الحركة الشعبية.. «تسلق الجبال» أم "الزحف ارضا"
التحدي الذي سيواجهه.. كيف بمقدور العقيد جون قرنق ان ينتقل بمجمل علاقاته وصلاته المتداخلة والمتعارضة احياناً.. ان ينتقل بهذه العلاقات من مربع حلفاء العمل المعارض الى شركاء في مربع الحكم، او الى مناصرين على حد متوسط، او محايدين في الحد الادنى؟
مساعي الاسقاط
منطق السياسة يقول عادة ما تتسع ساحة التحالفات المعارضة وتتمدد على قدر فاعلية وحيوية مركز الفعل المعارض.. فالهدف عادة ما يكون واحداً وهو اسقاط النظام القائم ان كان ذلك الاسقاط عبر عمل عسكري مفاجئ او عبر فعل ديمقراطي مباشر.. فالمهمة واضحة والهدف محدد وكل ما تكاثر عدد المشاركين كان ذلك ادعى لسلامة انجاز المهمة بالقوة المطلوبة وفي الزمن الاقل.
ولان الحركة الشعبية هي مركز العمل المعارض لكل حكومات الخرطوم منذ 1983، لذا تجمعت في يديها خيوط عديدة.. كان العقيد الدكتور جون قرنق دمبيور يدير تلك الخيوط بمهارة بهلوانية فائقة تضعه في مصاف امهر لاعبي السيرك السياسي.. واصبح قرنق دوماً قاسماً مشتركاً بين نقائض القوى السياسية في اليسار واليمين فهو حليف تاريخي للحزب الشيوعي السوداني وصديق مؤقت للمؤتمر الشعبي الاسلامي وشريك قادم للمؤتمر الوطني الحاكم.. وهو مطرب مفضل لمجموعات الخطاب الافريقاني.. وحليف ودود للاسود الحرة الموغلة في العروبة الى حد «قفا نبكي» و «هل غادر الشعراء»..
والحركة الشعبية وهي تنتقل من حركة مقاتلة الى حزب شريك في الحكم.. ومن موقد للحرائق بجهد قد لا يتعدى اشعال ثقاب الى قوات مطافئ.. بالمنطق والعقل لن تستطيع ان تحتفظ بكل هذه الخيوط في يدها.. فهي ستتحول وبشكل دينميكي من مُطَالِبة الى مطاَلبة.. ومن طارحة للاسئلة الى ملزمة بتوفير الاجابات.. فهامش المعارضة يتسع للجميع ولكن اوعية الحكم والسلطة تضيق على الاحباء والاصدقاء وعلى الاخوة كذلك.. كلٌ يريد ان يمد رجليه على ما تسع راحته والمساحة لا تسمح بذلك، فينطلق صراع الاقصاء والاقصاء المضاد حتى ينكسر الاناء ويندلق ما فيه..!
احتمال وارد
وما يمكن ان يحدث وبشكل آلي.. هو ان يتحول شركاؤها في المعارضة الى خصوم شرسين وهي في الحكم.. بعد صعود مركز جديد للعمل المعارض.. كل هذا لا يغيب على الحركة الشعبية فهي سنن سياسية كثيرة التكرار.. ولكن كيف لها ان تخرج بأقل الخسائر ولا تنقطع الخيوط من يدها.. فيفقدها ذلك حيوية المناورة وابداعية المغامرة؟
قد لا توجد روشتة وصفية تتيح للحركة الشعبية الخروج السالم من مأزقها القادم.. كما ان السياسة السودانية لا تتعامل بالروشتات.. لان عللها المرضية لا تستقر على حال فهي تتعدد في اطوارها وتغير من اشكالها مما يصعب تركيب مضاد حيوي لها..
ففي جنوب السودان ظهر مرض اطلق عليه «طأطأة الرأس» وهو مرض قاتل وغامض يصيب الجهاز العصبي.. قيل ان منظمات الصحة العالمية عندما عجزت عن ايجاد علاج له، قررت الاستعانة بالاطباء الروحانيين التقليديين في الجنوب!!!.
مضطر أخاك
اذن الحركة الشعبية ستضطر غير راغبة الى التخلص من التزاماتها التحالفية السابقة.. او اكثرها او بعضها.. فستكتفي بحلفاء واصدقاء يعينونها على ادارة امرها ولا ينازعونها فيه.. وستسمح للبقية بأن تشرب من البحر الاحمر او من مياه النيل او ان تصوم عن الشراب «هذا شأنها».. فمن الاستحالة بقاء معادلة قرنق متماسكة «أنا شريك للمؤتمر الوطني.. وحليف للتجمع الديمقراطي»..!
هذا جانب .. جانب آخر لا يقل اهمية بل يفوق ما سبق.. وهو ان الحركة الشعبية في ادارتها للجنوب ستجد نفسها في مواجهة ازمتين حقيقيتين.. اتضحت ملامحهما في اجتماع رومبيك الاخير.. وفي اقبالها على الحوار الجنوبي - الجنوبي ففي داخل حركته قرنق مطالب بتحقيق حزمة من الموازنات الدقيقة والبالغة الحساسية وهي:
اولاً: الموازنة القبلية.. كيف يستطيع في داخل قبيلته ان يخرج من ثنائية دينكا بور ودينكا بحر الغزال التي تمايزت على اثرها الصفوف في اجتماع رومبيك الاخير.. وداخل الجنوب عامة. مطالب قرنق بتجاوز صراعات ابيل الير وجوزيف لاقو التاريخية والتي مثلت وعبرت في وقت مضى عن صراع النيليين والاستوائيين.. ويبدو الكيان الجديد الذي اعلن عنه قبل ايام والذي جمع بونا ملوال بجوزيف لاقو.. هو محاولة لربط وتكوين علاقة بين اعداء قرنق داخل قبيلته ومن هم في خارجها.. في وقت لم تهدأ فيه مناكفات القائد سلفاكير الا قليلاً..
ثانياً: قرنق مطالب بخلق معادلة دقيقة، بين كوادره العسكرية الميدانية.. وكوادر العمل السياسي.. فمنذ بداية المفاوضات الاخيرة.. كان واضحاً تراجع الخطاب العسكري بكل كوادره الى الوراء.. وصعود الخطاب السياسي بكوادره التفاوضية.. فالسياسة السودانية عرفت اشكالاً وصوراً شتي للتنازع بين العسكريين والمدنيين داخل الجسم الواحد بعد وصوله للسلطة «الحزب الشيوعي 1971 - الحركة الاسلامية 1999».. وقد يكون موقف سلفاكير الاخير من قرنق نتاج تراجع دوره كعسكري وبالتالي دوره القيادي لصالح المجموعة السياسية المفاوضة التي كان يقودها نيال وليم دينق.. والملاحظ من اجتماع رومبيك الاخير ان اغلب الانتقادات لقرنق جاءت من الضباط الميدانيين.
ثالثاً: هنالك موازنة لاتقل اهمية عن السابقتين.. وهي متعلقة باحتمالات التنازع بين القيادات التقليدية بالجنوب والتي ظلت تتوارث القيادة وادارة المجتمع وفقاً لموروثات قيمية محددة.. والمجموعات الحديثة التي قضت اغلب عمرها وتعليمها في الدول المتقدمة.. والتي سيعول عليها بالدور الاكبر في نقل الجنوب من واقع التخلف الى نمط التحديث على مستوى المفاهيم وادارة الحياة.. فصراع الحداثة والتقليد سيعبر عن نفسه، في اول يوم في ادارة الاقليم الجنوبي.
رابعاً: هنالك الذين يسترون مواقفهم بالصمت الآن.. كأنهم ينتظرون شيئاً ما.. وهم المنشقون السابقون على الحركة الشعبية وفي مقدمتهم دكتور رياك مشار ودكتور لام اكول والذين كانت لهم اوضاع مميزة على المستوى القيادي بالحركة الشعبية قبل انقسامهم في اغسطس 1991.. وعندما عادوا لقرنق وجدوا ان مواقعهم قد شغلت بقيادات جديدة.. فلم يعد بمقدور قرنق ارجاعهم الى مواقعهم القديمة.. كما انه لا يجرؤ على مطالبتهم بالوقوف في الصف في انتظار الفرص القادمة وما يضعف من وضعية هؤلاء حالياً انهم عادوا لقرنق مضطرين وبعد ان افقدتهم الحكومة قياداتهم العسكرية وجنودهم فعادوا لقرنق كافراد فقط..
سلفاكير أهو فاولينو؟
وليس من المستبعد ان يكون السيناريو الذي طبق على رياك مشار.. هو في الطريق لتطبيقه على جون قرنق.. فرياك مشار وبخلفيته المدنية كاستاذ بجامعة الخرطوم.. وضع قواته تحت امرة القائد العسكري فاولينو ماتيب وهو رجل محبوب للجنود بطريقته الشعبية في التعامل معهم.. وعندما حدث خلاف بين القائد السياسي رياك مشار وفاولينو ماتيب القائد العسكري كان الخاسر هو مشار عندما ذهبت اكثر من غالبية القوات الى رجل الميدان فاولينو.. وتركت مشار يتنقل بين العواصم الاوروبية الى ان اختار العودة الى قرنق.
الآن قد يعاد السيناريو وبتفاصيل مقاربة.. جون قرنق وفي اجتماع رومبيك الاخير وضع جيشه تحت تصرف سلفاكير الذي رددت الاخبار انه يرفض الحضور الى الخرطوم ويريد البقاء وسط جنوده في الجنوب.. (فسلفا) ضابط الاستخبارات العسكرية والملتصق بالجنود.. قد يختار المضي في اتجاه نموذج فاولينو ماتيب.. ولكن بالقطع قرنق ليس رياك مشار.. فالرجل عسكري قبل ان يكون اكاديمياً زراعياً وبالطبع سيكون محتفظاً لنفسه بكروت في مواجهة سلفاكير اذا قرر المضي في طريق فاولينو..
ففي اجتماع رومبيك الاخير الذي اشتدت فيه الانتقادات لقرنق،، وبدت كأنها مناصرة لموقف سلفاكير.. رأى قرنق وبذكاء ان يمتص الموقف بهدوء وان يحني رأسه قليلاً حتى تمر العاصفة بسلام.. ثم من بعد ذلك يمكنه ان يرتب اوراقه لمعركة قادمة يحدد توقيتها هو لا غيره!!.
قوارب النجاة
اذن في مواجهة كل ذلك داخل الجنوب ماذا من خيارات امام قرنق لتجاوز تلك التعقيدات؟ قرنق مطالب بانتقالات ثلاثية سريعة ان ينتقل اولاً من قرنق «دينكا بور» الى قرنق «جميع الدينكا».. ومن قرنق «الدينكاوي».. الي قرنق «الجنوبي».. ومن قرنق «الجنوبي» الى قرنق «السوداني» اى ان يصبح «قومياً» دون التباس ولتحقيق ذلك هنالك ثلاثة خيارات امامه يستحيل الجمع بينها وهي:
1/ ان يطور شراكته مع المؤتمر الوطني الى تحالف تنسيقي.. تتبادل فيه المصالح.. بحيث يساعد او يتغاضى كل طرف منهما عن ادارة الاخر لمجاله الحيوي «الشمال والجنوب» وفقاً لما يراه مناسباً.
2/ ان تمضي شراكته مع المؤتمر الوطني الى نهايتها ولكن مع الاعداد للانتخابات وفق تحالف يجمعه مع قوى شمالية مؤثرة جماهيرياً «حزب الامة او الاتحادي الديمقراطي» ويدعم من بعض اطياف اليسار.
3/ ان يطور علاقته مع ما يعرف بقوى الهامش «حركات دارفور والشرق والنيل الازرق وكردفان».. ويسعى لتحويلها لحركات سياسية هدفها ووسيلتها صناديق الاقتراع لا الذخيرة
صعود ام زحف؟
المهم من كل ذلك ان قرنق الذي صرح مراراً ان رياضته المفضلة تسلق الجبال مطالب بأن ينجز هذه القفزات السريعة قبل ان تضعفه الصراعات الجنوبية.. فيتحول من متسلق للجبال الى زاحف سياسي!
<<<<<<<<<<<<<<<
--------------------------------------------------------------------------------