فالمواطن العادي يرغب أن يرى في هذا الدستور الانتقالي حماية وتأكيدا للحقوق الطبيعية للشعب قبل الإسراع إلى باب حماية الحقوق المدنية والحريات الأساسية التي لا تعني الفقراء والغبش في شيء. فثورات الأقاليم لا تزال تقاتل من اجل استعادة حقوقها الطبيعية المتمثلة في حق الحياة الطبيعية الكريمة، والرعاية الصحية والتعليم الأساسي المجاني، والتنمية الاقتصادية المتساوية، وحقها في أن تحكم نفسها بنفسها، وحقها في نصيب عادل من الثروات القومية لتؤمن به دعائم الحكم اللامركزي المنصوص عليه.
وحسنا فعل مشروع الدستور بالنص على حزمة طويلة من حقوق الإنسان والحريات السياسية والمدنية. إلا انه في نفس الوقت أراد أن يضع شروطا لممارسة العملية السياسية متغافلا حقيقة أن حق الأحزاب السياسية في الوجود والانتخاب والترشيح، هي حقوق سياسية طبيعية مكتسبة، كفلتها جميع دساتير العالم، ولا تحتاج إلى إذن خاص، ولا يستطيع احد مصادرتها. والنص على حظر أو وضع شروط للممارسة السياسية، هو نسخ لقانون التوالي سيء الذكر، وتطبيق لأفكار الترابي من خلال هذا الدستور. ومثلما رفضت القوى السياسية نص التوالي، سترفض هذا النص الذي يدعو للعزل السياسي.
ولا يرغب المواطن أن يرى في الدستور الانتقالي نصا يقضي بتوزيع المناصب على أسس عرقية أو جغرافية أو دينية، حيث من حق أي مواطن سوداني الترشيح لرئاسة الجمهورية، أو للبرلمان، وان تكون المواطنة هي المعيار الوحيد في ذلك، إذا لا معنى لوثيقة دستورية مثقلة بقائمة طويلة من الحقوق والحريات، وفي نفس الوقت تجهض حقوق الآخرين في تولي المناصب العامة، ولا جدوى من دستور يحترم حقوق الإنسان كافة ويقوم بتوزيع المناصب على حسب العرق أو الجهة الجغرافية. ورغم ما قيل عن امكانية اللحاق ومشاركة الآخرين أثناء الفترة الانتقالية، إلا أن هذه المشاركة تصطدم بحقيقة أن هذا المشروع يميز بين الفئات السياسية تمييزا يستمر لمدة ست سنوات، كما يعطي الفيتو للقوى التي صاغته.
هنالك نزعات خطيرة لابد من الإشارة إليها، بدأت تأخذ طريقها لأعمال مفوضية الدستور الانتقالي الذي لا زال قيد المداولة والمساومة بين الطرفين. فمثلا التسوية التي تمت حول موضوع إيراد نص "البسملة" هي حيلة جديدة لا وجود لها في الفقه الدستوري من شأنها أن تجعل من مشروع الدستور نسختين مختلفتين، في حين المراد هو نسخة واحدة لشعب واحد. ولا مجال للقول بعدم أهمية هذه الجملة بدليل اختلاف الطرفين الحاد حولها. والخوف أن تظل هذه النزعة لحل خلافات الطرفين هي سمة أعمال المفوضية، حيث بدأت بوضع نظام بنكي بنافذتين، ثم دستور واحد بنسختين واحدة تحتوي على "البسملة" وأخرى من دونها، وأن تصبح نهجاً ونسقاً يسود في بقية النصوص، مما يشكل سابقة لا مثيل لها في الفقه الدستوري الخاص ببناء الدول ومؤسسات الحكم فيها. استمرار هذا النسق يرجح أن يكون الناتج في نهاية المطاف هو دستور واحد بوجهين مختلفين: واحد للشمال وآخر للجنوب مما ينفي عنه صفة القومية. وهذا ليس من الدستور في شيء ولا يرغب فيه المواطن السوداني.
ومن محاسن ما رأينا في مشروع الدستور المعلن أن وردت به نصوص تحظر قيام الأحزاب السياسية على أساس العرق أو اللون أو الجهة. ولكنه في نفس الوقت سكت عن حظر قيام أحزاب سياسية على أسس دينية ولم يحظر استخدام الدين لأغراض سياسة، وهذا من شأنه أن يفسر على انه سماح بتكوين و قيام أحزاب على أسس دينية بحتة، مما يهدد قائمة الحقوق والحريات المدنية التي تم ذكرها في الدستور، ويجعلها غير ذات معنى. كذلك يجعل مثل هذا النص الدولة وكأنها مؤسسة تعمل على ترويج الأديان وتشجع قيام المؤسسات الدينية مما يجعل جهاز الدولة مطية للتنافس الديني ويفتح أبواب الفتنة بين الطوائف الدينية المختلفة.
وليس من السهل أن يستطيع أناس من مختلف الأديان والأعراق والعادات أن يتجمعوا في إطار دولة واحدة مكونين أمة متحدة، إلا إذا وجد اعتراف كامل بخصوصية جميع المجموعات الاثنية التي تعيش في هذه الدولة وضرورة أن يعمل النظام السياسي فيها على حماية هذه المجموعات. و في ظل النظام السياسي الجيد، يمكن الاعتراف والتأكيد على حماية المجموعات الاثنية فيها صغيرها وكبيرها، بما في ذلك معتقداتهم الدينية المختلفة، بحيث يصبح ذلك الاعتراف مبدأ أساسياً في هذا النظام السياسي السوداني الجديد.
هنالك إذن ضرورة مُلحة في أن يرفض الدستور النص بأن يكون هناك دين واحد للدولة، الأمر الذي يعتبره المفكرون السياسيون قمة في ضمان الحقوق الأساسية لكل الأفراد. و من خلال هذه الحيادية للنظام الاجتماعي ولنظام الحكم فيما يخص التوجه الديني، يمكن لمختلف الفئات والجماعات الدينية في السودان أن تتعايش مع بعضها البعض. إن التسامح في مجال الدين والعرق، ليس مظهراً من مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية، بل هو شرط أولي لحفظ التوازن في المجتمع. وهنا تكمن مهمة الدولة في لجم التشرذمات والانشقاقات الدينية وجماعات الهوس الديني بوصفها "مساً بالسيادة".
وأخيرا فيما يتعلق بالحقوق، وعلى الرغم من كثرة ما شهدناه من تعديلات دستورية منذ إجازة دستور عام 1956، إلا أن الدستور ظل للأسف بعيداً عن تطلعات الجماهير، ولا يعكس التغيرات الديموغرافية التي حدثت في السودان منذ الاستقلال. فقد شهد السودان زيادة سريعة في عدد سكانه، كما شهد تحولا في التركيبة السكانية، وذلك بفضل حركة النزوح المستمرة من الريف إلى المدينة، وانعكاس هذه الهجرة في ظهور عدد من المدن ونموها بصورة سريعة، وتشهد بذلك حركة الاستيطان الضخمة التي تشهدها العاصمة القومية. لذا يجب أن يؤمن الدستور حق كافة فئات الشعب في التنقل والترحال بين أقاليم السودان وحقهم في الإقامة حيث ما رغبوا وحقهم في السكن الكريم المتساوي.
وفي مجال الحكم الرشيد، يحب المواطن السوداني أن تكون السيادة لحكم القانون في جمهورية السودان لأنها الترياق المضاد في مواجهة السلطة المستبدة، وتكريساً لمبدأ الشرعية القانونية والشرعية الدستورية، وهذا يعني أن تخضع الدولة والمواطنين على السواء لسيادة حكم القانون. فلا كبير على القانون ولو كانت السلطة التنفيذية نفسها. لذا يجب أن تحظى قرارات المحاكم والقرارات التي تصدرها الأجهزة الإدارية بموجب القوانين باحترام الجميع دون تفرقة بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو الدين أو المنصب. فلا جريمة إلا بقانون، ولا عقوبة إلا بنص، والجميع سواسية أمام القانون، وذلك بإتاحة الفرص المتساوية للتقاضي أمام المحاكم السودانية، مدنية كانت أم جنائية، وان يكون لكل متهم الحق في أن يمثل بواسطة محامي، وان لا يتم القبض أو التفتيش دون إذن مسبق صادر من جهة قضائية.
كذلك لابد من إعطاء المحكمة العليا حقها ودورها في مراجعة القوانين التي يشرّعها مجلس الشعب، للتأكد من مطابقتها مع نصوص الدستور، وتعرف هذه العملية بالرقابة الدستورية وهي من صميم واجبات المحكمة العليا. وبهذه الوسيلة يمكن قفل الباب نهائيا أمام تغوّل الأجهزة التنفيذية والتشريعية. إن تفسير المحكمة العليا للقيم الدستورية من شأنه أن يسمح للحق الدستوري بأن يتأقلم مع الوقائع الاجتماعية المتغيرة.
ولا نعلم حتى الآن ما نص عليه مشروع الدستور الانتقالي حول سيادة حكم القانون. إذ أن هنالك خلافاً حادا بين نسخة نيفاشا ونسخة دستور 1998. ففي حين أمنت نسخة نيفاشا على سيادة حكم القانون، نجد دستور 1998 ينص على الآتي في المادة (4) منه " الحاكمية في الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف، يمارسها عبادة لله وحملا للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والحرية والشورى، وينظمها الدستور والقانون". إذ اكتفى النص هنا بتقرير دور الدستور والقانون في تنظيم أمر "الحاكمية لله" فقط، وهذا مخالف لما هو متعارف عليه. ويجدر بالذكر أن دستور 1973 نص صراحة في المادة(59) على سيادة حكم القانون وسيادة القانون أساس الحكم. وكذلك فعل دستور 1985 المؤقت في المادة(11) منه. كما أكدت عليه اللجنة القومية للدستور لسنة 1998 برئاسة مولانا خلف الرشيد حيث ورد " تخضع الدولة لحكم الدستور والقانون"، و رغم توصية لجنة مولانا الرشيد هذه، خلا دستور 1998 منه. فهل سيجد نص "الحاكمية" طريقه مرة أخرى للدستور الجديد؟ ولا نحتاج إلى القول أن دستورا لا يحتوي في صلبه على مبدأ عالمي مثل سيادة حكم القانون هو دستور غير ذي جدوى ويهدر الحقوق ويجعلها في حكم العدم.
إن عملية الدمج والمواءمة بين دستور الإنقاذ الإسلامي لعام 1998 ونصوص اتفاقية نيفاشا الشاملة للسلام ليست عملية سهلة بالطبع، إذ أنها تبدو كمحاولة للتوفيق بين نقيضين مستحيلين، لن تستوي مهما بلغت مهارة الصانع. إذا قلنا أن الاتفاق قد اجبر الحركة الشعبية للتخلي عن المطالبة بفصل الدين عن الدولة وبالتالي إسقاط المطالبة بدستور علماني ديمقراطي لكل السودان، فإن هذا من شأنه أن يبقي على المفاهيم التي بني عليها دستور 1998 وسيادة ظهورها في الدستور الجديد. ورغم ذلك ستجد عملية الاختلاط والدمج تبدو كمقرن النيلين حيث يستطيع المرء أن يميز بين مياه النيلين بوضوح عند الاقتران، وقد نحتاج للمشي معاً لمسافة طويلة حتى تتضح ملامح نهر النيل ويصير موحدا.
* متخصص في شئون الكونجرس