السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

مَحْجُـوبٌ .. الــذَّهَبِـىْ! بقلم كمال الجزولي

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
6/4/2005 11:47 ص


ثمَّة شئ من ترميز مدهش فى بعض السيرة الذاتيَّة لعميد الصحافة السودانيَّة محجوب محمد صالح ، رئيس تحرير (الأيام) الحائز على زمالة داج همرشولد للاعلام عام 1959م ، والدكتوراة الفخريَّة من جامعة الاحفاد للبنات بأم درمان عام 2004م ، وجائزة مؤسسة فردرش إيبرت لحقوق الانسان ببرلين عام 2004م ، وجائزة المنظمة العربية لحريَّة الصحافة (درع الدفاع عن حرية الرأى) عام 2004م ، والعضو المؤسِّس فى اتحاد الصحفيين العرب ، واتحاد الصحفيين الأفارقة ، وصاحب المشاركات والمساهمات فى العديد من المؤتمرات والمدارسات في مختلف أنحاء العالم ، والذى منحه الاتحاد العالمى للصحف جائزته الدوريَّة (القلم الذهبى) لهذا العام ، تكريماً لنضاله المتواصل من أجل حريَّة الصحافة طوال نصف قرن ، وذلك فى فاتحة أعمال المؤتمر السنوى للاتحاد والمنبر العالمى للصحفيين بالعاصمة الكوريَّة سيول يوم الاثنين الماضى 30/5/05 ، بحضور رئيس الدولة المضيفة وما يربو على 1300 مندوب من 81 بلداً يعملون في الصحافة المكتوبة.

ثمَّة شئ من ترميز مدهش فى بعض سيرة الرجل الذاتيَّة كون صرخة ميلاده الأولى عام 1929م جاءت وكأنها ، من جهة ، تؤذن باستدبار مناخات الانكسار الدراماتيكى الذى زلزل السودان زلزلة فى عقابيل الهزيمة المُرَّة لثورة 1924م ، ومشاعر الاحباط المدمِّر الذى عصف وقتها عصفاً بمن قدر له ، من قادتها القوميين الرومانسيين ، أن يفلت من ساحات الاعدام ووحشة الزنازين وغربة المنافى وغبن التشريد ، كما جاءت وكأنها ، من الجهة الأخرى ، تدعو للاستبشار بإرهاص (أفنديَّة) الثلاثينات بالتهيؤ لمعاودة (التجريب) ، احتشاداً ، هذه المَرَّة ، على مسالك التثقيف الذاتى والنضج السياسى مِمَّا عزا غالبهم أوضاع الهزيمة للافتقار إليه.

ثم ، وبعد عقدين من الزمان ، جاء ميلاد (قلمه الذهبىِّ) الأول صحفياً غضَّ الاهاب ، عقب فصله من كليَّة الخرطوم الجامعيَّة عام 1949م بسبب نشاطه الوطنى كسكرتير لاتحاد طلابها ضد الحكم البريطانى ، قبل أن يطلق عام 1953م مع رفيقى دربه بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان جريدة (الأيام) الغرَّاء فى نفس المفصل التاريخى الذى شهد ، سودانياً ، الانفجار المدوِّى غير المسبوق للحركة السياسيَّة والاجتماعيَّة السودانيَّة ، بأحزابها الوطنيَّة ، وتنظيماتها الجماهيريَّة والنقابيَّة ، واتحاداتها المهنيَّة والفئويَّة وغيرها ، مِمَّا وَسَمَ الكفاح من أجل الاستقلال بطابع ديموقراطىٍّ عميق الاتساق مع خصائص المناخ العالمى الذى شهد وقتها هزيمة النازيَّة والفاشيَّة ، ونهاية الحرب الثانية ، وبروز المعسكر الاشتراكى ، وانطلاق حركة التحرر الوطنى ، وتصفية النظام الاستعمارى القديم ، وتأسيس المنظمة الدوليَّة للأمم المتحدة ، وتدشين المفاهيم الحديثة لحقوق الانسان والشعوب.

هكذا ظلَّ محجوب ، من الناحية الرمزيَّة ، توأم المعانى الكبيرة التى لازمت ميلاده الأول كطفل ، وميلاده الثانى كصحفى ، فبقى ، إلى يوم الناس هذا ، (ذهبياً) بثبات فى كلِّ الأحوال، وعلى مدى مسيرته الذاخرة بالدروس العظيمة والخبرات اليانعة ، وحارساً مؤتمناً على مرجعية القيمة الفكرية الأسمى لحقوق الانسان ، ومدافعاً جسوراً عن حرية الرأى والضمير ، وعن حرية التنظيم والتعبير ، وعن الحق فى الاتصال ، وعن الحق فى المعلومة ، وعن حريَّة الصحافة بالأخص ، وعن سائر الحريات العامَّة ، والحقوق الأساسيَّة ، ومبادئ الليبراليَّة السياسيَّة ، وثقافة التسامح ، والحوار السلمى ، واحترام الآخر. كما ظلَّ وصحيفته يسهمان فى الدفع الدءوب باتجاه الديموقراطيَّة التعدُّديَّة نظاماً للحكم ، ومنهجاً أثبتت كلُّ خيباتنا التاريخيَّة أنه وحده ، وليس سواه ، الأصلح للاعتراف بمشروعيَّة الاختلاف وإحسان إدارته بين مفردات منظومة التعدُّد والتنوُّع السودانيَّة شديدة الفرادة والخصوصيَّة.

لقد خاضت مؤسَّسة (الأيام) ، وبجدارة عالية ، معركة الاستقلال السياسى ، وجمع شمل الأطراف المختلفين لإعلانه من داخل البرلمان. ثم خاضت ، بذات الجدارة ، معركة التحرُّر الاجتماعى ، وإرساء مداميك الوعى بضرورة التطوُّر الديموقراطى ، لم يثنها عن ذلك ترهيب أو ترغيب ، ولم يفت فى عضدها سجن أو ملاحقة أو تشريد مِمَّا تعرَّض له رموزها ومن بينهم محجوب ، أو تعطيل أو إيقاف إدارى لطالما تعرَّضت له الصحيفة نفسها عبر تحوُّلات الديموقراطيَّة والأنظمة الشموليَّة.

وفى سبيل الترويج لمقاصدها النبيلة لم تعتمد (الأيام) أسلوب التلويح بالشعارات الخاوية من فوق الأبراج الصحفيَّة المستعلية ، بل لقد اهتدت دائماً بمهنيَّتها الرفيعة وانتباهتها السديدة إلى كون (الشكلانيَّة السياسيَّة) هى أضرُّ ما يضرُّ بأىِّ نظام ديموقراطى ، وأن (العدالة الاجتماعيَّة) هى الساق الأخرى التى بدونها تصاب التجربة كلها ، حتماً ، بالشلل ، أو بالعَرَج فى أفضل الأحوال ، والركيزة التى بغيرها يتعرض الهيكل بأسره ، يقيناً ، لخطر التداعى والانهيار. فكان أن أولت هذه القضيَّة المركزيَّة عنايتها المخصوصة من خلال اهتمامها الاستثنائى ، بمشاركة محجوب فى إدارتها وتوجيهها ثم تحت رئاسته لتحريرها لاحقاً ، بأحوال الناس المعيشيَّة من قوت وإسكان وصحة وتعليم وما إلى ذلك ، كما وبمعالجة قضايا العاملين وشكاواهم ومطالبهم وأوضاع نقاباتهم واتحاداتهم وتنظيماتهم المهنيَّة المختلفة ، بالخبر والصورة والتعليق والكلمة والعمود والمقالة والدراسة والبحث والتحقيق ، رغم أنف المال الشحيح والامكانات المتواضعة.

وفى ما يتصل بقضايا التنوُّع بالذات ظلت (الأيام) تسهم ، طوال عمرها (الذهبىِّ) ، إسهاماً مرموقاً ، ومنذ وقت باكر ، فى رفع الحسِّ الوطنى الديموقراطى إزاء قضية جنوب السودان ، حتى لقد أضحى محجوب أحد أهمِّ مراجعها المعلوماتيَّة والفكريَّة ، بما فى ذلك (اتفاقيَّة السلام الشامل) و(مسودة الدستور الانتقالى) ، مِمَّا لا غنى عنه للسياسيين والباحثين وطلاب الجامعات. ولا غرو ، فقد أبدى الرجل دائماً جديَّة وعمقاً فى التناول والطرح الموضوعيين لهذه القضيَّة ، مثلما يبدى الآن ذات الجديَّة والعمق تجاه الحرائق الوطنيَّة الأخرى فى دارفور وغيرها ، عبر بابه الأشهر (أصوات وأصداء) ومحاضراته وكتاباته وأوراقه العلميَّة بالغة الوثوق والرصانة باللغتين العربيَّة والانجليزيَّة. وقد يجدر أن نشير هنا إلى أنه كان أول صحفى سودانى يزور الجنوب فى العام 1954 ـ 1955م ليكتب تقاريره مباشرة من هناك.

ليس صدفة ، إذن ، أن اندرج محجوب و(الأيام) ضمن الرموز الأكثر سطوعاً للمشروع التنويرى فى بلادنا ، فهذا بعض استحقاقهما لما بذلا ويبذلان لجهة القضايا الوطنيَّة العامة كما ولجهة قضايا الصحافة بوجه مخصوص ، رفعاً للقيود عنها من ناحية ، وتأكيداً لمسئوليتها التى تكافئ حريَّتها من ناحية أخرى ، وتعزيزاً لمعاييرها الأخلاقيَّة وصدقيَّتها المهنيَّة من ناحية ثالثة. لذلك فقد حقَّ للسيِّد ابراهيم نوار ، رئيس المجلس التنفيذى للمنظمة العربية لحرية الصحافة ، أن يعبِّر عن سعادته بنبأ فوز محجوب بجائزة (القلم الذهبى) ، كون المنظمة هى الجهة التى رشحته لها ابتداءً ، مثلما حقَّ للسيِّد جورج بروك ، رئيس المنبر العالمى للصحفيين ، أن يعتبر الجائزة هذه المرَّة "أكثر من مجرَّد تقليد سنوى ، لأنها إنجاز عمر صحفى كامل" ، أو كما قال.

ختاماً ، لقد ذهب الذهب للذهب عن جدارة. وكما للذهب (عيار) ، فإن محجوباً قد اجترح ، وما يزال ، عيار الصحفىِّ (الذهبىِّ) كما ينبغى أن يكون. وإذا كان الشئ بضده ينجلى ، فقد يكون مناسباً أن نستذكر هنا أبيات نزار قبانى: "هذا له زاوية يومية/ هذا له عمود/ والفارق الوحيد بينهما/ طريقة الركوع والسجود"!


للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved