الأخوة جوك وأبراهيم لكم ولقراءنا الذين يتابعون هذا الحوار ألف تحية. وما أريده منكم فقط أن نكونوا بمستوى الحوار حتى يستفيد منه الجميع.
أولاً الأخ جوك لقد خرجت من لب الموضوع كما خرج الأخ أبراهيم في مقالتة الأخيرة التى يتهرب فيها عن الأجابة المباشرة ليأتى بأسوء مما يتصور المرء، لقد خرجت عن الموضوع حينما أدعيت أننى أدافع عن العروبة في السودان، ومن حقى أن أدافع عن جزورى الثقافية، ولكن لم أقل ذلك وهذا نص ما قلت رداَ على الأخ أبراهيم (السواد الأعظم ليس بعربى خالص أو بأفريقى خالص، الشعب السودانى هجين بين العربى والأفريقى)، وهنا أيزيدك بأن الأفارقة خالصى الدماء أقلية في السودان وبأن العرب خالصى الدماء، أيضاً، أقلية في السودان وأن أغلب الشعب السودانى ليس بعربى أو أفريقى، وأرجو أن تعلم أن الحيوان الهجين (الشعب السودانى) الذى يأتى من أبوين مختلفين هو حيوان أخر، فالحيوان البغل يختلف عن الأبوين الحمار والحصان في جميع التفاصيل الشكلية والجسمانية وغيرها، ذلك يجعل طرح الهوية السودانية كحل أوسط هو الأنسب لأستيعاب تنوعنا الأثنى والثقافى. وكذلك خرجت عن الموضوع حينما شملتنى جزافاً بأننى في الحكومة وبالتالى تحملنى تبعاتها وقد قلت في مقالى إننى خرجت من السودان في النصف الأول من عام 1990م، وتجدنى أكرر نفس الجملة التى قلتها للأخ أبراهيم بأنك لم تملى بصيرتك وعقلك بل إندفعت إندفاع غير مبرر مرتكزاً علي واقعنا الأليم في السودان لتتحامل على اللغة العربية وذلك لن يقدونا إلي أى نتائج إيجابية. وهنا أجدك تطرح سؤالاً ( لماذا التهرب من العروبة خارجياً، عندما نكون في الدول العربية يخجل السوداني من نفسه حتي مجرد التحدث باللغة العربية؟ و يفضل كثيرين التحدث بالانجليزية لان العرب لايفهمون عربي اهل السودان)، نسألك هل يفهم العرب بعضهم بعضاً خارج إطار اللغة العربية الفصحى؟ هل ذهبت إلي دول المغرب العربى مثل تونس، ليبيا، المغرب، الجزائر وأستمعت إلي لهجاتهم العربية المحلية، هل سمعت في حياتك كلمات في اللغة العربية مثل السلاعة، الحجامة، باهى، ومزيان والتى تعنى بالسودانى: الأجازة، الحلاقة، جميل، رائع – على التوالى، تلك ألفاظ تونسية أصيلة. وقد أشرت إلي ذلك بحيوية اللغة العربية وتعقلمها علي المحيط البيئى التى تعيش فيه مما زاد من مقدرتها علي البقاء علي حساب اللغات المحلية للمجموعات المستوطنة، إذن ما الذى جعل اللهجة المصرية تقوى علي غيرها ويفهمها أغلب سكان الوطن العربى؟ هل توافقنى أن ذلك يعد إلي دور الإعلام (السينمائى) المصرى القوى مقابل لا إعلام في السودان، وهل هناك أسوء من اللهجة المصرية في حرف القاف مثلاً الكاهرة تعنى القاهرة أو الدعى تعنى الدقى، فإن عدم معرفة الدول العربية باللهجة السودانية لا يعنى بأى حال إننا لا نجيد العربية، فمن أين أتى عميد الأدب العربى البروفسير محى الدين صابر، ومن أين أتى بروفسير عبدالله الطيب، والأستاذ فراج الطيب وغيرهم من فطالحة اللغة العربية في السودان والوطن العربى. وقبل أن نأتى إليك في عقر دارك في الجنوب ونطرح إليك سؤال اللغة بين قبائلك الثلاثة التى أشرت إليها النوير، الدينكا والشلك، دعنى نعد إلي الأخ أبراهيم، الذى يقترح مدينة الأبيض عاصمة للسودان واللغة الفوراوية لغةَ له. الأخ أبراهيم بأقتراحك لمدينة الأبيض عاصمة لم توفق تماماً كما أنك لم توفق بالأمس في إثارتك لموضوع اللغة. مدينة الأبيض، وأعلم أنى كردفانى حتى لا تظن إننى أتحامل علي أختيارك، لن تصلح عاصمة إلا بعد أن تحل مشكلة مياهها، مشكلة المياه في الأبيض هى أكبر مشكلة مزمنة لتلك المدينة، أضف إلي ذلك تعانى مدينة الأبيض من ضعف البنية التحية وسوء التخطيط العمرانى (الطرق، توزيع الأسواق، السكة حديد، الأحياء السكنية) والبيئة الجمالية لمدينة الأبيض موسيمية فهى ترتدى زينتها في فصل الخريف أزهاراً وأبقاً يعطر المكان وما أن يحل الصيف حتى تخلع الأبيض زيها البهى وتكشر عن أنيابها (كتاحة) رملية وضبابية تسوم زائرها سوء العذاب، فلو كان أقتراحك مدينة كوستى لكنت أكثر توفيقاً، فأنت أبداً لا تستعمل قريحتك وعقلك في تشخيص الداء والدواء بل تلقى الأمور جزافاً ودون تروى في الأمر وهذا عين الخطأ في تفكيرك ومعالجتك لحقائق المشكلات. ولعلى أجد نفسى أوافقك في طرح موضوع العاصمة البديلة، ليس تجنياً علي الخرطوم أو تشفياً في الحكام، لكن هناك تجارب عالمية تم فيها فصل العواصم السياسية من المدن التجارية، في أمريكا مدينة واشنطن هى العاصمة السياسية وليس العاصمة التجارية، فمدينة نيويورك (التفاهة الكبيرة) هى العاصمة التجارية، كما أن هناك مدن تجارية عريقة كمدينة بوسطن، لوس أنجلس، أورلاندو، وغيرها، في الهند العاصمة التجارية معروفة هى مدينة بومباى أما العاصمة السياسية هى مدينة نيودلهى، في نيجيريا تم نقل العاصمة السياسية إلي أبوجا، بينما ظلت مدينة ليغوس أو لاغوس، كما يحلو لنا في السودان، العاصمة التجارية، نقلت العاصمة في تشاد إلي مدينة أنجمينا بعد أن كانت في مدينة فورت لامى ومن هذا المنطق يمكن نقل العاصمة السياسية أو التجارية إلي مدينة أخرى حتى يقل الضغط السكانى الذى يقع علي عاتق الخرطوم، مدينة القاهرة أسوء مدينة عالمية نتيجة لجمع كل الأختصاصات السياسية، التجارية والسينمائية تحت (قبتها)، وهنا أقترح نقل العاصمة السياسية إلي جوبا إذا ما تمت الوحدة بعد الأستفتاء حتى لا يشعر الجنوب بالتهميش السياسى أو الغبن ناحية الشمال ونشرح صدور زوارنا الذين لا يريدون رؤية نهجنا الأصولى وتراثنا الثقافى العربى وفوق كل ذلك حتى لا تلفههم سخونة الجو القاتلة في الخرطوم وعواصفها الترابية.
نأتى مرة أخرى إلي لهجاتنا المحلية: الفوراوية، الشلكاوية، الدينكاوية، النويراوية والتى وردت في حواركما مقابل اللغة العربية، هل لا حظتم الخطأ في الترتيت علي حسب جاه هذه اللغات، فإن الدينكا لا يقبلون إلا أن يكونوا كالسنام من ظهر البئير من بين القبائل الأفريقية وأى ترتيب لغوى يخل بمكانة الدنيكا في الجنوب لن يجدى، فهل النوير الغريم الأول للدينكا يقبلون بالخضوع التأريخى، أم هل الشلك الذين قادوا الأنيانيا الأولى يقرون بتفوق الأخرين عليهم، وماذا عن لهجات 60 قبيلة جنوبية أخرى من بينها الزاندى رابع أكبر قبيلة إن لم نقل ضمن القبائل الأولى في الترتيب نتيجة لضغف التعداد السكانى، هذا يعنى أن (الحقانية) اللغوية التى توجد في الجنوب لا توجد في أى بقعة من أرض السودان. إذن أين القاسم المشترك، هل هو العربية (عربى جوبا) أم الأنجليزية؟ هل عربى جوبا يفيد عامة الشعب الجنوبى أم اللغة الأنجليزية؟ وتجدنى أقول أن عربى جوبا يتداول وسط الشعب الجنوبى أكثر مما تتداول الأنجليزية (لغة النخب السياسية)، ذلك يعنى أن عربى جوبا (أنظر أن التسمية لا تعنى أنه محصور في جوبا، إذا ذهبت إلي واو تجدها تتحدث تلك اللغة وبنفس اللهجة) سوف يستمر في حلبة الصراع لأمتلاك مزيد من الشعبية (سوف يصبح اللغة المتداولة في الأسواق كما هو الأن) حتى لو صارت الأنجليزية اللغة الرسيمة للجنوب، ذلك يعنى أن الأخ جوك يجد التحدث بالعربية في الجنوب أفضل من التحدث باللهجات المحلية لأنها لا تحمل أى ضغائن تجاه المجموعات القبلية الأخرى، وسيط محايد وسط الجنوبين، وبالتالى تساعد في توحيد الجنوب أكثر من غيرها، هذا التصور ليس تصور خرافى بل واقعى، ففى جنوب كردفان ذات المساحة الصغيرة والتى يوجد بها حوالى 99 قبيلة من قبائل الجبال كل منها لها لهجتها بالأضافة إلي القبائل العربية المستوطنة لم يكن هناك أفضل من اللغة العربية كوسيط للتواصل الفكرى، السياسى، والتجارى.
نأتى إلي لغة الفور التى يقترحها الكاتب إبراهيم كلغة للسودان، أيضاً لم يحالفه الحظ في هذا الأقتراح، فلو إقترح لغة الفور في أقليم دارفور يكن له سند تأريخى يدعمه بأعتبار أن الفور هم الزعامات التأريخية للأقليم وقد دانت لهم كل قبائل الأقليم. وقد ذكرت في إحدى مقالاتى السابقة أن الفور، بحكم السيطرة التأريخية علي السلطنات في دارفور قد أكتسبوا الكثير من الصفات التى تؤهلهم لقيادة الأقليم، منها التعليم، أمتلاك الموارد (الأرض)، معرفتهم بتصريف شؤون القبائل وسياستها، كما أن الفور من الشعوب السودانية المسالمة تأريخياً بحكم الوجاهة السلطانية. ولكن بعد سقوط السلطنة فقد الفور القوة السياسية التى تؤهلهم للأمساك بزمام الأمور مما أدى إلي ظهور المجموعات المستضعفة ومنها الزغاوة التى تعتبر الأكثر سكانياً في الأقليم ويتخللون كل أوساط المجتمع الدارفورى، كرعاة، مستقرون، تجار، مزارعون، أكاديميون وسياسيون. إذن هناك صراع خفى بين الزعامات التقليدية كالفور والمساليت (أهل الكاتب أبراهيم) في مواجهة القوة الحديثة الصاعدة ممثلة في الزغاوة، وسوف أتوقف عند الرزيقات التى تعتبر قوة ضاربة في المنعة ومن أكبر القبائل والتى لعبت دوراً بارزاً في تأريخ دارفور الحديث فهى الأخرى مؤهلة أن تقود دارفور في المستقبل. يوجد بدارفور وحدها حوالى 80 قبيلة، أيهما تقبل بلغة الأخرين ومازال الجميع في الوحل القبلى الذى تخوضة دارفور الأن، إذن إذا كان هناك عدل فإن لغة الزغاوة أكبر قبائل الأقليم يجب أن تكون هى لغة أقليم دارفور ولكن هل تقبل الزعامات التأريخية التقليدية من الفور والمساليت، أصحاب الحق (الطبيعى) في الموارد والذى أكتسبوه بالأرث التأريخى كما أكتسبت مصر مياه النيل عن طريق الإرث التأريخى أو يقبل الرزيقات الغريم الأخر للزغاوة في الموارد الرعوية. ذلك هو المحك والتحدى أمام لغة الفور في عقر دارها ناهيك عن السودان أجمع. وهذا يقودنى إلي أن جدلية صلاح اللغة العربية لأى بقعة في السودان هى واقع عملى لا يمكن تجاوزه إلا إذا عميت الأبصار كما عميت بصيرة الكاتبين جوك وأبراهيم. وأريد أن ألفت نظر القارئ إلي حقيقة أخرى لم تكن ظاهرة للعيان أن لهجتنا ومصطلحاتنا السودانية العربية ظهرت في كثير من الأستعمالات اللغوية، وهنا مثال: ففى مسجد أدم سنتر ببلدية فيرفاكس في ولاية فرجينيا بأمريكا، ذكر إحد الشيوخ العرب (وأظنه لبنانى الأصل) في شهر رمضان الماضى وهو يشرح ما يسمى بالأنجليزية (آكسى موران، سوف أكتب الكلمة الأنجليزية في نهاية المقال) فذكر الشيخ شرحاً لذلك من القرآن مستدلاً بالأية (وبشرهم بعذاب أليم) فقال كيف تستقيم كلمة البشرى التى تحمل معانى الخير مع كلمة العذاب الأليم، وضرب مثالاً قائلاً ذلك كالحلو مر السودانى فهو مشروب حلو مع مرارة تشوبه تجعله من جنس هذا الوصف الحلو والمر في أن واحد، وخلص الشيخ ليس هناك تضارب في المعنى ما بين البشرى والعذاب، لأن كل عامل يجب أن يبشر بجنس عمله، فإن كان خيراً فبشره بالخير، وإن كان عمله من جنس عمل أهل العذاب فبشره بالعذاب وذلك لأنه إجتهد في عمل أهل العذاب حتى وصل إلي النتيجة التى يرجوها، فمن العدل الألهى أن نبشره بها. أنظر أى لغة من لغات الأرض تستوعب من مثل هذا العمق التعبيرى اللغوى. وفيما يخص الزى (الجلابية التى يرفضها الأخ أبراهيم) نقول لك الأتى وما دمنا في رهاب مسجد أدم سنتبر الذى تعمه جموع غفيرة من جميع سكان الأرض لأداء صلواتها، نذكر هذا المثال عن اللغة العربية والزى: من بين الأئمة هناك أئمة من دول أفريقية وهم يجيدون العربية الفصحى ليس بأقل من أهل الحجاز وهم يرتدون أزياءهم الأفريقية التى تشبه زى الرئيس النيجيرى أبوسانجو وهم أيضاً سود اللون لا يقلون سواداً عن عود الأبنوس، وما أن صعد أحدهم إلي المنبر حتى أنبهرت به جموع العرب والعجم، ولعل أروع وأبلغ ما سمعته عندما يدعو الشيخ الغانى بدعاء له يردد فيه كلمة تشاء (من يشاء، ما تشاء، شئت، لا يشاء، يشاءون، تشاءون) بمترادفات ربما تصل العشرين، ونسميه بالشيخ (ما تشاء)، ففى يوم الجمعة يتصل بك أحد الأخوة يسئل (هل الشيخ ما تشاء اليوم خطيب المسجد وفي أى خطبة يصلى)، هذا يجعلنى نخلص إلي الرد للأخ أبراهيم بشأن اللغة العربية والزى (الجلابية) إلي الأتى أن اللغة العربية لن تكن حكراً للعرب كما هو في الدين الأسلامى وسوف يكن أجودها ما يأتى من قبل المستعربين ومنهم الدول الأفريقية من بينها السودان، ولم يكن الزى حاجزاً أمام تحدث اللغة العربية فالشيخ الغانى بزيه الأفريقى المزركش وفصاحته العربية أروع مثال.
ولم يكن الدكتور جون قرنق، الذى قاد حربه الضروس ضد ما يسميهم بالمستعربين، ينكر فضل اللغة العربية، فقد عرف الشعب السودانى من هم أساتذته في مجال اللغة العربية وهو في الغابة يقود الحرب وسمعنا بعض نكاته بالعربية، ويستند جون قرنق في أيضاح أراءه للنخب الشمالية إلي كثير من المفردات العربية، ففى لقاءه الأخير في واشنطن دى سى يوم الأحد الماضى الموافق 5 يونيو2005م في الجامعة الأمريكية، قال وهو يتحدث عن العقوبات في الأسلام مشيراً إلي الحدود باللغة العربية، ثم أستدرك نفسه ضاحكاً بأنه تعلم كثيراً من خلال محادثات السلام. تلك الروح التى دعت الدكتور جون قرنق ليتعلم العربية في مقامه وسنه يجب أن ينظر إليها الأخرون المتشددين أمثال الأخ الكاتب جوك وأبراهيم بنظرة أيجابية، بأعتبار أن الدكتور عرف قيمتها التى بها يشق طريقه خلال الوسط السياسى الشمالى وسوف تظل له ولجميع بقاء السودان من أهم عدوات التواصل الفكرى. إذن في حوارنا الثقافى الذى نقوده من أجل بناء سودان موحد يجب أن ننظر إلي إساسيات وحدتنا الوطنية بعيداً عن أنفعالتنا النفسية وخلفياتنا الأثنية أو واقعنا السياسى أو الجغرافى، فقط يجب علينا أن ننظر إلي ما ينفع الناس لا سواه.
بريمة محمد أدم
واشنطن دى سى، الولايات المتحدة.
09 أبريل 2005
الكلمة الأنجليزية: Aximoran