لندن: عيدروس عبد العزيز
باتت المجاعة في اقليم دارفور شمال السودان شرا يدق الأبواب على الرغم من كل التحذيرات الدولية حول الاوضاع الانسانية المتدهورة هناك. وتقول وكالات الاغاثة والمنظمات الانسانية الدولية ان اسباب المجاعة متعددة، فالحرب التي استمرت نحو عامين في الاقليم استهلكت الموارد المحلية، وهجر مئات الآلاف قراهم ومناطقهم ومزارعهم، وسكنوا المعسكرات التي تقيمها الدولة، وباتوا يعتمدون كليا على المساعدات الدولية. وللعام الثاني على التوالي يفشل هؤلاء في اللحاق بموسم الزراعة، ما يعني تفاقم الازمة الغذائية، في وقت تجأر فيه وكالات الاغاثة بطلب المساعدات بلا مجيب، او قل «بوعود شفهية»، وكما يقول السودانيون مجرد «جعجعة.. ولا طحيناً يُرى». وقالت مجموعة الازمات الدولية (انترناشيونال كرايسس غروب) في احد بياناتها الأخيرة إن الحالة الإنسانية والأمنية والسياسية في دارفور تزداد تدهورا منذ اندلاع الأزمة قبل عامين. ولا تزال الجرائم الفظيعة ترتكب، ولا يزال الناس يموتون بأعداد كبيرة من سوء التغذية والأمراض، وهناك تخوف من نشوء مجاعة واسعة النطاق تودى بحياة مئات الالاف. الارقام التي نشرتها هذه المجموعة وغيرها من المجموعات الشبيهة دوليا تثير الخوف والهلع. تقول احدى الاحصائيات إن عدد الذين تركوا قراهم ويعيشون الآن داخل المعسكرات ويعتمدون على المساعدات الغذائية من منظمات الاغاثة، يبلغ اكثر من مليوني شخص، وإذا لم يستطع كل هؤلاء اللحاق بموسم الزراعة هذا العام فذلك يعني ان كارثة انسانية محققة ستهدد أهل دارفور جميعا. منظمة «اطباء بلا حدود» بدورها حذرت ايضا من نفس المصير، مؤكدة ان سكان منطقة دارفور (نحو 6 ملايين) يتعرضون لخطر «مجاعة كبرى». وكشف مسح غذائي اجرته في منطقة غرب دارفور ان تهديد مجاعة واسعة النطاق خطر حقيقي، وان سكان المنطقة يعانون من درجات خطيرة من سوء التغذية والوفاة بسبب تدهور وضع الامن الغذائي في المنطقة. وقالت المنظمة ذاتها في بيان لها ان جميع سكان دارفور يتأرجحون على حافة مجاعة كبرى. ويحاول اكثر من 10 آلاف من موظفي الاغاثة، السودانيين والاجانب، تقديم ما توفر من المساعدات، لكن عجزا كبيرا في الامدادات اصبح واقعا. «اوكسفام» وهي وكالة اغاثة بريطانية تقول: ان الازمة الانسانية في دارفور قد تستمر حتى نهاية العام المقبل. والمجتمع الدولي عاجز عن حماية المدنيين بنفسه أو عن التأثير على الحكومة السودانية لكي تفعل شيئا. برنامج الغذاء العالمي يتحدث باللهجة نفسها ويحذر من نقص الامدادات. الصادق المهدي رئيس وزراء السودان الاسبق زعيم «حزب الامة» قال في مؤتمر صحافي الثلاثاء الماضي ان المجاعة في دارفور باتت وشيكة وان اسعار المواد الغذائية تضاعفت، واشتكى من ان الامم المتحدة باتت تلعب دور شرطي لصالح الحكومة، في تلميح الى انها لا تقوم بواجبها الفعلي بكشف الحقائق.
اما التقارير الواردة من جنوب السودان فتقول ان «الامهات بتن يطعمن أبناءهن أوراق الشجر حتى لا يتضوروا جوعا، بعد تجاهل الدول الغنية شهورا من المناشدات لمنع وقوع أسوأ أزمة غذاء في المنطقة منذ سبع سنوات». وذكر احد التقارير ما يلي: «تطحن الامهات أوراق الشجر التي تسقط من الاشجار ثم يغلينها على النار خارج الاكواخ ثم يقمن بتصفية السائل الاخضر قبل أن يلتهم أطفالهن وجبتهم الوحيدة التي سيتناولونها في ذلك اليوم». ونشرت احدى وكالات الانباء صورة لطفل عار يبلغ من العمر أربع سنوات يرقد على الارض بعد أن غشي عليه من الجوع. قالت والدته انه «رفض أكل الاوراق»، وهي لا تعلم ما الذي ستفعله.
يقول فريق طبي في مستشفى تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في بلدة ماريال الجنوبية ان المنطقة تشهد أسوأ معدلات سوء التغذية منذ 1998. وأشاروا الى ان «الوفاة بسبب سوء التغذية تمثل خطرا». ويتهم برنامج الغذاء العالمي التابع للامم المتحدة الجهات المانحة بانها لم تقدم سوى النزر اليسير من المساعدات التي يحتاجها السودان هذا العام، محذرا من أن الجوع قد يؤجج التوتر من جديد.
وتؤكد منظمة «أطباء بلا حدود» ان نقص المحصول في العام الماضي ادى الى زيادة التنافس على الغذاء والمياه بين العشائر المختلفة في قبيلة «الدينكا» أكبر قبائل الجنوب وقبيلة «النوير» ما أدى الى توقف الزراعة ووجود زيادة كبيرة في سرقة الماشية.
يقول سكان قرى ان حملات السرقة كانت عنيفة أكثر من المعتاد هذا العام ما أدى الى تراجع آمال تحسن الأمن. ويخشى عمال الاغاثة من أن تؤدي أعمال العنف الى الاضرار بالجهود التي تبذلها الحركة الشعبية لتشكيل حكومة فعالة بجنوب السودان في اطار معاهدة السلام التي أبرمتها مع الخرطوم وذلك لاعطاء الاولوية لتوصيل مساعدات الاغاثة للحيلولة دون وقوع كارثة أسوأ.
وقال برنامج الغذاء العالمي يوم الثلاثاء انه لا يحصل على ما يكفي من المساعدات التي يطلبها لجنوب وشرق السودان، مشددا على انه في حاجة الى 302 مليون دولار لاطعام 3.2 مليون شخص في المنطقتين، ولكنه لم يجمع سوى 78 مليون دولار. وكانت مسألة جمع الاموال اللازمة للمساعدات تمثل مشكلة ايضا له في دارفور، ولكن البرنامج حذر من احتمال أن يواجه صعوبة أيضا في تلبية الاحتياجات. رئيس الحركة الشعبية جون قرنق قال في حوار اجرته معه «الشرق الاوسط» قبل ايام انه سيخوض حرب التنمية في الجنوب مثلما خاضها بالبندقية في الغابة. ولكن الكثيرين يشفقون عليه من الفشل اذا لم تجد المساعدات الدولية الموعودة طريقها اليه، لان حجم الدمار في الجنوب أكبر من امكانيات حكومته الوليدة. اما في مناطق الشمال الاخرى فان الحال لا يبدو انه سيغادر منطقة «الصفر» قريبا خاصة ان الاحزاب السودانية التقليدية والحديثة منها ـ وقد «خرجت من قماقمها وجحورها اخيرا» ـ يبدو انها لم تع دروس نصف قرن من التجربة، وهي تستعد الان لفصول جديدة من «الغوغائية العبثية» التي ظلت تمارسها منذ الاستقلال (1956).