إن كان من صفة تصلح أن يوصف بها سياسيو العمل الإسلامي اليوم .. فهي شدة المراوغة وعدم الوضوح واتهام الآخرين بعيوبهم الذاتية وعدم الاعتراف صراحة بالأخطاء المرتكبة من قبلهم .. سواء كانت هذه الأخطاء متعلقة بتزييف الواقع من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية وحتى الفنية كذلك , أو العمل المشين الذي لحق بذلك التزييف في الفترة التي يطلق عليها مرحلة التمكين أو التمكن أو تمكنا ونتج من ( تمكنهم هذا !) انعدام أسس العدالة الاجتماعية الشاملة وفقدان الحرية الفردية المطلقة .. ولزم من ذلك تحولات في القيمة الاجتماعية للأخلاق بشرت وسوف تظل تبشر ( ما لم يدرك الأمر بوعي وهمة عالية من جميع قطاعات المجتمع ) ببروز جرائم فريدة من نوعها من حيث البشاعة المتولدة من الضغن الخانق والكبت الجانح الذي يسود المجتمع السوداني اليوم ..
والمراقب يلاحظ الفشل المبكر للحركة التي ترتدي الزي الإسلامي في السودان منذ المرحلة الأولى ذات الطور النظري والى الآن .فقد فشلت تلك الحركة في تشخيص الداء الذي يعاني منه المجتمع السوداني , وتعاملت معه على قاعدة " الإسلام هو الحل " أو" أعطيناك الفاتحة .. تأني عاوز مننا شنو ؟! "
وبالطبع ما بمثل هذه الروشتات , ولا تلك الوصفات الجاهزة التي لا رائحة لها ولا طعم غير تلك المرارة التي نعيشها اليوم يمكن لهذه الأمة أن تنهض .
والسلوك النظري للحركة يضج منذ البدء بالعنف اللفظي والمادي معا بالإضافة للنظرة الإقصائية للآخر بل محاولة إعدامه إن أمكن لذلك سبيلا .. يتضح هذا السلوك المشين في تحين الفرص واقتناصها في محاولة إرغام وإذلال الخصم .. وينجلي الأمر بصورة واضحة في محاولة التخلص من الحزب الشيوعي السوداني نهائيا ( عقب ) حادثة طالب معهد المعلمين العالي الشهيرة عام 1965م . ويستمر هذا السلوك (غير السوي) عشرون عاما بعد تلك الحادثة في ذات الاتجاه والطريق الوعر الممتلئ بالأشواك والدماء ( كما يحلو لسيد قطب الحديث !) غير أن ماءه آسن وعواقبه مرة المذاق ..
ففي 18/1/1985م تم تنفيذ المؤامرة السياسية الدنيئة لا الدينية على الشيخ المسالم الوقور الذي تجاوز العمر الذي بموجبه يشفع له الدستور في أن يستثنى من عقوبة الموت ! ففي الوقت الذي يكون فيه الدستور هو القانون الأساسي الذي يكفل حق الحياة وحق الحرية وكل ما تفرع عنهما من حقوق . يمعن هؤلاء في تمزيق كل تلك الحقوق .. وللتاريخ والحقيقة متى كانت هذه الحركة تحفل بهذه الحقوق ؟!!!
و منذ متى وهم يؤمنون بالدستور أي كان ذلك الدستور سواء المستمد منه القوانين التي كانوا يقولون عنها إسلامية ( سبتمبر 83 ) أو الدستور نفسه الذي عملوا على تقويضه عام 1965م أو الذي انقضّوا عليه ليلة 30/6/1989م ؟! فالمدقق يجدهم لا يؤمنوا بالدستور حتى لو كتب بواسطة أيديهم .. فقصصهم المتوالية مع التوالي وشيخهم يساعد في فضح ذلك التقرير ؟!
فإن قامت الحركة بذبح الشيخ محمود محمد طه الذي بلغ من العمر 76 عام ؟!
ما لذنب سوي أنه دعا إلى الإسلام بفكر فريد ..يعز على الأدعياء مجاراته .. وهل جارى النهر العظيم في العطاء ؟!
ثم لم تكتفي تلك الحركة بقتل التنويريين الحقيقيين من أمثال ذلك الشيخ الصابر بل استمرت في حرق الكتب وكل جملة فيها آثارة من علم .. حتى لا تنكشف للناس عورتها المغلظة وجهلها المركب , ومن ثم تنام قريرة العين على تلك الجثث الطاهرة .. ولكن هيهات .. فسنة الحياة تقول في وضوح لا لبس فيه ما من خفيّ إلا وسيعلن ..وما زال المرء في سعة من أمره ما لم يقل أو يفعل.. والمرء مطوي تحت لسانه تحدثوا تعرفوا!
فإن كان هذا هو تاريخ الحركة الإسلامية في السودان فحا ضرها ممتلئ بالمحن غنيا عن التعريف .. ما دامت الحركة هي الواقع المذري المعاش الآن .. والواقع هو الحقيقة المرة في غير خفاء !! وبهذا يتضح دورهم السلبي في الحالتين .. حكاما ومحكومين . أما أن يهوّلوا من قضايا الواقع لدرجة أن يحولوا بين أي عمل إصلاحي ممكن .. ما داموا هم في كرسي المعارضة . أو يهوّنوا من أي مصيبة واقعة على الشعب ما داموا ماسكين بمقاليد الحكم ؟! كما يمثل هذا الموقف عبد الرحيم حمدي خير تمثيل فقد كان محرر صحيفة جبهة الميثاق الإسلامي الاقتصادي في منتصف الستينات حينها كانت الحركة معارضة والمعارضة عندهم يجب أن تكون لكل شيء فقد جاء في رده على وزير المالية وقتها الذي زاد الضرائب قرش ! إن زيادة الضرائب ليست في مصلحة الشعب بأي وجه من الوجوه ؟!! انظروا ماذا قال عن نفسه اليوم : قد فعلنا الأفاعيل في الشعب السوداني!! ويريد أن يستدرك بعد ذلك .. في مصلحته.. ؟!! ولكن هيهات !! فما كان في القلب يظهر على فلتات اللسان راجع ( أيام لها إيقاع سهرة من تلفزيون جمهورية السودان مع عبد الرحيم حمدي ) والله حتما مظهر نوره .. وكاشف ألاعيب المنافقين ..
والنفاق الذي بدأت به الحركة حكم البلاد حين أنكرت نفسها بل جلدت من يقول أنها حكومة الجبهة ( مأساة امرأة الكاملين مثلا ) واستمرت في هذا الإنكار عشر سنوات ..ليأتي القائد الملهم عمر البشير ليقول للشعب السوداني في غير حياء :نحن أبناء الحركة الإسلامية من الثانويات وإننا استولينا على السلطة بأوامر الحركة ؟! وكأن هذا الشعب لا يعقل شيئا .. ولا يتذّكر !! صدق المعصوم حين قال : " إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولي إذا لم تستحي فأصنع ما تشاء " أو كما قال .
والغريب بعد ذلك.. التململ الذي أصاب قادة الإنقاذ من مشروعهم الحضاري .. فبعد أن وعدو الشعب السوداني بالرفاهية والأمن والاستقرار ودعة العيش ونشر اللغة العربية والدين الإسلامي من حيث أوقفه المستعمر ( الخبيث !) إلى كل سهول وأدغال أفريقيا .. بل والعالم أجمع .. حيث أمريكا روسيا قد دنا عذابها .. ولعل أمريكا اليوم قد دنا عذابها بالفعل ! كما فطن إلى هذا المعنى المناضل الجسور الصلب الفطن الخاتم عدلان الذي بموته يصيب القلب ظمأ شديد وحزن عميق .. تغمده الله بواسع رحمته
والتململ بدأ واضحا في صاحب المشروع عندما رأى النظام في مفترق طرق يستحيل الوصول بعدها لبر الأمان .. فأعلن عندها أن هؤلاء العسكر قد استهوتهم السلطة! وانهم أقوام أخذهم بريق السلطان ! ـ إلى الهاوية ـ (( إلى الهاوية من عندي )) راجع لقاءات الجزيرة القطرية المتكررة .. واليوم يريد أن يوهمنا أنه عندما أعطى إشارة السماح لهؤلاء القوم لكي ينقضّوا على النظام الديمقراطي .. كانت إشارته تلك لزرائب الضأن الوديعة لا للضباع والذئاب الوضيعة . غير أن صاحبنا ( يحمد له) بفعله هذا أنه قد قفل الباب نهائيا أمام كل مغامر مهووس من خريجي مدارس الإسلام السياسي . وهو الرجل نفسه الذي أثبت بالفعل واللسان أن التاريخ السياسي للإسلام محرف منذ وقت مبكر فكل حروبه وفتوحاته كانت طمعا في سلطان أو تخلص من قائد يخشى منه إثارة الفتنة !! فلا جهاد ولا حور عين ولا يحزنون ..
وهذا القول ليس بمستغرب من الدكتور حسن عبد الله الترابي .. فقد أنكر القيامة الجامعة نفسها ؟! على ما ذكر بروفيسور محمود عبد الله برات , ويشهد على هذا البروفيسور جعفر شيخ إدريس , والبروفيسور الحبر يوسف نور الدائم على ما ذكر لي القيادي الأخواني البارز ياسر عثمان جاد الله النذير , وقد التقيت الدكتور الحبر يوسف نور الدائم في غولدّن هوتيل الروشة وسط بيروت بتاريخ : 29/6/1999م الساعة الخامسة ونصف مساء على غضون فعاليات بيروت عاصمة الثقافة العربية وفي ذاك الحين كان معه أستاذنا الفاضل الأديب الهادي أدم والبروفيسور شبرين والفنان عمر إحساس والفنان حافظ إبراهيم ولقاءنا به مصور .. وقد أمّن على حديث المرحوم محمود عبد الله وياسر عثمان وأضاف: ذكر الأخ محمود عبد الله الآيات التي تتحدث عن القيامة الجامعة فقال : أنا قلت ليك لا أؤمن مش لا أعلم القرآن كله حافظه ! وأضاف الحبر أحاديث شخصية دارت بينه والترابي في غاية الغرابة .. على سبيل المثال لا الحصر أنه أرسلني ( المتحدث الحبر ) على رئاسة وفد لإحدى قرى الجزيرة ( التي ) وقال لي سوف يقدمك الشيخ لصلاة المغرب تظاهر بالخشوع في الصلاة ويا حبذا لو بكيت !! وغير ذلك ..
لن أتوقف عند تململ الزعيم فقد بلغ به العمر أرذله , ولم يجني من مشروعة غير الحسرة والندم ومن أتباعه وحواريه غير الصد عنه والنكران !! حتى بلغ بهذا الزعيم أن يصف القوم بأنهم طلاب دنيا ؟! ويستعجب المذيع المفتون بالشيخ من هذا القول قائلا أنهم تلاميذك .. فيرد الشيخ الانتهازي في غير اكتراث .. أصحاب الرسول اقتتلوا في السلطة ؟!! ( ومات بعد هذا اللقاء المذيع وفي قلبه حسرة بدت في شهيقه وزفيره عند ذاك اللقاء ؟! ) وأقول إن كان أصحاب الرسول اقتتلوا في السلطة فأي قيمة أخلاقية أو سياسية يريدها لنا أصحاب نظرية تسييس الدين أو تديّن السياسة ؟ ؟!!
بالطبع الطرف الآخر لا يقف مكتوف الأيدي لهذا الزعيم . بل يجند أجهزة الإعلام , والدولة وملحقاتها ( تلفزيون ساحة الفداء وصحف محمد طه محمد أحمد الذي يستخدم بذاءة غير مسبوقة إلا في عالم الفضائح الجنسية , و أجهزة الأمن ومسلسل الاعتقالات .. ) كل ذلك والدولة ( أعزّها الله ) همها كشف زيف شيخها الضال !
وفي مثل هذه الصراعات دوما تكون المواجهة بين المصلحة الذاتية والفكرة اللعينة !! ودائما ما تكون النتيجة مخيبة للآمال .. فعلى الرغم من أن الفكرة واضع عجينها وخميرتها بل وخابزها شخص واحد عينه المراوغ حبيس كافوري حسن عبد الله الترابي ولعل التهمة التي لم تقدم له إلى الآن : أنه وضع مادة في ذلك العجين تفتك بالبلاد العباد في غير رحمة ؟!!!
وعلى الرغم من أن هذا الرجل أحد كفتي المعادلة عند التمييز , إلا أننا نجد معظم القطيع راح مع المصلحة الذاتية والسلطان.يقاتل ويكفُر بالفكرة اللعينة !!
وقد أنطبق عليهم قول الفرزدق لسيدنا الحسين : " قلوبهم معك وسيوفهم عليك "
وهذا قياس مع الفارق بين الرجلين , ربي أغفر لي أن قارنت بين الرجلين ..
وفي هذا الوقت الذي حسم هؤلاء فيه المسألة بهذه الكيفية اللاأخلاقية ترى أناس من أمثال الدكتور حسن مكي وليس ( خيش مكي ) كما قال الترابي عنه يوما . غير أنني أجد في سخرية الشيخ سفهه عظيم .. والأسلوب الساخر الذي يتميز به حسن الترابي محتاج لتصنيف مفرد لا للتشفي من الخصوم كما يفعل هو وإنما لكشف آلية وطرائق التفكير التي تميز الرجل . فهو ليس يقصد مجرد السخرية وإنما يمعن في إذلال الخصم أو المخالف له حتى لا يكون هنالك مكان للمقارنة بينهما , وقد أستخدم تلك السخرية عينها من قبل مع شيخه الذي جنده في حركة الأخوان حين كان يلبس الرداء . فقد قال عن تلك المدرسة التي كان ينتمي إليها "نحن لسنا بالبنائيين ولا بالقطبيين " والصادق عبد الله عبد الماجد ما بتحمل المسؤولية , والحبر جبان , ومحمود عبد الله برات مجنون !!!
و الترابي هنا ليس استثناء من زعاماتنا سواء كانت دينية أو سياسية أو طائفية الخ .. فهمهم الأول أن لا يوجد صف ثاني أو ثالث يخلفهم عند الموت ( لا قدر الله ! ) فهم زعماء على طريقة الأسد والى الأبد .
ودليلنا على أن السخرية منهج عند الترابي تتعدى كل الشخوص الماثلة في الواقع التي يمكن أن تشكل خطر على زعامة الزعيم لتصل لشخصية النبي العظيم والنصوص المقدسة والأصحاب عليهم الرضوان .. وهنا تستخدم السخرية بأسلوب إيحائي يعتمد على الإقناع النفسي .. وهنا وبالتحديد تبلغ الشيطنة والخباثة ذروتها عند الشيخ الترابي !! أنظر لمحاضرته قضايا أصولية شنبات الزراعية ومحاضرة كلية البنات .. ستجد مثل وصفه للأصحاب بأنهم أجلاف ووصفه للمعصوم بأنه يكذب ؟! فقد علق على حديث البخاري ( أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت.. قال : لم تقصر ولم أنسى ..) هكذا : ((( كذب ..كذب لا يكذب متعمدا يكذب ؟!!! )))
الملاحظ أنني كلما تقدمت خطوة في الحديث عن الحركة وجدت نفسي واقفا أمام الترابي ؟! فالحركة هي الترابي والحديث عنها بعزل عنه دوران في فراغ !!
أرجع مرة أخرى للدكتور حسن مكي ودكتور غازي صلاح الدين ( أخيرا ) فقد حاولوا إمساك العصا من نصفها لذلك بدأ حديثهما فيه كثير من الضبابية وعدم تسمية الأشياء بمسمياتها لدرجة أن صاح الشيخ الكاروري ( وما أكثر الشيوخ في هذه الحركة بعد مفاصلة رمضان الشهيرة ! ) في وجه ورقة الأعمال الفكرية لإحياء العمل الإسلامي الوطني المقدمة من قبل غازي صلاح الدين قائلا : " الورقة خطاب تجريدي غير مقيد وغير مقبول من غازي صلاح الدين الذي كان يتقلد مناصب مرموقة خلال الفترة السابقة ( يقصد فترة التمكين التي بدأت تتضعضع الآن ) يجب تحديد الأشخاص والتاريخ وتحديد المسؤولية !! " (سودانايل إحدى مناقشات ورقة غازي صلاح الدين! ) وقد قدم الورقة دكتور غازي ظنا منه أنها سوف تساعد الحركة في الخروج من المأزق أو عنق الزجاجة ؟! ولكن هيهات لها أن تفعل .. ما دام القول مخالف للفعل عند التجريب وفي لقاء آخر يقول دكتور غازي صلاح الدين عن فترة وجوده داخل فوهة النظام الجحيم أنه حقيقة كان بعيدا عن مصدر القرار ؟! أنظر وقارن بين قول الشيخين وبدون تعليق !
أما اليوم فيوجد غسيل قذر يقوم بعرضه ( مجانا ) المحبوب عبد السلام أحد مشكلي لوبي الحركة في أواخر سبعينات القرن المنصرم ! يقوم هذا المحبوب بكشف دخيلة نظام الإنقاذ "الإسلامي" بصورة أبشع من مسلسل فضائح انبطاح النظام أمام (C I A ) راجع رسائله المفتوحة للدكتور نافع على نافع لعلك تجد بها شيء نافع بهذا الخصوص (مقالات وتحليلات ـ سودانيز اون لاين )
وبعد هذا التنصل المريع من تحمل المسؤولية تجاه أعمال النظام البشعة .. لم يتبقى إلا أن يتهم النظام المعارضة ويحملها كل تلك الأعمال التي حدثت في عهده ؟! ولكي يكون الأمر مقبولا من بعض الوجوه بدأ النظام قبل مده والى الآن في استدراج المعارضة ( أحزاب متوالية , الحركة الشعبية , التجمع الوطني الديمقراطي أخيرا ..) للمشاركة في الحكم .. فهل من معتبر ؟!
غير أن جدلية التاريخ تجزم بانقراض الحركات التي تبشر بالموت وتريد التخلص من الحياة .. فمن ديمومة الصراع والبقاء للأصلح تستخرج شهادة وفاة لتلك الحركات.. نسبة لأنها لا يمكن لها أن تحمل برامج للتغيير يصب في ناحية الارتقاء , ومصلحة الجماهير .. كما لا يمكن أن توجد لها مساحة في المجتمعات المتحضرة ( مآل البشرية ) وحتما هي إلى زوال 0
أبوبكر حسن خليفة
[email protected]
الأربعاء 29/6/2005م
القصيم