محمد خير عوض الله
[email protected]
في يوم الأربعاء الماضي كان الجزء الأول من هذه المقالة عن مذهب اللاعنف الذي بدأ يؤسس له الدكتور خالص جلبي قبل عشرين عاماً مع نسيبه المفكر جودت سعيد ، فإذا بمصادفة غريبة تجعل من يوم الأربعاء ذاته (15/6/2005م) يوماً مشهوداً لتجليات العنف الطلابي في بلاد المتسامحين (السودان) .. وكانت تلك أحداث جامعة أمدرمان الأهليّة المؤسفة التي راح ضحيّتها مكتب المدير ومكتب نائبه ومكاتب بعض عمداء الكليّات وغيرها من المنشآت والأثاثات والوثائق وأجهزة الحاسوب .. أجمل النّاس وفصّلوا في تفاصيل الحادث وسياقاته ومسبباته ، بداياته ونهاياته ، ذكروا كيف كان تسلسل الأحداث وكم هي الخسائر ، غير أني هنا أود (معتذراً) أن أترك المواصلة في قصة دكتور خالص جلبي لأنها ترتبط بموضوعي الآن ، لأقرأ في منصة انطلاق مثل هذه التصرفات.. وهي منصة العنف واللاعنف التي بدأناها (صدفةً) .. و للغرابة فإنّ حزب المؤتمر الوطني الذي نسبت له هذه الأحداث ، هو الحزب الحاكم الموكل ب (أمن واستقرار البلاد !) وهو نفسه الذي استجاب لصوت العقل والحكمة بداخِلِهِ وبدأ في التنحي عن حقوق الآخرين التي تغوّل عليها سنين عددا ..! وبدأ يخلي فعليّاً مقاعد في القصر الرئاسي ومجلس الوزراء وحكومات وبرلمانات الولايات ، كاعتراف صريح بضرورة التحوّل نحو الديموقراطيّة التي تستلزم مساواة النّاس أمام القانون فيما يمارسون ويتنافسون ، وهذا يعني اعترافهم بأن ليس القوي بالصرع في الممارسة السياسيّة ، إنّما القوي الذي يحوز على أصوات الناخبين .. المؤتمر الوطني الذي تلبّسته هذه القناعات منذ خمسة أعوام تقريباً ، هو نفسه المؤتمر الوطني الذي أحرق جامعة أمدرمان الأهليّة قبل إسبوع ونكّل بثورة التعليم وبتعاليم الإسلام ، وما فعله يرتفع صعوداً ليمثِّل (إهانة للمصحف ) لأنّهم يرفعونه ويرفضون الانصياع لتعاليمه ، بل يعملون على نقيضها لأنها تدعوا للتسامح وعدم التنابذ ، والرسول صلى الله عليه وسلّم ينهي عن قطع شجرة ، فإذا بالمؤتمر الوطني يحرق جامعة باسم الإسلام ! لا أدري لماذا غادرت عقليّة المؤتمر الوطني مبارزة أمريكا في الهواء الطلق ، ومبارزة العالم كلّه ، ثمّ واصلت تحقين منسوبيها في الجامعات بحقن العنف وتشكيل الكتائب حاملةً للسيخ ثمّ الكلاشنكوف مؤخراً !؟ طبعاً قد يكون سندها في ذلك آيات السيف والقتال : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)(التوبة:14) أو ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (التوبة:38) أو ( رحم اللهُ إمرئٍ أراهُم من نفسِهِ قوة ) .. وغيرها من النصوص ، لماذا تواصل الحركة الإسلاميّة الحاكمة تحقين منسوبيها تحقيناً خاطئاً بعد أن ثبت لها خطأ تحقين الجماهير في الهواء الطلق .. ؟ كيف رضيت (الدولة) أن تدخل طرفاً منافساً في نشاط الطلاب !!؟ لماذا لم يتبنى المؤتمر الوطني (بعد انتهاء مرحلة التمكين!) أن يغرس في الطلاب روح التسامح ويقنعهم بأنّه لا فائدة لكم من الانصراف عن التحصيل الأكاديمي ؟ لماذا لم يتبنى دعاية تجذب الطلاب لمهمتهم الأساسيّة بدلاً من أن يكونوا وقوداً لأهواء الساسة التي أخذت عمر البلاد ومقدراتها من غير طائل ؟ لماذا لم تحرِّك الدولة مايكرفوناتها : (أخي الطالب ، أختي الطالبة : ماذا تستفيد من موتك بسكين زميلك الطالب ؟ أخي الطالب ، أختي الطالبة : ماذا كسب الوالدين وماذا كسبت البلاد من قولكم الشهيدة التاية أو الشهيد الأقرع ؟ ماذا استفاد المجتمع ؟ ماذا استفادت الكليّة أو الجامعة؟ استغرب جداً أن يأتي رد الأمين العام للمؤتمر الوطني ـ بعد كل سنين العمر المديدة في التجربة ـ فيقول لإدارة جامعة أمدرمان الأهليّة إنّ لم تستجيبوا لمطالبهم (أي طلاب حزبه في الجامعة) فإنّ المؤتمر الوطني لا يضمن تصرفات منسوبيه !! ( راجع بيان مجلس أمناء جامعة أمدرمان الأهلية المنكوبة 16يونيو وصحيفة سودانايل 18يونيو2005م ) وتستغرب أكثر أنّ تسلسل الأحداث كان يوحي بغياب الحكمة تماماً من قمة المؤتمر الوطني ، فقد اجتمع (ممثلو أمناء الجامعة) مع شباب من المؤتمر الوطني مسؤولي (قطاع الطُّلاب!!) ، ثمّ اجتمع ممثلو أمناء الجامعة مع الأمين العام للمؤتمر الوطني بروفيسور إبراهيم أحمد عمر الذي قال لهم قولته المذكورة سابقاً ، وكل ذلك تمّ قبل ساعة من اندلاع الحريق الكارثة (المصدر السابق) وقال في موضع آخر ، أي البروفيسور عمر ، لنائب مدير الجامعة ، جاره في الحي الذي رأى إشراكه كي يجنّب الجامعة كارثة يوشك أن يحدثها منسوبيه ، قال له : ( الحشّاش يملأ شبكتو) ! ( صحيفة الصحافة 18يونيو الجاري) ولك أن تستغرب أكثر هذه المرة !! أي شبكة يريد بروفيسور عمر ملأها وسيّارات الدولة ملأى بالمدججين بالكلاشات والمواد الحارقة !! إنّ كلمة (استغرب) لكثرة استخدامها لا تفي الآن بالمعنى المطلوب كاملاً .. أي دولة راشدة هذه ؟ إذا كانت القمة فيها ، بعد سنين عمر طويلة من النضوج ، تصل لهذه التصرفات ؟ كان الفريق البشير ـ وقتها ـ قد حلق رؤوس منسوبي جريدة المسيرة كعقاب لهم حينما تمادوا في تخريب العلاقات الخارجيّة بما ينشرون ، لكن حلق رأس البروفيسور عمر لا يفيد هذه المرة ! بل المشير نفسه اليوم هو المسؤول الأول في هذه القضيّة ، فهو رئيس المؤتمر الوطني ، بجانب كونِهِ رئيس البلاد كلِّها بمن فيها من منسوبي أجهزة الأمن.. ينبغي أن تمارس الشفافيّة بأعلى درجاتِها في هذه القضيّة المهمّة ، والشفافيّة مفيدة للمشير وللبروفيسور ولأمناء الجامعة ومسؤوليها ومنسوبيها ، وللرأي العام ولنا جميعاً ، كما هي مفيدة للإسلاميين الذين يطبِّقون (أنموذجاً حضاريّاً نهديه للبشرية قاطبة !!) وأهميّة الشفافيّة لهُم في هذه الحادثة لتنظر القيادة والقاعدة معاً في الأمر ، لأنّ بذور العنف لا تزال في الخلفيّة الثقافيّة كلّما جاءها الماءُ اهتزت وربت ، لا بُد من استئصالها ، ونرجو ـ مثلما فعل وزير الداخليّة مؤخراً ـ أن يهدي بروفيسور عمر تجربته وتاريخه قراراً شجاعاً يحدد فيه مسؤولياته وكذلك رئيس المؤتمر الوطني ورئيس البلاد ، فقد تجاوز الأمر كل الحدود المتاحة والغير متاحة .. كما نرجو أن يستفيد المجتمع بأحزابِهِ من الحادثة فيجعل العمل السياسي داخل أسوار الجامعات محرماً ، لأنّه يتعارض مع التحصيل الأكاديمي ويعيق التجارب الفردية للطلاب ، مثلما يعيق العام الدراسي الذي يتم تعليقه كل حين ! كما أنّ السياسة ليست من واجبات الطلاب ! والحجّة التي يستند إليها أنصار مزاولة السياسة في الجامعات ـ وبتنافس محموم ـ أنّ الجامعات ساحة تشكيلهم وهم قادة الغد .. وهذا قول مردود ، لأنّنا نغيّب عقولنا حينما نزج بمئات الآلاف سنويّاً ليكونوا قادة العمل السياسي غداً !! والجامعة ليست ساحة تشكّلهم السياسي ! هذا خلط مضر! نحن نشكو من الكبار الذين يجلسون على صدر التجربة منذ 1964م فكيف نوافق على صراعات اليافعين !؟ أوقفوا هذه السياسة الخرقاء حتى لا تلتقي نهايات المراهقة مع بقيّة الجهل مع انعدام روح المسؤوليّة فنفقد جامعة في ربع ساعة بعد أن كلّف تشييدها سنوات عديدة !! ثمّ ننشد في بلاهة ل(شهداء الحركة الطلابيّة ) !! أيها الآباء ، أيتها الأمهات : هذا الكلام يهمّكُم أنتم ، الساسة يتكسّبون بجهالات أبنائكم وحماستهم ، والصراع بالنسبة للساسة ضروري لأنّه يشكّل مادة نقاشهم ومادة بقاءهُم ، فيتحججون بحجة (الجامعة ساحة تشكيلهم ليكونوا كوادر ناضجة ) .. لن يهمّهم ترشيد سلوك الطلاب ( فالحشاش يملأ شبكتو !!) حذروا أبناءكم : نريدكم أطباء ومهندسين وخبراء في الفلك ، إيّاكم والسياسة ، فالبلاد مليئة بملايين السياسيين الفاشلين ، من أراد منكم المجال السياسي فاليحدد خياراته بعد التخرج بعشرة أعوام بعد أن يحسم قضاياه الشخصيّة و يكون حينها أكثر وعياً ونضوجاً ، ولن يحرق وقتها (راكوبة) في قلب الصحراء ، فضلاً عن جامعة تزيّن قلب المدينة !!