السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

الدَفّـار قصة قصيرة بقلم هلال زاهر الساداتي - القاهرة

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
6/9/2005 8:55 ص

تبدو شمس مايو الحارقة وكأنها تزداد حرارة في هذا الشهر من العام وربما تقفز درجة الحرارة إلى ما يقرب من الخمسين درجة مئوية فتجد ما يشبه صهد النار في الهواء وتحس بالفضاء وكأنه تحول إلى فرن من صنع الطبيعة وترى الناس يتوارون من هذا الجحيم المصبوب بأي فضلة من ظل تحت شجرة إن وجدت أو بجانب عريشة دكان أو بتغطية الرأس العاري بصحيفة أو كتاب إذا كان المرء من القارئين أو بحقيبة الكتب إن كان من تلاميذ المدارس . وترى العرق يسيل على الجباه جداول صغيرة رفيعة من الماء , أو ينابيع قزمية تتلألأ على الجبين وتشاهد من الناس من يجفف هذا الوابل المنهمر من العرق بمنديل قد أبتل وصار يحتاج هو الآخر إلى تجفيف , ومن الناس من يخرط بأصابعه الممتدة أو بباطن كفه جبينه من العرق وينفضه جانباً , وآخرون يجففون جباههم بطرف أكمام ثيابهم والنساء يفعلن ذلك بأطراف ثيابهن .
وفي هذا الجو العكر المكفهر كالأتون الملتهب تبلغ الروح الحلقوم من الضيق والسخط ويضيق الخلق وتحتدم المشاعر ويهرب الصبر ويكون بعض الناس كالبنزين تعوزه شرارة صغيرة ليشتعل , والكل يشرئب بعنقه حاداً بصره علّه يري مركبة الدفار آيبة داخلة إلى الميدان , والمركبة هذه إحدى ثمار العبقرية السودانية للتغاب على مصاعب الحياة العسيرة ومنها ندرة وسيلة التنقل اللائقة , ولا أحد يدري من أين أتت هذه التسمية الغريبة (( الدفار )) .. ودفر معناها دفع المرء على الصدر وربما جاءت الكلمة من (( المدافرة )) بالعامية والكلمتان تفيان بالغرض فركوب هذا الشيء يقتضي دفراً ومدافعة وخشونة وهجوماً من البعض ودفاعاً من البعض الآخر . وهذه المركبة صنعها صانعوها أصلاً لتكون ناقلة للبضائع وما في حكمها من الأغراض وتصلح أيضاً لنقل البهائم , وهي بعد كابينة السائق من الخلف تتكون من صندوق طويل مكشوف صنعت له العبقرية السودانية جسماً من الحديد غطاه من الجانبين وسقفاً يغطي هذا الجسم , ويخترق ما دون السقف بالطول من أوله إلى آخره قضيب من الحديد أو ماسورة حديد ليقبض عليها الواقف من الركاب , وعلى جانبي الصندوق ثبتت (( كنبتان )) وهما غالباً من الحديد ووضعت عليهما حشية رقيقة من الإسفنج الصناعي أو القطن مكسوة بالمشمع أو الخيش كما وضعت عارضة أو لوح من الخشب أو الحديد المغلف بالإسفنج الصناعي أو القطن المكسو بالمشمع أو الخيش بامتداد الجانبين لتكون مسنداً لظهر الجالس وعملت أيضاً فتحة مستطيلة في كل جانب عوضاً عن النوافذ , وعلقت في زاوية الصندوق لمبة صغيرة يتيمة للإنارة ليلاً , ويتدلى من خلف الصندوق درج من أثنين أو ثلاثة سلالم من الحديد مثبت بعمودين إلى صندوق العربة ليعتليه الراكبون أو ينزل عليه النازلون , وعندما يسير الدفار تجد هذه السلالم مزدحمة بالواقفين عليها وكأنها خلية نحل .
وصار هذا المنظر مألوفاً حتى أن شرطي المرور لا يأبه له ولا يحرك ساكناً لهذا الركوب الخطر .. وقف العم عبد الصبور مع المنتظرين يسح العرق من كل مسام جسمه وهو يحاول جاهداً تجفيفه بكم جلبابه وبينما هو كذلك ظهر الدفار المنتظر , فحدثت جلبة وهرولة وسباق إليه , وانحاز جانباً العم عبد الصبور ومعه اثنان من كبار السن ورهط من النساء وقبل أن تقف المركبة قفز منها بعض الراكبين وقفز إليها بعض الشبان وتعلق بعض الصبية بجانبها وهاج وماج النازلون والطالعون وولولت امرأة : (( سجمي ما تكتلو لي الوليد )) وأخرى تستنجد (( عليكم الله شوفو لي فردة شبشبي )) ويصيح رجل يبدو أنه شيخ عرب : (( يا أخوانا خلو العوين ينزلوا . انتو ما عندكم ولايا , لا حول ولا قوة إلا بالله )) وقال رجل أمدرماني متحذلق : (( انتو يا ناس بهايم , انتو جيتو من وين , خلو الناس ينزلو وبعدين اركبوا )) ولكن كل هذا الصياح راح أدراج الرياح وصار الكلام خائباً كسباحة السمك على اليابسة .
وفي دقائق سكنت الضجة واحتل الركاب أماكنهم في الكنبتين متلاصقين كما في الصلاة الكتف في الكتف والقدم في القدم ولكن هنا يزيد على ذلك أن الفخذ في الفخذ سواء جالس بجوارك رجلاً كان أو امرأة , ووقف الباقون من الركاب متراصين ماسكين على القضيب في سقف الدفار وكأنهم شرائح لحم (( شرموط )) متدل من الحبل , ووقتها أخذ العم عبد الصبور وزمرته من العواجيز من النساء والرجال يزحفون ليجدوا لهم موضع قدم داخل الدفار .. وقد أفرز الدفار أنماطاً من السلوك خاصة به , فالركاب لا يتكلمون ولا يقوم صغار السن والشبان للعجائز والنساء الواقفين ليجلسوهم ولا يطلب الكمساري الأجرة بل يطقطق بأصابعه (( طق طق )) ويناوله الراكب ورقة النقد ولا يكلمه بل يشير بإصبعه فيرفع إصبعاً واحداً أو اثنين أو ثلاثة معاً ليتحصل الكمساري الأجرة وفق هذه الإشارة , ولا يعطي الكمساري باقي النقود للراكب في حينه أملاً أن ينساها الراكب في آخره الرحلة فيسحتها الكمساري .. وعندما يمتلئ الدفار ويفيض ويركب البعض على السلم من الخارج لا يتحرك السائق ولكن يعمل حركة يبدو فيها صوت المحرك كأن المركبة ستتحرك ولكن تظل واقفة في مكانها والكمساري وهو غالباً ما يكون غلاماً متسخ الثياب خشن الطبع يصيح طالباً المزيد من الركاب . وكل ذلك يحدث وتمضي الدقائق بطيئة ثقيلة كيوم شديد القيظ في رمضان , ويزيد الحرارة داخل المركبة انفاس الركاب اللاهبة والتلاحم بين الأجساد سواء الواقفين من الركاب أو الجالسين والعرق يتصبب من الأجساد المنهكة ناشرا من البعض رائحة كريهة , وتكاد الأرواح تبلغ الحلقوم وكأنها "بروفة" ليوم الحشر .
وهنا يتحرك السائق بالدفار بعد أن ينهره منادي السيارات عدة مرات : "يا الدخري ما تحرك العربية ما شحنت خلاص" ويدعم بعض الركاب هذا الحديث بخبط صندوق الدفار , ويسير السائق بالدفار ساخطا , ولكن الكمساري والسائق لا يقنعان بشحنتهما الآدمية ولكن يقولان أبدا هل من مزيد ؟ . وفي الطريق يقف السائق لكل من يشير إليه ويضغط فجأة علي كوابح العربة فيميل الركاب جميعهم إلى جانب منكفئين علي بعضهم البعض كإعصار يلعب بسيقان الأشجار وفروعها , وقبل أن يستقر الراكب الجديد داخل العربة يتحرك السائق بدفاره فيميل الركاب هذه المرة إلى الناحية الأخرى وتتجدد هذه الحركة كلما وقف الدفار أو سار والراكبون يتمايلون من جانب لآخر كأنهم سكاري وما هم بسكارى , ويصيح الكمساري :"يا اخوانا العربية فاضية جوه بالله اتضايروا" وينحشر الراكبون الجدد ويزداد الناس التصاقا وتراهم جالسين وواقفين صابرين تغشاهم مسكنة وحزن مقيم وصامتين صمت القبور .
[email protected]

للمزيد من االمقالات
للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved