلي مناطق أخرى. ومع كل ذلك فإن الرعاة يرون حسنة رعى بهائمهم فيه، لأنه يدر اللبن ويسرع فترة الأخصاب ويزيد الأبقار صحة وسمن بأسرع وقت. ولم أر أحداً درس هذا النبات وما علاقة مكوناته بالماء الساخن أو السمن أو عدم الحركة، ملاحظات بديهية يمكنها أن تساهم في أستغلال البيئة وتنمية الرعى.
وفي الغالب، رعاة جنوب كردفان يتنقلون بين أربعة بيئات نباتية –وهى القوز، المجالد (جمع مجلد)، القراديد (جمع قردود) والأراضى الطينية أو الهضاب (الطينة أو البحر عن الحمر)، ولكل من هذه البيئات الأربعة نباتات مختلفة يرعاها الرعاة في أوقات محدودة في خلال العام. فالقوز والمجالد هى مراعى الخريف، القراديد هى أماكن الشتاء أو الرشاش أما الهضاب فهى مراعى الصيف أو فترة الرشاش. ويتحرك الرعاة خلال هذه البيئات في أزمان محددة وتحت ظروف محددة من ضمنها مراحل نمو النباتات، ففى فترة بداية الخريف ومتى ما أظلمت الأشجار(صارت كثيفة الأوراق) يظهر الذباب، وعليه وجب الرحول.
مراحل نمو النباتات لها أهمية أيضاً في الأستهلاك، فنباتات الصعيد قليلة الأملاح في تكوينها وذلك يحتم علي الرعاة شراء كميات كبيرة من الأملاح فى فترة الصعيد، فالقطيع الذى يتكون من 70 رأس مثلاً يحتاج إلي جوال ملح كل شهر. كما أن نباتات الصعيد بها كثير من القراد والذى يتطلب شراء الأدوية اللازمة لمقاومته وفي أراضى القوز يدر الضرع ويقل تسويق الأبقار، حيث يعتمدون علي منتجات الألبان. وفي فترة الصيف، يأكلون كثير من أوراق النباتات في شكل سلطات، كورق التبلدى، الحميض، الأرديب، العركلة، والتى يضاف عليها مسحوق السمسم أو الفول السودانى، وكغير أتوكيت المدن، السلطة هنا تأكل لوحدها دون أن يكون معها طبق أخر، كما يأكل الرواعية لحاء الأشجار وعروقها عند إشتداد الجوع بهم. فهم يرتبطون بالبيئة أرتباط وثيق يجب الأخذ به في سياق تنميتهم.
نخلص أيضاً أن العلاقة البراسيكو-أيكولوجية قوية بين الرعاة والنباتات. فحينما يجدون نبات الدبكر أو الخروب مخضراً في الصيف يحفرون الآبار للمياه، وحيما يرون أن فرع الأرد الغض وصل زراعاً في الطول يعرفون (يظنون ظن اليقين) حان نزول المطر، أو عندما يخضر شجر الهبيل يعرفون (يظنون) أن المطر علي بعد قرابة شهرين، وحينما يرون ثمار اللصيق يعرفون (يظنون) أن فترة موت بهائمهم من ذلك العشب قد إنتهت. وهكذا فإن الظواهر النباتية الفينولوجية، التى نعرف تأثرها بالتغيرات المناخية والبيئية، هم يعرفون فقط أنها مؤشرات لكذا وكذا، فهم يظنون ظن عالم وكما ورد في الأثر أن ظن العالم يقين الجاهل، فنحن الجهلاء وهم علماء بيئتهم، فعلينا بالأسترشاد بهم.
نختتم هذا المقال بأن الأنسان الرعوى أنسان كثير التعقيد في تركيبته الذهنية وتحكم سلوكياته، تحركاته وتصرفاته أشياء عدة خارج إرادته، ففهم هذه الظواهر (علي عواهنها) ومحاولة التعامل معها بصورة عقلانية علمية يسهل معرفة نفساته وأنفعلاته وأسباب تحركاته. فالساعة البيولوجية (الفطرة في الحيوان والنبات) ناموس إلهى طبيعى فقد فهمنا مغزاها في أنفسنا من الطفولة حتى سن الرشد والتغيرات التى صاحبتها، ولكن يبقى علينا أن نفهمها في النباتات لكى يسهل علينا معرفة سلوكيات الرعاة وتحركاتهم.
نواصل سلسلة التراث والبيئة (ومن أراد الأطلاع علي مقالاتى في سلسلة التراث والبيئة عليه أن يرسل لى علي بريدى الألكترونى في أعلي المقال). وفي المقال القادم سوف نتحدث عن علاقتهم بالأجرام السماوية وبالنجم هم يهتدون.
هنا بعض العلوم التى أهتمت بدارسة البيئة والنبات والحيوان ويمكن الأستفادة منها في مجال التنمية الرعوية، وأريد أن ألفت النظر أن لكل من هذه العلوم حوارييها في السودان، فيجب الأستعانة بهم:
Ecology, Plant Physiology (Phenology), Botany, Range Ecology, Range Management, Land Use, Land Use Planning, Watershed Conservation and Management, Soil, Rural Economy, Animal Husbandary, Hydrology, and Climatology (In addition to Economy and Veterinary Science).
وهنا ما أريد أن يضمن في دراسة علاقة الرعاة بالبيئة، ما عدا علم النبات الأثنى (الأثنوبوتنى) فأن المشتقات الأخرى هو ما أراه يتعلق بعلاقة الرعاة السيكولوجية بالأيكولوجى أو بالنجوم وحركتها ومدلولاتها الأيكولجيه:
Ethno-Botany, Para-Psycho-Ecology and Para-Astro-Ecology.
وسوف أتحدث عن بالبرا-أسترو-إيكولوجى، أشبه بالتنجيم ولكن ليس كالتنجيم عند الرعاة، في المقال القادم، ويجب أن يأخذنى القارئ بأنى أكتب مشاهدات أو ملاحظات وليس حقائق علمية.
بريمة محمد أدم، واشنطن دى سى، الولايات المتحدة الأمريكية.