هل يصلح دكتور غازي ما أفسدته الانقاذ خلال 16 عاما ؟
صراع المركز والهامش، والتهميش الثقافي مدخلاً للتهميش التنموي
بعد أن أنقلب السحر علي الساحر، هل تستمر هذه المسرحية ؟
الحلقة الثالثة
محمد الزين محمد محامي مقيم في النرويج وباحث في العلاقات الدولية جامعة لندن
أورد الدكتور غازي صلاح الدين في مقاله دارفور في مفترق الأفاق ، أن هناك مشكل في التعاطي مع أزمة دارفور وحددها بست مشاكل، أوردنا في الحلقة الماضية ثلاثة منها وهذا المقال معني بالمشكلة الرابعة مشكلة مشروعية (مشروعية دولية وانتقائية للواقع السوداني).
مشكلة المشروعية
يقول د.غازي: أن هنالك مشكلة مشروعية. إن أسوأ ما في مشروع القرار الدولي المعروض الآن أمام مجلس الأمن ليس هو العقوبات كما يتبادر إلى الذهن. أسوأ ما فيه هو تكريس صورة انتقائية للواقع السوداني تقسم المجتمع إلى عرب وغير عرب. ثم ترمي الثقافة العربية بالهمجية العدوانية، ثم تقرر أن الحكومة هي راعية ذلك العدوان. وتزيد بأن تتهم الحكومة بالتقصير في أداء واجباتها الإنسانية تجاه مواطنيها، .......... ولو كنت في موقع الاختيار، لاخترت العقوبات على تلك الفقرات التشخيصية في القرار الأبعد خطراً من العقوبة؛ إنها حيثيات القاضي التي يبني عليها حكمه ويضع بها الأساس الشرعي والقانوني للعقوبة. والذي يقوله القرار ويهدف إليه في المحصلة النهائية هو أن الحكومة لا تملك المشروعية ولا الأهلية لكي تحكم، وأن ذلك مبرر كاف لتنحيها واستبدالها.
ظلت الانقاذ تردد بانها صاحبت المشروعية حينما أطاحت بالشرعية الدستورية وقوضت الشرعية الدستورية في الثلاثين من يونيو 1989م.ونفت الاخر وأقصت من يخالفها في الرأي وأنكرت الحزبية بدعاوي من تحزب خان والتمثيل تدجيل، وبالصمود الفكري لابناء السودان، وعمق جذور الحرية في وجدان أهل السودان، تراجعت شعارات الانقاذ وحدث الضمور والاضمحلال للبرنامج الحضاري ، فعادت الحياة الحزبية بإستنساخ وبالتوالي، ومن ثم إنفتحت وإنفرجت الحياة السياسية بفضل الضربات المتلاحقة من المعارضة الوطنية وبروز أنياب عالمية ظنتها سلطة الانقاذ بانها إبتسامات عريضة ولكنها مخططات عريضة لابتلاع السودان ، ولولا كثرة المستفيدين حول الانقاذ لقتلت نفسها قبل وصول العلوج.
الفرق بين الشرعية والمشروعية
تبدو فكرة الشرعية من أهم الأفكار والمفاهيم داخل المنظومة الفكرية ذات التأثير في الحياة الثقافية والفكرية وكذلك السياسية، خاصة أن مفهوم الشرعية برز كترجمة لكلمة Legitimacy، وبرز في الاستخدام العربي كصفة للأفعال والأمور مثل السياسة الشرعية، والمقاصد الشرعية وغيرهما. وتُعرِّف الموسوعة الدولية الاجتماعية مفهوم الشرعية بأنه "الأسس التي تعتمد عليها الهيئة الحاكمة في ممارستها للسلطة. وتقوم على حق الحكومة في ممارسة السلطة وتقبُّل المحكومين لهذا الحق". ويجب التفرقة بين مفهوم الشرعية "Legitimacy" الذي يدور حول فكرة الطاعة السياسية، أي حول الأسس التي على أساسها يتقبل أفراد المجتمع النظام السياسي ويخضعون له طواعية، ومفهوم المشروعية " legality " بمعنى خضوع نشاط السلطات الإدارية ونشاط المواطنين للقانون الوضعي. أي أن الشرعية مفهوم سياسي بينما المشروعية مفهوم قانوني. الأصل اللاتيني لكلمة " Legitimacy " هو "Legitimus" واستخدمه الرومان بمعنى التطابق مع القانون، ولقد أصبح خلال عصر النهضة يعبر عن العقل الخلاق والوعي الجماعي .
وتأسيسا لما سبق، ولابراز صورة واضحة للقارئ الكريم بعد ما قدم الدكتور صورة ضبابية مستعطفا القارئ مستجديا الاخرين لمواجهة النتائج التي فرضتها الانقاذ علي نفسها (بعمايلها)، نقول: نعم، العقوبات الدولية سيئة علي الشعب السوداني، ضغوط إقتصادية تؤثر علي البسطاء وهم الغالبة ولا تؤثر علي أهل الانقاذ وهم قلة، هل من ذلك شك يا دكتور؟ ولكن لا مناص من عقوبة من أرتكب الجرائم ضد الانسانية، وكل من أرتكب جريمة منذ يونيو1989م وحتي الان جريمة مرتبطة بالحق الخاص أم الحق العام ، أم العفو يادكتور؟ ولماذا؟.
نعم، الانقاذ هي التي كرست الصورة الانتقائية للواقع السوداني، عرب وغير عرب، حر وعبد وغرابي ونص مكنة!! ، قادة الانقاذ هم الصحابة دعاة الشريعة المجاهدين الاتقياء و الاخرين هم زنادقة و علمانيين وطابور خامس!!! لماذا هذه التفرقة يا دكتور، الاسلام رحمة للعالمين، الاسلام وحد بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي، ومشروع الانقاذ الحضاري فرق النوبي والجعلي والشايقي والبجاوي والدينكاوي والنويراوي والفوراوي والزغاوي، بدلا من سودان موحد ، أصبحت إحتمالات التجزئية والتقسيم في ظل الانقاذ، لماذا يا دكتور؟ أليس بسبب حب الدنيا وكراهية الموت؟!
الصراع بين المركز السلطوي الغير عرقي أو جغرافي، والهامش السلطوي الغير عرقي أو جغرافي
وهنا نود الاشارة الي أمر فكري لم يهتم به الدكتور غازي وهو يتناول المشكلة ولو أنها بسبب الاسلام والثقافة العربية، وكان الاحري بالدكتور التطرق لعلاقة المركز والهامش، حيث أن المركز سلطوي، وليس عرقي أو جغرافي، والهامش أيضا ليس هامشا عرقيا أو جغرافيا بل هو هامش سلطوي. لقد كان التهميش الثقافي مدخلاً للتهميش التنموي، إذ جعلت الانقاذ ومشروعها الحضاري مؤسسة الدولة الاستعراب مقابلاً للأفرقة، ومن ثمّ قامت بإعلاء الهوية العربية وإزدراء الهوية الأفريقية. وبهذا تحددت الطبيعة الأيديولوجية للدولة السادسة كما يزعم مفكرو الانقاذ حيث قامت على الأسلمة والاستعراب بوصفها وعياً اجتماعياً ـ ثقافياً ( أي أيديولوجياً)، إذا قسناه بمعايير و مقايس الإسلام والعروبة، فهو ليس إسلامياً وليس عروبيا بل هو قناعاً لتسويغ القهر والاضطهاد الثقافي والعرقي ،وطريقا واضحا للطامحين بالسلطة تحت شعارات: الأسلمة والاستعراب. وهكذا تكوّن المركز من جماعات متباينة الأعراق والثقافات، متفقة في الأهداف المتمثّلة في الثروة والسلطة. حيث لا يهمّ من أي مجموعة ثقافية أو عرقية كانت جذورك، طالما كنت من كوادر الجبهة الاسلامية، ويمكن أن تفعل كل شئ تحت شعار الإسلام أو العروبة. ونلاحظ أن أغلب قيادات الانقاذ من أبناء المجموعات المهمشة، ولكنهم ضحوا بأهلهم وزادوهم أكثر تهميشا ثقافياً وعرقياً، وقسموا السودانيين إلى مجموعات خطية متقابلة: الأفارقة السود العبيد مقابل العرب الشرفاء؛ ثم العرب نفسهم يتم تقسيمهم إلى عدة مجموعات متقابلة، مثل الأشراف و أبناء القبائل العاربة مقابل العرب من البدو. هذه التقسيمات الخطية القائمة على العرق تقابلها تقسيمات أخرى قائمة على الجغرافيا بتحميلات عرقية لا تخفى: الشمال (عربي، مسلم) ضد الجنوب (أفريقي، مسيحي)، أولاد الغرب (الغرّابة أي الغرباء) ضد أولاد البحر (أولاد البلد، أي أولاد العرب. إن غرض الانقاذ من هذه التقسيمات هو تحييد أكبر قدر من المجموعات المهمّشة، ريثما يتمكن المركز من احتواء مجموعات بعينها تشكّل تهديداً مباشراً. لقد استمرت هذه العملية حتى وصلت في النهاية حد التمييز العنصري والاضطهاد وإرتكاب الجرائم ضد الانسانية. ونخلص الي نتيجة أن الاسلام والثقافة العربية برئ براءة الذئب من دم يوسف، وحكومة الانقاذ ومشروعها الحضاري مفارق لروح ومقاصد الشريعة الاسلامية، ودوننا سجل الانقاذ الاسود خلال ال16 عام الماضية.
وأني أتفق مع المحصلة الاخيرة في فقرة الدكتور غازي وهي أن الحكومة لا تملك المشروعية ولا الأهلية لكي تحكم، وأن ذلك مبرر كاف لتنحيها واستبدالها.
يا أهل السودان تعالوا لكلمة سواء
و نسبة لأخطاء الانقاذ الجسيمة، يعتقد البعض بحسن نية أن الإسلام لا يصلح كمنهج حكم وحياة وأنه خطرا علي الوحدة الوطنية وقيم العدل والمساواة والحرية ، يقول - سبحانه وتعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إنما أنا رحمة مهداه" وهذا الدين كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "بعثت بحنيفية سمحة" فالإسلام ليس خطراً إلا على الإلحاد، والإباحية والفساد، فالإسلام ليس خطراً إلا علي الطغيان والاستبداد، و ليس خطراً على القيم ولا على الحياة الطيبة. وكما قال الله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ).
فغالبية أعضاء الجبهة الاسلامية القومية، يظنون بأن كل واحد منهم أفضل من الاخرين خارج الجبهة، هذه الحزبية تجعل الإنسان ينغلق على نفسه، وإن كان الكثيرون من أهل السودان العاديين من هم أفضل منهم علما شرعيا وسلوكا قويما وحسا وطنيا. كما كان يأمل البعض في أن لا يكرس قادة الانقاذ هذه التفرقة وإنما يساعدوا على جمع أهل السودان علي كلمة سواء ، فخذل قادة الانقاذ هؤلاء الناس ، بل وبطشوا بهم وأدخلوهم السجون وقتل بعضهم . بلإضافة لتجربة نظام مايو التي شوهت الاسلام وأذلت الشعب وسقط نظام مايو غير مأسوف عليه، وأعادت الانقاذ السفاح نميري رغم أنف الشعب الصابر، وهو أستفزاز له مضمون واحد: (البلد بلدنا ونحن أسيادها ، وعائد عائد يانميري).
فبعد أن أنقلب السحر علي الساحر، هل تستمر هذه المسرحية بنصها وسيناريوها وأبطالها، أم يسترد الشعب حريته في ثورة وردية أو برتقالية أو بنفسجية؟ ويخرج الشعب في هتافات:
الشعب إرتاح يا سفاح، جهاز الامن جهاز فاشستي، مليون شهيد لعهد جديد، ويا سودان ثور ثور ضد الحكم الديكتاتور، بدلا من يا خرطوم ثوري ثوري ضد الحكم الديكتاتوري، فالثورة الان ثورة المهمشين في كل السودان ضد المركز السلطوي.
ولنا عودة في الحلقة الرابعة إن شاء الله
24 مارس 2005م