هولندا‚ «الأراضي المنخفضة»‚ ها هي الآن‚ ترتفع بـ «لا»‚ بمقدار 63 قدما‚ فوق سطح «البحر الأوروبي»! الاستفتاء كان نادرا جدا‚ هو الأول منذ مائتي عام‚ لكن برغم ذلك‚ كان كثيفا‚ ذلك لأنه كان استفتاء حياة‚ أو موت‚ «لا» الهولندية‚ كانت خيارا هولنديا‚ وليست «عدوى» حملتها إلى الأراضي المنخفضة‚ من أرض الباستيل والنور‚ الرياح التي هبت قبل ثلاثة أيام فقط‚ «لا» كانت خيار حياة‚ كانت ضد «الابتلاع»‚ ابتلاع السياسات الليبرالية‚ وابتلاع ما تبقى من قدرة شرائية‚ في زمان «اليورو»‚ وابتلاع الأراضي المنخفضة كلها‚ بالبحر الذي سيهيج بتركيا الاسلامية‚ وبكاثوليك بولندا المتعصبين! «لا هاي»‚ لم تعد فقط هي «العفو»‚ ولا المحكمة الجنائية الدولية‚ ولا «الجزاء»‚ ولا المدينة التي بذكرها يرتعش الطغاة‚ والدكتاتوريون والجزارون‚ ولا‚ «لا هاي»‚ اشتهرت أكثر بـ «لا القاضية»‚ «لا النافية» للدستور الأوروبي الموحد! يان بيتر بلكينيندي رئيس الحكومة الهولندية كان مع «نعم» راح يمضغ هذه الـ «نعم» كعلكة وهو يحاول تطمين الهولنديين: «قولوها من أجل ازدهار اقتصادنا»! أراد ان يعزف على هذا الوتر‚ في جيوب الهولنديين التي لم تشم رائحة العافية منذ ان شيع «اليورو» ذات مد‚ «الفلوران» الهولندي العريق‚ الى غياهب اليم‚ عزف بلكينيندي‚ كان عزفا آخر من «من غير اليورو من ضيع زمان ازدهارنا الاقتصادي»! ما بين القوسين‚ لطفل‚ وشيخ‚ وبائعة هوى‚ ومثلية جنس‚ وبائعة قهوة‚ وطبيب يعالج بالموت الرحيم‚ وشاب ينفث في «حشيشة» كيف! قبل التصويت أقل من ساعة‚ خبأ بلكينيندي علكته مضغوطة فوق أحد أضراسه‚ وفتح فمه: «حسنا ‚‚ حسنا‚ انني لا ادعوكم لـ (نعم)‚ انني ادعوكم ان تعبروا أنتم‚ عن خياركم انتم‚ ولا تعبروا عن خيار الفرنسيين»! كان أجدر بالرجل‚ ان يظل يعلك «نعماه» بدلا من ان يقول مثل هذا القول السخيف‚ أوه مستر بلكينيندي‚ من قال لك اننا أصلا ــ بلا خيار؟ لم أكن هنالك‚ حين شب صوت امرأة عجوز بهذه الجملة‚ قبل ان تبصق! «لا» الفرنسية‚ أطاحت بـ «رافان» فهل يمكن ان تطيح هذه الـ «لا» الهولندية‚ بالرجل الذي ظل يعلك «نعم»‚ حتى وهو يتحدث الى النائب اليميني المتطرف غيرت فيلدرز؟ لا أتصور ‚‚ أو أتصور! لا ‚‚ ذلك ببساطة لأن «80» بالمائة من نواب البرلمان‚ الذين يمكن ان يطيحوا بالحكومة‚ صوتوا لـ «نعم»‚ وظلوا يمشون بها قبل الاستفتاء بين الناس‚ وأتصور ذلك لأن حكومة الرجل صاحب العلكة لا تحظى إلا بتأييد شعبي‚ لا يتجاوز الـ 29 بالمائة! أتصور‚ انه لو كان يملك قدرا من الشفافية‚ لاستقال‚ ذلك لأن الاستفتاء كان في جانب منه‚ استفتاء على شعبيته‚ وعلى سياساته‚ الاستفتاء‚ ليس «ملزما» لهولندا برفض الدستور الأوروبي‚ إلا من ناحية اخلاقية ومن ناحية «كلمة شرف» قالت بها الأحزاب: لئن شارك أكثر من 30 بالمائة في الاستفتاء‚ سنحترم النتيجة‚ مهما كانت‚ مسكينة تلك الأحزاب‚ ربما كانت تراهن ــ بينها وبين نفسها‚ ان مائتي عام‚ من آخر استفتاء‚ ربما تكون قد انست الهولنديين شيئا اسمه الاستفتاء‚ وشيئا اسمه الوقوف في طابور للتصويت! مسكينة تلك الأحزاب‚ لقد فات عليها ان هذا الاستفتاء هو استفتاء حياة أو غرق ‚‚ وفات عليها أكثر ان الهولنديين الذين خبروا اليابسة المنخفضة‚ خبروا البحر أيضا‚ وكيف انهم برغم الانخفاض يرفضون توغل وتغول البحر ‚‚ والبحر الذي خبره الهولنديون منذ ان شيع «اليورو» طيب الذكر‚ الفلوران الهولندي بحرا!