مقالات واراء حرة من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة عامان

مقاربة أولية لتحديات السلام في النيل الأزرق بقلم جمال الدين علي التوم – مستشار قانوني

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
3/29/2005 3:31 ص

مقاربة أولية لتحديات السلام في النيل الأزرق
جمال الدين علي التوم – مستشار قانوني
[email protected]

مقدمة
وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية على البروتوكول الخاص بمنطقة النيل الأزرق ضمن حزمة البروتوكولات الموقعة في نيفاشا في مايو 2004 ، وتحديدا ضمن البروتوكول الخاص بمنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق. وتمت الإشارة في ذلك البرتوكول إلي أن منطقة النيل الأزرق يقصد بها ولاية النيل الأزرق الحالية ، والتي تمتد في الرقعة الواقعة بين ولاية سنار شمالا والحدود الإثيوبية شرقا وجنوبا وولاية أعالي النيل غربا ، وتشمل ولاية النيل الأزرق الحالية أربعة محافظات هي الدمازين ، الروصيرص ، باو والكرمك. وتبلغ مساحة المنطقة حوالي 14 الف كيلو متر مربع ، وعدد سكانها حوالي 696.000 نسمة.

ومنذ العام 1986 شهدت المنطقة الجنوبية للنيل الأزرق (منطقة الكرمك وقيسان) النزاع المسلح نتيجة لقيام الحركة الشعبية بالاستيلاء علي تلك المنطقة ، مما آثار موجة واسعة من الاحتجاج في شمال البلاد أنذاك ، حيث اعتبر لأول مرة أن الحرب الأهلية في جنوب البلاد قد انتقلت إلى جزء يعتبر من شمال السودان وفقا لترسيم الحدود الذي تم قبل استقلال السودان في 1956 . وتمكنت الحكومة السودانية خلال الفترة الديمقراطية (1985-1989) من إسترداد السيطرة على تلك المنطقة بعد أقل من عام من استيلاء الحركة عليها ، لكن بعد أن تركت تلك العمليات أثارا مدمرة على تلك المنطقة وبنياتها الأساسية وحركتها التجارية والتواجد السكاني فيها. وعادت الحركة الشعبية مرة أخرى للسيطرة على المنطقة في أواخر العام 1988 ، وتمكنت حكومة الإنقاذ الوطني التي وصلت للسلطة بانقلاب عسكري في 1989 من إعادة السيطرة على المنطقة في إطار حملتها العسكرية الواسعة ضد الحركة الشعبية ومساندتها للفصائل المسلحة المعارضة للحكومة الإثيوبية أنذاك.

وفي العام 1997 تمكنت قوات من المعارضة السودانية المسلحة ضد حكومة الانقاذ الوطني العسكرية متمثلة في فصيلي(الحركة الشعبية وقوات التحالف السودانية ) من الاستيلاء علي مواقع هامة في الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من المنطقة (الكرمك وقيسان ، ومناطق الديم ومينزا ) مما ادخل كامل المنطقة في توترات الحرب الأهلية واثر بشكل مباشر علي كافة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.

وتعد منطقة النيل الأزرق من المناطق المهمشة في السودان ، حيث كانت خلال فترة الحكم التركي والمهدوي من المناطق التي تمارس فيها تجارة الرقيق ، وتعرض سكانها إلى حملات منظمة أرغمتهم للتوغل جنوبا نحو الحدود الأثيوبية. وفي فترة الحكم الاستعماري البريطاني وقعت المنطقة ضمن المناطق الخاضعة لقانون المناطق المقفولة مما عزز من انعزال المنطقة من خطط وبرامج التحديث التي قام بها الاستعمار من أجل خلق القاعدة الاقتصادية لتحقيق مصالحه الاستعمارية. وفي فترات الحكم الوطني بعد الاستقلال بذلت الجهود لفتح الاستثمار الزراعي في المنطقة ومن ثم فتحت مشاريع واسعة للزراعة الإلية إضافة إلى الاستثمار في الثروة المعدنية بجبال الانقسنا ولكن دون إشتراك فاعل ومؤثر لسكان المنطقة ، وبقدر محدود من تنمية البنية التحتية للمنطقة.
رغم غني منطقة النيل الأزرق بالموارد الطبيعية إلا أن برامج التنمية فيها كانت من الضعف بمكان وبقدر محدود من التأثير على الواقع المحلي و التأثير على السكان المحليين في جبال الانقسنا وفازوغلي والكدالو وغابات المابان والاودك ، حيث تجاوزتهم تلك البرامج وظلوا لفترات طويلة يعيشون حياة بدائية ، ومحرومين من كافة وسائل الحياة الحديثة. وساهم في بلورة هذه المظالم الاستثمار الجشع لبعض التجار الشماليين واستغلالهم لموارد المنطقة دون أي التزامات تجاه المنطقة ساعدهم في ذلك الجهاز الحكومي البيروقراطي الذي قدم مصالح أفراده الخاصة فوق مصالح المنطقة والوطن مما عزز الشعور بالغبن وجعل المنطقة مهيأة تماما للاستقطاب السياسي والعسكري المعارض.

وقد مارست الحكومات المختلفة منذ الاستقلال سياسات تتسم بالرعونة وقصر النظر في المنطقة ساهمت في زعزعة الاستقرار وتصعيد المظالم. وتعد السياسات التي تبنتها حكومة الإنقاذ الوطني العسكرية في بداية التسعينات من اخطر السياسات التي أثرت علي المنطقة ، وابرزها سياسة الاستثمار التي تبناها الدكتور على الحاج الاسلامي المخضرم ابان رئاسته الهيئة العامة للاستثمار، حيث د. على الحاج ما أسماه بسياسة "إباحة الاستثمار" ، تحقيقا للاستراتيجية المجازة ضمن البرنامج الثلاثي للانقاذ الاقتصادى (1990-1993 ). و قامت الهيئة العامة للاستثمار بتنفيذ خطة إستثمارية للأراضي واسعة النطاق حيث وزعت بموجبها ملايين الأفدنة الزراعية فى مناطق كردفان و جبال النوبة و النيل الأزرق و النيل الأبيض و أعالي النيل على شركات و أفراد بغرض الاستثمار الزراعي و تمشيا مع فلسفة "ازالة كل العقبات أمام المستثمرين". أصدرت الهيئة في عام 1991 الخريطة الاستثمارية بموجب قرار من رئيس الجمهورية الأمر الذى يحرم أي شخص متضرر من اللجوء الى المحاكم و التي لايجوز لها انذاك النظر في قرارات رئيس الجمهورية . كما قامت الحكومة بتعديل قانون المعاملات المدنية تمشيا مع ذلك الغرض .وقد كرست تلك السياسات واقعا ظالما و مأساويا بالنسبة للمزارعين والرعاة في تلك المناطق حيث حرموا من الأراضي التي يعتمدون عليها في معاشهم كما حرموا من أي فرص للتقاضي و الاحتجاج ، فبناء على التعديلات المشار اليها شطبت كل الدعاوى التى رفعها الأفراد الذين تضرروا من الخريطة الاستثمارية التى تجاوزت كل الحقوق التاريخية للمزارعين في تلك الاراضي الزراعية . كما عمد بعض المستثمرين الذين أزيلت من أمامهم العقبات القانونية الى استثمار الأراضى التى منحت لهم فقط فى تجارة الاخشاب والفحم النباتى وأنتجوا كميات مهولة سببت أضرارا بيئية و خيمة في تلك المناطق. وقد وزعت تلك الاراضي على أنصار الحكومة و كوادر الجبهة الاسلامية وقيادات من الاسلاميين العرب مثل اسامة بن لادن الذي منحت شركته وادي العقيق مساحة لاتقل عن 20 الف فدان في منطقة جبل كدم بمحافظة (باو) بينما حرم المواطنون الفقراء في تلك المناطق من حيازتهم التقليدية ، وحرمت القبائل الرعوية في المنطقة من مسارتها الرعوية التي كانت ترتادها من سنوات طويلة الأمر الذي فجر نزاعات دامية بين الرعاة و المزارعين اتخذت في بعض الأحيان شكل صراعات قبلية مثل ما حدث بين قبائل العرب الرحل و قبائل الفلاتة.

كما شكلت إفرازات سياسة التحرير والبرنامج الثلاثي الذي تبناه وزير المالية أنذاك عبد الرحيم حمدي عاملا أخرا في زعزعة الاستقرار بالمنطقة عبر سياسات التمويل المصرفي للانشطة الزراعية وفقا للصيغة الاسلامية المعروفة بعقود السلم ، والتي فشلت فشلا زريعا و أدت في نهاية الأمر إلى دخول أعداد كبيرة من صغار المزارعين وكبارهم إلى السجون واضطرارهم للتخلي عن ممارسة النشاط الزراعي مما أدخل المنطقة في مصاعب إقتصادية جمة جعلت أعدادا كبيرة من شباب المنطقة في حالة عطالة تامة.

كذلك شكلت برامج "الدعوة الشاملة" التي تبناها المحافظ السابق بالمنطقة الاسلامي إبراهيم عبد الحفيظ مصدر تهديد جدي للترابط الاجتماعي والقبلي في المنطقة حيث حارب القيم والمعتقدات والتقاليد والعادات المحلية للسكان المحليين باعتبارها عادات وثنية ومخالفة للاسلام ، و عمد الي التلاعب بالحساسيات القبلية والجهوية وتاجيج الصراعات العرقية بحثا عن التأييد السياسي ، مما قاد المنطقة إلى صراعات علي أساس قبلي وجهوي عززه مناخ كبت الحريات ومنع العمل السياسي للقوى السياسية الاخرى ، كما قام بوضع الأسس لسياسات أدت في نهاية الأمر إلى مفاقمة مشاكل المنطقة وبروز الفساد المالي بصورة غير مسبوقة في المنطقة.

ومنذ دخول المنطقة غمار الحرب الاهلية تبنت الحكومات المختلفة سياسات أمنية غير رشيدة تمخضت عنها خروقات كبيرة للحقوق الأساسية لبعض سكان المنطقة حيث تعرض أبناء الإقليم الجنوبي في المنطقة وبعض أبناء المنطقة للاستهداف باعتبارهم طابور خامس للحركة الشعبية ، وشهدت فترة استيلاء الحركة الشعبية على الكرمك وقيسان كثير من التصفيات والاعدامات خارج نطاق القضاء ، بل شملت الحملات حتى الناشطين المحسوبين على قوى اليسار مثل ما تم في القضية المشهورة والتي كان ضحيتها المهندس صالح الخير في تلك الفترة. وتصاعد القمع والارهاب بوصول الإنقاذ الي السلطة وتبنيها للخيار العسكري لحسم الصراع مع الحركة الشعبية ومن ثم شنت حملات قمع وإرهاب واسعة ضد المعارضين لها في المنطقة بمختلف توجهاتهم السياسية وإنتماءاتهم الجهوية ، وسعت لفرض برنامجها الإسلامي عبر استخدام اليات السلطة المختلفة بكل قسوة وعنف ، كما قام المحافظ العسكري لمحافظة الدمازين في أوائل التعسينات بإصدار قرار بمصادرة مباني الكنيسة الكاثولكية وتحويلها لمركز شرطة في إطار ما يبدو سياسة عامة ضد الكنيسة لاتهاماها بمناصرة الحركة الشعبية.

ولم تكن المنطقة بعيدة عن تأثيرات الصراع الإقليمي وتداعيات الحرب الباردة ، حيث قامت حكومة الرئيس الإثيوبي السابق منقستو بتقديم الدعم والإسناد للحركة الشعبية للاستيلاء الأول علي الكرمك والتوغل في منطقة النيل الأزرق كإجراء وقائي ضد قوات المعارضة الإثيوبية التي كانت تنطلق من المنطقة وتحديدا قوات جبهة تحرير الارومو وجبهة تحرير بني شنقول. وكانت هذه الحركات الاثيوبية قد وجدت الدعم والتأييد من حكومة الرئيس السوداني الاسبق جعفر نميري التي كانت مسخرة لصالح المخططات الأمريكية في المنطقة في إطار الحرب الباردة بين المعسكر السوفيتي والأمريكي آنذاك. وتصاعدت الأحداث في المنطقة بسقوط نظام منقستو بدعم مباشر من حكومة الإنقاذ السودانية الحالية للحركات المعارضة وعلي رأسها الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا ، جبهة تحرير التقراي ، جبهة تحرير الارومو وجبهة تحرير بني شنقول غيرها من الفصائل الأخرى. واتجهت الحكومة السودانية بعد سقوط منقستو إلى دعم جبهة تحرير بني شنقول في الإقليم السادس ودعم تكوين الجبهة الإسلامية لشعب الارومو بقصد خلق تحالفات استراتيجية لتمديد المشروع الإسلامي الذي كانت تتبناه الحكومة السودانية آنذاك بتطرف. وتم ذلك علي حساب جبهة تحرير ارومو اليسارية والتي قامت الحكومة السودانية بحظر أنشطتها في السودان ومصادرة كافة ممتلكاتها بل وتسليم قياداتها المعارضة إلى الحكومة الأثيوبية بقيادة جبهة تحرير التقراي.
تصعيد الحكومة السودانية لأنشطتها في إقليم وسط الارومو وفي الإقليم السادس (بني شنقول) أدى إلى توتر العلاقة مع الحكومة الأثيوبية ، ثم جاءت مسألة ضلوع الحكومة السودانية فىمحاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا في العام 1995، الامر الذي أوصل هذه العلاقات إلى مرحلة القطيعة الكاملة ودفعت الأثيوبيين للانحياز للمعسكر الاقليمي والدولي المناهض لتوجهات الإنقاذ الإسلامية المتطرفة وتقديم الدعم الكامل للمعارضة السودانية بالتنسيق مع أرتريا ويوغندا وبذلك تمكنت المعارضة السودانية من السيطرة علي جزء هام من ولاية النيل الأزرق شكل للأثيوبيين حزاما أمنيا من مخاطر جماعات المعارضة الأثيوبية التي تنطلق من ذلك الجزء من الأراضي السودانية.

تأثرت منطقة النيل الأزرق بالحرب تأثرا بالغا حيث توقفت التجارة الحدودية بين السودان وأثيوبيا والتي كانت المنطقة من اكثر بواباتها نشاطا. كما تعرض النشاط الزراعي في المنطقة بشقيه التقليدي والحديث إلى الانحسار والضمور الشديد ، حيث تأثرت مشاريع الزراعة الآلية في منطقة دندور والمناطق شرق الروصيرص بالحرب مباشرة بتوقف العمل بها ، بينما تقلصت المساحات المزروعة في بقية أنحاء الولاية لأسباب أمنية واقتصادية . كما انعكست أثار الحرب علي الاستثمار في المنتجات الغابية وتجارة الأخشاب وصناعة الأثاث التي ازدهرت في المنطقة في فترة من الفترات. كما تأثرت أيضا أنشطة الرعاة في المنطقة بظروف الحرب وفقدت أعدادا كبيرة منهم كميات مقدرة من ثرواتهم نتيجة للعمليات العسكرية والألغام الأرضية والقصف الجوي والنهب من قبل الجماعات المتحاربة.

معالجات السلام المقترحة وفقا لبروتوكول نيفاشا

تم توقيع البرتكول الخاص بمنطقة النيل الازرق ضمن حزمة البرتكولات الموقعة في نيافشا بتاريخ 26/5/2004 ، وجاء ذلك البرتكول في 11 محورا شملت الاتي:
المحور الاول وتضمن مبادئ عامة شملت كفالة حقوق الانسان لكل سكان الولاية وفقا لما هو منصوص عليه في الدستور الانتقالي ، وضمان نمو وتطور الارث الثقافي المتنوع للسكان ، وإعتبار تنمية وتطوير الموارد البشرية والبنية التحتية الهدف الاساسي لحكومة الولاية ، والتي يجب أن تسعى لذلك لمقابلة الإحتياجات الانسانية وفقا لافضل ما عرف من أساليب التنمية المستدامة في إطار الشافية والمحاسبة.
المحور الثاني تناول تعريف المنطقة بإعتبارها تشمل ولاية النيل الازرق الحالية.
المحور الثالث أخضع بنود البرتكول لما أسماه التشاور الشعبي لتأكيد آراء شعب الولاية حول الاتفاق الشامل الذي حققته حكومة السودان والحركة الشعبية. كما أبان البرتكول بأن هذا الاتفاق الشامل سوف يكون خاضعاً لمشيئة شعب الولاية عبر المجلس التشريعي المنتخب ديمقراطياً. وعندما يوافق الشعب عبر نوابه على ان الاتفاقية تتوافق مع تطلعات مواطني الولاية فإن الاتفاقية ستصبح التسوية النهاية للنزاع السياسي في الولاية. أما اذا قرر المجلس التشريعي في الولاة بعد مراجعة الاتفاق - أن يعدل في إطار الاتفاقية - أي عيوب في الترتيبات الدستورية والسياسية والادارية للاتفاقية فسوف يدخل المجلس التشريعي في مفاوضات مع الحكومة القومية لتصحيح هذه العيوب.
المحورين الرابع والخامس تناولا هيكل حكومة الولاية.
المحور السادس تناول تكوين وصلاحيات الجهاز التشريعي.
المحور السابع تناول الجهاز القضائي بالولاية.
المحور الثامن تناول تفاصيل نصيب الولاية في الثروة القومية.
المحور التاسع تناول تكوين مفوضية الاراضي وصلاحياتها.
المحور العاشر تناول الترتيبات الامنية.
المحور الحادي عشر تناول الترتيبات ما قبل الانتخابات.
وللبرتكول أربعة جداول ملحقة به :
الجدول (أ) نص على الصلاحيات التشريعية والتنفيذية للولاية.
الجدول (ب) نص على الصلاحيات المشتركة بين الولاية والحكومية القومية.
الجدول (ج) نص على الترتيبات المتعلقة بالامور المتبقية أو ذات الطبيعة الخاصة.
الجدول (د) نص على مصادر دخل الولاية.

ويمكن تلخيص المضامين الاساسية للبرتكول وفقا للاتي:

أولا: الترتيبات الدستورية

تكون للولاية أجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقا لما يحدده دستور الولاية بما لا يتناقض مع أحكام الدستور القومي المؤقت. ويكون للولاية ممارسة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية المحددة في الجدول (أ) الملحق بالبروتكول. وأهم هذه الصلاحيات:
صياغة وتبني دستور الولاية.
قضائية الولاية والشئون العدلية والقانون التقليدي والعرفي.
الخدمة المدنية على المستوى الولائي ، والحكومات المحلية.
تنظيم جهاز الشرطة والسجون ، وخدمات الدفاع المدني .
الشئون الثقافية ، والاعلامية ، والخدمات الاجتماعية ، والدينية ، والتعليم الابتدائي والثانوي.
تنظيم الاعمال التجارية وشروط العمل ، وتخطيط المدن والارياف.
الري والسدود الولائية ، والاشغال المحلية والمقاولات والمواصلات العامة والطرق داخل الولاية.
قوانين الزراعة والغابات وتنمية الموارد الطبيعية.
السياسة السكانية والاحصاء والمسوحات.
الضرائب المباشرة وغير المباشرة.
إعداد ميزانية الولاية ومرتبات الخدمة المدنية والاقتراض الخارجي او الداخلي في اطار الاقتصاد القومي كما تحدده وزارة المالية.
تقوية المجتمع (Community Empowerment).

كما نظم الجدول (ب) الصلاحيات المشتركة للحكومتين القومية والولائية أي من الأمور الموضحة أدناه:-

التنمية الاقتصادية والاجتماعية داخل الولاية.
السياسات المالية والاقتصادية والتخطيط.
المهن القانونية وغيرها ومايرتبط بها.
السياسة التعليمية والبحث العلمي.
السياسة الصحية.
التنميةالحضرية، التخطيط والإسكان.
التجارة، الصناعة والتنمية الصناعية ، ورخص التصنيع.
تقديم الخدمات العامة.
النظام المصرفي والتأمين ، و الإفلاس.
حماية وإدارة البيئة ، والاستعداد لاحتواء الكوارث وإدارتها والوبائيات.
لوائح حركة المرور.
توليد الكهرباء وإدارة المياه والفضلات.
الإذاعة ومرافق الاتصالات الهاتفية.
الإغاثة، إعادة التوطين والاستقرار والتأهيل والبناء.
ابتدار ومفاوضة الاتفاقيات الدولية والإقليمية حول الثقافة، التجارة، الاستثمار، الإئتمان، القروض، المنح والعون الفني مع الحكومات الأجنبية والمنظمات الأجنبية غير الحكومية.
سياسة الجندرة ، وتمليك السلطة للمرأة ، رفاهيتها وحماية الطفل ورعايته.
إدارة الحيوان والثروة الحيوانية وأمراض الحيوان وخدمات المراعي والخدمات البيطرية.
حماية وسلامة المستهلك.
المحاكم الولائية ومسؤوليتها عن إنفاذ وتطبيق القوانين.
إعادة تأهيل العجزة من قدامى المحاربين والعناية بهم وكذلك الأيتام والأرامل وعائلاتهم.

أما في الملحق (ج) فقد تم النص على أن الصلاحيات المتبقية تمارس وفقاً لطبيعتها وما إذا كانت السطة ترتبط بشأن قومي أو تتطلب معياراً قومياً أو أنها شأن لا يمكن لولاية منفردة ضبطه، بحيث يمكن ممارستها عن طريق الحكومة القومية في كل الأحوال، فإذا كانت السلطة أو الصلاحية ترتبط بشأن ولائي، فيمكن أن تمارس عن طريق الولاية.

ثانيا : بنية الحكومة الولائية:
يكون لحكومة الولاية الشكل البنيوى الآتى:

(أ) الجهاز التنفيذى للولاية الذى يتكون من:
حاكم الولاية : يتم إنتخابه انتخاباً مباشراً عن طريق الناخبين المسجلين فى الولاية فى اقتراع عام للراشدين.
مجلس و زراء الولاية : يعين الحاكم الوزراء والمعتمدين للولاية وفقاً لدستور الولاية المؤقت. ويكون مجلس الوزراء الولائى مسؤولا أمام الحاكم والهيئة التشريعية للولاية فيما يخص اداء واجباته.
الحكومات المحلية : يكون للولاية معتمدوها ومجالسها المحلية المنتخبة ويكون تنظيم الحكومات المحلية واداؤها مسؤولية حكومة الولاية.
تكون هنالك لجنة أمن الولاية التى يترأسها حاكم الولاية، وتضم اللجنة القائد العسكرى للمنطقة ونائبه ومدير شرطة الولاية ومدير شعبة الأمن القومى بالولاية وآخرين.

(ب) الهيئة التشريعية للولاية:
يتم انتخاب اعضاء الجهاز التشريعى الولائى بواسطة الناخبين المسجلين فى الولاية وفقاً للقانون الولائى والموجهات العامة فى البنود الانتخابية التي تضعها اللجنة القومية للانتخابات.
يعد الجهاز التشريعى الولائى الدستور الولائى ويعتمده شريطة ان ينسجم مع الدستور القومى المؤقت.
يوقع حاكم الولاية على أى قانون صادق عليه الجهاز التشريعى الولائى بحيث يصبح قانونا موقعاً عليه بعد ثلاثين يوماً من إجازته، هذا ما لم يضع الحاكم القانون أمام المحكمة الدستورية لإقرار دستوريته.. فإذا وجدت المحكمة الدستورية ان القانون دستورى فإن حاكم الولاية سيوقع فوراً عليه.
يشرع الجهاز التشريعى الولائى القوانين الولائية فى إطار صلاحياته التشريعية كما هو مشترط عليه فى الجدول (أ) المرفق طيه.
يحدد الجهاز التشريعى الولائى احكامه واجراءاته ولجانه الخاصة به وينتخب رئيسه وموظفيه الآخرين.
يمكن للجهاز التشريعى الولائى اعفاء حاكم الولاية من منصبه/ منصبها بأغلبية ثلثى اعضاء الجهاز.
يتمتع اعضاء الجهاز التشريعى الولائى والجهاز التنفيذى الولائى بالحصانات التى نص عليها القانون.

(ج)الجهاز القضائى الولائي:
إن شكل وصلاحيات محاكم الولايات يعتمد على الدستور القومى المؤقت.
ينص الدستور الولائى على إنشاء مثل هذه المحاكم الولائية متى كان ضرورياً.
يقوم الجهاز التشريعى الولائى على تعيين وإعفاء القضاة الولائيين المعينين اعتماداً على الدستور الولائى وموافقة اللجنة القضائية القومية.
تنص التشريعات الولائية على ضمانات استقلال وحياد الجهاز القضائى الولائى وتؤكد على عدم تعرض القضاة الولائيين للتدخل السياسى أو أى تدخل آخر.
تكون للمحاكم الولائية سلطتها المدنية والجنائية فيما يتعلق بالقوانين الولائية والقومية فيما عدا حق الاستئناف الذى يقع فى دائرة المحاكم القومية فيما يتعلق بالقضايا التى تمثل أو يستمع إليها فى دائرة القوانين القومية.
تحدد الهيئة التشريعية القومية الإجراءات المدنية والجنائية لاتباعها فيما يتعلق بالتفاوض أو الإدعاء تحت القوانين القومية وفقا للدستور القومى الموقت.


ثالثا: ترتيبات ما قبل الانتخاب:
قرر البروتكول سيطرة حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على مؤسسات الحكم والسياسة خلال الفترة الاولي من الفترة الانتقالية وقبل قيام الانتخابات العامة. ويكون للمؤتمر الوطني نسبة 55% من هذه المؤسسات وللحركة الشعبية 45% منها. على أن يخصص منصب نائب الحاكم للحزب الذى لا يشغل حالياً منصب الحاكم.

ريثما يتم إجراء انتخابات عامة وكجزء من الإجراءات التعزيزية اتفق الطرفان على ان ولايتى جنوب كردفان/جبال النوبة، والنيل الأزرق تأخذان تمثيلاً كافياً فى المؤسسات القومية بنسبة لا تقل عن نسبة حجم سكانهما.

رابعا: الترتيبات الاقتصادية

(أ) تم النص على أن تقسم الثروة القومية بالتساوى بين مستويات الحكم المختلفة بما يسمح بموارد كافية لكل مستوى من الحكم حتى يستطيع ممارسة اختصاصاته الدستورية. وللولاية الحق في زيادة الوعاء الضريبي وتحصيل الضريبة والعائدات من الموارد الموضحة أدناه وفقا لما هو منصوص عليه في الجدول «د»:-
الضرائب وتشمل ضريبة الأراضي الولائية وما يؤول لها ، وضريبة الدخل الشخصي الولائية ، ضريبة الدمغة ، والضريبة الزراعية الولائية ، ضرائب أو عوائد الوعاء التجاري الأوسع وفقاً للتشريع القومي.
عوائد الخدمات الولائية ، والرخص و الرسوم.
نصيب الولاية من عائدات الموارد الطبيعية عوائد السياحة..
مشاريع حكومة الولاية.
القروض والاقتراض وفقاً لإطار السياسة الاقتصادية القومية الأوسع.
تحظى الولاية في حال إنتاجها للنفط بنسبة 2% من النفط المنتج كما هو محدد فى إتفاقية قسم الثروة.

(ب) تمثل الولاية فى لجنة المراقبة وتخصيص العائدات المالية والتى تضمن الشفافية والعدالة فيما يتعلق بتخصيص نصيب الولاية من العائدات المتحصلة قومياً والتأكيد على ان مخصصات الولاية من العائد لن يمنعها مانع من استلامها. ويكون للولاية نصيب في الثروة القومية ونصيب مقدر من دعم صندوق إعادة الإعمار والتنمية وما يتم تخصيصه لها من رئاسة الجمهورية .

(ج) تضع الولاية كل الدخل والعائد الذى تم استلامه فى حسابات عامة مراجعة وان تعمل وفقاً لمعايير اللوائح والمراجعة الحسابية التي صاغها ديوان المراجع العام والذى يقوم بمراجعة حسابات الولاية. تكون على مستوى الولاية معايير محاسبية وإجراءات ومؤسسات محاسبية مالية تعمل وفقاً للإجراءات والمعايير المحاسبية لضمان توزيع المال وفقاً للميزانية الحكومية المتقف عليها لضبط الانفاق مراعاة لقيمة المال.

(د) لا يكون هناك عائق أمام التجارة البينية الولائية أو أمام انسياب السلع و الخدمات ورأس المال أو العمل من وإلى الولاية.

(هـ) يكون هناك توزيع عادل ومتساو للأصول الحكومية ويخصص الأصل المعنى أولاً لمستوى الحكم المسؤول عن الأداء الفنى الذى يتعلق الأصل بعمله «مثلاِ المنشآت المدرسية تؤول لمستوى الحكومة المسؤولة عن التعليم».

خامسا: مفوضية الاراضي

يكون للولاية مفوضية للأراضي تتكون من أشخاص من الولاية. وتمارس مفوضية الأراضى الولائية كل صلاحيات مفوضية الأراضى القومية على المستوى الولائى ، على أن تكون لائحة ملكية الأراضى واستغلال الحقوق في الأراضى اختصاصاً مشتركاً تمارسه الحكومتان القومية والولائية.
تكون مفوضية الأراضى الولائية مختصة بإعادة النظر فى إيجارات وعقودات الأراضى السابقة، كما تدرس المعايير لتخصيص الأراضى الحالية وترفع توصياتها للسلطة الولائية بخصوص إدخال التغييرات الضرورية التى تشمل إعادة حقوق الأراضى لمالكها الشرعى والتعويض.
تتعاون المفوضية القومية ومفوضية الولاية للأراضى وتنسقان جهودهما لاستغلال مواردهما بفاعلية.

التحديات التي تواجه عملية السلام في المنطقة

إتفاقية السلام السودانية الحالية تشكل في تقديري تطور من أبرز التطورات الدستورية في البلاد منذ الاستقلال ، بحكم إستهدافها لاحداث تغيير جذري في بنية الدولة السودانية الموروثة من المرحلة الاستعمارية ، و يمكن أن تحدث تحولا ايجابيا كبيرا في مسيرة الشعب السوداني وعلاقته بالدولة ، تلك الدولة التي مارست كثيرا من الجور والاستبداد خلال الفترات الماضية ، وفشلت في تنفيذ برامج التنمية ، وأضعفت قيم المواطنة وعصفت باستقرار البلاد ، وإنتهكت الحقوق الاساسية والحريات العامة.
هذه الاتفاقية قد تشكل سانحة تاريخية لاعادة صياغة بنية الدولة السودانية على اساس عادل يكفل حقوق جميع سكان السودان بمختلف تمايزاتهم العرقية والدينية والثقافية ، ومن ثم تواجه هذه الاتفاقية تحديات في غاية التعقيد تفرضها طبيعة تعقد الازمة السودانية نفسها ، وأطراف العمل السياسي السوداني ، والوضع الاقليمي والدولي المضطرب. وخلافا للتحديات العامة التي تواجه مجمل عملية السلام ، هناك تحديات خاصة تتعلق بعملية السلام في منطقتي النيل الازرق وجبال النوبة وفقا لعوامل خاصة بهذه المناطق. هذه المناطق قد تشكل نموذجا ملهما لنقل تطبيق النصوص الخاصة بهما الى مناطق السودان الاخرى ، لتسوية وحسم النزاعات الدائرة الان أو التي قد تدور مستقبلا.
التحديات التي تواجه عملية السلام وفقا للترتيبات المقترحة ضمن برتوكولات نيفاشا لمنطقة النيل الازرق تواجه جملة من التحديات تفرضها طبيعة نصوص الاتفاقية نفسها ، وطبيعة المنطقة وتطورات الصراع السياسي فيها، وتجليات الحراك الاجتماعي الذي تشهده مناطقها المختلفة، مما يجعل التعامل مع هذه التحديات بقدر كبير من المسئولية والفهم والمعالجات الناجعة من قبل أطراف الاتفاقية والقوى السياسية السودانية ومنظمات المجتمع المدني والإطراف الدولية المعنية بمسيرة السلام في السودان ضرورة ملحة لتجنب تحول المنطقة من عامل ايجابي في تعزيز مسيرة السلام وجعلها نموذجا لإعادة الاعمار والتنمية وكفالة الحقوق الأساسية والتعايش السلمي بين المجموعات السكانية السودانية المختلفة فيها ، إلى عامل سلبي يساهم بفعالية في إجهاض مجمل العملية السلمية وانزلاق المنطقة في صراعات غير محمودة العواقب والنتائج.

ابرز هذه التحديات يمكن تلخيصها في الأتي:

التحدي الاول هو نصوص الاتفاقية نفسها
تعد إتفاقية السلام السودانية هذه من أكثر إتفاقيات السلام الموقعة لتسوية المنازعات الاهلية في العالم تعقيدا ، حيث جرت العادة في الاتفاقيات المماثلة لتسوية النزاعات الاهلية في دول أخرى مثل السلفادور 1990، كمبوديا 1991 ، وأنغولا وغيرها على إحداث تغييرات محدودة تسمح بمشاركة القوى المصطرعة في اطار بنية الدولة القائمة. أما إتفاقية السلام السودانية الحالية فتسعى لاعادة بناء وهيكلة الدولة السودانية على أسس ومبادئ دستورية ، تشابه في جوانبها الصيغة الفدرالية الامريكية ، وتشكل هدما كاملا للنظام المركزي الذي ظل يحكم السودان منذ الفترة التركية ، وتطيح بما تبقي من أسس الدولة المركزية التي تأسست في مرحلة الاستعمار البريطاني ، وعملت فيها معاول الحكومات الوطنية المختلفة بالهدم والتكسير دون اي بدائل أو ترميمات تمد في عمرها وتجعل لها شرعية للبقاء والاستمرار، عبر فترات تشويهه بمسميات مختلفة خلال الحكومات الوطنية مثل الحكم الذاتي والاقليمي والفدرالي ، وصلت ذروتها في عهد الانقاذ الوطني الذي أوغل في المركزية العملية لدرجة حصرها في عدد محدود من الاشخاص يتحكم بمصير البلاد كلها ، على الرغم من رفعه شعار الفدرالية عاليا كأحد ثوابت الانقاذ المشهورة.

ومن نصوص الاتفاقية يبدو جليا الجهد الكبير والاثر المباشر للخبرات الاستشارية التي قدمت لطرفي الاتفاقية ، مما يجعل نصوص الاتفاقية برنامجا سياسيا متكاملا يتجاوز كافة الاطروحات السياسية المؤثرة على الواقع السياسي السوداني بما فيها الأطروحات السياسية لطرفي الاتفاقية نفسها. ويحتاج تطبيق ذلك البرنامج لارادة سياسية قوية وقدرات تنظيمية محكمة وخبرات فنية رفيعة.
وحيث أن الاتفاقية الخاصة بالمنطقة قد تضمنت كثيرا من المواضيع الفنية ذات الطبيعة المعقدة مثل وضع دستور للولاية ، وتشكيل المحاكم وصياغة التشريعات الولائية ، والاشراف على التعليم ووضع السياسة التعليمة وغيرها من المواضيع الهامة التي تحتاج لخبرات متخصصة ومجال أوسع للتشاور يتجاوز طرفي الاتفاقية ، يكون الاتفاق على تفسير نصوص الاتفاقية ، والتطبيق العملي لها من أجل تحقيق أهدافها تحديا كبيرا ، خصوصا بالنظر لتجربة طرفي الاتفاقية المثيرة للجدل خلال فترة حكم الانقاذ الوطني للبلاد ، وسيطرة الحركة الشعبية على مناطق محررة لفترات طويلة.

واقع التنوع والتعدد في المنطقة
وتسكن هذه المنطقة مجموعة من القبائل المتنوعة التي تضم قبائل الفونج والهمج و البرون والمابان والادك والعركيين والدوالة والجمجم والسركم والكوما والكدالو والقمز والفلاتة والعرب ، ومجموعات من القبائل الشمالية والجنوبية وقبائل غرب السودان المختلفة. ولبعض هذه القبائل لغاتها المحلية الخاصة ولكن بشكل عام تعتبر اللغة العربية لغة التخاطب الرئيسية في المنطقة. ويوصف سكان منطقة النيل الازرق بشكل عام بأنهم مسلمون وان كانت المفاهيم الاسلامية في تلك المنطقة مختلطة بالعقائد المحلية والموروثات الشعبية ، كما تعتبر المسيحية الديانة الرسمية لبعض القبائل في المنطقة مثل الاودوك والمابان.
تعايشت هذه المجموعات المختلفة عبر الزمن في المنطقة مما خلق واقعا إيجابيا في تحقيق قدر من الوحدة الوطنية ساعد علي ذلك توفر الموارد الطبيعية في المنطقة و التي أتاحت فرص العيش لكل القادمين إليها. هذا الواقع المتسم بقدر كبير من التسامح تعرض لهزات عنيفة من جراء سياسات حكومة الإنقاذ الوطني حيث بادرت لاستهداف أبناء الإقليم الجنوبي في المنطقة باعتبارهم طابور خامس للحركة الشعبية وأصدرت قرارات طائشة بحقهم منها مصادرة مباني الكنيسة الكاثوليكية في الدمازين ، والتضييق على الإرساليات الموجودة في المنطقة. واتجهت بعد ذلك لاستقطاب قبائل الفلاتة في المنطقة وحشدهم في برامج الدفاع الشعبي مقابل التلويح بمنحهم نظارة في المنطقة، وبعض الوظائف في جهاز الدولة الولائي وأجهزتها التشريعية، كما قامت بتجييش قبائل الامبرورو الرعوية وتكوين ما عرف في المنطقة ب "كتيبة لا ينوم و لغم ما يقوم" محاولين استخدام القدرات الخارقة الشائع شعبيا امتلاك هذه القبائل لها والزج بها في العمليات العسكرية ضد الحركة الشعبية. وكان لابد لهذه السياسات الرعناء أن تثير مشاعر الغضب والحنق لدى القبائل والمجموعات الأخرى، فتقدمت قبائل الفونج بمذكرات احتجاج على منح الفلاتة نظارة في منطقة تعد من الناحية التاريخية مناطق نفوذهم القبلي، كما انضم بعض أبناء المنطقة لقوات المعارضة تعبيرا عن هذا الغضب والتمييز والرفض. وفي محاولة لإعادة التوازن قامت الحكومة بتعيين احد كوادر الجبهة الإسلامية من أبناء المنطقة وهو السيد/ عبد الرحمن أبو مدين نائب دائرة الكرمك في انتخابات 1986 عن الجبهة الإسلامية واليا للولاية مدشنة انحيازها لما بات يعرف في المنطقة بأبناء الصعيد. وشهدت هذه الفترة بروز النخب من أبناء مناطق الكرمك وقيسان ومن ثم ارتفعت شعارات موغلة في الجهوية مثل شعار "لا جلابة ولا فلاتة و لا غرابة" وتصاعدت حدة الخلافات حتى وصلت مجلس وزراء الولاية نفسه ودوائر صنع القرار في المؤتمر الوطني الحاكم. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت التكتلات القبلية والجهوية هي المحرك الأساسي للعمل السياسي في الولاية ، والآلية المعترف بها للتصعيد وتبؤ المناصب العامة والحزبية. وفي هذا الاطار تبرز قضية وضع قبائل الفلاتة في المنطقة من اكثر المسائل حساسية اذ تنادي كثير من الاصوات الجهوية بطرد هذه القبائل من المنطقة ، ومن ثم يصبح الانتباه لما اثارته سياسات النظام في هذا الصدد ومحاولة ترميم النسيج الاجتماعي للمنطقة من التحديات الأساسية لمرحلة السلام.

واقع التخلف والفقر
على الرغم من الإمكانيات الاقتصادية الهائلة التي تتمتع بها منطقة النيل الأزرق في المجالات الزراعية والتعدين والثروة الحيوانية والغابية والسمكية ، ووجود احد اكبر موارد الطاقة في البلاد ممثلا في خزان الروصيرص بها ، وتميزها بالنشاط التجاري الفاعل خصوصا عبر تجارة الحدود مع أثيوبيا ، إلا أن المنطقة تعد بشكل عام من مناطق التخلف في البلاد إذ يعاني غالبية السكان من الفقر ويعتمدون على أنماط اقتصادية غاية التخلف تشكل الزراعة بالوسائل البدائية عمادها الأساسي ، كما أن الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وتوفر مياه الشرب والكهرباء في غاية المحدودية وتكاد تنحصر في عاصمة الولاية الدمازين ومدينة الروصيرص ، و لا توجد طرق معبدة إلا في داخل مدينة الدمازين وكلها تحتاج لإعادة التأهيل.
ويعد وجود برامج علمية وعملية للقضاء على الفقر والبطالة والنهوض بالمنطقة تنمويا في إطار زمني محدد أهم التحديات التي تواجه مرحلة السلام.

ضعف البنية السياسية في المنطقة
ينص بروتوكول مشاكوس على اقتسام السلطة في المنطقة بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بنسبة 55% و45% على التوالي خلال الثلاث سنوات قبل الانتخابات. وحرمت هذه الصيغة القوى السياسية الشمالية والجنوبية الأخرى من أي نصيب علما بان هذه المنطقة تعد من مناطق النفوذ التقليدي لحزبي الاتحادي الديمقراطي والأمة، كما أن هناك وجود مؤثر لتنظيمات مناطقية مثل اتحاد عام شمال وجنوب النيل الأزرق المكون من قبل النخب المثقفة من أبناء المنطقة واغلبهم يعمل خارج المنطقة الان ، كما لا يمكن إغفال تأثير المجموعات التي ارتبطت بعمل قوى المعارضة المسلحة في المنطقة خصوصا المجموعات ذات الصلة بقوات التحالف السودانية التي كانت تسيطر على جزء من المنطقة الجنوبية الشرقية للولاية (منطقة الكدالو).
وحيث أن الإطراف السياسية الأساسية المعنية بتطبيق بنود البروتوكول الخاص بالمنطقة هي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ، يكون من الضروري النظر في مدى قدرتهم على لعب الأدوار المنوطة بهم في مرحلة ما بعد السلام.

حزب المؤتمر الوطني

تشكل حزب المؤتمر الوطني في ولاية النيل الأزرق ، شأنه شأن بقية فروع هذا الحزب في أنحاء البلاد ، من كوادر الجبهة الإسلامية والعناصر المتحالفة معها حول مشروعها الحضاري ، وحشد من العناصر الانتهازية والانتفاعية. ونجح المؤتمر الوطني في دغدغة المشاعر القبلية والجهوية لبعض المجموعات ومن ثم استقطاب كثير من القيادات القبلية التقليدية لصفوفه والتي انتمت بدافع البحث عن تحقيق مصالح القبيلة أحيانا ، والمصالح الذاتية في أغلب الاحيان. وتوسعت عضوية الحزب في المنطقة كثيرا في بداية التسعينات خلال ما عرف بمرحلة تطبيق الدعوة الشاملة والتي شكلت البرنامج العملي للمشروع الحضاري الإسلامي المستهدف أسلمة المنطقة وفقا لتصورات الجبهة الإسلامية. ولم يكن تضخم العضوية ناتجا عن نجاح مشروع الحكومة الحضاري ، أو قدرتها على تلبية طموحات وتطلعات جماهير المنطقة بل كان السعي للحصول على المكاسب المادية والأموال التي بذرت بسخاء خلال تلك الفترة ووزعت دون رقيب أو حسيب هو الحافز الرئيسي ، حيث اعتبر الارتباط بالمؤتمر الوطني أقصر الطرق للثراء ، كما شكل الحصول على المناصب والاستفادة من آليات السلطة المطلقة والمنفلتة من كل قيد قانوني أو أخلاقي مصدر جذب لآخرين. وكان التعيين في المناصب العامة يتم دون أدنى اهتمام بمعايير الكفاءة والتأهيل بل كان الولاء السياسي والانتماء الحزبي هو المعيار الأساسي بالإضافة للتزكية من أهل الحل والعقد في النظام.
ونسبة لهذا التضخم والترهل كان لابد أن تختل التركيبة التنظيمية النقية للحزب الحاكم ، وتضيع الكوادر الأساسية للحركة الاسلامية الحاكمة وسط طوفان المنتفعين والانتهازيين وأصحاب المصالح البعيدة كل البعد عن مشروع الجبهة الإسلامية الفكري والسياسي ، ودعوته الشاملة ومشروعه الحضاري ، بل بعضهم بعيد حتى عن تعاليم الإسلام الاساسية نفسها ، بل كان مؤهلهم الوحيد إجادة ترديد شعارات النظام والتزي بالزى الرسمي لكادر المؤتمر سواء كان الجلابية والشال المميز أو البدلة الأفريقية. وانتهى الأمر باحتلال العناصر الوافدة تنظيم المؤتمر الوطني في المنطقة تماما ، وإقصائها لمعظم كوادر الحركة الاسلامية الاصلية ، ومن ثم قامت بنقل كافة صراعاتها الشخصية ، والقبلية والجهوية وتناقضاتها المختلفة إليه.
وعند حدوث الانقسام بين الشعبي والوطني كانت الفرصة سانحة أمام الوافدين لطرد الكوادر الأساسية المنظمة من الجبهة الإسلامية والتي شكلت الرابط التنظيمي مع مركزية الحركة الإسلامية ممثلة في د. الترابي حتى أن بعض الكوادر لم يتح لها فرصة تحديد موقفها من الانقسام إذ دمغت على الفور بانتمائها للشعبي ومن ثم دفعت دفعا للخروج والانزواء ثم التعرض للمطاردات الامنية ، وكان على راس الخارجين أبو مدين الوالي السابق ونائب دائرة الكرمك عن الجبهة الاسلامية. وتحول الحزب بعدها إلى تنظيم محض للسلطة بلا برنامج ولا مشروع و لا أفكار بل مسرحا للصراعات الشخصية ، والجهوية والقبلية ومحلا للمؤامرات والدسائس بين العضوية تقربا من مركزية السلطة ممثلة في أمانة التنظيم بقيادة د.نافع. وعليه يمكن القول بأن تركيبة حزب المؤتمر الوطني في الولاية بشكلها الراهن تشكل خطرا كبيرا على إتفاقية السلام ، خصوصا إذا واصلت قيادته نهجها السابق في توزيع المقاعد المخصصة لها في البروتوكول وفقا للمعايير التي ثبت فشلها في الماضي وخطرها ليس فقط على المنطقة بل على الوطن كله ، وإذا ظل برنامج المؤتمر الوطني يقوم على الدعوة للاصطفاف العرقي حوله مستهدفا القبائل الوافدة للمنطقة من ما يسمى بالجلابة والغرابة والفلاته في مواجهة ما يعتبره تمثيل الحركة الشعبية لأبناء الصعيد.


الحركة الشعبية
على الرغم من تواجد الحركة الشعبية العسكري في منطقة النيل الأزرق منذ العام 1986، إلا أنها لم تتمكن من بناء قاعدة شعبية صلبة في المنطقة. وكانت تجربتها العسكرية في السيطرة على منطقتي الكرمك وقيسان شديدة القسوة على مواطني تلك المنطقة حيث لم يسبق العمليات العسكرية أي نشاط تعبوي سياسي لتهيئة المنطقة لهذه العمليات والتي كانت بصمات الحكومة الإثيوبية السابقة واضحة فيها ، مما دفع كثير من المواطنين للهرب من المنطقة والنزوح نحو الدمازين والروصيرص حيث توجد أحياء كاملة لمواطني هذه المنطقة في تلك المدن مثل حي القسم في مدينة الدمازين. كما لم تمكن الظروف الأمنية الحركة من بناء عمق تنظيمي لها داخل المنطقة ولم تسعى هي بنفسها لبناء تحالفات جادة مع قوى قد تكون مؤثرة في المنطقة مثل اتحاد شمال وجنوب الفونج أو مجموعات المثقفين من أبناء المنطقة والعاملين منهم خارج المنطقة في العاصمة أو خارج الوطن.
تعتمد الحركة في المنطقة بشكل رئيسي على شخصية ملك عقار الذي ينتمي لقبيلة الانقسنا ، ولم تبرز طيلة الفترة الماضية قيادات مؤثرة بجانب ملك في قيادة الحركة عامة والمنطقة خاصة ، كما تبدو شخصية ملك نفسها مثيرة للجدل بين أبناء المنطقة. ويتوقع أن تكون مناطق نفوذ الحركة ممتدة في المناطق التي سيطرت عليها خلال السنوات الأخيرة مثل الكرمك ومناطق البونج ومناطق الضفة الشرقية لمدخل النيل الأزرق (فازوغلي) ، كما يتوقع أن تكون لديها قيادات مؤثرة من أبناء قبائل الاودوك والمابان. ويتوقع أيضا أن تتعرض الحركة لمنافسة ضارية من قبل القيادات التي نجحت الحكومة في استقطابها من أبناء المنطقة مثل فرح عقار والعمدة أبوشوتال بالإضافة للكوادر النشطة في القوى السياسية الأخرى من أبناء المنطقة.
وحيث أن فترة سيطرة الحركة الشعبية على بعض مناطق النيل الأزرق قد استمرت لفترة طويلة فمن المتوقع أن تترك تجربتها مع مواطني تلك المناطق أثرا هاما في قبول أو عدم قبول قيادات الحركة شعبيا في تلك المنطقة وذلك من حيث نجاحها في معاملة المواطنين بشكل طيب وتقديم نموذج ايجابي في تجربة الحكم والإدارة.
وتبدو التحديات أمام الحركة الشعبية كبيرة في منطقة النيل الأزرق كبيرة للغاية فهي تحتاج لقدرات هائلة لتلبية متطلبات اتفاقية السلام من حيث الكادر المؤهل لتغطية النسب المقررة لها في الأجهزة التنفيذية والتشريعية المركزية والولائية بالإضافة لاحتياجها لكادر من المنطقة للعمل على بناء وقيادة حزبها في المنطقة بعد أن ينفصل تنظيمها في المنطقة عن مركزية الحركة التي سوف تكون بالضرورة مشغولة كثيرا بتحديات السلام الجسيمة في جنوب البلاد، ومن ثم تكون هناك تساؤلات وشكوك حول قدرة الحركة الشعبية قطاع النيل الأزرق بشكلها الراهن على مواجهة تحديات السلام المتوقعة.

وفقا للمعطيات الواردة أعلاه يكون من الضروري السعي الجاد من أجل بلورة موقف موحد لابناء المنطقة تجاه التحديات التي تواجه تنفيذ اتفاقية السلام في المنطقة ، وتشكيل مجموعات ضغط لانجاح الاتفاقية الخاصة بالمنطقة وتحقيقها لاهدافها الرامية للنهوض بالمنطقة وتعزيز السلام والتعايش السلمي بين المجموعات القاطنة في المنطقة وكفالة الحقوق الاساسية والحريات العامة وارساء قواعد الحكم الرشيد.


للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved