العادات نتاج تقاليد في المجتمعات مرتبطة بالموروثات و التعاملات التي تواضع عليها الناس في بيئة ما في زمان ما وقد يطرأ عليها تغير او تعديل او الغاء في زمن لاحق , وربما صار الذي كان مستحسنا في الماضي مستهجنا في الحاضر .
و اتحدث اليوم عن عادات كانت في امدرمان عاصرتها و عايشتها في طفولتي و صباي في النصف الاول من القرن العشرين , وقد تصلح نموذجا لما كان يحدث في انحاء السودان الاخري لأن امدرمان جمعت و اوعت كثيراً من القبائل و الاعراق المختلفة التي أمتزجت وتكاملت .
اختصت النساء بالقدر الاعظم من تلك العادات وذلك لشيوع الجهل نسبة لقلة التعليم وتفشي الأمية بينهن بالمقارنة بالرجال , بل الصحيح ان المجتمع بأكمله كانت تشوبه الأمية و التخلف وما كان للنساء صوت او شأن , وتحكمت بهن عادات كن ضحاياها بدءاً و نهاية إلى مدار العمر , وانصبت المقاساة و العذاب عليهن جراء تلك الممارسات , ولكن كل انثي تروم الحسن و تود الاعجاب في اعين الغير وبخاصة الذكور و تلجأ الي التزين والي كل ما يجلب الاستحسان بشكلها , وهذا شئ غريزي , كما ان الرجل بدوره يبغي ان يكون حسن الهيئة و ذلك بالعناية بقص شعره و تهذيب لحيته ان كانت له لحية , وان يتخذ من الملابس ما يجمله و يعدل سمته . وفي سبيل تحقيق ذلك كانت الانثي تخضع منذ صغرها لعمليات عديدة , وكان اول تلك العمليات هي الشلوخ , وعادة الشلوخ اتخذتها بعض قبائل السودان للتمييز بينها وبين القبائل الاخري كشلوخ الشايقية المستعرضة جانبي الوجه , وشلوخ الدناقلة الطولية على الخدين , و تشريط الجبهة بخطوط متوازية كما عند الدينكا و النوير , وكان ينظر للشلوخ في النساء كنوع من الجمال او انها تكسب المرأة جمالاً , و الشلوخ انواع اذكر منها المطارق والسلم وقد تغزل فيها الشعراء وكان يقال عن شلوخ احداهن ( خديدة يبيت الدمعة ) أي شلوخ غائرة عميقة في الخد , وذلك كناية عن جمالها كما جرت العادة ان يشلخ الاطفال الذين توفي والديهم بالحرف T علي خدودهم . وكانت تجري الشلوخ بالموسي غير المعقمة و بدون بنج و تقوم به نساء مختصات في عمل الشلوخ . وجاء زمن اندثرت فيه الشلوخ ولم يعد تشاهد إلا في وجوه الجدات و النساء كبيرات السن . ولقد ساهم فن الغناء في اندثار تلك العادة بالتغني و التغزل في الخدود الملساء بدون شلوخ , فقد تغني الفنان التاج مصطفي باغنية تقول :
السادة لونه خمري انا قلبي حباه
وغني الفنان صلاح محمد عيسي قائلا
يا جميل يا جميل يل سادة حبك جنني زيادة
و تأتي ثاني العادات التي تتعرض لها الطفلة وهي الختان الفرعوني وهو استئصال جزء من جهازها التناسلي بالموسي دون تعقيم او بنج في معظم الاحيان مما يهدد حياة الطفلة عند اجراء العملية , ثم في قابل ايامها وهي فتاة عند الحيض وعندما تصير امرأة و تتزوج عند الممارسة الزوجية و عند الولادة وعقب كل ولادة .
وتخضع الانثي عند الزواج لمعالجات تجميلية اخري وهي خرم (قد) الانف بالابرة لتركيب الزمام وهو دبلة من الذهب , و كذلك خرم الاذنين لتركيب فدوة علي كل واحدة منها و الفدوة هي هلال ذهبي يتدلي من الاذن , ثم يجئ (دق الشلوفة) وهو خضب الشفة السفلي بصبغة زرقاء دائمة و يستخدم في ذلك مجموعة من الابر تشك بها الشفة ثم يصب عليها الصبغة الزرقاء مما نشاهده الان في شفاه النساء كبيرات السن , وكان يقوم بهذا العمل نساء من الحلب .
وربما يتبع ذلك وشم باطن الذراع بنفس الصبغة الزرقاء , وبذلك تكتمل زينة العروس الجسدية . وعند العرس يتطلب من العريس أن يدفع بخلاف المهر قدراً بسيطاً من النقود أو الملابس أو حلية من الذهب كالخاتم مثلاً وتبدأ هذه الطقوس عند ذهاب نساء أهل العريس لخطبة البنت من أهلها فيدفعن مبلغاً من المال يسمى ( فتحة خشم ) , ثم تتبعها ما يسمى ( قولة خير ) ويجلب هنا ملابس وهدايا من الذهب , يلي ذلك ( سد المال ) وهو دفع المهر , وعند الدخلة يدفع العريس مبلغاً بسيطاً من المال فيما يسمى ( لمس القصة ) وهو أن يضع العريس يده على ناصية رأس العروس ويقرأ شيئاً من القرآن وغالباً ما يكون آية الكرسى , ويلي ذلك دفع مبلغ مماثل فيما يسمى ( فك الحزامية أو السبوع ) وهو أن يؤتي بالعروس ملفوفة بعدة ثياب داخلية وخارجية ومربوطة بحبل به عدة عقد . ويأخذ العريس في الفك بين مدافعة وصراخ العروس . ويحيط النساء بالحجرة التي بها العروسان وينبغي على العريس أن يخرج عليهن بعد حين بمنديل أبيض مخضب بالدم دلالة على عذرية البنت بينما صراخ العروس يشق فضاء الليل الساكن , كما تنطلق زغاريد النساء إشهاراً وإبتهاجاً بسلامة الشرف الغالي .
وبهذه الطقوس و ( الدفعيات ) المالية تنتهي رحلة العريس السوداني وعروسه واقفاله في قفص الزواج الذهبي ! وبهذا تنتهي معاناة الأنثى السودانية إلى حين معين . وكانت للنساء عادات ذميمة عند البكاء على الميت , والجنازة مسجاة تراهن ينثرن الرماد والتراب على رؤوسهن ويصرخن بأعلى أصواتهن حي ووب _ حي ووب فيما يسمى ( المناحة ) , وبعضهن (يدردقن ) على الأرض , وعند خروج الجثمان يجرين خلفه مولولات صارخات , ويظلن علىتلك الحالة من النواح والبكاء لمدة أسبوع كامل وهن في ملابسهن المتسخة ولا يستحممن أو يغتسلن وهو ما يسمى ( شيل الوسخ ) , وبعد الأسبوع يذهبن إلى البحر لغسل ملابسهن المتسخة , ويعدن للمنزل للإستحمام . وكان الحداد على الميت يستمر لمدة عامين أو أكثر ولا يلبسن فيه غير أثواب ( القنجة ) وهو نوع غليظ من الدمور ( نسيج القطن الأسمر ) , ويرتدين فساتين من الدمورية . وقد رأيت نساء في الحلة في حالة حداد دائمة لأنه لا ينقضي العام وإلا يكون في العائلة ميت واحد على الأقل .
وتأتي عادة أخرى أختصت بها النساء وهي أقامة حفلات الزار وهذه تدعى لها نساء الحلة ليحضرنها وكان يقال للمرأة التي يقام لها الزار ( متلبشة ) أى أن أحد الجن تلبسها وهم أنواع منهم الحبشي والشلكاوي والخواجة .....إلخ
ولكل منهم لبس خاص تلبسه ( الفوقها الزار ) ولكل جن مطالب خاصة , وغناء ودقة على الدلوكة خاصة له ويسمى هذا ( الخيت ) , فمثلاُ المرأة التي ( فوقها الخواجة ) تلبس البدلة والقبعة و تدخن السجاير وتشرب الويسكي والبيرة بأمر الجن . وهناك الطمبرة وهي رديفة الزار ولكنها تؤدي على نغمات الربابة وضرب الطبول والكشكوش .
وهناك أمر آخر أختصت به النساء وقلة من الرجال وهو الذهاب إلى الفقرا , وتذهب المرأة والرجل إلى الفكي يبتغون عنده العلاج أو المشورة أو الكيد للخصوم , وهؤلاء الفقرا في الغالب الأعم من المشعوذين والدجالين , ويزاول هذا العمل القادمون من غرب أفريقيا الذين نسميهم الحجاج كحاج منزو وحاج هارون .
وكانت هناك عادة البطان وهذه يختص بها الرجال والشبان خاصة والبطان يتم بين شابين أو يقوم به العريس وهو ضرب الظهر العاري بالسوط , ويكون ذلك في السيرة أمام البنات والغرض منه إظهار رجولة وفروسية الشاب وإثارة إعجاب الفتيات به , وكذلك مجاملة للعريس , وهناك تحضيض وتحريض من المغنية التي تدعى ( السيارة ) بغنائها أغنية حماسية أحدى أبياتها تقول
حقو لي قولي ولداً ما بباطن ما يهز فوقي
ويخلع الشاب جلابيته والعراقي معرياً ظهره و ( يركز ) أي يستند على عصا معطياً ظهره للضارب ويتلقى ضربات السوط دون أن يتحرك أو يرمش له جفن , وفي أحيان كثيرة يدمي السوط الجلد ويسيل الدم من الجراح ولقد شاهدت شاباً وهو جار لي وقد أدمى السوط ظهره في جراح كالشوارع , ودفع ثمن بطانه أن نام مستلقياً على بطنه قرابة الشهر حتى برئت جراحه !
وكان البطان يجرى وسط زغاريد النساء واستحسان الرجال واعجاب النساء .
وبالرغم من أنتشار التعليم ومئات الخريجات من الجامعات فمازال البعض يقصد الفكي , ومازال الختان بأنواعه منتشراً , كما زادت تكاليف الزواج بإضافة زخارف وطقوس جديدة تبرز المباهاة والتفاخر , وزدنا الحياة تعقيداً بدلاً من أن نبسطها .