هذه الرواية :
ينطلق عنوان هذه الرواية - استراتيجيا - من استرداد الذات كغنيمة بحد ذاتها , فهو ينهض في العودة ( الاياب ) من الماضي , كي تستمر الحياة رغم المرارات والجراحات والفقد . فهؤلاء الشخوص المعذبين - ابطال الرواية - انطلقوا في رحلة البحث عن ذاتهم . سواء كان بالانتماء لتنظيم سياسي , او لحبيبة , او عائلة او بالبحث عن الجذور السلالية ..
تعج هذه الرواية بالهجين والغرباء: الذين من بلدان اخرى ( مصر , كينيا , انجلترة ,..) لتؤول في النهاية الى التعبير, عن لحظة واحدة فقط .. لحظة كونية .. هي لحظة الانسان المنتمي لذاته , والذي من خلال هذا الانتماء , يحاول صنع حياته بعيدا عن مخلفات الماضي وجرائره ..
( الغنيمة والاياب) عنوان جذاب , لرواية لا تخلة من الالتباس .. و تنطوي على غواية فاتنة , اذ تاخذنا الى فضاء شاسع شسوع ذكرياتها, وملتاع التياع الحنين الى الحنين .. رواية لا تخلو من الاستيهامى الساحر, بطقوسه الوثنية والصوفية .. كطلسم يعبر عن ميتافيزيقيانا الشخصية , في الحب والبحث عنا نحن في عالم يتهاوى .. وتتهاوى معه الذات الانسانية , باغترابها وشجنهاالشجي, وبحثها الدؤوب عن الذات ازاء الاخر .. الذات التي لم يكتمل بناء ادراكها لكنه هذا الاخر ..
عددا ليس بقليل من الروايات السودانية, تناولت العلاقات التي تحكم عمل القوى السياسية , وصراعات الاعضاء داخل تنظيماتهم . حيث كشفت هذه الاعمال - الطريق الى المدن المستحيلة او مارتجلو.. ذاكرة الحراز, مثلا - التهرؤات التي اعترت الابنية السياسية, والفكرية .. والتشظيات التي لحقت بالتنظيم , وصراعات الشخوص المنتمون اليه, باحلامهم وتطلعاتهم وانكساراتهم الوجدانية والنفسية .. واساهم , واسئلتهم الوجودية حول : الذات والهوية ..
الفضاء العام للرواية :
هذا هو الفضاء العام, الذي تجري فيه احداث هذه الرواية, الممتعة لدكتور مروان حامد الرشيد , ففي هذا السياق يركز دكتور مروان على منطقة محددة, من الصراع والتهرؤ السياسي : هي منطقة الحياة الطلابية ..
ولدت هذه الرواية من رحم القمع العنيف للانسان, الذي لايملك ازاء مواجهة هذا القمع, سوى براءته الوجدانية ومشاعره المعذبة , التي تمثل زاده, في التمرد على النسق الشمولي المغلق .. فهي رواية تسلط الضؤ على منطقة غامضة, في التاريخ السياسي لليسار السوداني .. هي اللحظة التى سبقت وعاصرت انقلاب مايو 1969, وتعدته لترسم اخاديدا عميقة في مستقبل البلاد, منذ تسعينيات القرن الماضي ..
وموضوع القمع الذي مارسته القوى الاستبدادية , يمثل تيمة مركزية لكثير من الروايات العربية فقد " تشكلت رمزية" العسكري الاسود" ليوسف ادريس ووطأة" تلك الرائحة" لصنع الله ابراهيم . كما تشكلت اليجوريات جمال الغيطاني في " الزيني بركات" و "وقائع حارة الزعفراني" . والطاهر وطار في "الحوات والقصر" و"عرس بغل" . ورضوى عاشور في" غرناطة" . وبهاء طاهر في" الحب في المنفى" (..) فالقمع حولنا في كل مكان تتعدد اسبابه وتتنوع تجلياته واشكاله وتتكاثر اساليبه كالعنف الذي يسري في" مدن الملح" (..) ان زمن الرواية يولد حين يغدو التمرد, على الانساق المغلقة بداية انهيار هذه الانساق , وحين يواجه الوعي الابداعي, ما يعوق تقدمه , وحين تولد رغبة التحرر العارمة (1)..
الزمن الواقعي لهذه الرواية هو الفترة, التى سبقت وتلت انقلاب مايو 1969.الى الانقلاب العسكري في 1989 وما تلاه - وهي فترة طويلة جدا, لاحداث الرواية.. حيث مضت فيها, ترقب وتحلل وتشرح: التحولات التي اعترت السلطة والناس , والاثار العميقة التي تركها هذين الانقلابين على اليسار والوطن والانسان ..
وتدور أحداث الرواية في الفترة من خروج الراوي لزيارة صديقه الشاعر في المستشفى وحتى الفترة التي تلي وفاة هذا الصديق .. وبينما يستعين دكتور مروان بالتسجيلي والحرفية نهض - مع ذلك - الخيال والماورائي كاشفا عن مدى جماليات هذا النص العميق بموقفه من قضايا الانسان .. الانسان فحسب .. الانسان الاكثر ذاتية , والاشد عمومية . فمن خلال انهيار عالم باكمله بعلاقاته الوجدانية والاجتماعية والسياسية والفكرية , الخ .. تنهض هذه الرواية من اطلال وركام هذا الانهيار , لتقول شيئا ما . وتنجح في القول ..
تحرك شخصيات - الغنيمة والاياب- في هذا السياق المحتشد بزخم الذكريات اليانعة , بكل ما تحمله من فشل واحباطات ومرارات وهزائم وجراح, اورثت القلب اعباء لم يستطع التخلص منها, رغم مضي سنوات طوال . فظل الشخوص حبيسين لهذه الذكريات , التي تعود الى ايام صباهم في مرحلة حياتهم الطلابية .. كل ذلك من خلالهم - هم الشخوص الغرباء - بقومياتهم المختلفة, التي تمت اعادة انتاجها في وسط عربي , او بهوياتهم الهجين " لماذا تتحدثين معي بالانجليزية ؟(..) - لا تنس انها لغة امي .. العربية لغة ابي (..) مثل الشاعر (2)..
العنصر الاساسي المركزي , الذي يحكم العمل الفني في هذه الرواية : علاقة الطاهر ( الشاعر) بهويته النوبية , وعلاقة خالد ( التركي) بهويته الغامضة من جهة , وعلاقته بصفية بنت البلد" المؤصلة" . وعلاقة حسين( الراوية), الذي يتنازع بين انتماءه لجده لامه ( قدح اللبن ) الشيخ الولي الصالح وجده لابيه فضل السيد (الفرخ), الذي لم تتحدد هويته او مآله , فيمضي في رحلة, شبيهة برحلة الكس هيلي . للتعرف على حقيقة تاريخه الشخصي " الراجح ان فضل السيد ونفرا ما من اهله او قبيلته , كانوا مسترقين في مكان ما في الشمال (3).. وعلاقة كل هؤلاء بجراح هوياتهم وانكساراتهم الروحية ب(عبده) عم (صفية ) - احد القيادات الانتهازية في التنظيم - " يفضح عدم انتماء عبده للتنظيم (..) التنظيم نفسه اصبح في مفترق طرق , بعد ان اهتزت مصداقيته السياسية, واصيب ونفوذه الادبي والاخلاقي اصابة بالغة(4)..
الاسطورة الاصولية , هي الاسطورة ذات الاصل الواقعي , يأخذها الكاتب من الواقع الانساني المحيط به , تدور دائما حول شيء او حدث جزئي , يتوقع وجوده او حدوثه , الا ان الكاتب يسلط عليه من الاضواء ما يساعد على تفخيمه , وجعله مختلفا عن الواقع مع انه قريب منه(5) , وابرز مثال لذلك (فضل السيد) والد حسين الراوي , والكيفية التي جاءت بالشاعر الى هذه الحياة .. الى جانب استخدام الكاتب للاسطورة الكونية , بمعنى استفادته من الغيبيات , التي سمع عنها وسمع بدورها الذي تؤديه في الحياة(6) .. كما في تصعيده لشخصية (قدح اللبن ) و( مومبي) الكينية ..
ويمثل سؤال الهوية لدى شخوص الرواية سؤالا مركزيا تقابله (الذات) التي يبحثون عنها "أغربة العرب (..) سحيم , خفاف , نسيب بن رباح , سليك ابن السلكة وعنترة بن شداد (..) شعرهم تناول موضوعين متصلين اتصالا وثيقا ببعضهما البعض , وهما العبودية والسواد (..) كانوا ينحدرون من اباء عرب احرار وسادة في قومهم , وأمهات من اصل افريقي في الغالب الاعم كن حبشيات (7) " جازاك الله يا تركي . لقد حسمت الى الابد قضية الانتماء ومسألة الهوية . كرهنا العيش في هذا البلد من كثرة الحديث واعادة الحديث (..) عرب ام افارقة , افارقة ام عرب ؟ عرب بالافريقية وافريقيون بالعربية ؟" مولاي انت غراب عرب !انت حفيد اغربة العرب..(...) ان صفات الخليط ( الهجين ) من النادر ان تثير الاعجاب لكن التزاوج بين العرب والاهالي (الزنوج) انجب سلالة منحطة , سلالة اشد مكرا من الزنوج لانها اكثر ذكاء . فكر : من هم " العرب" هنا ؟ هل هم عرب الجزيرة . المهاجرون الاوائل ؟ ام عرب البلاد ايام حرب النهر بعد ان اختلطت دماؤهم بدماء السلالات الزنجية ؟(..) ومن انحط بمن ؟ (8) ..
ويلعب الوعي الاسطوري كذلك - كما اشرنا - دورا مركزيا من خلال عالم الطاهر (الشاعر) منذ ما يسبق ميلاده" في فلكلور آل دداؤود ان الطفل ظل مبتسما اسبوعا كاملا , كان معجبا اكثر من غيره بالكيفية التي هبط بها الى العالم(..) في اليوم السادس لميلاد الطفل نام خاله عبد القادر حاج طاهر على الخيرة , فجاءه ابوه حاج طاهر العالم في المنام (..) همس في اذنه : ولادة حفيدي طاهر معجزة (..) وقبل عثمان داؤود اسم طاهر على مضض وهو الذي ظل ينتظر الولد بنتا اثر بنت حتى كاد ييأس (..) فالطاهر النوبي الذي يعاني مشكلات اللغة مثل كل الناس الذين لديهم لغة( ام) , يحاول التغلب على مشكلاته مع اللغة العربية " مرة دفعه الغضب الى الذهاب الى المدرسة , لمقابلة ذلك الناظر . وحسبما رواه الطاهر الذي حضر المقابلة , فان والده لم يتورع عن اثارة نفس شكوكه حول اهمية اللغة العربية ونفعها الحقيقي , وقال للناظر ان الانجليز لا يتكلمون العربية ومع ذلك هزموا الالمان ويحكمون العالم وهم سادة العالم (9) " والاسئلة الحارقة المتعلقة بالذات تطال كل شخصيات الرواية , خاصة التركي " سئلت واستفسر عني : من انا ؟ هل لي اخوة اكبر مني ؟ اصغر مني ؟ هل انا من اهل العاصمة اصلا , او ان اهلي نزحوا اليها من مكان اخر ؟ ومن اين جاءوا ؟ وماهو التركي : لقب ام اسم ؟ ولماذا التركي وانا لا اشبه الاتراك من قريب او بعيد ؟ وهل صحيح ان والدي قتل في احداث التمرد الشهير ؟ ثم السؤال الذي وجهه ثلاثة او اربعة من اكثر الزملاء فضولا : هل امي جنوبية ؟ ومن اى قبيلة (10) ومن قلب اسئلة الذات تنهض اسئلة التغيير لهذا الواقع الرث بقوة السلاح, لتكون النتيجة ان محاولات مقابلة العنف بالعنف , تجابه بمزيد من العنف المضاد " عبد الحميد ! اتذكره بدقة (..) بعد سنوات , يوم ملاوا جسده بالرصاص في اعقاب الانقلاب العسكري المعروف ب " المؤامرة العنصرية المسلحة " والذي اتهم عبد الحميد بالمشاركة في التخطيط له وتنفيذه وانه كان لبعض يوم احد سفاحيه (11) وفي تمزق الوعي البريء , تنشأ مفاهيم التحرر الطامحة لانسانية الانسان عبر المثالي والحالم الذي يليق بالشعراء" اعرف , ما عندك بطل واحد . ابطالك من المنظرين مثلك , الطوباويين الحالمين , سبارتاكوس والحلاج وتروتسكي . ابطالك شهداء التاريخ من الحسين بن علي الى تشي غيفارا (12) " انقطعت عن جلسات الاستاذ عبده عندما انقطع الشاعر العدواني (..) هل سمعت ما قاله لصفية ؟ لا احد يستطيع ان يشتريني بالعواطف والكونياك " هل هذا كلام شاعر ؟ كل الذي قالته له ان عمها يريده في نقاش هاديء في بيته (13) .. فالشاعر الذي امتلك مبكرا قدرة الكشف عن تهرؤات السياسي يرفض التعامل مع عبده الانتهازي . وفي غضون ذلك تنشب الازمة في علاقة تركي بصفية , حيث تسفر انتهازية ووضاعة عبده عن وجهها بوضوح باجهاضه لهذه العلاقة واشياء اخرى " قال لي الشاعر ان اطرف تعليق اعجب من سارة , صدر من جدتها الاسكتلندية (..) لا استطيع ان افهم اهل بلدكم هذا ابدا . تزوجت امك رجلا من بلد اخر وقارة اخرى , رجلا لونه مختلف عن لونها ودينه عن دينها ولم يتعد رد الفعل الرافض لزواجها من بعض الاهل والجيران سوى مصمصة الشفاه وتريد فتأة هنا ان تتزوج من فتى من نفس المدينة فتكاد تنشب ازمة دستورية ؟!(14).. وتنهار علاقة تركي بصفية , رغم الطقس الافريقي الناهض في الدم . الذي اجرته لهما مومبي الكينية , حتى يلتقيان مهما باعد بينهما الزمن والمسافات " صورة مومبي بعينيها الباكيتين عشية سفري الى بريطانيا , وهي تحاول ان تنتزع مني وعدا صادقا , ان احمل معي قميصي المصبوغ بدم صفية (..) اى نوع من الافريقيين انتم كيف لا يعني الدم لكم شيئا ام انكم نسيتم كل معنى بفضل قطرات الدم العربي التائهة في عروقكم ؟ (15).. ومن بين كل هذا الركام في انهيار الانساني يتبدى حسين عن اصرار كبير في معرفة جذوره السلالية بكل ما يحيطها من غموض " لا اقدر اجزم . انا ما كسرت اسنان اللبن وهو صبي اول ما رأيته (..) قبل داك بسنة او سنتين او اكثر (..) قال بعضهم جاء من جهة ام درمان (..) هل ولد فضل السيد بالشمال ؟ (..) بعد ما اختفى فضل الفنجري كترت الاقتاويل والحكاوي (..) راودتني فكرة ان يكون اسم فضل السيد من اختيار قدح اللبن (16)..
حركة السردومورفولوجيا الزمن والاستهلال:
تحدد حركة السرد كل العلاقات التي اشرنا اليها , بوقائع حياة ابطالها, وما وقع لهم من احداث .. حيث تتداخل المذكرات التي كتبها حسين الراوية, عن فترة حياتهم الطلابية . مع الوقائع والاحداث التي تجري, اثناء قراءة خالد التركي لهذه المذكرات , في زياراته المتكررة للطاهر الشاعر, الذي يلازم المستشفى على فراش الاحتضار ..
ومن لحظات الموت.. يبدآن معا في محاولة استرداد, او استعادة الماضي, كمحاولة لطرد شبح الموت - عنهم جميعا - الذي يحاصر فراش الطاهر, احد الشخصيات المركزية في هذا النص المتميز .." اخبرني الطاهر انك تقرأ له من وقت لاخر, مذكرات كتبها احد اصدقاءكما ايام الجامعة (17)" كنت اريد ان اعرف ما صححه الشاعر من معلومات (..) قبل شهور كما ذكر لك الشاعر اعطاني الراوية مذكراته (..) اقرأ فيها هذه الايام تسجيلا, لاحداث تلك السنوات (18)..
ووسط هذا التاريخ - المذكرات - تتضائل الصراعات السياسية, الى محض تشظي للذات الانسانية, ممثلة في شخصية حسين. وانسلاخ الوعي الذي يعانيه, بانتقاله من الريف الى المدينة . وخالد بهزيمته في حبه لصفية, والشاعر بقلقه وتوتره الفكري, وجرح الهوية الناهض بين كل هذا الركام, من الاسى واللوعات ..
الرواية في رحلة البحث عن هوية لها داخل مجتمع ينقسم على نفسه , فيتمزق حاضره بين تقاليد ماضيه وآفاق مستقبله , بالقدر الذي تتمزق به هوية هذا المجتمع . بين تراثه الذي يشده الى حلم مثالي , عن عهد ذهبي للماضي , وحضارة الاخر الاجنبي, الذي يشده الى حلم مثالي مناقض في وعد المستقبل . هذا البحث عن الهوية هو الذي جعل الرواية تنطلق من مفارقة التغير التى تفصل الماضي عن الحاضر (19)..
تبدا الرواية بضمير المتكلم الفرد , وبواسطة الفعل المضارع تجري احداثها ووقائعها المثيرة .. حيث يتكرر فعل الرؤية والسمع المضارعين, بكثرة في الاستهلال , للتأكيد على أهمية هذه الرؤية " ارى طفلا (..) اراه بوضوح (..) (..) اراه يتنبه (..) اراه يمشي (..) وأنا أرقبه (..) لكني أرقبه. اراه يمشي (..) أراه يضع يديه (..) أراه يلتفن مزعورا (..) ثم اسمع صوتا آخر. اصغي (..)أرى لهبا أزرق (..) أصغي فأسمع (..) أ صغي لكن الصوت لا يكمل (20)..
تعود مشكلة الزمن في القصة, الى الفرق بين زمن الحكاية, وزمن القول . فبينما يسير زمن القول في خط طولي, في معظم الاحيان . نجد ان زمن الحكاية متعدد الابعاد . اذ يمكن في الحكاية, ان تجري حوادث مختلفة, في الوقت نفسه , لكن القول القصصي, ينبغي ان يضعها واحدة اثر الاخرى, بالضرورة , وبهذه الطريقة يعرض شكلا معقدا في خط مستقيم (21).. وهكذا يلاحظ منذ الاستهلال , استخدام الروائي لفعل القص المضارع . بمعنى استمرارية الاحداث , الماضية التي يحكي عنها ..
مع تطور الرواية الحديثة ازدادت اهمية الحاضر بالنسبة للروائي , وأدى البحث عن تجسيده, الى تطور واضح في طريقة معالجة الزمن في الرواية , والى محاولات ابتكار اساليب, وتقنيات جديدة للتعبير عنه, وتثبيت هذا الحاضر ومده (22), والحاضر المستمر يجعل الاستعانة بالماضي والذاكرة امرا مستحيلا :
الحاضر الماضي المستقبل _________________________________
________________________________________________________خط الزمن
حاضر ماضي مستقبل حاضر ماضي مستقبل حاضر
_____ _____ ______ ______ _____ _____ __________
من خلال المخطط اعلاه نحاول توضيح مورفولوجي الزمن, في رواية دكتور مروان حامد الرشيد (الغنيمة والاياب ), التي تبدأ بلحظة استرجاعية حلمية . فالراوي ضمير المتكلم الفرد, كشخصية رؤية خارجية. لا يعرف الاحداث. مثل اى شخصية من شخصياته , بل اقل منها معرفة . فيكتفي بوصف ما يمكن رؤيته او سماعه, دون ان يدخل الى وعي, او يتعمق في ضمير . مستفيدا من بعض الحيل التقنية السينمائية, في المشاهد الذكية الغنية, عن التعليق والتأويل , وعمل مونتاج محايد لها (23). لكن نلاحظ انه رغم ان تقنية( الروي هذه ) - رؤية الشخصية - الا ان الرواية تقوم بصورة اساسية, على هيكل ذهني , يستحيل فيه الزمن الى تيار وعي, بحيث يصعب تتبع العناصر المكونة له, بمعزل عن بعضها . فالراوي ضمير المتكلم الفرد ينطلق من لحظة الاسترجاع الحلمية , وسط عالم ضبابي, وكل حواسه مشرعة في هذا العالم الذي يحاول تحسسه " طفل يمشي مترنحا داخل البناء الطينى (..) ويتحسس بأذنيه الاصوات المنبعثة من وراء الظلام (..) ثم اسمع صوتا أخر (24)ويتحسس بقدميه الطريق خلف هذا الطفل " امشي خلفه في اتجاه الصوت المتوسل الباكي (25)..
وفي حواس السمع واللمس والبصر, ينهض استهلال الرواية , ليكشف عن ابعاد هذا العالم الحلمي موحيا - الراوي - بالتعبير عن عالم الايديولوجيا المثالي (الحلمي ) في لحظة من تاريخ السودان .. هي اللحظة التي حاول فيها اليسار الاستيلاء على السلطة, عبر الانقلاب العسكري ..
وتقترح هذه الرواية هنا حوارا مع عالم الصديق بركة ساكن في ( الطواحين) - لتقاطع الفضاءين الزمنيين, والحركة المشابهة للشخوص - يستفيق الراوي من هذا العالم الحلمي الى الحاضر الحقيقي " تجحظ عيناي فأجدني سابحا في عرقي محدقا بلا بصر في ظلام الغرفة (26) ومن ثم ينهض الراوي المتكلم الفرد ليلحق بمواعيد زيارته, لصديقه الشاعر في المستشفى , مستخدما تقنية الاستشراف " لا احتمل التاخير عن الثامنة , وهو يعتبر وصولي عندها شيئا مفروغا منه (27) ..
للاستهلال وظيفة كبيرة بهذه الرواية, فهو لا يفسر سير القص فحسب . بل يعمل على ادخالنا في عالم مجهول , عالم الرواية التخييلي بكل ابعاده . باعطائه الخلفية العامة, لهذا العالم. والخلفية الخاصة لكل شخصية, ليستطيع ربط الخيوط والاحداث, التي ستنسج فيما بعد ..
يعتمد الاستهلال هنا على امرين اساسيين : الحاضر والماضي .. وتعدد الاصوات في هذا الماضي . وهكذا منذ هذه اللحظة الحاضرة, يبدأ الراوي بالغوص بعيدا, عبر الية الاسترجاع في الحكي عن هذه الاصوات, مبتدا بهذا الصديق - الطاهر , الشاعر - الذي سيزوره . فنبدأ في التعرف على شخصيات الرواية " لكنني الوحيد الذي يزوره بانتظام كل مساء . حتى علوية تجبرها الظروف القاهرة للتخلف عن الزيارة من وقت لاخر . حتى الراوية الذي كان يكتب اليه , عن طريقي انقطع عن الكتابة . لعله أحس بأن الشاعر لا يقرأ كتاباته , وان أحس بالفعل , فان احساسه صادق تماما (الشاعر والراوية وصفية وأنا ) (28) .. فيركز استهلال هذه الرواية, في الخروج من الحلم الحاضر, الى عرض الماضي ثم العودة الى الحاضر, وهكذا دواليك .. مستعرضا خلال الحوار في الحاضر, والاسترجاع في الماضي: المقولات الاساسية, التي تنطلق منها الرواية , فنلمح الغياب الفاجع للمثقف من خلال غياب رجل الشارع وتغييبه , حتى لكأنه لم يعد موجودا " من هو رجل الشارع ؟ شخص حقيقي ؟ مخلوق اسطوري ؟ اين هو الآن ؟ (29) بسبب حالة الوطن كنموذج مأزوم " تركنا الكلام في حضارة الكلام(30) لتبدأ بعد ذلك شخصية الشاعر, في التصعيد فنلمح في مرضه, تجربة العديد من الشعراء - والمناضلين السودانيين - الذين انتهوا بالمرض والفقروآثار التعذيب !!" سمعته يخوض في لجج الذاكرة . رأيته يسبح في بحور الباطن , فكان يغضب ويرضى ويبكي ويضحك ويصالح ويخاصم احيانا . اسمعه يتحدث عن اشياء لم تحدث ابدا , مثلما حدث قبل ايام حين زعم ان احد قتل حسينا . وان الحكم قد صدر لمصلحة صفية , لكن حسينا حي يرزق والمحكمة لم تنعقد اصلا (31).. وهكذا يسقط الراوي على شخصية الشاعر, مأساوية حياة بدر شاكر السياب , معتمدا على تقنية الايحاء " الليل يطبق مرة اخرى فتشربه المدينة . صوت الشاعر العراقي يأتيني عبر عقود من الزمن . والمقبرة هنا مثل مقبرته . صارت جزء من المدينة (32)" عمياء هي المدينة والليل زاد لها عماها . عند زاوية المربع الذي يقع فيه المنزل , اتذكر رائحة الحيوان الميت (33)..
ونلاحظ ان الرواية هنا أخذت من تيار الوعي تقنيته في توظيف الزمن . فالاستهلال جزء لا يتجزأ من متن النص . وهو هنا ليس استهلالا بالمعنى الذي نجده في الرواية الواقعية . فماضي الراوي هنا لا يتجزأ عن حاضره , ولا ينفصل عنه . فهو منسوج في ذاكرته , ومخزون فيها . تستدعيه اللحظة الحاضرة أولا بأول , على غير نظام او ترتيب . ولذلك لا تكتمل احداث( الغنيمة والاياب) في تسلسلها الزماني , سوى في نهايتها - الرواية - , حيث يعاد ترتيبها في مخيلتنا , فلا تظهر الاحداث الماضية مركزة في كتلة نصية متكاملة , لها خصائصها الفنية . ولكن نراها انتشرت ونثرت على النص كله, واصبحت مهمة تجميعها في صورة متكاملة , هي مهمتنا كقراء (34) وهو ما يفسر لنا اختلاط الاحداث, التي تدور في ذاكرة الراوي , بالاحداث التي يكتبها في الرواية - مذكرات الراوية -..
تستهلك الافتتاحية فصلا كاملا (ضمير المتكلم الفرد ), حيث الراوي المتكلم بضمير الانا ( احد شخصيات الرواية = خالد التركي ) يلي ذلك فصل :( من أوراق الرواية= مذكرات حسين الراوية ) ثم عودة مرة اخرى الى ذاكرة المتكلم . ليبدأ الفصل الرابع في عرض تفاصيل كل شخصية- اشتملت عليها ذاكرة المتكلم (الراوي) ومذكرات صديقه حسين - الى ان تنتهي فصول الرواية . ومنذ الفصل الرابع, نبدأ في التعرف على مسيرة حياة الطاهر الشاعر( الشخصية المركزية) في النص .. وكذلك الشخصيات المركزية الاخرى , فهو نص يتميز بتعدد الاصوات السردية .. ليعيدنا بين ان واخر - الراوي - الى ذاكرته . ليحدد لنا شخصيته ليس كسارد للاحداث فحسب , وانما كأحد ابطالها الاساسيين حيث يحاول الراوي _ خالد التركي_ استعادة الماضي , فيكتشف ان ذلك غير ممكن " لا أحد يستعيد الماضي . هذا واضح بالنسبة لي الان . اعرف أكثر من أى وقت مضى, ان هذه هي الحقيقة . الماضي ليس نقطة بعينها او لحظات محددة (35) وينعتق الراوي من ماضيه, المثقل بالمرارات وحبه الاسطوري ( لصفية ) بعلاقته بسارة التي يرى فيها وجه حبيبته ( صفية) , كأنه ات من بعيد "تفلت منها ضحكة تطرق الاذن المتنبهة , لكأنها استجابة من زمان ومكان غابرين . كأنها نداء اقدم بقرون طويلة , من صاحبته الحالية لكن صاحبة الضحكة تستجمع شتات ذاتها في اعقاب النداء البدائي ثم تقرب يديها من وجهها حتى تحجبه عني خلا الجبهة والعينين (36) " ان صديقتكما خلطت قليلا من دمك بقليل من دمها ثم أجرت طقوسا تعويذية على الخليط ثم نقطته في قميص لك وثوب لها واخذتما العهد وكلما شرع احدكما في .. قصدي اذا اتيح لاحدكما ان يفكر في خيانة العهد , تذكره رائحة دم الاخر (37)" قالوا انك حطمت قلبها . تنكرت للعهد وتزوجت خواجية . قالوا ان احدى بنات اهلك - بنت احد اعمامك - ارسلت لها صورة الخواجية بالبريد , واخبرتها في الرسالة انها زوجتك , وطلبت منها ان تتركك وشأنك . سمعت من بعض زميلاتي انك فعلت ذلك - قصدي الزواج من امراة انجليزية - لتبطل العهد , عهد الدم وانك بالفعل طلقت الانجليزية بعد مدة قصيرة . بعد ما ادت الغرض . لا ادري كيف ..؟ (38). وتقيم هذه الرواية هنا حوارا مع رواية سحر خليفة " عباد الشمس" , من حيث موقع الراوي .. اذ تتميز هي الاخرى بتعدد الاصوات . وهو ما تطلق عليه يمنى العيد " ديموقراطية التعبير الفني "..
وآخيرا:
هذه الرواية , بمثابة قصة عن الحب أكثر من كونها قصة حب - , تذكرنا باسطوريته- الحب - في الزمن الذي مضى. انها بقايا من الحزن والوجع القديم , علقت بقلب خالد التركي فاحالت حياته الضجرة الى نظرة رانية للغد تشتاق مواصلة الحياة رغم كل شيء .. رواية عن الحب احالت عالم هؤلاء الاصدقاء القدامى الى عالم مستمر كأنه البارحة , وكأن تلك السنوات لم تمض ابدا ..
( الغنيمة والاياب ) هي ثمرة تلاقح خصيب , بين التجربة السياسية المنظمة والاساطير والواقع . ولذلك تجيء رؤيتها للفرد متجاوزة كل شيء سوى الانساني الجوهري ..
ولكنها لا تخلو من العبارات والدلالات المتطرفة - طبيعة عنفوان المشاعر التي تنهض فيها حيوات شخوصها - يميز جيرار جينيت بين السرد والوصف , وقوام هذا التمييز أن السرد يقدم الفعل والحدث , على حين ان الاشياء والشخصيات تقدم عبر الوصف .
ويرى ان الوصف يشكل عنصرا اساسيا لا غنى عنه في القصة أكثر من السرد , لانه اسهل علينا أن نصف , من أن نقص دون ان نصف , ويضيف جينيت " ربما لأن الاشياء يمكن ان توجد بلا حركة , لكن الحركة لا يمكن ان توجد بلا اشياء " .. الان روب غرييه يرفض الاستعارة باسم الوصف , ردا على اندريه بريتون , الذي كان يرفض الوصف باسم الاستعارة , لأن غرييه يرى أن " الاستعارة ليست بريئة ابدا " وهي تكشف عن موقف ميتافيزيكي من الكون , فتشخيص الاشياء ينم عن الاعتقاد بالقوى الغيبية الاسطورية الكامنة وراءها او فيها .
وجان ريكاردو يرى في الاستعارة , انها ,دائما , على وجه من الوجوه ذات طبيعة اغرابية , لأنها تضم ال" هنا" الحاضر المشبه , الى ال " هناك" , الغائب , المشبه به مما يؤدي في رأي دعاة الرواية الحديثة الدرامية الى الوصف الحيادي لاحلال الغائب محل الحاضر ال " هناك" بديلا ال"هنا" المشبه به مكان المشبه والمشبه به بالنسبة لريكاردو ودعاة رواية الحداثة ليس الا الغلاف الهيولي الخارجي العابر الذي يتلاشى فور بروز المشبه , وفور انجاز الترجمة البلاغية (39) اعني هنا الكثير من العبارات الوصفية التي حملتها الرواية مثل :" شرج التاريخ " ..
قليلة هي الروايات التي تحمل قولا مميزا . فخلال العقود الاخيرة من القرن المنصرم " وخلال السنوات الاولى من هذا العقد قذفت المطابع بعشرات الاصدارات الروائية في جميع انحاء الوطن العربي , وبات هذا الانتاج الروائي الكمي ملفتا , مما دفع البعض لأن يصفه على انه " انفجار روائي " كما ان بعض النقاد ارتأى ان الرواية تعيش عزها وهي - دون الشعر - ديوان العرب الان (40) وكذلك على مستوى السودان حدث هذا " الانفجار الروائي" منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي , وتعتبر هذه الرواية في هذا السياق واحدة من الروايات القليلة المميزة , من بين ركام هذا " الانفجار " ...
يونيو 2005
القاهرة
هوامش :
(1) دكتور جابر عصفور . زمن الرواية .مهرجان القراءة 2000 ص : 17.
(2) دكتور مروان حامد الرشيد . رواية الغنيمة والاياب . دار قضايا فكرية للنشر والتوزيع . الطبعة الاولى 1995. ص :242
(3) السابق ص : 290 .
(4) نفسه ص : 220.
(5)كتابات سودانية " كتاب غير دوري" مركز الدراسات السودانية. العدد 22 _ ديسمبر2002 ص : 75
(6) السابق . ص : 78
(7) د . مروان حامد الرشيد " مرجع سابق " ص : 41
(8)نفسه ص : 48 - 49 - 210
( 9) نفسه ص : 85 - 86 - 89
(10) نفسه ص : 104
(11) نفسه 107
(12) نفسه ص : 120
(13) نفسه ص : 123
(14) نفسه ص : 235
(15) نفسه . ص : 244.
(16) 287 - 290
(17) نفسه . ص : 236.
(18) نفسه ص : 238.
(19) دكتور جابر عصفور " السابق " ص : 37.
(20) مروان حامد الرشيد " مرجع سابق " ص : 9.
(21) د صلاح فضل . نظرية البنائية في النقد الادبي .مهرجان القراءة 2003. ص : 282.
(22) دكتورة . سيزا قاسم .بناء الرواية " دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ" مهرجان القراءة 2004. ص : 40.
(23) د ز صلاح فضل " مرجع سابق" ص: 292
(24) مروان حامد الرشيد " مرجع سابق" . ص : 9
(25) نفسه . ص : 10
(26) نفسه . ص : 10 .
(27) نفسه ص : 11.
(28) نفسه ص : 11.
(29) نفسه . ص : 20
(30) نفسه ص : 21.
(31) نفسه . ص : 22.
(32) نفسه . ص : 33.
(33) نفسه ص : 34.
(34) د. سيزا قاسم " مرجع سابق " ص : 46.
(35) مروان حامد الرشيد " مرجع سابق" . ص : 251.
(36) نفسه . ص : 243.
(37) نفسه . ص : 246.
(38) نفسه ص : 249.
(39) حسين عيد . جارسيا ماركيز وأفول الديكتاتورية ." دراسة في خريف البطريرك" . الهيئة المصرية العامة 1988. ص : 23.
(40) الياس خوري . تجربة البحث عن افق " مقدمة لدراسة الرواية العربية بعد الهزيمة " . مركز الابحاث . منظمة التحرير الفلسطينية . يونيو 1974. ص : 26.
(41) حسين عيد ." مرجع سابق " . ص : 25.
42) السابق : ص : 29 .
(43) السابق : ص : 65.
(44) السابق : ص : 67 .
(45) كلود ليفي شيتراوس . الاسطورة والمعنى . ترجمة صبحي حديدي . الحوار اللاذقية الطبعة الاولى 1985. ص : 7 .
(46) د. عبد الرزاق عيد - محمد جمال باروت . الرواية والتاريخ . دراسة في مدارات الشرق . الحوار اللاذقية الطبعة الاولى 1991. ص : 6
(47) حسين عيد " مرجع سابق " : ص : 8 .
(48) السابق : ص : 9
(49) نفسه : ص : 41
(50) د. عبد الرزاق عيد _ محمد جمال باروت . الرواية والتاريخ " دراسة في مدارات الشرق " الحوار للنشر . اللاذقية .الطبعة الاولى 1991. ص : 15-16
(51) مجلة الرافد . دائرة الثقافة الشارقة . العدد 84. اغسطس 2004. ص: 90