هي صبية كزهرة متفتحة على قطرات الندى الصباحية وقد حباها الخالق بفيض من الجمال يشع نضارة ويخلب لب العابد المتبتل , وعوضها الجمال الباذخ عن رقة الحال التي تعيش فيها في أحد الأحياء الشعبية الموغلة في الفقر التي يصارع ساكنوها الحياة والمعيشة في كل يوم فينتصرون لماماً وينهزمون في غالب الأحيان وهم في كل أحوالهم راضين بقسمتهم الشحيحة مطفئين أشواق بعض طموحهم لحال أفضل بقولهم " الحمد الله " وهو صبي عبر الطفولة إلى عنفوان الشباب وحيويته , وكان يدرس في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية , وكانا قريبين في المسكن في الحي وكان يتعمد أن يخرج صباحاً في طريقه إلى مدرسته في الموعد الذي تذهب فيه إلى مدرستها .
كان يتهيب في أول الأمر أن يحادثها ويتبع خطاها عن قرب شاخصاً ببصره نحوها وقد يتعثر قدمه في حجر في الطريق المترب , فينكفئ ويعتدل , ويشيعها حتى تصل قريباً من مدرستها , ويقفل راجعاً متمنياً لو أن الطريق طال , ولو أنه خلا من الرجال والذين يصوبون سهام عيونهم العطشى إلى مفاتن فتاته والتي أستحوذ عليها خياله الوقاد وابتنى لها قصراً في سويداء قلبه وملأه بحب لا يحد ولا يفنى . وطفق يسير على هذه الحال زمناً ليس باليسير , أمضه الهوى وأرقه الشوق , وقد كان في كل مرة يلتقيها في مشواره الصباحي إلى المدرسة , يخيل إليه أنه لمح شبه ابتسامة مشجعة من ثغرها اليانع وفاض في قلبه الشوق , وفي ذات صباح أبلج الوجه نفض عنه تهيبه وتردده وحث خطاه حتى حاذاها وحادثها بصوت مضطرب ولكنه صادق : أسعد الله صباحك يا جارة .
وتمتمت بكلمات بصوت خفيض خاله رداً منها لتحيته , ولملم شجاعته وقال لها :
أليس من الغريب أن نكون في حي واحد وأن لا نتعارف ؟
أنا حاتم جاركم في الناحية الشرقية من الحلة ومنزلنا ملاصق لبيت حاج خالد . والله عايزين نشوفكم وتزورونا ونزوركم . وأجابته بابتسامة مشرقة أردفتها بكلمات قصيرة بصوتها الخفيض الرقيق لم يكد يتبينها , ولكن صفقت نفسه طرباً بأن وجد قبولاً ولم يلاق صداً , وإلى هنا اقتربا من مدرستها فودعها إلى ملتقى جديد في صباح الغد . قضت سعاد يومها الدراسي مشتتة الذهن مضطربة النفس يزحم خيالها حاتم وكلماته المقتضبة . وتساءلت في نفسها , ماذا يريد مني ؟ أنه يبدو شاباً لطيفاً وشخصه جذاباً ولا يبدو عليه الطيش , ولم تمنع نفسها من إعجاب خفي حاولت عبثاً أن تكبته , وفي ليلة ذلك اليوم والكل نيام في العناقريب المتناثرة في الحوش , عصى النوم على عيني سعاد , وظلت ساهرة يلح عليها طيف خالد , ولأول مرة في حياتها ينتابها شعور غريب يهتز له قلبها البكر يماثل تفتح الزهرة عن أكمامها , واستعذبت ذلك الشعور اللذيذ , وفي هدوء غلبها الكرى وراحت في نوم هنيء ونفسها تتشوق للقاء الغد .. وفي الصباح كان حاتم في انتظارها ولما شاهدته رف قلبها رفيف جناحي الطائر , وألقى عليها التحية قائلاً : صباح الخير يا وجه الصباح السمح , الدنيا نورت بطلعتك . ووجد الكلام يتدفق بعفوية من فمه وقال : أنا لم أنم البارحة إلا لماماً وفي هذه الهنيهات من النوم لم تغيب عنى صورتك الرائعة , أن غاية أملى أن يضمنا بيت واحد برباط زواج , كما تعلمين فأني بعد شهرين سأمتحن للشهادة الثانوية , وسأخطبك من أبيك وستزوركم الحاجة الوالدة قريباً .
وأجابته بتحفظ مصطنع : أهلاً وسهلاً بالحاجة وتشرفنا في أي وقت . وطرب قلب حاتم فرحاً , وأيقن أن هذا الرد علامة على القبول والرضا , وراح ينسج في خياله واحة خضراء من هناءات عذبه تضمه مع محبوبته الجميلة , وصار مذهولاً تتراءى له هذه الصور الحلوة في نهاره وليله , بينما سعاد من الجانب الآخر انفتحت لها سماوات من الأماني والحيوات الممتلئة بالبهجة والسعادة تعمرحياتها في المستقبل مع حاتم , وقالت في نفسها , ولكن متى يتحقق هذا الحلم الجميل ومحبوبها أمامه مشوار طويل لكي يعمل ويكسب ويهيئ نفسه للزواج منها ؟ لا يهم , الزمن مهما طال ولعل أستالطه تزيد أوار الحب والأشواق اشتعالا , , أن أبي رجل بسيط وواقعي ولن يكلف حاتم فوق طاقته عندما يتقدم للزواج منها , ولطالما سمعته يتحدث ذاماً المغالاة في المهور وعادات الزواج . وملأت الخواطر السعيدة القلبين البكرين لحاتم وسعاد وأخذا يستشرفان السنين والشهور لتحقيق حلمهما في الاقتران ببعضهما .
وذات يوم جمعة , وحاتم راكب الحافلة في طريقه إلى السوق الكبير لشراء بعض الأغراض , أوقف الحافلة جندي مسلح ومعه شاب آخر في ثياب مدنية , وكان إلى جوارهما خيمة منصوبة وعربة مما يسمونها الدفار , وأنزل الركاب , وطلب منهم الشاب صاحب الثياب المدنية يبرزوا بطاقاتهم الشخصية بنغمة فظة جافة , وقال له حاتم أنه طالب وأن بطاقته ليست معه , ودفعه الجندي بشدة إلى داخل الخيمة حيث وجد عدداً من الشبان جالسين إلى أن امتلأت الخيمة بهم , فأمروهم بركوب الدفار , فامتثلوا , وتكدسوا داخل العربة . وسارت بهم العربة نحو ساعة في طريق مترب إلى الغرب من المدينة , وهناك وجدوا معسكراً محاطاً بالأسلاك الشائكة وأخبروهم بأنه معسكر للخدمة الإلزامية . وأمضوا هناك ستة أسابيع في تدريبات عسكرية ودروس ومحاضرات دينية وفي الأسبوع الأخير أعطوا كل واحد منهم ثلاث طلقات نارية أطلقها من بندقيته . وبعد ذلك وضعوهم في شاحنات وهم يهللون ويكبرون وحملتهم الشاحنات إلى مطار الخرطوم حيث استقلوا طائرة حربية اتجهت بهم إلى الجنوب حيث مسرح العمليات الحربية .
ومنذ تلك الجمعة التي أختفي فيها حاتم لم يترك والده ومعارفه جهة وإلا قصدوها , ولكن لم يجد من يخبره عن ابنه , وبعد طول عناء أخبروه بأن ابنه جند في الدفاع الشعبي وارسل للجهاد في الجنوب , ولم يسمع أي خبر عنه بخلاف ذلك . وذات يوم وبعد شهرين جاء من يخبره بأن يبشر باستشهاد ابنه في الجنوب , وأنهم سيقيمون له عرساً ليزفونه إلى حور الجنة .
دسّ والد حاتم حزنه الممض داخل قلبه , وأما سعاد فقد ظلت ذاهلة واجمة شاعرة بأن قلبها تمزق إلى آلاف القطع .
1/ 03/2005
[email protected]