حامد حجر - بيروت

" كل لحظة موت تخسر البشرية تأريخها كلها " .

مدينة الفاشر مدينةٌ سودانية لا ترحم ..

مدينةٌ بربريةٌ تتمخض ببطئ من رحم الصحراء ..

زاحفة نحو أودية الموتُ ..

إن شمسها الأفريقية الحادة تضرب الرأس كسهم ناري ، فتتوتر الأعصاب ، فيصاب العقل بجرثومة الشهوة و القتل . الغيتو الأنقاذي ( القروسطي ) المظلم يتمدد كحيوان ديناصوري يتأبي علي الأنقراض .

عندما هبط ثُوار التهميش و التحرير من أعالي " جبال مرّة " المصفوحة بالدم ، من " أوة أفكو" ، " قرلانج بانج " بأتجاه "توري" و "كاس " .

عندما زحفوا من تقريبة الصحراء ، من بين صباريات "دارزغاوة" الي هيدرا "دارميدوب" الي الأشواك وجحيم الرمال وزمان اليباب في "دارمساليت " كانوا يهللون بتكبيرات عصور الفتح الأول .

بل بعقائر من كسب معركة الحيدرا وسط غابات اللعوت و الجميز .

كل ثائر علق علي صدره حجاباً أو تمومة " البلنديي " كانت الرُقية التي تقّي طيش رصاصات المستعمر الداخلي : الشيطان .. الذي أكل الزرع وعناقيد " السبلَي " وبرتقال " مرتجُلو " ثم أغتصب النساء الجميلات و عكف علي حرق القري " القطاطي " ودرادر البوص و المرحبيب .

حدث ذلك ولا يزال في مأساة دارفور الذي فشل العالم بأسره من أن يجد لها حلاً عادلاً حتي الساعة رغم الأهتداء الي المباشرة في التحقيق من قبل محكمة "لاهاي" الدولية .

عامان من الذل و العار و الأفقار وأنكشاف عورات الوطن . في الوقت الذي يستر فيه "النظام في الخرطوم " سوأته بالمزيد من التضليل وبراقع الثياب المزركشة ، تحجب قُبح الجسد الأنقاذي المسربل بلعنات مواطنيه و العالم أجمع .

ومع ذلك فلدي الأنقاذ ما تتستر به دوماً ، و الحاجة أو الغاية هنا تختلف عن سابقاتها (حرب الجنوب) وتشتركان معاً في تشويش المنظر و الرؤية أن لم يكن تزييف الصورة كلها بخطابٍ يغلب عليه الفنتازيا وأجترار الأوهام .

ثم كان العار "المجلل" للرئيس عمر البشير الذي يمنح للغرباء (أدق خصوصياته الحميمة) ويمنع بعناد منقطع النظير علي الأحبة و الأحباب من وسائل اعلامه الشيء اليسير من فظائع قواته في دارفور . كل ذلك برسم كبير الأمنجية السيد صلاح قوش مكملاً أشواطه السبع بين مقر إستخبارات اليانكي ومحراب إمامه في القصر العتيق .

في باكورة ذاك الصباح ، عندما حطت طائرات "الأنتينوف" فوق مدرج مطار الفاشر أبوذكريا لم تكن محملة بالكتب والأسفار و قوانين حقوق الأنسان و أراء ثورة اليعاقبة وعصر التنوير .

إنما كانت مرصعةٌ بطونها بأشرطة الرصاص وحشوات الدانات وتحتضن جيوفها المزيد من قنابل الموت و الدمار موزعة بحسب جريدة الحرب للجنرال الي قُري بعيدة ، أبار ماء ، قطيع " السخلان" ، ورواكيب من بلغ السبعين من العجائز و الأطفال في منطقة الشعيرية وكل تراب "الداجو" في أم كردوس .

الأن ها هم الثوار ينحدرون من الذري و الكهوف نحو مدنهم المنهكة ، القري التي هّجرت وأضحت خراباً خلال ساعة من قبل الرحيل ، أحرق جنود "النظام" والمليشيات المتجحفلة معها من "جانجويد" (وهم المغرر بهم من بعض القبائل العربية) أحرق هؤلاء القري ونهبوا الماشية وزهقوا الأرواح بدم بارد وأغتصبوا النساء .

ليكمل الطئرات المهمة ، بقصف مراعي القطعان بأسباب الموت في أسابيع متتالية من الرعب و الدم ، حتي غدت كل شبر من أرض دارفور مقبرةً لشهيد .

بعد كل الذي جري في السنوات العجاف ..

هم الأن يحترقون شوقاً الي منازلهم ..

الي الراحة و الدفِ و الحليب والقهوة ..

الأجساد التي أُنهكت من صعود الجبال والنوم فوق الأرض الرطبة ، المحبصة ، وأوراق الأشجار . تتطلب سريراً وأمراة وعصيدة دافئة مغطاة "بالبرتال" .

ها هن النساء في حاجة الي ان يغادرن خيام اللجوء الي القطاطي البيضاء وسط ساحات الجبروكة ، الي مروجهم الأفريقية الخضراء .

الشمس و التراب تعود الي أبنائها الشرعيين من ثوار دارفور ..

المحاربون يعودون بعد أعوام من الضني و المطاردة و الألاف من الشهداء و الجرحي والألاف من الثكالي و الأرامل .

ليستريحوا تحت شجرة الهجليج ويتمددون في هواء الحلم ..

الحرب الأن ذكري أو طيف ..

كل الذي خطته يراعي يكون من بنات - الخيال الخصب - أن لم ..

- يتم محاكمة مجرمي الحرب من أقطاب النظام الي العدالة في محكمة لاهاي ..

- أن لم يتحقق كل الأهداف في " منفستو " الثوار لتأسيس واقع جديد يرضي به من قدم التضحيات الغالية ..

عبثاً يكون كل المضمضات اللفظية في حضرة الثورة في دارفور التي هي من تقرر وليس غيره ..

فطوبي لثوار دارفور وللشهداء الأبرار ..

وعهدهم .. أن اليوم هو الأمس ، والغد لا يأتي إلا بعد عودة الحق لأهله كاملة وغير منقوصة ، تلك الحقوق التي رفضها رأس النظام (في ملتقي الفاشر التشاوري) وأندلعت علي أثرها الحرب في الوقت الذي كان النظام يمني النفس فيه الي "حسمها خلال أسبوع" بينما يعد المراقبون العام الثالث ولا أفق للحل ..

[email protected]