بعد مايقارب الاربعين عاما من ذلك التاريخ عاد الاول ليلتقي بالثاني بعد ثلاثة عشر عاما من الغياب خارج السودان اثر انقلاب89 ويشهد عن قرب كيف تحفر عملية اعادة تأسيس هذا الحزب الذي يعتبر اهم حركة سياسية برزت للوجود بعد ثورة اكنوبر 1964، طريقا في الصخر بالاظافر المجرده العاريه.
كما هو الحال بالنسبة لكافة تيارات الاصلاح الحزبي السودانيه يجد ديموقراطيو البعث انفسهم في معركة مع المجتمع بالدرجة الاولي .. مع موجة من تقليدية الفكر والسلوك والعقليه اطلقها تفاعل عمره ثلاثة عقود علي الاقل بين عاملين اساسيين هما تحول اداة التحديث الكبري ( النظام التعليمي ) الي نقيضها وهجرة عشوائية الي المدن من ريف طارد لسكانه المنتجين بفعل الحرب الاهلية والسياسات الاقتصادية المايويه والانقاذيه. تيارات الاستنارة والتحديث الحزبية وغير الحزبية تجد نفسها محاصرة حديديا من قبل الاوساط المدينية، نفس الحاضنة التي كانت قد منحتها الحياه عندما كان التوازن فيها لمصلحة هذه التيارات منذ عشرينيات القرن الماضي وحتي سبعينياته، وفاقدة للتجاوب من قبل اغلبية المجتمع الذي تسعي لتغييره نحو الافضل. في لحظة من لحظات التاريخ السوداني المعاكسة لطبيعة الاشياء والممتدة حتي الان تتنكر الام لوليدها حد الاقتراب من قتله خنقا. وبينما تعاني تيارات الاصلاح الحزبي عموما في هذا المناخ من ضعف الاهتمام النخبوي والشعبي بالعمل العام عموما وقضايا العدل الاجتماعي والديموقراطيه السياسيه، يضاف الي ذلك بالنسبة لشقها القومي هيمنة الاسلام السياسي، حاكما كان او غير حاكم، علي موضوع الهويه العربيه بحيث اضحت قرينة عنصرية قبائليه او مدغومة في خطاب تعبوي ديني لحماية سلطة انقلابية المنشأ.
فوق ذلك تجد هذه التيارات نفسها في صراع مع نفسها.... نفسها العتيقة التي تبقي متمسكة بأساليب عمل وتفكير متجذرة في الحزب لها مؤسساتها وشخصياتها القيادية وكوادرها وتاريخها مدعومة بقوة العادة وسهولة الدروب المطروقه.. فهي بذلك محاصرة داخليا ايضا وهو حصار امتن واكثر فعالية في التجربة البعثية لانه يتعزز بأمتدادات الحزب فوق – السودانيه، العراقية والسورية. فهذان الامتدادان ارتبطا بدولتين نشأتا فيتاأتازهههعتهححخخخننننزمونمننتتتتععع مرحلة ستينيه عربية كان الانقلاب فيها وسيلة الثوريين المقبولة لاستلام السلطه .. والسلطة،اي سلطه، حتي لو كانت ديموقراطية المولد والمسير، محافظة بطبيعتها وتجد صعوبة بالغة في التجاوب مع دواعي الاصلاح السياسي لذلك فقد نزل الثقل العراقي- السوري بحسم الي جانب المحافظة مقابل التجديد... وربما اكثر من الثقل المادي، وهو غير قابل للتقليل من اهميته في زمن التضخم السوداني المنفلت وبعد زمن السهولة المالية البعثي بحكم تركيبة الحزب فوق- القطريه، كان للثقل المعنوي فعالية حصارية اكبر . بالنسبة للبعثيين عموما كان الدور الذي لعبته قيادة صدام حسين في استلام السلطة بالعراق عام 1968 وتثبيتها ليس اقل من انقاذ للحزب من اندثار محقق ووشيك بعد تجربتيه السلطويتين الفاشلتين في العراق ( نوفمبر 1963 ) وسوريا ( فبراير 1966 ). ومع تصاعد الاحتياجات والنغمة التعبوية في خضم المعارك المتنوعة والمتطاولة التي دخلتها قيادة صدام البعثية العراقيه اكتسي موقعها الطاغي في الذهن والمشاعر البعثية العربية السودانية وغير السودانيه مسحة تقديسيه شكلت رصيدا هائلا ضد اي نزوع تجديدي لاسيما عندما ارتفع التصاعد الي قمة تبني خطاب ديني كثيف.
تحت الوطأة الخانقة لهذه المجموعة من الضغوط التي يقوي بعضها بعضا كان نشوء تيار اصلاح بعثي امرا اشبه بالمعجزه اذ ان تبلور مجموعة افكار متناسقه حول جوانب القصور الرئيسية في الحزب وكيفية معالجتها لدي مجموعة من الكوادر كافية نوعا وكما لطرحها بقوه كان يتطلب توفر القدرة علي اختراق حواجز صلدة من الركود الفكري وانحسار الوعي السياسي الحديث متجذرة في مجتمع مأزوم حتي النخاع وبأختراقات هامة ومتعددة الوجوه لصميم الكيان الحزبي. وفوق ذلك فأن الشرط الاساسي لاطلاق عملية التبلور وهو مساحة حوار داخلي معقوله، كان مفقودا بحكم التقاليد واساليب العمل التي استقرعليها الحزب فأتخذت هذه الضرورة الحياتية بالنسبة لمستقبله مجاري ومنافذ تحتيه تولدت عنها بعض مقومات التبلور وهذه بقي تأثيرها ضعيفا اكثر مما هو عليه نظرا للارتباك الاضافي الذي سببه وقوع الافتراق العلني عن قيادة بغداد القوميه بأضطرار تيار الاصلاح بدء حياته المستقلة في السودان، قبل ان تقطع عملية التبلور شوطا اكبر.
والارجح ان تطور الامور بعد ذلك اثبت صحة فكرة مؤداها ان طبيعة المهمات المطروحه علي حركة ما هي التي تخلق/تستدعي / تبرز نوعية القيادات التي تتصدي لها، فخصوصية تعقيد مهمات حركة الاصلاح البعثي هي التي فتحت المجال امام فعل تكوين قيادي خاص وجد بوجود محمد علي جادين ... تكوين لايتميز بالابهار الزعامي الذي يفرض حضوره من اول وهلة علي الاخرين وانما هو انسياب خافت يأخذ وقته بما يشجع علي الاخذ والرد بل انه يكاد يحرض عليه من فرط اختلافه عن النمط الزعامي الذي يوحي به هذا المصطلح عادة حيث يتكفل مزيج الابهار والرهبه بالتنازل الطوعي عن حق النقاش والاستفهام. وجود هذه النوعية من الخصائص القياديه اللازعاميه، اوحتي ضد - الزعاميه، ساهم بصورة فعالة في اطلاق الحوار البعثي – البعثي الداخلي المطلوب لاستكمال مرتكزات عملية اعادة تأسيس الحزب.
والواقع انه حتي الهيئة الخارجية تنسجم مع هذه الخاصية القيادية وتؤكدها : مايشبه الهزال الجسماني يصدر عنه صوت خفيض النبرة علي اتساعه وعمقه ومظهر يصرخ بالتواضع. هو ابن الجزيره، قلب الصوفية السودانية، ويبدو انه اخذ عنها ميزتي البساطة والصبر بمزيج من تأثير البيئة المحليه وتشابكات جينيه. صبور الي درجة تجعل المسألة تبدو وكأنه عاجز عن فقدان اعصابه، والمقارنة مع مجايليه عمرا وتأهيلا اكاديميا ودورا في العمل العام تضعه في مكان اقرب الي غلاة المتصوفين زهدا مسكنا وملبسا وطعاما ومتطلبات حياة يوميه. مع ذلك فأن معرفته بالحياة الحديثة في جوهرها ومعناها المستقبلي، وحتي في سعاداتها الدنيوية، عميقة وملموسه.. فهو ينتقل من اجواء المزارعين وغيرهم من خلق الله ملح الارض الي اجواء الاكاديميين والنخبه بغير جهد وكأنه خلق لاحدهما دون الاخر.
ومع الدور البالغ الاهمية لبقية الكوادر البعثية القياديه في عملية اعادة تأسيس الحزب، لاسيما بالنظر لانعدام شخصية قيادية اولي بالمعني المتعارف عليه، فأن التعقيدات الاستثنائية التي واجهت وتواجه هذه العمليه تجعل الخصائص القيادية المحددة لمحمد علي جادين في حالة اختبار قاس ومستمر هو في الحقيقة نموذج لنوع المصاعب غير الاعتياديه التي تجعل مهمة ديموقراطيي البعث ومجدديه حفرا في الصخر بالاظافر العاريه :
في البداية عكست نوعية مصاعبهم حقيقة افتقادهم الاختياري لعناصر الجذب والتماسك البعثي القديمه ( الانضباط الحديدي المسنود بعوامل اطمئنان ما علي الاحوال الشخصيه ) لتنافيها مع توجهاتهم. وفي فترة كان خلالها البعث يعيش حالة دوار وتشرذم داخلي اثر ضربتين ثقيلتين متلاحقتين هما الفشل الدموي لانقلاب 4/90 المضاد لانقلاب الجبهة الاسلامية القوميه والهزيمة والحصار بعد عملية غزو الكويت، كانت عناصر الجذب لدي تيار التجديد المحصورة في المنطق والجدل العقلاني غير حاسمة التأثير في تحديد من هو المنحاز اليهم حقا ويمكن الاعتماد عليه .. هناك المتذبذب بين القناعات الذهنيه المستجده وروابطه القديمه وهناك المدفوع نحوهم بحساسيات وحزازات شخصية كانت تفشت في بحيرة الحزب الراكدة او بوعي قاصر بمعني التغيير وافاقه .. ومن كل هذا كان يتفجر هم يومي يعجز فيه حتي الصبر الايوبي - الجاديني عن امتصاص اثار الاحباط كلية. فبعد جهد يطول اياما وليالي في النقاش والاجابةعلي الاسئله، الذي لايخلو من اجلاء اتهامات شخصيه وصد استفزازات بعضها متعمد وبعضها غير ذلك، يبقي التذبذب وتشوه الدوافع لدي بعض او كل من شارك في ذلك ويضيع كل الجهد او جله هباء.
وبعد ان خفت تدريجيا، وان لم تنته كلية حتي الان، هذه النوعية من المصاعب نتيجة دخول درجة من التصلب في السيولة البعثيه وازدياد فعالية سلاح الحوار العقلاني، انفتحت بوابة مصاعب البناء اليومي التفصيلي علي مصراعيها : عندما يقرر الحزب اصدار بيان فلابد ان يكون لامر يعتبره ضروريا للغايه وفي صفحة واحدة ان امكن تحت ضغط الحالة الماليه. في معظم الاحيان يتجاوز دور الامين العام صياغة البيان او المشاركة في ذلك الي تدبير امر الطباعة وحتي المساهمة في التوزيع. وفي تجربة شخصيه مع محمد علي جادين خلال نهار يوم عادي من هذا النوع قام بأجراء اتصالات تلفونية وشخصيه تتعلق بالطباعه (بعد طباعة البيان في يوم اخر سلم نسخا منه الي بعض الصحف في طريق العودة الي منزله بالخرطوم بحري ) وتخللت ذلك زيارات لمؤسستين اكاديميتين ودار نشر في امدرمان والخرطوم لمتابعة مسائل تتصل بعمله الخاص في الترجمة والتأليف.. ولولا ان رفيق التجربة ذلك اليوم كانت لديه سياره للجأ محمد علي الي وسيلته المعتادة، المواصلات العامة، لقضاء هذه المشاوير.
هذا نموذج البرنامج اليومي للامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي السوداني : استغراق في واجبات حزبية تتجاوز مسئولياته القيادية علي ثقلها البالغ في مرحلة اعادة التأسيس، واخري تتعلق بتدبير شؤون المعاش والمعيشة الشخصية مضافا الي كل ذلك المجاملات السودانية التي لاتنتهي الا لتبدأ. اربعة وعشرون ساعة لاتتسع لهكذا برنامج ولاطاقة الانسان الجسدية والعقلية والنفسيه مهما كان مقدارها. هذا في واقع الامر استهلاك وليس استغراق...استهلاك موزع بدرجات متفاوتة بعض الشئ علي كافة قيادات الحزب بمستوياتها المختلفه واعضائه اذ لامتفرغين لديه.
وسط مظاهر وشواهد المعاناة البعثية المضنيه هذه يمكن للمرء ان يلمح اجابة علي السؤال البديهي : ماهو نبع القوة الذي يستمد منه هؤلاء طاقة الاستمرار في تحمل مسئولية مهمة تبدو مستحيلة للمراقب الخارجي؟ مقابل تقلص عضوية الحزب بسبب عملية الفرز الطبيعية بين المرحلتين الجديدة والقديمه يشعر الناشط البعثي بأن القناعات التي دفعته لخوض هذا الغمار الصعب ليست معلقة في سماء النظرية والاماني. هناك اشارات واضحة الي احتمالات توسع نوعي وكمي كامنة في ظاهرة لم يعرفها حزب البعث منذ نشوئه وهي التجاوب الحواري من قبل المثقفين السودانيين بمختلف اتجاهاتهم مع اطروحاته المتجددة حول الديموقراطيه وازمة التطور السوداني والهويه ومفاهيم العروبة والقومي والقطري وحول مراجعاته النقدية العلنية لتجربته في السودان والعراق وغيرهما. وفي هذا السياق يلاحظ المراقب مؤخرا ان ظهور اسم او / وصورة الامين العام للحزب لايحدث في صفحات السياسة والاخبار فقط وانما ايضا في صفحات ومناسبات الثقافة والفكر وربما في الاخيرة اكثر من الاولي وهي اشارة اخري لتوطد صلة الحزب بالاوساط القيادية السودانيه في كافة مجالات الحياه.
البعث القديم كان موضوعا للرفض والقبول الكلي من قبل الاخرين ومن خلال حركيته النضالية اساسا بينما البعث الجديد موضوع قابل للتعاطي والاخذ والرد معه لمرونته وتعدد مكوناته لذلك لاتنقطع صلته ابدا حتي مع اشد منتقديه وهذا ماينشئ حوله تدريجيا مجالا حيويا قابلا للتوسع المستمر ولتنمية علاقات مع الحزب تتميز بالديمومة القائمة علي الوعي سواء بقيت عند حد الاحترام او تطورت الي انخراط في عضويته. بيد ان تحول هذا المجال من امكانية محسوسة الي واقع يخفف معاناة البعث والبعثيين الاستثنائية بالمقارنة لكافة حركات التجديد الحزبي السودانيه ويفجر طاقاتهم في خدمة البلاد كاملة، رهين بحل مشكلة التمويل، اي بتحد جديد لعقليتهم المتفتحه والمواهب القيادية التي ابرزتها خصوصيات تعقيد مهمتهم التجديديه.
في مجتمع سوداني لم يكن افقر مما هو عليه الان في اي وقت من تاريخه الحديث علي المستويين الفردي والجماعي يستحيل تمويل الحد الادني من متطلبات النشاط الحزبي بالاشتراكات والتبرعات الحزبيه مهما بلغت قوة العلاقة بين العضو والحزب، لاسيما في زمن الارتفاع الصاروخي للاسعار. وتتضاعف هذه المشكلة لدي المرحلة البعثية الجديدة لان البعثيين عديمو خبرة وتقاليد في هذا المجال علي محدودية حصيلته لكون التمويل لم يكن هما من همومهم قبلها كما ان حاجتهم الان للوصول الي اكبر قطاع ممكن من الرأي العام والنخبة السودانيه ملحة وعاجله لان الادبيات الفكرية والسياسية الكثيرة والهامه التي تراكمت لديهم نتيجة الحوار الداخلي في القضايا السودانية وفوق- السودانيه لن تنضج تماما وتمارس تأثيرها في تجذير مكانة الحزب وسط قوي المجتمع والمستقبل الحيه الا اذا اصبحت في متناول هذه القوي بما يجعلها مادة لتفاعلها الخصب مع الحزب.
هذه القضيه علي حدتها التي تصل درجة تجعل توفير جهاز موبايل واحد للقطاع الطلابي في العاصمه بأكملها مشكلة عويصه تشكل احد الجوانب القليلة التي لم يسلط عليها الحزب قدرته المكتسبة حديثا علي التحليل الموضوعي والجرئ رغم المؤشرات الواضحة امامه في امكانية ترجمة الدعم المعنوي الذي يلقاه في الاوساط المحدودة التي امكنه الوصول اليها حتي الان الي دعم مادي بشكل مباشر وغير مباشر. فدور النشر السودانية ( عزه ومركز الدراسات مثلا ) والجهات المشابهة في جامعة الحرطوم وامدرمان الاهليه قدمت تسهيلات كاملة وجزئيه لطبع مؤلفات وترجمات محمد علي جادين، واكثر من جهه وفرد استجاب الي نداء بالتبرع المالي او بادر به. المغزي الكبير الواجب لفت النظر اليه لهذه الوقائع هو ان التحول الذي طرأ علي طبيعة الحزب في مخاض عملية اعادة التأسيس الديموقراطي التجديدي قد ارتقي به الي موقع ضمن مكونات المجتمع المدني : هيئة غير رسمية تطوعية العضويه وديموقراطية الاداره تنتفي منها شبهة خدمة اغراض ذاتيه او اسريه او قبلية/ جهوية / طائفيه، اي كل مايتناقض مع خدمة السوداني كمواطن مجردا عن اي ارتباط اخر. في هذا فأن البعث يشبه كافة تشكيلات المجتمع المدني التي تتلخص مهمتها الحيوية في التعبير عن الاهتمام العملي للافراد بشؤون مجتمعهم ولكنه كحزب ينتمي الي الشق السياسي منها لانه يخدم اهدافا سياسية تتمثل في تفعيل دور المواطن السوداني فردا وجماعة بحيث يصبح شريكا حقيقيا في حكم بلاده .. وبقدر مايتخلص من افكار وممارسات الحزب- الجيش التي انتهت اليها الاحزاب ( الحديثة ) المؤسسة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بقدر مايصبح مكرسا تماما لخدمة المجتمع وبالتالي من حقه عليه ،وربما ايضا علي دولة ديموقراطية تعبر عن هذا المجتمع، توفير احتياجاته الماليه. هذه المقولة التي تبدو فارغة من المعني العملي لاول وهلة في ظروف المجتمع السوداني المعروفه تعود اهمية استقراراها في اذهان البعثيين وغيرهم الي انها ستغير نظرة القيادات والقواعد البعثية الي دور التمويل المجتمعي لنشاطات الحزب فهو ليس تفضلا من جهه المجتمع او استجداء من جهة الحزب وانما نتيجة منطقية وعملية لمدي نجاح الحزب في تحويل تكوينه الداخلي ديموقراطيا، لاسيما لجهة الشفافيه التي تجعله خاضعا لرقابة المجتمع بشكل من الاشكال، وفي اداء مهمته السياسية تجاه هذا المجتمع .. عندئذ تضيق الفجوة بين طلب الدعم المادي من افراد ومنظمات المجتمع القادره واستجابة قسم منها حتي تكاد تصبح مبادرة تطوعيه.
علي صعيد اخر فأن استقرار المقوله في الاذهان سيحفز العاملين في منظمات المجتمع المدني السياسي بعثية كانت او غير بعثيه علي استكشاف الوسائل العملية لتحقيقها، وقبل ذلك بطبيعة الحال وسائل اعتصار اخر قطرة مالية ممكنة من اعضاء الحزب انفسهم. علي سبيل المثال : الي جانب حقيقة فقر السودان والسودانيين في اغلبيتهم الساحقه، هناك حقيقة ان التغييرات العشوائية الكبيرة التي طرأت علي تركيبة الاقتصاد السوداني خلقت، مع الاغتراب، مجموعة كبيرة من الاثرياء السودانيين ذوي خلفيات يساريه وربما بعثية سابقه لاتزال روابطهم بها حية بمستويات وانواع مختلفه ( شخصيه، عاطفيه الخ.. الخ..). وبالاضافة الي ذلك هناك تغلغل القناعات الديموقراطية والليبراليه في دائرة سودانيه متسعة بأستمرار تضم قسما من هؤلاء مشكلة حافزا اضافيا لديهم ولدي بعض الاثرياء الاخرين. فضلا عن ذلك فأن الدعم يمكن ان يكون عينيا ( اجهزة كومبيوتر ) او حتي استشاريا من رجل اعمال اذا فكر الحزب بأنشاء مشروع تجاري . ثم ماهي امكانية ان يقدم الحزب مشروعا متكاملا للتمويل لشخصية او جهة معينه مثل قائمة بمخطوطات حزبيه للطباعه تتضمن تفاصيل التكاليف ؟ وماهي امكانية تنظيم حملات تبرعات الحد الادني بالجنيه والجنيهين في الحي او في المدرسه/ الجامعه مما يخدم اغراضا اخري ايضا؟ خلاصة ماتود هذه الامثلة قوله ان الخروج من المعني التقليدي لمفهوم الصلة بين الحزب والمجتمع يفتح افاقا غير متصورة الان لمواجهة معضلة التمويل الحزبي .. وعلي عاتق البعثيين تقع مسئولية خاصة في تصدر هذه المواجهه يأعتبار ذلك وفاء لدين مستحق عليهم ازاء الفكر والحركة السياسية في اليلاد بالنظر لدورهم البارز خلال مرحلتهم السابقة في نشر ثقافة الاعتماد علي مصادر مالية جاهزة بحكم امتدادات البعث فوق- السودانيه مما يتناقض تماما مع هذا المفهوم الصحي. وعلي صعيد اخر فأن تحمل حزب البعث العربي الاشتراكي السوداني هذه المسئوليه ممارسة علنية وعمليه اخري للنقد الذاتي تقدم دليلا قاطعا علي استمرار فعل ديناميكيته التجددية مما سيكسبه مزيدا من الاحترام والمواقع.
( عن جريدة الايام عدد 12 يونيو )