قوة الكلمة سحرها:
"نهج التراضي،" مقولة ساحرة أثرة أطلقها أثنان من رواد حركة التنوير في سوداننا المعاصر. الدكتور كامل إدريس، الذي مارسها قولاً وفعلاً، وفكراً، على المستوى القومي " مصالحة الترابي والصادق التي تمت بجنيف"، ذلك اللقاء الشهير الذي حرك المياه الراكدة في مستنقع السياسة السودانية. وعلى المستوى الدولي، باتباعه سياسة الإجماع بين الدول الأعضاء في المنظمة العالمية للملكية الفكرية التي يرأسها، وفي غيرها من المؤتمرات الدولية التي تشرف برئاستها. وفكراً في كتابه المتوقع الصدور قبل نهاية هذا العام "السودان 2020". كما نادى بها الأستاذ عبدالله آدم خاطر، عضو المجلس الأستشاري لأكاديمية الوايبو، والصحفي والكاتب والناشر المعروف، في لقاءاته وندواته وكتاباته.
"نهج التراضي" كلمتان خفيفتان على اللسان، يتردد صداهما على مسامعي في هدوء وحنو، ثم يزداد الرنين وتعلو الطرقات، كلما طفا على سطح بلادي من عنف وعنف مضاد، انتهجه إنسان السودان كوسيلة لتحقيق مطالبه وتطلعاته المشروعة. وتجلت ظواهر هذا العنف في المواقف التي اتخذتها الحركات المسلحة في الجنوب والشرق والغرب. وهاهي أثاره السالبة تتمدد وتأخذ بعداً مأسوياً جديداً، لتصل إلى حدود الخرطوم "سوبا".
تلك ظواهر تنذر وتبشر بانتقال العنف من الهامش إلى المركز، لتفرض واقعاً وتحدٍ جديد تواجهه الأمة السودانية. لذا تقع مسئولية عظمى على عقلاء هذه الأمة على العمل لدرء المخاطر وكبح المواجهات والصدامات حاضراً ومستقبلاً. وإلا فإنها ستمضي غير عابئة بالأثار والخسائر البشرية والمادية التي ستحلق بأطراف النزاع ومن آزرهم أو جاورهم. مما يترك في الأنفس مرارات وثارات سنورثها للأجيال القادمة.
يدعو نهج التراضي إلى الركون إلى السلم، وإطفاء الحرائق، ولجم الصدامات الناشئة بين المجتمعات، والتخلى عن مواجه النار بنار مثلها، خاصة وأن النيران قد صارت كالكرة المشتعلة، التي يزداد لهيبها واحتراقها كلما وجِهَ صدام بصدام.
لِمَّ العراك:
ليس من الغضاضة أن يطالب ويسعى الفرد أو الجماعة لتحقيق حاجاته، بكل الوسائل المقبولة والمعقولة. فهذا حق شرعي تقبله الفطرة ويكفله القانون. ولكن الأشكال ينطوي في الوسائل المتبعة للتعبير عن رغباتنا، والطرق التي نسلكها لتحقيق حاجاتنا الأساسية المادية منها والمعنوية ونحصرها في جزئتن:
المادية: الماء والطعام والمؤوي، وحق العمل،
المعنوية: العقيدة، كرامة المرء وحرمة دمه وماله وعرضه. حق التعبير عن الذات، وحق الاعتراف بوجوده كفرد في المجتمع له طموحات ورغبات مشروعة يعمل على تحقيقها.
لهذا يلجأ الفرد أو الجماعة "مكرهاً لا بطل" للصدام والمواجهة عند إحساسه بأن مطالبه الأساسية غير مستجابة. فيجعل من العنف وسيلة للتعبير عن رفع الظلم وسلماً لنيل المطالب. لم يأت هذا العنف من فراق، بل للدولة نصيب غير منقوص فيما جرى وما سيجري من أحداث. وذلك لانتهاجها سياسة العصي لمن عصى، واستخدامها لأسلوب مواجهة الحريق بحريق مثله، كوسيلة للردع والهيمنة والتطويع. فقد صرفت النظر تماماً عن الوسطية، وأستعصمت عن اللجوء لمبدأ الحوار في بأدئ أمرها، رغم السوانح التي لاحت لها في الأفق نتيجة المبادرات الجادة التي قامت بها شخصيات وطنية سعت لإطفاء الحريق شرقاً وغرباً في بداية اشتعاله. إلا أن الدولة أدارت ظهرها لتك الجهود ولم تركن للسلم، إلا بعد أن أتها مرعداً مزبداً من خارج الحدود دون أذن بالدخول. حينها حل بالدولة رشدها ولكن "بعد خراب سوبا."
تعنت الدولة في بداية الأمر ولجوئها لقانون العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، وإطفاء الحريق بحريق مثله ولد الخوف والمرارة والشعور بالدنيوية لدى الطرف الآخر "دارفور." وأصبح هذا الطرف، أمام أحد الخيارين:
الخضوع للهيمنة، خوفاً من صاحب السطوة والسلطة والقرار ويمثلها هنا "الدولة والجنجويد." أو
التمرد على "الدولة والمجتمع،" سعياً لتحقيق استقلاليته وذاتيته. وهنا يكون المتمرد على استعداد تام لدفع الثمن المستحق، وتحمل المشاق والتضحيات التي ستواجهه نتيجة تمرده وعصيانه.
والتمرد هي إحدى الوسائل التي تعبر بها الجماعات أو الأفراد عن قوتها وسلطتها وفرض إرادتها على ذاتها وعلى الأخر. فهي ليست رغبة حقيقة عندها بل هو خيار صعب خرج من رحم الظروف المحيطة، التي دفعت بالمتمرد"فرداً كان أو جماعة" لاتخاذ موقف التصلب والمصادمة.
ونخلص من هذه المقدمة، بأن السلام الاجتماعي في السودان لا يمكن تحقيقه تحت ظل الإرهاب والتهديد والوعيد والهيمنة والردع من قبل طرفي الصراع "الدولة وحملة السلاح." لذا فإن مجتماعتنا في حاضرها ومستقبلها تحتاج لطرح جديد. يسحب الأطراف المتصارعة من ساحات النزال، إلى قاعات الحوار، وذلك عن طريق تفعيل وإشاعة " نهج التراضي" بين أوساط المجتمع السوداني. فنهج التراضي يمكن تطبيقه والعمل به في كل مناحي الحياة التي يتولد فيها صراع واحتكاك بين أكثر من طرف. سواء كان ذلك الصراع في البيت أو المدرسة أو مواقع العمل أو الحكم والسياسة.
من أين أتى نهج التراضي:
يصف دعاة نهج التراضي بأنها ثقافة وتراث ذات أصول متجذرة في تقاليدنا العرفية والشعبية والقبلية والدينية. ونمارسها على مدى اليوم والليلة في شتى مناحي حياتنا اليومية " الأجاويد بشتى أشكالها وألوانها". والمطلوب منا نقل هذا النهج من إطاره الأهلي إلى إطار مؤسسي منهجي يواكب تطلعات إنسان القرن الواحد وعشرين، الذي عرف مطلعه" بعصر المعلومات الرقمية، والديمقراطية المباشرة، والحرية والشورى وزوال الحدود".
فالرؤية التي يدعو لها كل من الدكتور كامل إدريس، والأستاذ عبدالله آدم خاطر، "نهج التراضي" تقوم على نبذ العنف بكل أشكاله، وترجيح مبدأ الحكمة وإعمال العقل، على مبدأ العاطفة والانفعال، والفعل ورد الفعل.
ترتكز فلسفة التراضي على دعوة الأطراف المتشاكسة أي كانت وأنا كانت، للجلوس معاً لتبحث عن أرضية مشتركة يمكن أن يلتقي فيها ويقف عليها الشركاء المتشاكسون. ويكون دور أهل التراضي قاصراً على دفع الجميع نحو غاياتهم، دون التأثير على طرف أو التحيز لآخر. وإن أردت الدقة، فدور أهل التراضي كدور الإنسان الذي وجد من يؤدي صلاته في اتجاه خطأ، فما كان منه إلا أن دلَّه على الاتجاه الصحيح وتركه يكمل عبادته. فنهج التراضي لا يريد من الخصماء أن يعدلوا أو يبدلوا أهدافهم، بل غاية مبتغاه أن تعدل الناس آلياتها ونهجها لبوغ أهدافها عن طريق الحوار والفهم المتبادل.
يدعو نهج التراضي الفرد والجماعة للاستماع لدواخلهم وتحديد رغباتهم وتطلعاتهم المشروعة، ثم البحث عن رغبات الطرف الأخر وخلق ارضية مشتركة، وعلاقة ثنائية متناغمة تدفع في اتجاه تحقيق رغبات الأطراف التي ليست بالضرورة متضاربة، وذلك من خلال التحاور والاستماع وترقية وتطوير فهم كل طرف لمقاصد وأهداف الطرف الأخر. مما يولد حواراً متبادلاً بينها يرسخ لقيم التعايش السلمي مع النفس ومع من حولها.
مرتكزات نهج التراضي:
منبر التراضي يعمل على إشراك كافة فصائل المجتمع بمواعينه المختلفة في منبر التراضي، لخلق شراكة جديدة تقوم على مبدأ الحوار والتفهم الذي لا فضل فيه لرجل على امرأة، او صغير على كبير، أو عشيرة على أخرى أو صاحب سلطة على محكوم.
نهج التراضي يؤمن بأن لكل معضلة حل، ولكل عسر يسر. وأن الغايات والأهداف يمكن بلوغها متى ما توفرت النوايا الحسنة والرغبة والعزيمة في البحث عن مخرج أو حل.
القبول بمبدأ الحوار لا يعني بالضرورة أن نخرج برأي واحد، وقرار واحد، ولكن أدنى مكاسب هذا الحوار هو أن كل طرف قد تفهم وأدرك دوافع ورغبات ومبررات الطرف الأخر.
نهج التراضي يعمل على قيادة القرار وليس اصداره، لأن صدور القرار يأتي من الجماعة وبطوعية.
تأطير الثقة بين الأطراف المتشاكسة، من خلال الحوار ذو الدلالة والأهداف لتحقيق الرغبات دون مصادمة.
تعلم فن الحوار وسماع الرأي الأخر وتبادل الآراء والأفكار في حرية تامة.
منبر التراضي يعمل على بلورة وتطأطير وتعريف، حاجات ورغبات الأفراد والمجتمع المشروعة ودلهم على طريق بلوغها، دون الحوجة لاستخدام العنف.
علىالدولة أو الفرد أو الجماعة، أن تعي أن القوة والعنف، ليست هي الوسيلة الأنسب والأمثل لنيل المطالب والحقوق، وأن الفرد لا يلجأ إلى القوة إلا في حالة الدفاع عن النفس،
على جيلنا أن لا يقف مكتوف الأيدي موقف المتفرج لما يحدث حوله، بل من الواجب عليه أن يشارك الناس هموم، ويبحث لهم ولها عن حلول.
على جيلنا أن يعمل دون يأس أو قنوط أو عدول، حتى يحقق السلام والأمن الأجتماعيين.
من غير المتوقع أن يحدث نهج التراضي تغييراً في مجتمعاتنا السودانية على المدى القريب، ولكن في تبني فلسفته واستخدام نهج "التراضي" كحراك يومي في كل قطاعات المجمتع السوداني، سيساهم ذلك حتماً في ترسيخ قيم السلام وأمن المجتمع، وتأطير قيم الحوار والديمقراطية، وتقديم القانون العام على من القانون الخاص الذي تبتدعه الدولة لتقهر به المواطن أو تسلبه حقه، كلما ألم بها ظرف وطارئ، وقانون الساعة المفروض فرضاً "سياسة الأمر الواقع" من الدولة أو المجتمع أو الفرد.
علي يس الكنزي / جنيف سويسرا