مابين معاهدة ماستريخت.. وتوسيع أوربا الموحدة
تكمن أسباب القوة والضعف معا
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها فى العام 1944 وبلغت حصيلتها والحرب العالمية الاولى أكثر من خمسة ملايين من القتلى من الاوربيين وخرجت أوربا خائرة القوى منهارة الاقتصاد، سارعت الى المشاركة فى صياغة ميثاق الأمم المتحدة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية فى العام . كما أنها استشعرت بعد هذه الحروب الطويلة ضرورة التحرك الأوربى المشترك فى اطار محاولة لوضع ترتيبات تكفل عدم عودة المواجهات والحروب الى أوربا مرة أخرى؛ وذلك باحتواء ألمانيا ومنع عودتها الى تبنى سياسات صدامية والتوصل الى سياسات دفاعية فى وجه الخطر المشترك الجديد المتمثل فى الاتحاد السوفيتى آنذاك. وتمخض هذا الحلف الدفاعى عن مولد حلف شمال الأطلسى بمشاركة أمريكا لمواجهة السوفيت. كما عملت أمريكا على دعم اقتصاديات أوربا الغربية المنهارة عبر المساعدات الامريكية المعروفة بخطة مارشال لمنعها من التحول الى الاشتراكية. وبدأت أوربا الغربية حينذاك فى بناء التكامل الاقتصادى فيما بين دولها. وقد كانت أول لبنات اتفاقيات التكامل الاقتصادى الأوربى الاتفاقية الأوربية للفحم والصلب التى وقعت فى العام 1952 ثم تلتها فى العام ذاته اتفاقية الوحدة الدفاعية الأوربية التى ضمت خمس دول أوربية التى لم تعمر طويلا فقد شهد العام 1954 تاريخ وفاتها. ولكن العام 1957 كان أفضل حالا، فقد شهد ميلاد اتفاقية مهمة فى روما هى اتفاقية تأسيس المجموعة الاقتصادية الأوربية، الاساس للوحدة الاقتصادية والسياسية التى تحققت أخيرا. كما شهد العام 1979 أول انتخابات للبرلمان الأوربى. وتواصل الدفع الأوربى المضطرد لتحقيق التكامل؛ حيث تم فى العام 1989 اقرار تأسيس بنك مركزى أوربى وقع اختيار فرانكفورت بألمانيا مقرا له وتزامن مع البدء فى اصدار وحدة نقد أوربية موحدة. أما النقلة الكبرى فى بناء التكامل الاوربى فقد تمثلت فى معاهدة ماستريخت بهولندا والتى اكتملت المفاوضات حولها فى العام 1992 ودخلت حيز التنفيذ فىنوفمبر من العام 1993 لتعلن عن اتفاقية قيام الاتحاد الأوربى، أى كانت بمثابة التمهيد للقيام الفعلى للكيان الأوربى الموحد. حيث نصت المعاهدة على قيام الاتحاد النقدى الأوربى وطالبت الأحزاب الأوربية الحاكمة فى النصف الأول من العام 1998 لتأخذ على عاتقها اتخاذ القرار الأساسى لكى يدخل قرار الاتحاد النقدى الأوربى حيز التنفيذ بحلول شهر يناير من العام 1999. ولكن الحكومة البريطانية التى يقودها حزب العمال البريطانى بزعامة تونى بلير لم تف بالتزامها فى الانضمام للاتحاد النقدى الاوربى. كما نصت الاتفاقية كذلك على قيام ثلاثة ركائز أساسية منها: السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، والسياسة العدلية والشؤون الداخلية المتمثلة فى قيام محكمة عليا موحدة وتطبيق سياسة مشتركة حول مشاكل الهجرة غير الشرعية والتاشيرة واللجؤ ، وفى الجانب السياسى تم اقرار التعاون السياسى الاوربى. ثم جاءت اتفاقية أمستردام فى العام 1997 لتعديل بعض نصوص اتفاقية ماستريخت.. لقد حققت معاهدة ماستريخت حلم هتلر الذى كان يتوق فى العام 1940 الى قيام اوربا الكبرى تتزعمها ألمانيا ويقوم فيها مصرف مركزى واحد وعملة نقدية واحدة وسياسة جمركية موحدة. وقد كتب كارل كلوديوس احد المستشارين الاقتصاديين للحكم النازى أن ألمانيا بافتراضها كسب النصر النهائى فى الحرب أن تفرض كل شروطها على بريطانيا وتعمل على قيام أوربا الموحدة وتؤسس لاتحاد جمركى ونقدى موحد. كما كشف السفير كارل ريتر المكلف بمهام خاصة فى وزارة خارجية العهد النازى عن خطط لقيام تجمع اقتصادى كبير يضم حوالى 200 مليون من السكان. ويرجع البعض تأثر الاشتراكيين الفرنسيين بأفكار هتلر فى هذا الخصوص مما دفعهم لوضع خططهم منذ وقت مبكر لقيام السوق الأوربية المشتركة. وقد كتبت السيدة مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية وهى تبدى تخوفها من الخطر الالمانى المتجدد المتمثل فى اتخاذ البنك المركزى الاوربى من ألمانيا مقرا له وامتلاك المانيا لقيادة الاتحاد الاوربى تقول:" أنتم أيها الألمان لاتودون أن تضعوا ألمانيا فى أوربا بل العكس تسعون لوضع أوربا فى ألمانيا." ان الانضمام لهذا الاتحاد نهائى، حسب نصوص معاهدة ماستريخت، وغير قابل للتراجع عنه أو الانسحاب منه. وفى اطار هذا الاتحاد الفيدرالى يصبح نفوذ الحكومات الوطنية وبرلماناتها على السياسات المالية والموازنة والجمارك والضرائب بقوانينها المستقلة القديمة وسيادتها غير وارد. وهى بهذا تكون قد تخلت عن سيادتها المطلقة ونفوذها القطرى الى ما لا نهاية. فالذى يشرع القوانين والسياسات المشتركة للاتحاد هو البرلمان الاوربى والمجلس الوزارى وليست حكومات أو برلمانات هذه الدول منفردة.
ان الاتحاد الاوربى الموسع يهدف الى توفير فرص جديدة واحتياجات كبيرة. فحسب تقدير المفوضية الأوربية فان توسيع الاتحاد باضافة عشر دول جديدة وأخرى فى مرحلة التفاوض يوفر فرصا سياسية واقتصادية مهمة لاتحاد ربما تصل عضويته الى ثلاثين دولة فى السنوات القادمة. حيث سيتوسع السوق الاقتصادى المشترك من 370 مليونا من المستهلكين الذين يمثلون الاجمالى السكانى لدول الاتحاد الخمسة عشر الأولى ليبلغ أكثر من 455 مليون مستهلك بدخول شرق ووسط أوربا للتجمع الفيدرالى الأوربى، وهو ما يعطى هذا الاتحاد وزنا على المسرح السياسى والاقتصادى الدولى ولتعزيز الاسواق العالمية. وسيمارس الاتحاد الاوربى ضغوطا اصلاحية على المستويات القطاعية والاقليمية لتوحيد الفارق النسبى فى الفائدة بين هذه الدول وذلك باتباع حزمة من الاصلاحات فى المؤسسات الاوربية العاملة بناء على وصفة "أجندة العام 2000" التى وضعت تداركا للوضع الهش الذى سيترتب على الاتحاد من جراء دخول دول أوربا الشرقية ذات الاقتصاديات الشمولية الضعيفة وبناء على معاهدة نيس لعام 2003 أيضا التى توضح كيفية عمل الاتحاد الموسع. أما فى جانب تحقيق الاحتياجات المهمة فان تقرير المراجعة الثانى للمفوضية الأوربية حول تناسق السياسات الاقتصادية والاجتماعية يوضح أن الانتاج القومى المحلى لدول الاتحاد الموسع سيظل أقل بكثير من معدل الدول الخمسة عشر قبل توسيع الاتحاد. ففى حين سيضيف انضمام الاعضاء الجدد زيادة فى عدد سكان الاتحاد تصل الى الثلث وكذلك زيادة فى الرقعة الجغرافية تقدر بالثلث الا أن نسبة الزيادة فى الانتاج القومى الاجمالى لن تتعد 5% بسبب أن أكثر من 98 مليون من القادمين الجدد للاتحاد يعيشون فى مناطق يقل فيها الانتاج القومى 75% عن متوسط الانتاج القومى للاتحاد الأوربى الموحد.. وبما أن بداية التسعينات من القرن الماضى شهدت تشكل فرضيات جديدة بشأن تبلور نظام عالمى جديد مما يقتضى فرضية اعادة ترتيب جذرى فى السياسة الأوربية الامريكية التى شهدت خلافات تجارية متصاعدة بلغت قمتها فى منظمة التجارة العالمية بسبب الحديد الصلب وبسبب الدعم الامريكى لقطاع الزراعة والخلافات حول تجارة الموز والذرة المعدلة جينيا أو اللحوم المعدلة وراثيا وما سبق ذلك من فرض عقوبات على الشركات الاوربية التى تتعامل مع ابران وليبيا وكوبا حسب ما ينص قانون داماتو الامريكى، أو بسبب تدهور قيمة الدولار مقابل اليورو مما حرم المنتجات الاوربية من المنافسة، وكذلك وبسبب فقدان حلف الاطلسى لمعظم وظائفه وأدواره بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الخطر السوفيتى. وبما أن النظام الدولى الجديد يرتكز بصورة أكبر على الاقتصاد مما يعطى مساحة أرحب للتنافس والاختلاف، فان أوربا الموحدة تستطيع أن تلعب دورا أكبر فى المسرح السياسى الدولى.
ولكن أمريكا التى وقفت مع أوربا فى الحروب الكونية وفى وجه روسيا السوفيتية لا تريد للاخت الصغرى أن تكبر أبدا وتشب عن الطوق، بل تريدها حليفا طائعا وليس شريكا مشاغبا يرفع صوته بلا كما تفعل فرنسا وتتردد ألمانيا. ان أمريكا ترغب فى أوربا غير قادرة على منافسة العملاق الامريكى لا فى المسرح السياسى ولا فى المسرح الاقتصادى. وهذا ما كشفت عنه الحرب الامريكية فةى العراق التى عارضتها أوربا القديمة فخسرت عطاءات التعمير للعراق بعد الدمار الذى قام به نفس مقاول البناء. وعندما أرادت أوربا القديمة أن تلم شعثها بادخال دول أوربا الشرقية لمظلة الاتحاد ظلت التحالفات الامريكية مع هذه الدول الجديدة أقوى بسبب تطلع هذه الدول الى لعب دور على المسرح الدولى عبر المساعدة الامريكية. كما أنها تنطلق فى بعض علاقاتها الموالية لأمريكا بسبب مقابلتها لجميل أمريكا،التى خلصتها من الانظمة الاشتراكية الشمولية البغيضة التى حكمتها بالحديد والنار، بالوفاء والعرفان. وبذلك أصبح توسع الاتحاد ينبء بأن السياسة الاوربية الدولية ستواجهها صعاب فى توحيد الرؤى أكثر من اتباع وصفة فى قوانين الهجرة أو الجمارك. والحرب فى العراق جعلت أوربا الجديدة فى صف أمريكا وأوربا العجوز تمايزت فى صف آخر تفلتت منه بريطانيا وايطاليا. كما أن السياسة الخارجية الاوربية مازالت أسيرة الممارسات السابقة التى كانت تعتمد التشاور والتنسيق دون الالتزام برأى موحد فى جميع الامور. حيث تطورت هذه الممارسات عبر السنين لتحكم السياسة الاوربية أكثر مما تحكمها الاسس الموضوعية المنصوص عليها فى اتفاقية انشاء الاتحاد الاوربى. فالخلافات ما زالت تطل برأسها بين الفينة والاخرى بين دول الاتحاد فيما بينها وبينها وبين هيئات الاتحاد الاوربى الموكل لها تنفيذ هذا الاتفاق. ويوضح هذا أن هناك فرقا بين ما يتم اقراره من اتفاقيات وسياسات وبين ما يتم الالتزام به. كما أن المؤسسية لم تأخذ بعد دورها المنشود. فالسياسة التى يفترض أن تطلع بها المفوضية الاوربية مازالت تعتمد على اتصالات الدول ببعضها البعض. ومندوبى دول الاتحاد يجلسون داخل المؤتمرات والمؤسسات الدولية جنبا الى جنب مع ممثلى المفوضية الاوربية ويصل بهم الامر أحيانا حد الاختلاف معه داخل هذه التجمعات. هذا بجانب ما يمكن أن يضمه الاتحاد من دول اسلامية فى المستقبل مثل تركيا ذات السبعين مليونا من السكان وربما البوسنة وهو ما لاتقدر عليه أوربا من تسامح وتقبل لثقافات المسلمين الذين ظلوا لفترة طويلة داخل المجتمع الاوربى مهضومى الحقوق. فهم فى فرنسا تمنع بناتهم من دخول المدارس بسبب قطعة قماش يستر بها شعر الرأس وفى ألمانيا يحرمون من أن يجعلوا فى بعض المدن مئذنة كما لكنائسهم فى بلاد الاسلام أو فى غيرها بحجة أن ذلك يستفز المواطنين ويخالف ثقافتهم. ومن العجب أن الغربى يجعل نفسه محور الكون والثقافة يريد للعالم أن يدور حوله ولا يكلف هو نفسه الدوران حول الآخرين. ولذلك ظل المسلمون الاوربيون أو المقيمين فى أوربا على هامش المجتمع والدولة. والدولة تتدخل، امعانا فى هضم حقوقهم، لتختار لهم المجالس التى تدير شؤونهم والائمة الذين يقودوهم فى أمر دينهم والدولة على غير دينهم لا تريد أن تريهم الا ما ترى وتشكيك فى ولائهم، على عكس أمريكا التى تنص قوانينها، والى حد ما ممارساتها، على عدم التفرقة بسبب الدين أو العرق. وازداد نفوذ واتباع الجماعات والاحزاب الاوربية اليمينية المتطرفة ضد الاقليات العربية والاسلامية بصورة أساسية، وربما تتوسع دائرة الكراهية للأوربيين الجدد الذين كانوا يعيشون خلف الاسوار الحديدية. فأحزاب اليمين تريد أوربا خالصة للدم الأوربى النقى والعيش الهنئ ولا تريد أن يعكرصفو مزاجها زائر له ثقافة مختلفة أو صاحب حاجة ملحة. ووضعت الحكومات السياسات الاوربية التشريعات والقوانين لحبس المغول الجدد على أطراف أفريقيا الشمالية فى معسكرات تصفية وتنقية للراغبين فى الهجرة الى بلاد فيليب وهيلين وفرانك وجوزفين.