يونيو 2005
وصلتْ عائلتي منذ 30 عاما من السودان إلى الولايات المتحدة. وحين كنت في الـ11 من العمر فقط قرّر والداي العودة إلى السودان لفترة وجيزة حتى يتسنى لي التعرف إلى ثقافتنا الأم وتعلم اللغة العربية وأصول الدين الإسلامي من منابعهما والتعرّف إلى أفراد العائلة الكبيرة. هكذا بدأت الرحلة من هيوستن في ولاية تكساس إلى العاصمة السودانية الخرطوم، وقد كانت تلك الرحلة الخط الراسم لملامح شخصيتي المستقبلية.
كما هو متوقّع، كان التأقلم مع الحياة الجديدة صعبا للغاية. كان من الصعب عليّ في بادئ الأمر أن أدرك لماذا وكيف يقوم والداي بحملنا على الانتقال من العيش المرفّه الوثير في هيوستن إلى إقليم حار جدا ومدينة متواضعة كالخرطوم.
بعد فترة وجيزة أيقنتُ أن والداي كانا صائبين في اختيارهما. لقد بدأتُ أعتاد العيش في ظل انقطاع التيار الكهربائي من حين لآخر وبعيدا عن متناول ساندويتشات بيرغر كينغ الأميركية الشهيرة. وأصبحت أكتشف الأمور الأكثر أهمية في الحياة.
توطّدت أواصر القربى بيني وبين عماتي وأعمامي وجداتي أيضا. لقد تعلمتُ منهم العادات السودانية المتأصّلة فيهم من كرم ضيافة، ولياقات، وثقافة اجتماعية غنية عرفتُ بها السودان.
من أجل ألا أخسر لغتي الإنكليزية التي نشأتُ أتحدث بها في الولايات المتحدة التحقت بالمدرسة البريطانية في الخرطوم وكان هذا سببا لينظر إليّ الآخرون على أنني تلك "البنت الأميركية" التي تتحدث العربية بصعوبة وغير القادرة على التجاوب مع أقرانها. وكثيرا ما كان أولاد عمومي يجعلون تعثري في قراءة مجلات مثل ميكي ومجيد مادة للمزاح. مرّت السنوات بسرعة وكبرتُ في الخرطوم في كنف أجدادي ودفء بيتهم وتخرجتُ من المدرسة الثانوية وأصبحتُ ابنة لثقافتين ولغتين أعتز باستيعابهما والانتساب إليهما معا.
التحقتُ بجامعة الخرطوم في كلية القانون وأنا في سن الـ16 وحصلتُ على درجة البكالوريوس وتابعت دراساتي العليا وحصلت على دبلوم في العلاقات الدولية.
وفي أحد الأيام كنتُ أستمع إلى إذاعة الخرطوم الرئيسة "أم درمان" وإذا بي أفاجأ أن المحطة تبثّ برنامجا بالإنكليزية يضم نشرات إخبارية، وبرامج منوعات، للتعريف بالسودان إلى العالم. ومذّاك اليوم تغيّرتْ حياتي. لقد التقيتُ بحبي الأبدي.. العمل الإعلامي.
لم أتأخر في الاتصال بالإذاعة مباشرة في اليوم التالي وانخرطت في برنامجهم التدريبي وخلال شهر من الزمن كنتُ على الهواء المباشر أقرأ نشرة الأخبار. وفي الشهر الذي تلاه كنت أدير برنامجي الإذاعي الخاص، وبعدها بقليل كنتُ أقدم الأخبار الإنكليزية على شاشة تلفزيون السودان.
عندها قلتُ وداعا للقانون ومرحبا بالصحافة.
في عام 1997 قررت العودة إلى الولايات المتحدة ولو أن القرار كان صعبا لأنني سأترك خلفي بلدا كبرت على حبها، وأصدقاء خلّص، وعائلة حميمية الأطراف. لكنني كنتُ أعلم أيضا أن الولايات المتحدة هي بلدي العزيز إلى قلبي أيضا.
في عام 1999 حصلت على دبلوم للإعلام المرئي والمسموع من جامعة كولومبيا في دائرة العاصمة واشنطن. انضممتُ إلى الشبكة العربية الأميركية "أيهْ أن أيهْ" حيث عملت مراسلة في البرنامج الشبابي آراب أكس وأستطيع أن أقول بأني قضيتُ أجمل سنوات حياتي هناك.
في عام 2002 تزوجتُ من لؤي، الرجل الرائع من بلدي السودان، وانتقلنا معا للعيش في فيلادلفيا حيث أنهى فترة تدريبه كطبيب نفساني مقيم.
رزقنا بابنتنا سارة التي هي فرح عمرنا وانتقلنا عبر الولايات المتحدة لنستقر على شاطئها الغربي في مدينة سان فرانسيسكو من ولاية كاليفورنيا.
حصلتُ هناك على عمل كمتدربة في الإذاعة الأكثر شعبية في أميركا وهي كيه كيو إي دي. واليوم أعمل في محطة الإذاعة العامة كيه إيه إل دبليو التي هي فرع من الإذاعة القومية العامة أن بي آر، حيث أقدم برنامجا هو في صلب اهتماماتي وانتمائي: الإثنيات في أميركا.
أنا واحدة من أقلية من الأفارقة والعرب المسلمين الذين يعملون هنا الذين آمل أن يزداد عددهم في المستقبل من أجل إحياء التفاهم والتسامح والسلام بين شرق وغرب.
اليوم أربّي ابنتي سارة على أن تكون أميركية سودانية تنهل من الثقافتين وتدين بالولاء للعالمين الذين تنتسب إليهما.
هناء بابا