من المؤكد أن قرنق كان صادقاً في مسعاه لإعادة الحكومة والتجمع إلى طاولة المفاوضات. من الطبيعي أن يشعر الطرفان بأنهما مدينان له، بما أن مصر لعبت دور الوسيط والمضيف للمحادثات، فإنها لم تكن سعيدة بانقطاعها غير أنها لم تثير حماساً لاستئنافها. الخلافات السودانية بدت عبئاً مضنياً ولزجاً على الإدارة المصرية المعنية.
فيما يبدو أن إعادة ضخ الدم في العروق المتيبسة يريح المضيف والوسيط بغية التخلص من الأعباء المترتبة على تجمد المحادثات. إذاً القاهرة تشعر كذلك بالرضا لجهود قرنق. قد لا يكون واضحاً للعيان غير أن التيار الوحدوي داخل حركة قرنق يشعر هو الآخر بالامتنان إزاء نجاح الزعيم في القاهرة.
رغم تشدد التجمع على رفض النسب المخصصة له في مؤسسات المرحلة الانتقالية ظل حريصاً على عدم إغلاق باب المحادثات مع الحكومة، قرنق لم يكتف بعرض إمكانية تعديل نسب التجمع، بل طالب قيادته بالمبادرة لجهة دفع الطرف (الحكومة) للعودة إلى المفاوضات.
الزعيم الجنوبي استطاع استمالة جميع الأطراف التي شملتها محادثاته في القاهرة، إذ أكد على أنه ينطلق في كل طروحاته من التزامه الراسخ بعضويته في التجمع وليس بصفته شريكاً في السلطة. هذا التأكيد على قدر ما أراح تلك الأطراف خلق جواً طيباً للمكاشفة والمصارحة.
التجمع ذهب في هذا الاتجاه حداً لم يشدد فقط على رفض الحلول الجزئية بل مضى إلى التمسك بضرورة التوصل في المحادثات إلى حزمة اتفاقات تشمل مطالب ملحة لم تطالها اتفاقات السلام. حرص قرنق على استئناف المحادثات جعله يؤمن على حق التجمع في طرح ما يرى.
تجاوباً مع هذه الروح أجرى زعيم التجمع محمد عثمان الميرغني اتصالات أثمرت اتفاقاً مبدئياً مع الخرطوم على استئناف المحادثات في ثلاث جولات في غضون الثلث الثاني من الشهر الجاري. الاتفاق المبدئي يتبلور قبيل مغادرة قرنق القاهرة. في الجولة الأولى تواصل اللجنتان السياسية والعسكرية تسوية ما تبقى عالقاً على الطاولة.
في الجولة الثانية يلتقي نائب الرئيس علي عثمان طه والميرغني وقرنق لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق ومعالجة المسائل المستعصية على اللجنتين. الجولة الثالثة ذات طابع مراسمي يشهد توقيع الاتفاق.من الصعب تصور انسياب البرنامج على ذلك النحو.
داخل المؤتمر الحاكم تيار يصر على إقصاء فصائل التجمع من أجل تحجيم الخسائر المحتملة في المرحلة الانتقالية. داخل هذا التيار مراكز قوى لها خصومات تقليدية ترفض تذويبها ولقاء فصائل التجمع.هناك أطراف أخرى متصالحة مع قرنق ونفسها وترى في زيادة حصص التجمع ما يعين قرنق على الاستقواء داخل مؤسسات المرحلة المرتقبة.
التصنيف لا يستبعد وجود طرف يرغب في تجاوز المرحلة على أي نحو من أجل مواجهة استحقاقات ما بعد خياري الاستفتاء وحدة أو انفصالاً.كأنما كانت القاهرة على قناعة برؤية حكومة الخرطوم في تقليلها من حجم فصائل التجمع على الساحة السياسية السودانية. إذا صحت هذه الفرضية فان قرنق يكون نجح في تغيير هذه الفكرة لدى القاهرة.
ما يرجح هذه الفرضية ان قرنق لديه اغراء جاهز يمكن ان يعزف عليه في مصر فيتجاوب معه وهو تأمين وحدة السودان. فصائل التجمع ذات قناعات وحدوية وهي أقرب من غيرها إلى القاهرة.وجود التجمع خارج مؤسسات المرحلة الانتقالية يضيف عبئاً مقلقاً للتحالف المعارض الذي يتزعمه الصادق المهدي.
رغم انفراد المؤتمر الحاكم بالسلطة 16 سنة فهو لن يقوى على مواجهته القوى الأخرى في ظل مرحلة ذات طابع ديمقراطي. اصطفاف أحزاب بثقل الأمة والاتحادي والشعبي والشيوعي في جهة المعارضة يقلق أي نظام. لهذه الأحزاب قدرات على شل حركة أي حكومة بما لديها من قواعد جماهيرية وتجارب في تحريك الشارع.
استفحال الاشتباك على هذا النحو يحول المرحلة الانتقالية إلى معركة شمالية ـ شمالية. كل العناصر الانفصالية ستجد معبراً تمرر عليه ضغوطها لمحاصرة قرنق بقية اتخاذ قرار مبكر بالانفصال.مثل هذا المطلب ربما يكون مشروعاً ذلك ان الاشتباك الشمالي ـ الشمالي سيعرقل أداء حكومة المرحلة الانتقالية والوفاء بمهامها.
أكثر من ذلك تجد العناصر الجنوبية على رصيف الفرجة بانتظار نهاية لا تبدو قريبة لمعركة هي ليست طرفاً فيها. الوعي بكل هذه المخاطر وحده يكفل الانسياب الصعب لجدولة مفاوضات القاهرة العالقة.