مقالات واراء حرة من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة عامان

مشروع رؤية لمسار جديد للفكر الإسلامي بقلم جمال عربي - الخرطـــوم

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
3/16 4:53ص

بسم الله الرحمن الرحبم


مشروع رؤية لمسار جديد للفكر الإسلامي


مقدمة :


لا خلاف في أن النمو الهائل لظاهرة الإسلام السياسي يمثل أبرز الظواهر التي إجتاحت العالم في العقود القليلة الماضية وأكثرها إثارة للحيرة. تعددت التحليلات التي تحاول تفسير البروز المنفلت لهذه الظاهرة والعوامل الكامنة خلفها غير أن معظم الآراء ركزت في محاولات التفسير تلك، على الأسباب الإقتصادية والسياسية بإعتبارها الدافع الرئيسي والمحرك الحقيقي لها . أننا نعتقد بأن معظم هذه التحليلات، إن لم يكن كلها، قد فشل في الإمساك بالحقيقة. فبنظرة واحدة إلى منابت هذه الجماعات عبر كل العالم، نجد إنعداماً للعوامل المشتركة عند النظر إلى الخصائص الإجتماعية والسياسية والإقتصادية باعتبارها العامل الرئيسي الذي أدى لصعود هذه التيارات وإضطراد نفوذها. فمن أراد رد الظاهرة إلى غياب الديمقراطية والحرية السياسية يصعب عليه تفسير وجودها ونموها وسط الجاليات المسلمة بأوروبا الغربية وشمال أمريكا إضافة لديمقراطيات معقولة في الشرق كأندونيسيا والكويت واليمن. ومن أراد نسبتها لواقع الفقر والتخلف الإقتصادي يجد صعوبة في تفسير وجودها في بلدان حققت درجات عالية من الرفاه المادي كدول الخليج العربي وبعض النمور الشرق آسيوية مثلاً ومن أراد ربطها بسياسة أمريكا في الشرق الأوسط وإنحيازها اللامحدود لدولة إسرائيل على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني لا يفسر نموها الكبير على حساب الجماعات والتنظيمات القومية التي تفوق الجماعات الإسلامية عداء للولايات المتحدة ولإسرائيل ومنذ زمن بعيد. إن تزايد المد الإسلامي في دولة مثل الكويت، بعد كل الأحداث العاصفة التي مرت بها، يعتبر مخالفة صريحة لنتائج التحليل التقليدي التي كان من المفترض أن تصل لإستنتاجات وتنبؤات مناقضة للواقع الحالي، إذ أن جل التيارات الإسلامية على نطاق العالم - إن لم يكن كلها - كانت في صف المعتدي مما كان يحتم معه أن تلجأ النخبة السياسية والفكرية الكويتية والتي خرجت لتوها من محنة وطنية وإنسانية لمراجعة شاملة كان منطقياًً أن تؤدي لتأسيس نظرة جديدة للعلاقة بين الدين و السياسة والحياة، وتهميش للقوى الرافعة لألوية التغيير بالمنظور السلفي الإسلامي، وأن تؤدي في نهاية الأمر إلى تكريس المنهج الليبرالي وتقوية التفكير الحر في جميع مناحي النشاط الإنساني. إن قناعتنا بوجود أسباب أعمق أدت لبروز الظاهرة لا يعني إغماض أعيننا عن العوامل السياسية الإجتماعية والإقتصادية التي نرى أنها تلعب دوراً محفزاً بالغ الأهمية.


لقد تنوعت الوسائل والأساليب التي حاول ويحاول أعداؤها وخصومها إستخدامها لوضع حد لها وإرجاع الوضع السياسي والإجتماعي لما كان عليه الحال قبل صعود هذه القوى، إلا أننا نعتقد - إن لم نكن نجزم - بفشل تلك المحاولات في إقتلاعها ووضع حد نهائي لها. قد يفلح القمع الشديد - بل هو يفلح في معظم الأحيان - في تحجيمها وتقليص نفوذها وإضعاف أثرها على الحياة العامة كما هو الحال في الفترة الإستعمارية أو فترات الحكم الوطني التي تميزت بالفكر الشمولي المصحوب بالقهر الشديد، لكن تبقى أفكارها تلك كامنة في إنتظار اللحظة المواتية والقيادة المناسبة، لذا لم يكن مستغرباً لكاتب هذه السطور أن يبرز هذا التيار ويتنامى بمثل تلك القوة والسرعة في دولة كالعراق كان مجرد إبداء التعاطف البسيط مع ذلك التيار وحتى وقت قريب - أيام صدام - يؤدي إلى الموت.


إننا نرى أنه ورغم تنوع وإختلاف، بل وتنافر، الأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية بين مختلف الأقطار والمواقع التي تنمو فيها هذه الجماعات، إلا أننا نلحظ وجود عامل مشترك بينها جميعاً وهو وجود وجدان مسلم تم تشكيله عبر قرون طويلة وذو سمات عامة مشتركة بغض النظر عن الإختلاف المذهبي أو الجهوي. يتميز هذا الوجدان بإعتقاد مطلق بأن الدين الإسلامي يحتوي على إجابة شافية لكل جانب من جوانب الحياة، مهما صغرت، ويميل للإعتقاد بأن تعاليمه تحتوي على منظومة فكرية جاهزة ومكتملة، وبالتالي يتم النظر لكل الأمور الحياتية بمنظور الدين مما يؤدي في نهاية الأمر لوسم كل شئ بديباجة الحلال أو الحرام، الإيمان أو الكفر، مما أدى لإنزواء العقل وتعطيل قدراته وإضعاف دوره وهذا هو ما نعتقد أنه جوهر الأزمة. إن إستعادة المستقبل للشعوب الإسلامية وتخليص الإنسانية من هذا الخطر الذي يهددها، يكمن في إعادة صياغة هذه الفكرة بشكل جديد وإزالة هذا الرباط القاتل، فلن يفيد كثيراً إجراء تعديلات في الهياكل السياسية أو المقررات المدرسية - رغم أهمية ذلك - ما لم يكتسب العقل المسلم القدرة على التفكير المستقل الحر الجرئ وأن يتخلص من الإستناد على الإجابات المعلبة الجاهزة والسهلة. فالعقل المسلم ولفترة إستطالت جبل على الإكتفاء بالمعلوم بدلاً عن إقتحام المجهول ويميل للرضوخ للقدر عوضاً عن تفجير الإرادة وينزع للتقليد خوفاً من نتائج التجديد. عقلاً هذا شأنه ينتظر مشروع حداثة متكامل لتغييره، يحتاج لهزة عنيفة تجعله ينتج رؤية جديدة تستند على فهم جديد لمدلولات النص الديني وقراءة جديدة لدروس التاريخ وعبره، إذ لن يغير كثيراً من العقل المسلم في وضعه الراهن إستخدام أساليب الترهيب والترغيب أو تطويع المؤسسات الحالية وإجبارها على إحناء رؤسها لبعض الوقت، كما لن يحول من تمدد هذا العقل إرساء نظام علماني، أو نشؤ مؤسسات ديمقراطية، أو مطالبة الأنظمة القائمة في منطقة الشرق الأوسط فتح أبواب الحريات، على أهمية ذلك، حيث لن يدخل عبرها غير أشباه كهنة القرون الوسطى إذا لم ترتبط الحرية بمشروع تنوير واسع النطاق. بإختصار : المطلوب قلب الطاولة على مناهج التفكير الحالية والمؤسسات التي تنتجها.


تنطلق هذه الورقة من موقع الرفض الكامل لبرنامج هذه القوى التي ترفع رايات الإسلام حالياً، وتسعى - أي الورقة - لوضع خطوط عامة لبرنامج نعتقد أنه يؤدي إلى تقويض الأساس الفكري الذي إستندت عليه بإعتبار أن ما تسعى إليه هذه القوى يمثل نكوصاً عن كل ما قطعته شعوب العالمين العربي والإسلامي من تقدم وازدهار نسبي في جانب الفكر والمجتمع في مرحلة التحرر الوطني السابقة، وتقف كابحاً امام أي تطور محتمل للشعوب العربية والإسلامية في كافة مجالات النشاط البشري، كما أن تيارات رئيسية من هذه القوى أصبحت تشكل اليوم خطراً متزايداً على الحضارة الإنسانية برمتها خاصة بعد أن أصبحت تنحو منحى إرهابياً صرفاً سواءاً باللسان أو بالسنان. تحاول هذه الورقة وضع أفكار عامة نزعم أنها، وبمزيد من التعميق والتفصيل، تشكل أرضية سليمة لخوض معركة من الممكن أن تؤدي إلى هزيمتها وتحرير الإنسان منها وإرجاع الدين إلى وضعه الطبيعي كرسالة سماوية هدفها الرئيسي تكريس إنسانية الإنسان عبر إرساء نظام قيمي يستهدف شحن النفس الإنسانية بقيم الخير والجمال والإجابة عن أسئلته الحيرى عن حقيقة الوجود ومغزاه بديلاً عن زجه بالكامل - أي الدين - في الصراع السياسي والفكري و إستخدامه كأداة لسلب العقل البشري من حريته في التفكير المستقل وحقه في رسم حاضره ومستقبله وفقاً لما يقبله عقله، الذي حباه الله له، وما يتلاءم مع المستوى المعين لتطور البشرية في مجملها.


إننا نعتقد أن ما نرمى إليه من أفكار يتسق مع جوهر الدين وينسجم مع بعض التجارب المحدودة والتي، رغم غناها، أشرقت ومضت عجلى في مسار التاريخ العربي الإسلامي. إن فهمنا يختلف بالتأكيد مع الفهم الذي ترسخ عبر السنين ويتناقض مع ما ألفه الناس من أفكار أضحت بمستوى البديهيات بالنسبة لهم، إلا أن أسانا على واقع الهوان الحالي وحرصنا على مستقبل أجيالنا القادمة يحتم علينا إقتحام الصعاب لتبيان ما تسبب في هذا الوضع البائس وإقتراح ما يمكن أن يفيد للخروج من هذا المآل.


تنطلق هذه الورقة من إفتراض رئيسي ملخصه أن إعادة تشكيل المجتمع العربي والإسلامي ليتحول إلى رافد إيجابي ومؤثر في الحضارة الإنسانية، رهين تماماً بإعادة تشكيل العقل وجعله هو الأساس في تحديد معالم الحاضر والمستقبل بدلاً عما يريده ساسة و فقهاء كل ما يمكن أن يقدموه هو إستجلاب نموذج مفصل كان مبرراً قبل مئات السنين وفرضه على أناس ومجتمعات إختلف واقعهم كلياً، ولن يتشكل العقل الجديد إلا بفضح البناء الفكري السائد وهز المرتكزات التي يستند عليها كامل بنائه.


كيف أصبح الدين هو المرجع الوحيد لصياغة حياة الإنسان:


ليس الدين الإسلامي هو المعتقد الوحيد الذي جعله معتنقيه يتعدى المنحى الإصلاحي العام الذي يهدف لإعطاء قيم ومثل عليا للإنسانية بدون الإنغماس المباشر في تفاصيل حياتهم اليومية، فقد تم زج كل الديانات الأخرى، بهذا القدر أو ذاك، على التدخل في جميع مناحي الحياة الإنسانية. لقد شهدت أوروبا في عصورها الوسطى نمطاً متطرفاً من إرتباط الدين بالدولة إستفاقت منه بعد لأي شديد لتنتصر لقيم الحرية والعدل ولتحرر العقل البشري من أسره الطويل لينطلق في سماوات العلم والمعرفة وليضحى هو المرجع الرئيسي لقبول أو رفض ما تطرحه الحياة من أفكار أو ما تتوصل إليه الإنسانية من أبنية سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية. إن التجربة في الشرق الإسلامي لجد مختلفة من حيث شكل الإرتباط ومداه الزمني والعوامل التي أدت إليه كما ستختلف أيضاً حيثيات معركة التحرير وأدواتها. سنحاول في هذا الجزء من الورقة تسليط الضؤ بشكل موجز على الأسباب الكامنة وراء هذا الإرتباط العميق بين الدين الإسلامي والحياة عند المسلمين لدرجة أضحى معها الدين هو المرجعية الأساسية، إن لم تكن الوحيدة، في تفسير كل شئ :


1) لم تشهد الجزيرة العربية، حيث نزلت الرسالة على النبي (ص) في مكة، أي مظهر لبروز الدولة بالشكل المعلوم. كانت القبيلة هي البناء الإجتماعي الأساسي وأعراف القبيلة هي التي تشكل الإطار القانوني والسياسي والأخلاقي لها، غير أنه يمكننا ملاحظة ظهور شكل جنيني بدائي للدولة ومؤسساتها يتمثل في توزيع الأعباء الإجتماعية المحدودة، كسقي الحجاج ورعاية الكعبة، على مجموعة صغيرة من العائلات الكبرى في مكة. نلاحظ أيضاً غياب أي فكر سياسي أو نظرية إجتماعية أو فلسفية هادية حيث كان الشعر، بأنواعه من غزل وفروسية إلخ، هو التجلي الفكري الوحيد. صحيح أن مجتمع الجزيرة العربية بدأ يشهد ملامح تغيير من أبرزها وجود دعوات للوحدة السياسية وللتوحيد الديني هنا وهناك إلا أنها لم ترق لمستوى أن تتحول لحركة مجتمعية عامة. على مثل هذا الواقع لابد أن تشكل شخصية الرسول (ص) القيادة الروحية والسياسية في آن واحد. كان نتاج ذلك أن قامت أول دولة موحدة في التاريخ في الجزيرة العربية في تلازم تام مع سيادة الإسلام على كامل الجزيرة العربية. إنه، وعلى الرغم من أن القرآن لم يتضمن أحكام مفصلة، كما فصل في جوانب أخرى، فيما يخص شكل الدولة ونظام الحكم إلا أن تجربة تلازم السلطتين الروحية والزمنية في شخص الرسول (ص) أصبحت مرجعاً وحيداً قام بترسيخ مبدأ التلازم في شكل الحكم اللاحق. إنه، وفي فترة قصيرة للغاية، وبما يشبه الإنفجار، أضحت الدولة الإسلامية الوليدة إمبراطورية مترامية الأطراف ذات مركز واحد في الوقت الذي لم يكن يوجد فيه شكل مكتمل للدولة أو نظام للحكم كما لم تتوفر تجربة سابقة في إدارة السلطة لدى الحكام الذين خلفوا الرسول (ص) ولم تنشأ أو تتبلور نظريات سياسية وإجتماعية تناسب الوضع الجديد، لذا كان محتماً الإستناد على تجربة الرسول (ص) في الحكم بعد إضفاء القداسة على ما هو بشري منها والإعتماد على النصوص الدينية كزاد فكري، فالنمو الهائل والسريع للدولة والإنشغال بالفتوحات الجديدة ونشر الدين لم يتح فرصة لبروز أفكار مستقلة عن الإطار الديني.


2) أتاح وجود عدد مقدر من النصوص الفضفاضة في معانيها بالإضافة إلى تعدد النصوص التي تتناول قضية واحدة والتي توحي أحياناً بوجود تناقض أو تعارض بينها، إمكانية كبرى لأن تعبر القوى السياسية والإجتماعية التي بدأت في الظهور و الإختلاف منذ لحظة وفاة الرسول (ص)، عن نفسها بإستخدام النصوص الدينية وذلك عبر الإستفادة من المرونة المتاحة في هذه النصوص . كان من نتائج هذا أن ضعف الميل لصياغة منظومات فكرية من خارج النص الديني. لقد عبر الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن هذه الثنائية بإيجاز عندما قال "القرآن حمال أوجه". إنه ورغم هذه الثنائية إلا أننا نلحظ أن التيار الفكري الغالب هو التيار الرجعي وذلك بحكم سيطرة القوى السياسية المحافظة لفترات طويلة بشكل شبه كامل ومنذ وقت مبكر على الحكم وتبنيها للمنهج الجبري الذي إمتدت آثاره السالبة إلى يومنا هذا. وللتدليل على سيطرة التيار التقليدي المحافظ نلاحظ أنه بينما كان سيدنا عمر بن الخطاب يرفض منح سهم المؤلفة قلوبهم لمستحقيه والثابت بحكم الآية :" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" بحيثيات عقلية محضة وهي إنتفاء العلة من إصدار الأمر، أو بتجميده لحد السارق في عام المجاعة بإعتبار عدم ملاءمة الظرف للتطبيق، نجد أنه وحتى بعد أربعة عشر قرناً من الزمان لم يتجرأ حاكم أو فقيه بعقلنة تطبيق أي نص والوصول لجزء من بعد نظر ما وصل إ ليه الخليفة الثاني رغم أن الحاجة ماسة أكثر من ذي قبل نسبة لإختلاف الزمان والمكان. ورغم أن تجربة الخليفة الثاني الجريئة تؤكد إمكانية تأسيس فقه بديل تشكل المصلحة العامة ومتطلبات الواقع أحد دعاماته الرئيسية, حيث تتغير الأحكام بتبدل الأحوال، إلا أن مسار الأحوال بعد موت الخليفة عمر رضي الله عنه، يعكس بجلاء قوة تأثير المدرسة التقليدية وسيطرتها على الساحة الفكرية بشكل حجبت معه - عبر إنتاجها الغزير والمكرور - المحاولات المضيئة هنا وهناك لتأسيس مسار جديد لفكر أكثر إلتصاقاً بالعقل وأكثر قرباً للوجدان الإنساني، كمحاولات المعتزلة مثلاً.


3) لغياب أي نظرية فلسفية أو رؤية شاملة ومتكاملة للحياة في الفترة التي سبقت نزول الرسالة، وحيث أن الرسالة أصبحت تملأ هذا الفراغ وتمثل الموجه الوحيد كما أسلفنا، أصبح النص الديني هو المرجعية الوحيدة لكل ما يتصل بالحياة وبالتالي تناقص دور العقل والمساحة التي ينظر و يتحرك فيها. أدى هذا التناقص في دور العقل إلى زيادة الميل للمنهج القدري والتبريري الذي يتعامل بسطحية مع أعقد القضايا ويقدم إجابات سهلة للغاية لأسئلة صعبة ولقضايا غاية في العمق. إنه وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي أنجزته البشرية حتى الآن سواء في مجال العلم الطبيعي أو الإجتماعي والمدى الذي بلغته مناهج التحليل من تطور، لا يزال التيار العريض في الفقه الإسلامي - ولعجزه عن الفهم الصحيح للدين والدنيا معاً - يستسهل إصدار التفسيرات و الأحكام كإطلاق صفة الإبتلاء على كل هزيمة أو ضربة رئيسية، عسكرية كانت أم غيرها، تتلقاها إحدى المجموعات في منظومة الدول الإسلامية، أو إلى الزعم بأن سبب المشاكل التي تواجهها الشعوب الإسلامية - وحتى الكوارث الطبيعية - ناتجة عن البعد عن الله . كما نجدهم يغالطون حقائق العلم والجغرافيا والتاريخ عندما يعتقد الكثير منهم وينقلون إعتقادهم هذا للعامة ويقنعونهم به بأن النصر حليفهم إذا إقتربوا من الله وابتعدوا عن الشيطان ولا يكلفون أنفسهم مشقة الإجابة على السؤال البسيط الذي ينسف نظريتهم من أساسها : لماذا ينتصر الآخرون (الكفار الغربيون) وهم أبعد ما يكونون عن الله؟ هل هو رضاء من الله عليهم؟.


4) على الرغم من عدم وجود نص من القرآن أو السنة يعطي بعض الناس إمتيازاً خاصاً في معرفة الدين أو حقاً في الإفتاء، إلا أنه ومنذ البدايات الأولى للدولة الإسلامية بدأت في البروز والتشكل فئة رجال الدين والعلماء، ليس تنفيذاً لواجب أو تكليف ديني بقدر ما هو إنعكاس لإحتياج فرضه النظر للدين كمصدر وحيد للمعرفة الإنسانية. إن حالة التديين الكثيفة لمختلف نواحي الحياة وإفتقاد مركز الدعوة لمنظومة فكرية متكاملة تلك التي أسلفنا توضيحها، جعلت بروز فئة من رجال الدين شيئاً محتوماً. فالحياة قد تعقدت مما حتم وجود إجابات على كثير من الأسئلة التي تطرح في ساحة لا يوجد فيها غير الدين وهو ما أدى لظهور مجتمع الفقهاء والعلماء وظهر بالتالي وسيط جديد في المعرفة الدينية. أيضاً ساهم في ظهور هذه الفئة إحتواء النصوص الواردة في القرآن والسنة على ما يوحي بأن تطبيقها يفترض وجود حكومة أسلامية لتنفيذها كالجهاد و الزكاة إلخ. كان من نتائج هذا أن تجذر المفهوم أن الإسلام دين ودولة وبأنه أسلوب حياة مفصل وكامل مما أضفى على وجود الفقهاء و "العلماء" مشروعية دينية وأعطاهم دوراً إجتماعياً وسياسياً واسع النطاق يصل مرحلة قريبة من التقديس لأشخاصهم وآرائهم حتى اللامعقول منها . قاد خلق هذه الفئة إلى سلبيات كثيرة أهمها :

• تحول حق الفرد في فهم الدين بإستخدام عقله وحواسه التي أعطاها له الله إلى حق لفئة محدودة من البشر هي التي تفكر نيابة عن الجميع وتجاوب هي على أسئلتهم بما يتفق مع تصوراتها وقدراتها ومصالحها. بمعنى آخر أصبح باب المعرفة والإجتهاد مغلقاً أمام العامة ومتاحاً فقط لهذه الفئة.

• ساهم وجود هذه الفئة في تكريس حالة التديين الواسعة لجوانب الحياة المختلفة فبحكم الأفق المحدود المتاح أمامها فليس لها ما تضيفه سوى معرفة دينية أيضاً كما لابد من الإشارة أيضاً إلى أن مبرر وجود هذه الفئة يعتمد على تحويل الدين إلى مهنة مما يقتضي معه توسيع مظلته ليتعامل مع كل مناحي الحياة حتى مستوى التفاصيل وهو ما تعمل هذه الفئة على توسيعه بكل قوة حماية لمصالحها الإجتماعية والإقتصادية.


على الرغم من إفراز هذه الفئة لعدد من الرواد ممن رفعوا رايات التنوير وتصدوا لمهام التجديد الديني والإصلاح الإجتماعي بكل ثبات، إلا أن الإتجاه الغالب والحاسم هو الإتجاه الرجعي الإنكفائي. ولأسباب تكوينية عديدة لا يتوقع أن تصبح هذه الشريحة الواسعة من قوى التغيير حيث أن التغيير يطرح قضايا تمس مشروعيتها هي نفسها.


5) إتسمت الدولة الإسلامية منذ وقت مبكر - من بداية الدولة الأموية - بأحادية الرأي نسبة للطابع الإستبدادي في الحكم وللإستخدام المكثف للعنف في التعامل مع المخالفين في الرأي مما أدى تلقائياً لسيادة المنهج الجبري حيث أنه الأقدر على خدمة وحراسة دولة الإستبداد والرأي الواحد. إنه وبإسقاط المنهج الجبري للدور البشري أو التقليل منه في أحسن الأحوال، ترسخ إرتباط الدين بالحياة في مختلف جوانبها وبأدق تفاصيلها مما أفقد الدولة الإسلامية الحيوية اللازمة التي يمكن من خلالها إنبثاق مدارس وتيارات فكرية متباينة ومتكافئة لها القدرة على الإستجابة والتفاعل الإيجابي مع حاجات التطور البشري.


نتائج التديين الواسع لأوجه الحياة :


لقد أدى الإرتباط الشديد بين الدين والحياة، للعوامل التي أسلفنا ذكرها، إلى أن يصبح الدين هو المصدر الوحيد للفكر والمرجع الوحيد، أيضاً، للقياس لدى عامة المسلمين. نتج عن إهمال المسلمين لمصادر الفكر الأخرى إلى ولادة عقل ومجتمع مسلم يتميز بملامح جد سلبية تتجلى في الآتي:


• ميل مفرط لتبسيط الأشياء والبحث عن حلول سطحية، والإصرار على إضفاء طابع ديني على كل جانب من جوانب النشاط الإنساني حتى لو أدى ذلك لإبتذال الإستشهاد بالنصوص لإثبات ذلك. كمثال على ذلك أنه وعلى الرغم من أن المؤسسات المصرفية القائمة على إدارة الأموال والقيام بأنشطة الإيداع والتسليف تمثل ظاهرة مستحدثة نسبياً في المجتمع البشري، إلا أنه جرى إجتهاد كثيف وبمنهج تلفيقي لخلق نظام مصرفي "إسلامي" مواز وذلك لإثبات أن للإسلام نظرية إقتصادية متكاملة. ولا تتعدى حصيلة كل هذا الجهد أكثر من إعطاء مسميات "إسلامية" للمصطلحات المعلومة للعاملين في هذا الجانب من النشاط الإنساني تعطي راحة زائفة لمحاربين دخلوا معركة وهمية مع أنفسهم. منهج التفكير القائم على التبسيط والبحث عن الحلول الجاهزة مناهض للتطور ولن يأتي بأمة لها إسهام في الحضارة الإنسانية .


• نتيجة للهيمنة الطويلة للمدرسة الجبرية التي تؤكد على الدوام أن أفعال العباد وأحداث الحياة مقررة سلفاً وأن الإرادة الإلهية قد رسمت كل شئ بدقة نافذة، ورث العقل المسلم صفة التواكل وإنتظار الحلول من السماء والقناعة الشديدة بأن مسار حياة الإنسان غير خاضع لنواميس الحياة المعروفة ومعطيات الواقع . كان من نتائج هذا الإعتقاد بروز فكرة المخلص أو المهدي المنتظر وكمونها في الوجدان المسلم حيث تعبر عن نفسها بشكل حركي معلن أحياناً وذلك بظهور من يدعي مهديته ويدعو الناس إليه عبر ثورة مسلحة لتأسيس مجتمع تطهري قائم على نموذج الدولة الإسلامية الأول، وبشكل ساكن ومستتر في معظم الأحيان حيث ينزع المسلمون للخمول والسكون والسباحة في الوهم في إ نتظار الفرج والخلاص الذي يأتي بدون جهد وبدون مقومات. لقد بلغ من ضعف العقل والخيال لدى المسلم بفعل الذهنية أعلاه، ان يقدم حتى على التسليم السهل بالخزعبلات في سبيل الإطمئنان على صواب إعتقاده وقوة عقيدته، كالإهتمام الزائد عن الحد بظواهر غير مألوفة - وفي غالب الظن غير حقيقية - بإعتبارها معجزات إلهية كولادة خروف مرسوم في جلده إسم الجلالة أو وجود غابة يشابه وضع الأشجار بها جملة "لا اله الا الله" أو إنبعاث رائحة المسك من أجساد الشهداء وما إلى ذلك .


• كان لابد لضمور الفكر والخيال والخمول العقلي والنزوع للإجابات السهلة أن يؤدي إلى تفشي نظرية المؤامرة كأداة لتحليل كل ما يتم أمامنا من أحداث وإلى إسناد أدوار غير حقيقية أو مبالغ فيها للعامل الخارجي. أدى هذا إلى تغبيش وعي الناس وتخطيط إتجاهات تفكيرهم بشكل يشل قدرتهم على التفكير الواقعي وإلى تعطيل خاصية النقد البناء المرتكز على الحقائق والذي يمكن أن يساعد بحق في إنتشالهم من هاوية التخلف إلى ربى النماء.


• يجنح الخطاب السياسي والفكري لإستدرار العاطفة وإثارة الحماس وإلهاب المشاعر بالإستخدام المكثف للجوانب البلاغية في اللغة العربية وبالتركيز على إسترجاع صور زاهية من ماضي الدولة الإسلامية الأولى وتقديمه بشكل يوحي بإمكانية تكراره رغم إختلاف الشروط الموضوعية والذاتية. أدى هذا إلى إرتباط الوجدان الشعبي بالماضي والعيش في أسره والنظر إليه باعتباره أقصى ما يطمح إليه الانسان ويسعى إليه، بدلاً عن إطلاق الخيال وشحذ الفكر و التطلع بثقة وهدؤ للمستقبل وفتح أبوابه عبر الإستخدام الذكي والطموح لمفاتيح العلم والمعرفة التي راكمتها البشرية عبر مسيرتها الطويلة.


• ضعف الإنتاج المادي و مؤشرات الوضع العام للمجتمع المسلم في مختلف المحاور : الصحة, التعليم، دخل الفرد, متوسط عمر الفرد, الرياضةإلخ. وكذلك ضعف العطاء الذهني من ناحية مؤشرات الإسهام العام في العلم والثقافة والفن والأدب. لا يمكن أن يكون هذا الضعف مجرد صدفة أو نتيحة مؤامرة إستمرت لمئات السنين ولكل أقطار العالم الإسلامي، إنما يمثل نتاجاً طبيعياً للأبنية الإجتماعية والثقافية التي حكمت معظم العالم الإسلامي عبر السنين. إنه دليل تخلفها وعجزها وقصورها عن إنجاز مشروع تحول يضع العالم الإسلامي في صدارة العالم بقوة العلم والمعرفة . صحيح أنه وفي فترات محددة سابقة في التاريخ الإسلامي تصدر المسلمون العالم في الإنجاز العلمي والمعرفي إلا أن حجم الإنتاج ونوعيته لا يتناسب ودرجة تمدد المسلمون في الجغرافيا والتاريخ كما أن هذا الإنتاح العلمي لم يتخط المستوى العام للمعارف السائدة ولم يثمر أسس ومفاهيم جديدة ومغايرة تهز الثوابت ويمكن أن تضعه في تحد وصراع مع الآيديولوجية السائدة وقتئذ كما حدث من قبل في أوروبا العصور الوسطى.


الحل - تأسيس فقه جديد :


لا بد من وضع مناهج وقواعد فقهية جديدة تتيح تحقيق التوازن المطلوب بين مقتضيات الدين القائمة على القبول والتسليم ومتطلبات الدنيا المستندة على إعلاء شأن العقل والإرتقاء بميزة الخلق والإبتكار التي منحها الله لأعظم مخلوقاته. يتطلب تحقيق هذا التوازن تغيير جوهري في الكثير من الثوابت والمرتكزات الفكرية مما سيؤدي لا محالة إلى صدام فكري - وربما سياسي - عنيف مع قوى واسعة ستفقد مبررات وجودها في حالة خسارتها للمعركة. لذا كان لزاماً على من يتصدى لواجب التغيير أن يتدثر بجسارة العقل وأن يتسلح بفؤاد من حديد. إننا ندعو لإستخدام المحاور و المنافذ التالية لتشكل عناصر بديلة لإنشاء وتأسيس فقه بديل في منطلقاته وفي آلياته:


1) التركيز على الغايات والأهداف والمقاصد الكلية وإستلهام الأحكام من المنظومة القيمية وليس النصية، وذلك من أجل إكساب التشريع الحيوية والقدرة على الإستجابة لمتطلبات الواقع الدائم التطور والتغير. إن قيمة الحرية الإنسانية التي كرسها الإسلام في نصوصه الأساسية تتنافى - كمثال- مع النص القائل "من بدل دينه فأقتلوه"، هذا من ناحية علو القيمة على النص. أما من ناحية ما يمكن أن تضفيه المنظومة القيمية من حيوية و قدرة على التواؤم مع المستجدات فقيمة الشورى، كمثال حي، تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة، فمن تقييدها على أصحاب الحل والعقد في العصور السابقة إلى إطلاقها لكل الشعب عندما إستدعى تطور الإنسانية بدون أن يشعر المسلمون من حرج على ذلك.


2) فتح باب الإجتهاد على مصراعيه لكل من يمتلك الحجة والقدرة على الدفاع عن قناعاته بشرط التمسك بالقيم الأخلاقية والسلوكية العامة المتعارف عليها، هذا بالإضافة إلى تنويع المواعين والمنابر التي يتم من خلالها الإجتهاد. إن إمتلاك ناصية اللغة العربية ومعرفة تراث السلف وما وضعوه من قواعد يعتبر أفضلية وليس شرطاً لممارسة الإجتهاد بل نمضي أبعد من ذلك حيث نرى أن الإلمام بمعارف العصر في العلم التطبيقي والإنساني لا يقل أهمية عن الإلمام بعلوم اللغة والدين التي وضع قواعدها القدماء.


3) الإقرار بأن الإجتهاد فعل بشري بكل معنى الكلمة وأنه ليس هناك قدسية لرأي بشر - سابقاً كان أم لاحقاً - مهما كانت مكانته حيث أن الشرط الرئيسي لقبول الرأي هو مدى توافقه مع مصلحة البشر ومقاصد الدين وإنسجامه مع العقل. كما لابد من الإقرار كذلك بأن القواعد التي تحكم الإجتهاد هي أيضاً من صنع البشر حيث يمكن الإضافة لها أو إعادة تشكيلها وفقاً لتطور الأحوال وإختلاف الظروف و العقول. إن الإجتهاد المبتغى يتجاوز الثوابت والسقوف الأعلى والخطوط الحمراء التي يخطها بعض البشر لتضمن الثبات والديمومة لأفكارهم هم. إنه وحتى القاعدة التي وضعها القدماء بأن لا إجتهاد مع النص، قاصرة عن التعبير عن مقاصد وغايات الدين ويمكن تجاوزها، حيث أن النص تفهمه وتفسره العقول ولا يفسر نفسه بنفسه. ألم يدرك عمر بن الخطاب حقيقة أن تطبيق النص رهين بوجود العلة وأن تحديد وجود العلة أو إنتفائها إنما يحددها العقل والمصلحة وذلك عندما عطل حد السرقة في عام الرمادة وعندما أبطل حق المؤلفة قلوبهم الثابت بنص الآية ؟. لماذا إذن نحرم أنفسنا من حق أتاحته لنا السماء وأثبتته التجربة ؟


4) تقف آليات الإجتهاد التي إتفق عليها القدماء، وأهمها القياس والإجماع، حجر عثرة أمام تطور الفقه والفكر الإسلامي ولا بد من اللجؤ لآليات أخرى ربما من أهمها ما لخصه لنا السيد الصادق المهدي : أ) المقاصد، ب) الحكمة، ج) المصلحة، د) العقل، هـ) العدل، و) السياسة الشرعية، و ي) المعرفة ويمكن إضافة مجموعة أخرى من ضمنها درجة وسع المجتمع ومستوى تطوره التاريخي ، كما يتطلب الأمر أيضاً إعادة النظر في موضوع عمومية النص و خصوصية السبب بالنسبة لإستنباط الأحكام من النص الديني بما يساعد في إدراك مقاصد الدين التي لا يمكن أن تبرز وتفهم إلا من خلال دراسة علاقة النص بالواقع. إن اللجؤ لهذه الآليات، إضافة لكونه يحقق مقتضى الدين والدنيا، يجعل الصراع بين الآراء المختلفة والقوى المتنافسة صحياً ويدور في إطار بشري محض. فالمصلحة، كمثال، مفهوم إنساني يختلف الناس في كيفية تحققه وتقع وجهة نظر كل متجادل فيه في مكان ما بين الخطأ والصواب وليس بين الحلال والحرام. إن مبدأ الضرورات تبيح المحظورات يؤصل لآلية المصلحة التي عمل الفقه التقليدي جاهداً لتضييقها كما يؤشر لأصلها في الدين و نريد من الفقه الجديد توكيدها وتوسيع نطاقها لتصبح بحق "أينما توجد مصلحة لأمة فثم شرع لله". إن مصطلح "الضرورات" لا ينبغي إختزال تعريفه في ما يرتبط بإبقاء حياة الفرد أو الجماعة فقط كما يفهمه الفقه التقليدي بل يجب أن يتمدد ليشمل كل ما يحقق رفاهية الإنسان نفسه بإعتباره أسمى مخلوقات الله. فتحقيق الإزدهار الإجتماعي والنماء الإقتصادي والرفاه المادي كلها ضرورات لا غنىً عنها للمجتمع المسلم إذا أريد له البقاء والريادة وقد قدم الرسول الكريم نموذجاً باهراً على ذلك حين أباح بيع السلم على الرغم من سيادة المبدأ التشريعي بتحريم بيع ما ليس بموجود وبيع ماليس عند البائع. لقد فرض مجتمع اليوم على الفقه التقليدي - بدون أن يعترف بذلك - توسيع قاعدة الضرورات ليدخل في نطاقها رؤى مستحدثة في تحقيق مصلحة المجتمع المسلم كضرورة الإنصياع للقوانين والمعاهدات الدولية، حيث تجلى ذلك كمثال في نبذ مجتمع المسلمين لممارسات كانت مقبولة ومحللة سابقاً وتوجد لها إشارات قوية في سنة الرسول (ص) كالغزو ومستتبعاته من سبي للنساء وغنم للممتلكات.


5) إعادة النظر في منهج إستنباط الأحكام من السنة النبوية الشريفة، وهو أمر يحتاج لاجتهاد كثيف خاصة وأنه يمس جانب في غاية الحساسية يتعلق بحجية الكثير من نصوص الحديث. وكما هو معروف فالرسول (ص) منع في حياته تدوين أحاديثه وهو ماأدى لتدوينها بعد فترة زمنية تفوق المائة عام مما أدى لتضارب الروايات من ناحية والى احتمال زج كثير من الأحاديث خدمة لأهداف بعض الرواة من الناحية الأخرى، فلا يعقل مثلا ان يوصي الرسول (ص) بجعل أمر الحكم في قريش "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم إثنان" والمبدأ الإسلامي الأصيل والمؤكد في رسم العلاقة بين الناس يتأسس على المساواة ويقوم على التكافؤ وينبذ العصبية بجميع أشكالها سواءاً كانت قبلية أو عنصرية أو طبقية. إن الإجتهاد الكثيف المطلوب يجب أن يستهدف وضع معايير وأسس للفرز بين ماهو راي شخصي للرسول (ص) بنى على واقع أنه بشر عاش في حيز زماني ومكاني محدد وبالتالي تأثر شكل ومحتوى ما قاله وما فعله وما أقره بمستوى المعرفة الإنسانية لذلك الحيز، وما بين ماهو تشريع إستند على صفته كرسول عليه إبلاغ ما أوحي به إليه . إن لهذا الفرز المطلوب أساس في السنة نفسها، وهو قوله (ص) : "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأي فإنما أنا بشر" . إن وضع معايير لفرز ماهو رأي مما هو دين ليس بالأمر الهين، بل هو مجال صراع واسع حيث ستتعدد فيه إتجاهات التفكير، إلا اننا نعتقد أن أحد المعايير الأساسية لتصنيف ماهو حكم وتشريع - أي ماهو سماوي - هو تطابق أو إتفاق نص الحديث مع مضمون نص قرآني أو أن يكون امتداداً و شارحاً له أو أن الحديث يتعلق بأمر العقيدة أو العبادة، حيث تدل الشواهد بما لا يدع مجالاً للشك أنه ليس كل ما جاء بالحديث يمكن إعتباره مصدراً للتشريع أو للإقتداء . أننا نعتقد أن هذا الفرز ضروري للغاية حيث أنه وكنتيجة لعدمه أضاع المسلمون فرصة الريادة في ضروب الحياة المختلفة كما يضيع قطاع من أذكياء المسلمين حالياً فرصاً أخرى ووقتاًَ ثميناًَ في ما لا يفيد في تقدمهم كتأسيس ما يطلق عليه الطب النبوي، كمثال، إستناداً على أحاديث مثل : "إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا من السام" أو يتجادلون ويكفر بعضهم بعضاً في حجية حديث الذبابة مثلاً. كما يفيد هذا الفرز في إزالة التعارض بين ما جاء ببعض الحديث وحقائق العالم المعاصر وثوابته بدون اللجؤ للتبرير والتلفيق وإنطاق النص بما ليس فيه، وكمثال على ذلك محاولة الدكتور محمد عمارة في كتابه "الإسلام والفنون الجميلة" الإيحاء بأن تركيز الاحاديث النبوية على تحريم اتخاذ الصور والتماثيل إنما كان مرهوناً ومشروطاً بكون هذه الصور والتماثيل مظنة للعبادة والإشراك بالله وأن هذه الأحاديث كانت تعالج شئون جماعة بشرية هي قريبة العهد بالشرك والوثنية . لا إعتراض لدينا على محاولة الكاتب إلا أننا نأخذ عليها أنها جاءت في سياق البحث عن مخرج لإزالة الحرج أكثر منها تطبيقاً لمنهج ثابت يستهدف خلق إنسجام كامل بين الدين والحياة.


الخروج من المأزق :


لم تبدأ المعركة ضد الرؤية الظلامية اليوم أو بالأمس القريب، وإنما إقتحمت الساحة منذ البدايات الأولى للدولة الإسلامية حيث أخذت أشكال شتى، إلا انه لم يكتب لها الإنتصار أو الهيمنة لأسباب تطرقنا لها سابقاَ. الجديد أن الهوة بين العالم الإسلامي وبقية مراكز الحضارة الأخرى قد إتسعت - وتزداد إتساعاً - بشكل لا مثيل له، يحتاج معه العالم الإسلامي الى ثورة فكرية حقيقية قادرة على وضعه في المسار الذي يلحقه بالمجرى العام للتطور الإنساني. إن الصراع ضد الرؤية الظلامية ليس سهلاَ فهذه رؤية عمرها مئات السنين يسندها إنتاج غزير من الكتب والأفكار إنغرس معظمها عميقاً في وجدان المسلمين وإتخذ صفة القداسة، ولها منابر ومواعين ومداخل للوجدان الشعبي لا حصر لها، تدعمها مؤسسات متعددة وممتدة ويحملها جيش جرار من الدعاة والأتباع. إلا انه وبرغم ذلك فالتغيير ليس مستحيلاًً، بيد أنه يحتاج لموارد هائلة ومجهود منظم وكبير ويمتلك القائمين عليه هدفاً ملهماً ورسالةً واضحة.


لقد برز خلال الأعوام القليلة السابقة قطاع من المفكرين يتميز بالشجاعة الفائقة في إبداء الرأي والدفاع عنه. ينطلق كل منهم من موقع مختلف ويقترب كل منهم لتحليل و معالجة الأزمة بمنهج مختلف أيضاً إلا أنهم يشتركون بشكل عام في رفضهم الكامل للحال الراهن ورغبتهم في إرساء قواعد ومناهج جديدة للنظر في التراث الإسلامي بهدف الوصول إلى نظرية جديدة تسمح للمسلمين بالإسهام في الحضارة الإنسانية بإيجابية بدون التخلي عن جوهر دينهم إلا أن تأثيرهم محدود نسبة للآتي:

- انتاجهم محدود من الناحية الكمية.

- منبرهم الرئيسي هو الكتاب في الوقت الذي تلعب فيه وسائط الإتصال الأخرى (تلفزيون،- صحف،- منابر المساجد) الدور الأساسي في نشر الأفكار والتأثير على الرأي العام.

- جمهورهم محدود ومحصور بشكل عام في الصفوة اليسارية بمختلف مسمياتها وذلك لأسباب مختلفة نعتقد أن أهمها هو المستوى العالي من الطرح والتنظير الذي تقدم به هذه المساهمات والذي يصعب تناوله بواسطة المتلقي العادي.


ليتسنى لحركة التنوير الإنتصار في معركة الإصلاح، لا بد من تكامل جهد كل قواها، كما لا بد لها أن تتحول لحركة فكرية واسعة النطاق متغلغلة في كافة مفاصل المجتمع، إلا أن ذلك لن يتم إلا إذا ارتبطت بحركات تغيير سياسي مستندة على اللبرالية الفكرية والسياسية حتى يضمن لها الإنتشار والتأثير . إن الوضع الآن مهيأ أكثر من ذي قبل أمام حركة التنوير حيث أنه بالإضافة للمحفزات الداخلية، يوجد ضغط خارجي قوي نشأ من مراكز الحضارة الانسانية الأخرى بتأثير أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة و يمكن أن يؤدي الى تحفيز وتسريع التطور الباطني البطئ للمجتمعات العربية الإسلامية في إتجاه الإنبعاث العقلاني.


في غياب الإمكانية للاستفادة من قنوات الإتصال الدينية المؤثرة كمنابر المساجد ومؤسسات التعليم الديني في الوقت الحالي أو المستقبل القريب، توفر الوسائط المستحدثة كالقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، إذا أحسن إستغلالها، بالإضافة للصحافة التقليدية فرصة جيدة لقوى التنوير للوصول للفئات المستهدفة خاصة الشرائح المختلفة للطبقة الوسطى كفئات المهنيين والطلاب إذ أنها أكثر الفئات تأثيراً على بقية الشرائح الإجتماعية في المجتمعات التقليدية. كما لابد لقوى التنوير إيجاد أرضية قوية لها، عبر تنشيط حركة الترجمة، في المجتمعات الإسلامية غير العربية والتي تملك قواها التقليدية نفوذ كبير في المجال السياسي والإجتماعي على الرغم من محدودية تاثيرها في المجال الفكري حيث الانتاج الرئيسي له ينبع من المنطقة العربية.


وليتسنى لحركة التنوير هزيمة القوى الظلامية لا بد لها من إستهداف رموزها الحاليين وتعرية أفكارهم ونفض القداسة المحيطة بهم وذلك عبر كشف التناقض بين رؤيتهم السلفية للدين وحقائق العصر من جهة وتناقض تلك الرؤية مع مقاصد الدين من جهة ثانية وعدم إتساقها مع العقل الذي حباه الله للناس من جهة ثالثة . لقد تحول هؤلاء الرموز إلى أشباه آلهة بما يملكون من تأثير على جماهير المسلمين وذلك لغياب معارضة فعالة لهم في الساحة من ناحية وبسبب مقدرتهم الفائقة على السيطرة على العواطف عبر الإستخدام الذكي للغة والإستخدام الكثيف للنص الديني.


ان إكمال المشروع النهضوي لا يتحقق إلا بإحداث تغيير شامل في العملية التعليمية بمختلف مراحلها، وذلك عبر بث الفكر والمعرفة العلمية بشكل أكثر كثافة في المقررات المدرسية وإستبدال المنهج التلقيني في العملية الدراسية بالمنهج التحليلي الذي ينمي القدرة على الإبداع والإبتكار والتجديد وهو ما يقودنا مرة أخرى للتأكيد على أهمية إرتباط مشروع النهضة بحركة سياسية نشطة، فعبر السياسة وحدها يمكن ضمان التأثير على مكونات الدولة والمجتمع.


جمال عربي - الخرطـــوم 1/1/2005


الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
Bayan IT Inc All rights reserved