اثر نشر مقالي عن شهادة رأس الميت في حق كبس الجبة كتب إلى بعض الأخوة القراء طالبين مني أن ألقي مزيداً من الضوء على هذه الشخصية والتي قال عنها الدكتور عبد السلام حمد من جامعة ليدز بالمملكة المتحدة أنها ومثيلاتها تستحق الدراسة من علماء الاجتماع وعلم النفس كظواهر اجتماعية وثقافية وضرب مثلاً بالرئيس الأسبق المخلوع جعفر نميري والذي اشتهر بالفتونة وشرب الخمر في حي ودنوباوي , ولسخرية القدر حكمنا لمدة ستة عشر عاماً !
واعتذر عن عدم الحديث عن شخصية كبس لعدم معرفتي الكثير عن خلفيته ولوجودي الآن بعيداً عن الموردة وأمدرمان , ولكن يوجد بالموردة البعض الذين عاصروا كبس ومازالوا على قيد الحياة , ولكن كل ما اعلمه عنه انه انحدر من عائلة شديدة الفقر وعلى كل حال فقد تكلم عنه بإيجاز الصديق الأديب شوقي بدري في كتابه ( حكاوي أمدرمان ) كما كتب عنه بإسهاب الصحفي المخضرم ميرغني حسن على في كتابه ( حكايات من أمدرمان ) .
أما حديثي اليوم فهو عن هذا الثالوث الذي اتخذته عنواناً ورغم تباينه يجمع بينهم عامل مشترك وهو بنت الحان , فالأول يبيعها والآخران يشتريانها واللبيب يفهم .
وكان حليم من اخوتنا أقباط المسالمة بأمدرمان يمتلك باراً في الموردة في الموقع الذي يحتله مبنى بريد الموردة الآن وقبل أن يفتتح حانوت الخمر كان لديه محلاً لبيع الجرائد والمجلات المحلية والمصرية مثل المصور وآخر ساعة والرسالة والثقافة ويقع دكانه في المحطة الوسطى بأمدرمان مكان دكان هريدي للأقمشة الآن وكان محلاً ضيق المساحة واذكر أن الوالد كان يبعثني لآتى له بالمجلات المصرية من هناك . وفي انقلاب جذري تحول من بيع الجرائد والمجلات إلى بيع الخمور وافتتح باراً في تلك الهضبة بالموردة شرق السوق وكان بها عدة طاولات يجلس عليها الرواد في الهواء الطلق عند المساء مع أن معظم المبيع كان Take Away . وانتقل محله بعد ذلك إلى الشارع الرئيسي . وربحت تجارته المحرمة المحللة حينئذ , ومما يؤثر عنه انه قال : (( كنا بنبيع الأدب عشرين سنة بدون فايدة ولما بعنا قلة الأدب في سنة واحدة بقينا اغنيا )) .
وأما الشخصية الثانية فهي للأديب الشاعر عبد الله عشري الصديق والذي كان من السودانيين الأوائل خريجي جامعة بيروت الأمريكية , ولكن من الذين جار الدهر عليهم وعاكسه الزمن , وربما هو أعان الدهر عليه , فقد أدمن بنت الحان وصار نديماً لها , ومما يجدر ذكره أنه وشقيقه المهندس محمد عشري الصديق والذي اصبح رئيساً لتحرير جريدة صوت السودان اليومية , كانا من كتاب جريدة الفجر التي كان يصدرها عرفات محمد عبد الله في الثلاثينيات من القرن الماضي كما كونا جمعية الموردة الثقافية التي امتدت منها جمعية الهاشماب الثقافية وكان من أعضائها الدكتور الأديب عبد الحليم محمد – أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية _ والأديب الشاعر السياسي محمد احمد محجوب رئيس وزراء السودان الأسبق , وكانت هذه الجمعية مع رصيفتها جمعية ابوروف الثقافية النواة للحركة الأدبية والثقافية في أمدرمان , والأخوان عشري لهما مؤلفات نشرتها دار نشر جامعة الخرطوم . وأما الشخصية الثالثة فهي لكبس الجبة الشخصية الأسطورية في الفتونة والبطش , وكانت هناك مطاعم شعبية على طرف الشارع يجلس إليها ليلاً من يريدون العشاء والسمر مصطحبين معهم الشراب وكانت مطاعم ومقاه في نفس الوقت , كما أن موقعها الإستراتيجي بقرب بار حليم جعلها مواتية ومناسبة للشاربين . وفي إحدى الليالي كان كبس وصديقه رأس الميت يجلسان إلى الطاولة في المطعم وأمامهما الشراب , ومر بهما عشري , ورحب به كبس ترحيباً حاراً يليق بمكانة الأستاذ وأصر عليه أن يشرفهم بتكريمه واستجاب عشري للدعوة وكان يعبر عن تقديره للشخص بمناداته بالضب _ ولا أدري لماذا الضب بالذات _ وقال لكبس (( مرحب بالضب ود الضب )) , وبالغ كبس في إكرام ضيفه البارز بتقديم العديد من زجاجات الخمر , وكان من عادة الأستاذ عندما تلعب الخمر برأسه أن يقضم الكأس بأسنانه ويأكل الزجاج ! وفعل عشري فعلته تلك في أكل بعض كأسه وهو ينشد شعراً بينما كبس يقول له : (( يا أستاذ أتكلم معانا عربي )) ويرد عليه عشري قائلاً : (( إذا كنت طائراً فقد لقيت عُقاباً )) ويقول له كبس : (( بالله يا أستاذ أتكلم معانا عربي )) ويرد الأستاذ : (( اسكت يا ضب . إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً )) . وزمجر كبس في ضيق : (( يا أستاذ ماقلنا ليك اتكلم معانا عربي )) وصاح فيه عشري : (( اسكت يا ضب أنا دابي الليل )) , وإلى هنا نفذ صبر كبس وقام وتناول الأستاذ بين يديه كالطفل الصغير وقذف به بعيداً .