" لقد أضعنا البلد ، وأضعنا الأهل ، ولم يتبق لنا سوى الأسرة فأخشى أن أضيعها هى الأخرى ".
فمن الوقائع التى سردت ؛ أن حركة التمرد تقوم بالقبض على كل من يقابلها من المدنيين ؛ فإذا لم يكن من إقليم كردفان أو دارفور ؛ تم اختطافه أو قتله وسلب ما يملكه من بضائع ، أما إذا كان من أحد الإقليمين المذكورين ؛ سلبت بضائعه فقط دون قتله ، تاركين له الشاحنة ليعود بها أدراجه . وتوالى السرد لوقائع أكثر ألما وخطورة .
لكن الملاحظ أن هناك نقاط تدفعنا دفعا للتوقف عندها :
· فالملاحظ أن حركة التمرد : العدل والمساواة ، تمارس نوعا من العنصرية غير المبررة . فلم يأت يوم وكان فيه إضطهاد لقبائل كردفان أو دارفور . بل كانوا هم أبناء البلد الذين لهم مكانة مقدرة لدى كافة رصفائهم من أبناء الشعب السودانى ؛ إلى درجة تغنى النساء ؛ فى الأفراح ؛ بـ "ود الغرب " ، بل أن الكثير من أبناء دارفور تقلدوا العديد من المناصب الدستورية فى السودان ، إضافة إلى أن الأغلبية من رجال الأعمال السودانيين من منطقتى كردفان ودارفور . فآخر ما يمكن أن تعتمد عليه حركة العدل والمساواة هو الإضطهاد الشعبى لها لسبب عرقى أو دينى .
· من ناحية أخرى ؛ فإن حركة العدل والمساواة ، إذا كان لها الحق فى مناهضة الإنظمة الحاكمة ، فإنها لا تملك الحق فى إستعمال المدنيين لإحداث الإنفلات الأمنى ومن ثمَّ تحقيق ضجة إعلامية وإعلانية تلفت العالم إلى مطالبهم .
فليس من الأخلاق أو الدين أو العرف أو حتى مجرد الإنسانية ؛ قتل المدنيين أو إختطافهم لمجرد أنهم لا ينتمون إلى إقليم معين ، أو لأنهم – كما يزعمون – " عرب " .
· يلاحظ كذلك أن حركة العدل والمساواة ؛ قد تجاوزت المضمون الذى برر قيامها ؛ من التهميش ؛ إلى الإضطهاد العنصرى ، وأنها تجاوزت الهدف ؛ فبعد أن كان الهدف هو النظام الحاكم تحول إلى كل مدنى أو غير مدنى لا يعد من الإقليم . كما أنها تجاوزت وسائلها ؛ من وسيلة الكفاح المسلح ضد النظام الحاكم ، إلى وسيلة إحداث الإنفلات الأمنى باستخدام الترويع والترهيب للمدنيين ، لإحداث سخط عام .
· وربما كان ما سبق هو ما أدى إلى إنشقاق تاريخى لحركة القوى الشعبية السودانية عن حركتى تحرير السودان والعدل والمساواة ؛ ويستمد الإنشقاق تاريخيته من كونه إنشقاقا " موضوعيا " يكشف عن وعى حركة القوى الشعبية بخطورة تخبط الحركتين وانحرافهما عن المضمون والأهداف والوسائل ؛ بما يضعهما فى موقف لا يحسدا عليه .
· فمن أخطر وسائل الحرب هى استخدام المدنيين ، مما دفع المجتمع الدولى إلى تجريمه ؛ فإن كان الجانى هو أى نظام حاكم ، كيِّف مسلكه قانونا بأنه " من جرائم الحرب " ، أما إن سلكته عناصر لاتنضوى تحت جيش نظامى عد منها ذلك " إرهابا "
· فما اتفق عليه الفقه القانونى وهو بصدد تعريف الإرهاب ، أن أعمال التخويف والقتل وغير ذلك من الجرائم التى توجه ضد المدنيين أو العاملين بالمنظمات العالمية ، يعتبر من قبيل الإرهاب .
· وهذا مانصت عليه الإتفاقايات الدولية ، وينظر فى ذلك أيضا ، " تعريف وزارة الدفاع المريكية " و كذا " وزارة الخارجية الأمريكية " و " مكتب التحقيقات الفيدرالى " الذى عرفه قائلا ؛ بأنه استخدام القوة أو العنف غير القانونى ضد الأشخاص و الممتلكات ، أو أى من ذلك ، بقصد تخويف أو إجبار الحكومة أو السكان المدنيين على تحقيق أهداف سياسية أو إجتماعية .
· فبالرغم من إختلاف الفقه حول دوافع الإرهاب كمعيار للتمييز بينها وبين بعض الجرائم ، إلا أن ما اتفق عليه الفقه بصورة قاطعة ؛ هو جعل المدنيين أو ممتلكاتهم محلا للجرائم الإرهابية كمعيار أساسى .
· ويعد تقرير الأمم المتحدة الأخير بشأن إستمرار عمليات الإغتصاب من قبل جيش تحرير السودان للنساء فى مخيم كالما مؤشرا خطيرا ، على التحول النوعى فى الحرب ؛ ومن ثم فقد حركات التمرد للقليل المتبقى الذى كان يضفى شيئا من المشروعية على عملياتها ...
· ويجب ألا تركن حركتا التمرد ، إلى قرار مجلس الأمن المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية ؛ لأن هناك عدة مزايا تتميز بها الدولة ، لا تتمتع بها حركة التمرد فى غرب السودان ومن هذه المزايا :
1- أن الجيش السودانى جيشا نظاميا ؛ بمعنى أنه يخضع لنوعين من القوانين :
النوع الأول : القانون الداخلى : يستوى فى ذلك القانون العسكرى ، والقانون الجنائى ، وغير ذلك من القوانين الداخلية وحتى قانون البيئة .
النوع الثانى : القانون الدولى : حيث يخضع الجيش السودانى ، إلى كافة أحكام القانون الدولى ، سواء الإنسانى المتعلق بحماية المدنيين والأطراف الضعيفة والممتلكان الخاصة....ألخ فى حالة الحرب ، كما يخضع للمعاهدات والإتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان فى حالة السلم،
إضافة إلى كافة الإتفاقيات الدولية التى أبرمها أو يبرهما السودان ويصدق عليها بحيث تضحى جزءا من القانون الداخلى .
والجيش السودانى يشمل وفق مفاهيم القانون الدولى ؛ كذلك ؛ المليشيات التى تتوافر فيها شروط معينة ؛ كوضع شارات مميزة ، وخضوعها لإشراف القوات المسلحة ؛ وفق المفهوم الحديث .
فى حين لاتخضع حركات التمرد لأى من ذلك ، بل أن المفهوم الدولى يصنف بعض الحركات الإرهابية ؛ باعتبارها حركات ذات دوافع سياسية ، تتجه إلى استخدام المدنيين لإحداث أكبر تأثير على الدولة ولفت نظر المجتمع الدولى ، باعتبارها الطرف الضعيف فى الحرب ، والتى لا تمتلك الوسائل القادرة على المجاراة أو المواجهة المباشرة مع الجيوش النظامية ؛ فتلجأ إلى هذه التكتيكات بغرض إحداث الاأثر المطلوب .
وكلما اقتربت حركات التمرد من هذا الأسلوب كلما إزداد فقدانها لأرضيتها التى ترتكز عليها فى جذب الدعم الدولى إلى جانبها ... ، وبالمقابل تكتسب الحكومة بشكل مطرد الدعم الشعبى والدولى بشكل تلقائى .
2- أن قيام القوات المسلحة فى بعض الأحيان بغارات أو عمليات عسكرية قد يسقط فيها مدنيون ، لا يكفى بذاته على إصباغ وصف جرائم الحرب ؛ وإنما يجب أن تتوافر أركان وشروط أخرى كالقصد الجنائى ، وعدم وجود ضرورات عسكرية لاسيما إذا كان المتمردون يستغلون وجود شخص مدنى أو أشخاص آخرين متمتعين بحماية لإضفاء الحصانة من العمليات العسكرية ؛ وبقصد شل القوات النظامية على التصرف .
3- أن هناك استهجان دولى ضد استخدام المدنيين ، وأن صورة حركات التمرد قد تشوه أمام أنظار المجتمع الدولى ، مما يفقدها المبرر الوحيد الذى خلقت من أجله .
وبالنظر إلى الوقائع الحالية ، والأوضاع الراهنة، فمما لا شك فيه أننا – لو تجاوزنا عن كافة الإتجاهات السياسية – ثم أعملنا المعايير القانونية لتكييف العمليات التى تقوم بها حركات التمرد فى دارفور ؛ فإنها لن تخرج عن كونها عمليات إرهابية ، وللأسف ؛ ان كافة الشروط منطبقة عليها إنطباقا يوجب عليها أن تقف مع نفسها قليلا ؛ لتتماسك معيدة النظر بالفعل فى استراتيجيتها العسكرية لتتواءم مع متطلبات المجتمع الدولى وأعرافه ؛ حتى لا تجد نفسها - فجأة - منعزلة عن العالم ، بما يؤدى إلى مزيد من فقدانها التركيز والإنتباه ، ومن ثم إلى مزيد من التخبط والفسيفسائية ، إلى درجة التحول من حركات تمرد إلى عصابات إرهابية مسلحة صغيرة . ثم انطفاء جزوتها أخيرا كنهاية حتمية لذلك .