ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة عامان
اللاتسامح في عهد عبود أفرز دعوات الانفصال !بقلم أبو بكر القاضي
سودانيزاونلاين.كوم sudaneseonline.com 3/23 8:50ص
أبو بكر القاضي - اللاتسامح في عهد عبود أفرز دعوات الانفصال ! الفرضية التي اريد اثباتها هي ان النخبة النيلية الحاكمة في الخرطوم خلال فترة الخمسين السنة الماضية منذ الاستقلال، كلها كانت ترى ان الوسيلة الوحيدة لبقاء الجنوب موحدا ضمن كيان السودان الواحد هي ان يتحول الجنوبيون الى مسلمين وان يتحدثوا باللغة العربية، وهي السياسة التي اصبحت تعرف بـ (الاسلمة والتعريب). وانا حين اناقش هذه الفرضية ليس غائبا عن ذهني على الاطلاق ان مشكلة الجنوب هي قضية تهميش اقتصادي، وسياسي. وتبرز اهمية التهميش الثقافي في علاقة الجنوب بالشمال في انها كانت اول قضية تم بحثها والاتفاق عليها في مشاكوس تحت بند علاقة الدين بالدولة حيث ضمنت الحركة الشعبية بهذه الاتفاقية عدم تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية في الجنوب وبذلك تم قفل الباب امام استخدام الدين الاسلامي كاداة لقهر الجنوبيين بأي شكل من الاشكال، وذلك دون المساس بحق الدعوة والتبشير بالتي هي احسن. بعد هذا الاستطراد اعود الى فرضيتي، وهي مسألة (اللاتسامح) وسياسة ابناء النخبة النيلية الحاكمة في الخرطوم التي ترفض ذهنيتها فكرة (الوحدة مع التنوع)، وتحديدا ترى ان الاسلمة والتعريب هما الوسيلة الوحيدة لخلق امة سودانية متوحدة ومتجانسة فكريا وثقافيا ! أدعو المسرح السوداني، والعالمي لمناقشة التعصب وفضح ممارسات الحكومات المركزية (عفا الله عما سلف)، ولنبدأ خلال فترة ستة اشهر في بناء السودان ولنعمل من اجل تحقيق الوحدة الطوعية، هذه هي الرسالة التي بثتها الحكومة والحركة الشعبية في 9 يناير 2005 في نيروبي امام المجتمع الدولي عند توقيع اتفاقية السلام. ان (العفو) شيء جميل لأنه تسامح وأول خطوة لقبول الآخر، ولكن هذا العفو الجنائي لا يمنع من المحاكمات الادبية والفكرية والفنية، للكشف عن مساوئ ومآسي وآثار الحرب، والعودة الى مناقشة اسباب الحرب حتى لا تتكرر هذه المأساة. بالرغم من ان قضية الرق بكل ابعادها الاقتصادية وافرازاتها من تفرقة عنصرية قد انتهت (شكلا) بالقانون في الولايات المتحدة، الا انها ما زالت باقية في العقول واعني هنا الطرفين، حيث لم يصدق العبيد انهم تحرروا، ولن يصدق البيض ان عبيدهم قد خرجوا من تحت ايديهم، لذلك فان كتاب (الجذور) لكاتبه أليكس هيلي والذي تناول فيه اللاتسامح، والعنصرية في ابغض اشكالها، وهي تجارة الرقيق باستجلاب الزنوج السود من افريقيا الى مزارع القطن بالولايات المتحدة. ويتعرض هذا الزنجي الى نوع آخر من اللاتسامح هو حمله على تغيير دينه ! فقد توصل الكاتب بعد بحث مضن لمدة اثنتي عشرة سنة عن جذور عائلته، الى ان اسلافه كانوا مسلمين، ونسبه لأن العبد مفقود لذاته، مملوك لسيده، والناس على دين ملوكهم، ومن باب اولى على دين اسيادهم، تحول العبيد ــ كرها وقهرا ــ الى دين اسيادهم. المسلسل التليفزيوني الجذور الذي استند الى فكرة كتاب الجذور كان وما زال عملا ادبيا خالدا، وهو عمل ادبي وفني اصيل لأنه يكافح العنصرية والتعصب ــ اللاتسامح، ثقافة السلام تقوم على كشف المسكوت عنه، ونقده، والاعتراف به والاعتذار عنه. لهذا السبب فان كتاب الاستاذ محمد ابراهيم نقد ــ الرق في السودان ــ يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح نحو الحديث في المسكوت عنه. اخلص في هذه النقطة الى الدعوة للكتاب والمسرحيين والفنانين الى فضح الممارسات الخاطئة حتى لا تنتقل امراض الكبار الى الاجيال الجديدة فيتحول السلام الى مجرد هدنة، لذلك نبث ثقافة التسامح. اللاتسامح في عهد نظام 17 نوفمبر ــ عهد عبود عن سياسة نظام عبود (1958-1964) يقول د.عبداللطيف البوني في كتابه (البعد الديني لقضية جنوب السودان) ص25: وفيما يختص بالجنوب لم تأت الحكومة بأفكار خاصة، بل تبنت افكار وسياسات الحكومة الوطنية التي سبقتها، تلك المتلخصة في ازالة الفوارق الثقافية بين الشمال والجنوب عبر نشر الاسلام واللغة العربية هناك. ومن هذا المبدأ انطلقت الحكومة العسكرية في اسلمة الجنوب مستخدمة كل عنف العسكرتاريا في التعامل مع القضايا المستفحلة. وكان التنفيذ عندئذ يحمل وجهين: الاول يتجسد في اسلمة وتعريب الجنوب على نحو سريع، اما الوجه الثاني، فتمثل في عرقلة ومنع نشاط الارساليات. وقد بدأت الحكومة نشاطها بميدان التعليم ــ على اعتبار انه مجال التثقيف النظامي الذي كانت تستأثر به الارساليات، فعملت على نشر اللغة العربية في الجنوب وجعلها لغة التخاطب، وأرسلت الخبراء لتنفيذ هذا التوجه. اكد مولانا ابيل الير في الفصل الثاني من كتابه (جنوب السودان ــ التمادي في نقض المواثيق والعهود) ترجمه بشير محمد سعيد، ذات المعاني ــ المؤسفة ــ التي اشار اليها الاستاذ البوني في المقتطف آنف الذكر، وقال بالحرف في هذا الخصوص: كانت الحكومة العسكرية في غمرة حماستها لخلق سودان موحد قد شجعت انتشار الدعوة الاسلامية في الجنوب، واستبدلت اللهجات المحلية واللغة الانجليزية بالعربية وسيلة للتعليم، وجعلتها ايضا لغة التخاطب والمراسلات في المكاتب الحكومية، مما ادى الى اعفاء الموظفين الجنوبيين الذين يجهلونها، وسارت قدما فحرمت التبشير المسيحي الا باذن صادر عنها وفق منطوق قانون الجمعيات الكنسية الذي اصدرته في عام 1962. وفي فبراير من عام 1964 ابعدت نحوا من ثلاثمائة مبشر مسيحي، وجعلت الجمعة عطلة اسبوعية في الجنوب بدلا عن الاحد. وقامت هناك كثير من المساجد والمعاهد الدينية الاسلامية. ولم تكتف بهذا، بل مارست ضغطا على السلاطين والمتعلمين في الجنوب ليعتنقوا الاسلام دينا لهم، ونقلت الموظفين والمعلمين الجنوبيين بصورة جماعية الى الشمال، لانهم عندها يشكلون خطرا على الامن، وقللت من تجنيد ابناء الجنوب في قوات الشرطة والسجون. وملأت الوظائف الشاغرة في اجهزة الامن بمواطنين من الشمال. اذا كانت هذه هي افعال حكومة 17 نوفمبر ــ نظام عبود، فما هي ردة الفعل لدى شعب جنوب السودان؟ يجيب عن هذا السؤال د.البوني ايضا في كتابه آنف الذكر بالقول: ثم ظهرت في تلك الاثناء منظمة الانانيا على مسرح الاحداث منادية بالحل العسكري على اعتبار انه (قد صبرنا واقتنعنا بأن استخدام العنف والقوة سيؤدي الى الوصول الى قرار حاسم في الامر. اننا عقدنا العزم ان نشرع في ذلك فورا). ولقد كانت تلك الظروف سانحة امام الكنيسة ان تنتهزها على الفور، فاحتضنت قادة التمرد ومنحتهم الدعم المالي والادبي.. وقد نجحت الكنيسة في تدويل مسألة الجنوب.. وللكنيسة ــ بذلك ــ يرجع الفضل في مد الجنوبيين بالمبادئ والقيم التي استطاعوا بها تجاوز القبيلة ومقاومة الشمال، اي انها اعطتهم الايديولوجية العدائية في مواجهة سياسات الحكومة الرامية للاسلمة. وقد جاء في مذكرة حزب سانو لمؤتمر القمة الافريقية في اديس ابابا (مارس 1963) «انهم ليسوا ضد الاسلام كدين، اذ يوجد بين المقاتلين مسلمون، ولكنهم ضد الدين الذي يتخذ وسيلة لاغراض سياسية واقتصادية». فشل سياسات الأسلمة والتعريب ! 1- عودة الى ذي بدء، الى الفرضية المراد اثباتها وهي ان سياسة (الاسلمة والتعريب) لدى النخبة النيلية الحاكمة في الخرطوم هي عقلية جمعية مركزية ليست مقتصرة على الاسلاميين. وانا هنا لست بصدد الدفاع عن الحركة الاسلامية السودانية، وانما بصدد تشخيص الحالة حتى لا تخطئ، وأكبر دليل على ذلك هو ان سياسة الاسلمة والتعريب قد جرى تخطيطها وتنفيذها منذ اول حكومة وطنية (1956-1958)، وقد اعلنت حكومة عبود بكل امانة انها نفذت سياسة الاسلمة والتعريب نقلا حرفيا لخطة جاهزة وضعتها الحكومة الديمقراطية المنتخبة في الديمقراطية الاولى. وأكبر دليل لما ذهبنا اليه اعلاه هو ان الذين قاموا بسياسة الاسلمة والتعريب انما انطلقوا من منظور وطني، وفي هذا الخصوص يقول د.البوني بذات المرجع: ولم تكن الحرب الاهلية وحدها سبب فشل سياسة نظام عبود، بل كان هناك ضعف ذاتي في السياسة نفسها. فعلى سبيل المثال كان هدف الاداريين الذين أوكل اليهم تنفيذ تلك السياسة.. هدفا وطنيا عاما، ولم يكن مبتغاهم تحديدا، نشر الاسلام كعقيدة الامر الذي كان يحتم عليهم اتخاذ وسائل دينية بينما كانت وسيلتهم آلة الدولة. وزيادة على ذلك كان ينقص نظام التعليم الديني المنهج الواضح، والمعلم المؤهل، فالمعاهد الدينية التي اعتمدت عليها الحكومة كانت حتى في الشمال المسلم لا يؤبه لها كثيرا، اذ كان اتجاه الناس منصرفا نحو التعليم الاكاديمي الحديث، لأن خريج المعهد، عهد ذاك كان مجهول المصير. 2- سياسة الاسلمة والتعريب قهرا هي في المقام الاول تخالف قيم الاسلام (لا اكراه في الدين)، فضلا عن انها سياسة ــ لا تسامح ــ لا يمكن ان تكون ثمرتها شيئا غير العنف المضاد، وهذا ما حدث بالضبط، حيث افرزت هذه السياسة التمرد المسلح وتوحيد الجنوبيين على اساس كراهية الشمال دفاعا عن هويتهم الثقافية، بل امتد الكره ليشمل العالم العربي كله، وتحديدا مصر وليبيا. 3- بقراءة جميع الدساتير السودانية او مسودات الدساتير التي لم تر النور، نجد ان مواقف الجنوبيين ارتبطت بردة فعلهم من التجارب المريرة التي عاشوها تحت سياسات الاسلمة والتعريب في عهد نظام عبود. وتحديدا حين يصر الجنوبيون على الفيدرالية التي قفزت الى تقرير المصير، او حين يرفض الجنوبيون الدستور الاسلامي بل والعملة الاسلامية ــ الدينار ــ ومن باب الاحتياط يصرون على النص على الدين المسيحي في الدستور، وحين يرفضون اللغة العربية من حيث المبدأ في الجنوب، ويصرون على النص على اللغة الانجليزية، انما ينطلقون في كل ذلك من ردة الفعل ضد سياسة (الاسلمة والتعريب) قهرا. 4- يتضح من كل ما تقدم ان سياسة الاسلمة والتعريب التي وضعتها اول حكومة وطنية وسارت عليها كل الحكومات اللاحقة ــ عسكرية او مدنية ــ هي التي قادت السودان الى هذا الدرك الذي وصلنا اليه، لانها تعني ببساطة ان الشمال ليس على استعداد لقبول الجنوب (كما هو)، لذلك قرر ان يضع الجنوب في قالب الشمال، وذلك (بالقائه) عن طريق الاسلمة والتعريب، لذلك اتجه الجنوب نحو الانفصال. اذن ان الامل في الوحدة الطوعية يقوم على تغيير العقلية القديمة واستبدالها بعقلية جديدة اساسها التسامح وقبول الآخر كما هو. وللحديث بقية.