في مارس المنصرم (مارس 2005) أصدرت منظمة (أطباء بلا حدود) الهولندية تقريراً حول الوضع الانساني في دارفور، وقد تطرق التقرير فيما تطرق إليه إلى الأوضاع المزرية والبائسة – بل – والمحزنة، في ذلكم الإقليم المفجوع، كما تطرق إلى العديد من منغصات الحياة، وإلى عذابات إنسان ونساء ذلك الإقليم المكلوم، وتعرض فيما تعرض للانتهاكات التي يقع بعضها في دائرة المسكوت عنه أو "التابو" السوداني. فثارت ثائرة البعض، بعد أكثر من شهر ونيف من صدور التقرير، ووصل الأمر إلى اقتياد المنظمة ممثلة في شخص مديرها بالسودان، إلى نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة، ومطالبة المنظمة بالكشف عن الضحايا الذين قال التقرير أنهم تعرضوا للاغتصاب. وما زالت تداعيات الموضوع تترى، بعد أن تمسك مدير فرع المنظمة بالسودان بموقفه من صحة التقرير، ومصداقيته، واستعداده للذهاب للقضاء دفاعاً عن تقريره، وإصرار النيابة على أن يمدها بالمعلومات المطلوبة منها، وإلا – فإن النيابة – ستمضي بالملف إلى نهاية الشوط بوضعه أمام القضاء، متهمة المنظمة بتهمة "نشر أخبار كاذبة" و "إثارة الفتنة" و "الإخلال بالسلامة العامة"، وإذا ما أدين مدير المنظمة – لا قدر الله – والله يكضب الشينة – تحت هذه المواد من القانون الجنائي السوداني، فإن عقوبات من بينها الإعدام والسجن والجلد والغرامة قد تلحق بهذا المدير الذي قادته قدماه ومنظمته، وشفقتها على أهل السودان، ودارفور ليواجه بين عشية وضحاها، تهماً ما كان يتخيل أنه يقع تحت طائلتها، وهو الذي ركب الصعوبات ليرفع عن أهلنا عذابات الحروب وويلاتها. وهاهو ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، إيان برونك، يلقي بثقله الأممي في القضية، ويفتح "النيران الثقيلة" ويشن هجوماً كثيفاً، وغير مسبوق، على الحكومة، ويدافع بلغة صريحة وواضحة عن التقرير، مما يعطي التقرير قوة أممية، وسنداً من الأمم المتحدة، يجعله وثيقة معترفاً بها عالمياً ودولياً.
وحتى لا تظلم منظمة (أطباء بلا حدود)، فإن تقريرها ليس هو الأول أو الأخير، كما ان المعلومات الواردة فيه، ليست هي المعلومات الوحيدة والأولى ولا الأخيرة من نوعها وكمها، التي تعرضت لمسألة الانتهاكات في دارفور. فهناك المئات من التقارير المشابهة، وجميعها تعرضت لذات القضايا التي وردت في التقرير بصورة أو بأخرى، وهناك التقارير الرسمية والتي أصدرتها لجنة التحقيق الأممية وتلك التي أصدرتها لجان التحقيق الوطنية، وجميع هذه التقارير تتحدث بدرجات متفاوتة في الموضوع الذي تطرقت إليه (MSF) الهولندية.
ولعل هذه المقدمة تجعلنا ننظر للموضوع من منظور أوسع، وهو لماذا تعرضت هذه المنظمة بالذات وفي هذا الوقت بالذات لما تعرضت إليه؟! وهل سيكون هذا الملف بالونة اختبار للمئات أو العشرات من التقارير والمنظمات التي قد تدخل هذا النفق، إذا ما قدر للقضية أن تذهب للقضاء، وتحدث فيها إدانات أو تبرئة؟!
يبدو أن كثيراً من الأشياء والأمور يتم التعامل معها بدون النظر إلى حساسيتها من جميع الأوجه. وإذا ما قدر لمثل هذه الملفات الحساسة أن تحبس وتعتقل في إطارها القانوني فقط، فإن المردود – لا شك – سيجيء ضعيفاً، وربما لا يؤدي للغاية التي من أجلها أثير. وفي هذا منقصة، وضيق رؤية، يتوجب على الدولة تجاوزها في التعامل مع الملفات الحساسة، وإلا فإن الأزمات ستترى بعد كل قضية تثار، وستجد الدبلوماسية السودانية نفسها دائماً في موقع الدفاع بدلاً من موقف الندية.
ولننظر للقضية من منظور آخر. إذا كنا نريد أن يدعم العالم أهلنا في دارفور وفي غير دارفور. وكنا نريد من هذه المنظمات أن تجلب الدعم المادي والمعنوي لعلاج المأساة في دارفور، هل نطلب من المنظمات أن تقول في تقاريرها "ان الوضع مستتب وآمن وعال العال"؟!! لو كنت مكان السيد وزير العدل، لما ترددت لحظة في طلب ملف القضية، لدراسته بصورة أعمق، وبعين تنظر للملف من جميع جوانبه، وبعدها سأتخذ القرار السليم، وهناك في القانون ما يجعل وزير العدل والنائب العام يتدخل للمصلحة العامة. فهل فعل السيد الوزير؟!
ترى هل ستتدخل وزارة العدل أم أن ملف (أطباء بلا حدود) سيصبح القندول الذي شنقل الريكة كما يقول المثل السوداني الحكيم؟!