مقالات واراء حرة من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة عامان

في وداع أبونا الشيخ عبد الرحيم البرعي.... من أحق بالدمع منه؟ بقلم د. جلال يوسف الدقير-وزير الصناعة

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
3/12 4:22م

بسم الله الرحمن الرحيم

في وداع أبونا الشيخ عبد الرحيم البرعي.... من أحق بالدمع منه؟

قبل أيام قلائل من استسلامه للمشيئة الإلهية – المثبتة في أم الكتاب – كنت في زيارة أبينا كنز العطايا وسمح السجايا، الشيخ عبد الرحيم البرعي محمد وقيع الله... وكعادته دائماً كان رقيقاً، لطيفاً، أنيساً، عذب الحديث يمزج الحلم بالعلم والطرفة بالحكمة، خاشع القلب، قانع النفس، بهي الطلعة، يتلألأ وجهه كما البدر في تمامه... يجلس على بساط الصدق ويلبس خلعة الصبر الأيوبي تخفي تحتها ما يعانيه من مرض الجسم العضال حوله أبناؤه ومريدوه الذين تأدبوا بأدبه وساروا على نهجه..أسهر التهجد ليلهم، رطٌب الذكر ألسنتهم وأظلف الزهد شهواتهم.. يتطلعون إليه في شوق بائن وهم مثلي، يتمنون لو يتوقف الزمان فلا ينقطع سيل حديثه الذي يتدفق من زكيٌ المنبع.
كان علىٌ، بعد تلك الزيارة أن أعبر البحر واجتاز صحراء الجزيرة العربية في مهمة رسمية بإحدى المدن الواقعة على خاصرة الخليج العربي.. وما أن وضعت رحلي هناك حتى بلغني، عبر الأثير، خبر انتقاله إلى جوار ربه.. ذلك الخبر الذي لوٌحني وجعل ليلي طويلاً مسهداً حتى أصبحت ووسادتي مبللة الدمع.. ومن أحق بالدمع منه؟ وكانت حالي في تلكم الليلة مثل حال أبي الطيب المتنبي:

طوى الجزيرة حتى جائني خبرُ * فزعتُ منه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً * شرقتُ بالدمع حتى كاد يشرقُ بي

لكن رحيل الشيخ البرعي أفدح من أن يكفيه الدمع الشروق.. لقد خسرت الأمة برحيله منارة علم وهدى وبحراً زاخراً بالمعاني العرفانية.. دعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.. أضاء الليالي وعطرها بقصائده، البديعة معنى ومبنى، في مديح المصطفى صلي الله عليه وسلم، والتي أبان عبرها جوهر الدين ومقاصده وجسد بها المنهج الصوفي السمح في الحث على مكارم الأخلاق والورع والزهد والتواصل الإنساني النبيل.

شرفني قبل سنوات بزيارتي في المملكة المتحدة عندما كنت أقيم هناك، ومكث معنا أياماً ملأ فيها نفوسنا ودارنا بهاءاً وألقاً ونظم فيها (كما هو ديدنه) درراً في مدح المصطفى صلي الله عليه وسلم.. واشهد أن تلك الزيارة قد أبانت لي من مكارم الفضائل ومعالي الصفات والنعوت ما لا يجتمع جملة واحدة إلا عند العارفين أصحاب الفتح الرباني الهائمين في ذاك الجمال.. وكان لافتاً مشهد تلك الجموع التي كانت تتقاطر على دارنا من كافة أرجاء المملكة المتحدة وما جاورها، خلال فترة إقامته معنا.. أناس مختلفون سياسياً وعرقياً ومزاجياً لكنهم توحدوا في حبه وتبجيله.

إذ كان من أسراره العجيبة أنه ماحط رحلاً بمكان قط إلا إمتلأ وفاض رجالاً ونساءً هذه المقدرة المعجزة في حب الناس جميع الناس.

ليس لكبريائه الزاهد

وليس لمعرفته الموسوعية

ولا سخائه الجزل

أو بركاته بشواهدها الموثقة

ولكن شئ من كل ذلك – متسربلاً بسر السماء يقرع القلوب فيستقر منها في الحنايا والثنايا لأبونا الشيخ كان يلبس تاجاً بالقبول مرصع جعله مهوى الأفئدة ومحل الحفاوة والتجلة أينما حلٌ.

أن مصيبتنا في أبينا الشيخ عبد الرحيم مصيبة عراء لا عزاء فيها ولا سلوى – ولقد تذكرت والدي رحمه الله وكان يقصني بعضاً من مشاهد تشييع الشهيد حسين الهندي ولقد منعتني نوائب الدهر وقواعد المنفى من الحضور ومنها أنه التقى الشيخ عوض الله صالح مفتي الديار السودانية آنذاك في سرايا الشريف وابتدره الوالد معزياً إنشاء الله ربنا يجبر الكسر يا شيخ عوض الله، فقال له يا شيخ يوسف ده كسراً ما بنجبر – ويستدير الزمان ويتكرر المشهد ونفجع بكسر لا ينجبر. – لقد كان رحيل شيخنا عبد الرحيم عنا رحيلاً مشبعاً برمزية الفجيعة التي عمت كل القرى والبيادر في بلادنا وما ورائها – لماذا كان حالها حال الأخطل الصغير وهو ينشد:-

قف في ربى الخلد واهتف بإسم شاعره ** فسدرة المنتهى أدنى منابره

وامسك جبينك بالركن الذي انبلجت ** أشعة الوحي شعراً من مناثره

قال الملائك من هذا فقيل لهم ** هذا هوى الشرق هذا ضوء ناظره

هذا الذي نظم الأرواح فأنتظمت ** عقداَ من الحب سلك من خواطره

هذا الذي لمس الآلام فأبتسمت ** جراحها ثم ذابت في محاجره.

لأنه كان عالماً حبراً ومعلماً بيطاراً وهادياً مرشداً ولقد صدق رسول الله (ص) القائل "أن الله لا يقبض العلم إنتزاعاً من قلوب العباد وإنما يقبض العلم بقبض العلماء" ولذلك قيل أن الأرض بموت رجل مثل البرعى تنقص من أطرافها. قضى عمره كله في ذكر الله ومدح رسوله وإرشاد العباد وكان قلبه قبل داره موئلاً للخير ومثابة للعلم ومرقداً لعشرات الآلاف من الرواد والزهاد وطالبى المعرفة يرفدهم بعلمه وعبقريته الفقهية واللغوية – فلقد كان عالماً باللغة وأركانها متمكناً من نواصيها غاص في بحارها واقتنى أجمل أصدافها ومحارها- حتى النحو أشقها إرهاقاً على النفس وأصعبها يمتزج في وجدانه ثم يخرجه شراباً سائغاً سهلاً ممتنعاً ينفع الناس ويرقى أذواقهم ويحفظ للغة القرآن جمالها وجلالها وبهاءها (علم النحو والإعراب لغة المصطفى العربي).

يكفيه شرفاً أنه اخذ معاني القرآن وشمائل الحبيب المصطفى إلى كل دار وكل حافلة ورقشة وسيارة عامة أو خاصة، إنبلجت أشعة الوحي شعراً من مناثره فأضاءت سماوات السودان كلها وما وراء السودان وأنا أعلم أن له ذكرُ وأحبة وتلاميذ في كل قارة من قارات الدنيا وركن من أركانها.

كان الوطن دائماً في حدقات عيونه، عٌبر عن ذلك شعراً ونثراً ودعاءً في جوف الليل ومطالع السحر كان هائماً في همومه حفياً به وفياً له يدفع بحيوتيه ورحمته العمل الاجتماعي والمجتمعي بكل ما يملك من خير وضاء وحركة دؤوبة تسندها همةُُُُُُُُُ لا تفتر وعزيمةُُُُ لا تلوح ، يسعى في حوائج الناس حيثما وجد الناس يعمل سحابة يومه وحلكة ليله ضرباً لنماذج العطاء الذي لا ينضب- عطاءً بالوقت والمال والولد ولقد احتسب لله مقدماً لآخرته ثلاث من فلذات أكباده في أوقات مختلفة خلال العامين المنصرمين في عنفوان الشباب مستشهدين في مهامِ للبر والإحسان.

تأسياً بسيد الخلق كان يتخذ الحكمة والموعظة الحسنة في معالجة قضايا الناس كل الناس الذين أحبهم وأحبوه يعتق الرقاب وينكح الايامى والشباب ويتصدى للفقر ، بتمليك الناس أدوات الإنتاج، يواسى المصاب ويزور المريض، يؤسس المشافى ويرفع المآذن ويفتح دور العلم ويحفر البئر والحفير.

كان دولةً في شخص فرد كان عبدالرحيم امةً من الناس بلغت محبته مدى كل مدى وتجاوزت ساحل كل بحر ، تخلق بخلق الرسول ، لم يهدأ له بال ولم يطب له جنان متدافعاً نحو الخير ما دعي للخير داع موطئأ كنفاً يألف ويؤلف إحتشدت في جنباته مناقب الفضل وبشريات العزم.

لم أر السخاء بشراً مجسماً يسعى بين الناس كما رأيت في شيخنا، سخاءً بكل غالِ وغال ولا غرو – لأنه كان اعلم منا بحديث المصطفى (ص) "السخي قريب من ثلاث – قريب من الله وقريب من الجنة وقريب من الناس".

كان أباً حانياً مجتهداً في إدخال السرور على قلوب الناس ذا روح شفيفة وشخصية لطيفة في حديثه طلاوة ينتقى كلماته بلا عنت فتسرى سرباً إلى المسامع وتستقر في الألباب

إن فقدنا فيه كأمة لفقد جلل لأنه تمدد فينا سنيناً طويلة نوراً وبذلاً وعطاء

فما كان فقــده واحـــد ولكن بنيان قوم تهدما

ولكن لي في فقده فجيعة شخصية وخسارة فقراء بالغة ، فلقد كنت أزوره وكان يزورني وجلست وأكثرت مجالسته أتزود بسلاح الإيمان الخفي واغترف من الفيوضات ما اقهر بها الوساوس والهواجس وانتصر بها على كثير من حالات الملل وشلل الروح.

عزاؤنا أن أمثال أبونا الشيخ البرعي يغيبون وهم حاضرون ويرحلون وهم باقون ..ويذهبون للقاء الله وتظل ذكراهم حية في القلوب.. لذلك لا نقول انه غاب عنا.. فهو يتألق في دواخلنا يمنحنا صفاء الروح.. ولا نقول إنه رحل عنا .. فهو باق بيننا بسيرته العطرة بسيرورة المعاني العرفانية التي نثرها علينا.

اللهم إنا لا نزكي عليك ابونا الشيخ عبد الرحيم البرعي ولكننا نشهد – وأنت خير الشاهدين – بأنه نظر فايصر وعرف فلزم... أسرجت مصباح الهدى في قلبه، فسلك الطريق الغراء ولزم المحجة البيضاء وصار من مفاتيح أبواب الهدى .. سهلت له المورد الأصفى، فشرب نهلاً، وسما روحاً، وتجوهر عقلاً .. كشفت عنه حجاب الوهم وظلمة الحس، "فشاهد المعنى" وعاش "تهزهزُه الأشواق للعالم الأسني" . استمسك من العرى بأوثقها واحتمى من الحصون بأمنعها.. وكان من الإيمان واليقين على مثل رسوخ الجبال الرواسي.
ونشهد يا ربنا – والدين المعاملة- بأنه كان رجلاً موصولاً بالناس مهموماً بهم .. وكان في علائقه معهم مثالاً للخُلق النبيل والتواضع الأصيل، وكان ركيزة للوفاق المجتمعي في بلادنا ... ولطالما هوت إليه أفئدة الناس من كل فجاج السودان فآنسهم بطلاقة وجهه وصفاء روحه وعذب حديثه .. وغمرهم بخالص حيه وحنانه... ويسرت عليه قضاء حوائجهم بفضلك وكرمك.
اللهم إنا نسألك أن تغفر له وترحمه وتنيله تمام الرضا وكمال الرضوان وأن تقر عينه بجوار حبيبك المصطفى صلي الله عليه وسلم، وأن تجعل البركة في ذريته ومريديه ووطنه وأن لاتحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، ونسألك أن تحشرنا معه في زمرة النبيين الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وأن تسدد على طريق الخير خطى نجله وخليفته الشيخ الفاتح لأنه يقيناً أن الله لا ينزع البركة من مكان وضعها فيه.
وإنً لله وإنا إليه راجعون
د. جلال يوسف الدقير

الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
Bayan IT Inc All rights reserved