السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

مجتزءات من السيرة السياسية للدكتور مصطفي عثمان أسماعيل . بقلم النصري محمد عثمان-جامعة النيلين

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
6/25/2005 12:06 ص

مجتزءات من السيرة السياسية للدكتور مصطفي عثمان أسماعيل

النصري محمد عثمان
ماجستير دراسات دبلوماسية
جامعة النيلين
[email protected]

صك الرئيس جورج بوش مصطلح Misunderestimate وذلك في سياق التعريض بخصومه الذين لم يحسنوا تقدير ملكاته القيادية وقدرته علي أدارة شئون الرئاسة الأمريكية وقال أن مصدر قوته الحقيقية هو أنه يملك علي الدوام عنصر مفاجأة خصومه وشانئيه الذين يظنون به عجرا وبجرا في أداء الشأن العام. وقد درج الرئيس بوش علي ترسيخ تلك الفكرة مبكتا علي نفسه ومنوها بأدائه الأكاديمي المتواضع أثناء فترة الدراسة الجامعية وكذلك علي عي خطابه باللغة الأنجليزية. وكثيرا ما قال في منتديات الأئتمار والجمهرة العامة بدعابة مرحة ملاطفا مستشارته السابقة لشئون الأمن القومي الدكتورة كوندليزا رايس بأنه كان طالبا ذو أداء أكاديمي متواضع C - STUDENT بينما كانت رايس طالبة نجيبة تحرز أعلي الدرجات A – STUDENT.
ما صكه الرئيس بوش في السياسة له ما يقابله في الأبداع الأدبي خاصة في فسطاط الرواية. فالشخصية المسطوحة FLAT CHARACTER مثلا في الرواية هي شخصية نمطية رتيبة ذات قدرات ودور محدود في مسرح الحدث وهي غيرقابلة للتطور في الفضاء الدرامي. ولكن مبدعا مثل الطيب صالح شحن تلك الشخصية المسطوحة في روايته عرس الزين بطاقة جديدة وجعل من الزين رغم هيئته الباهتة وخبله البائن وتصرفاته الطائشة يقوم بدور أكبر من طاقته ويصنع أحداثا عجز عنها كبار شيوخ ووجهاء القرية. حيث تزوج أجمل نساء القرية وأجتمعت في عرسه كل عوالم القرية مثل موسي الأعرج وعشمانة الطرشاء وأمام المسجد وأهل العبادة والصلاح ومدمني الصهباء ومرتادي المواخير .
عندما أعلن أسم الدكتور مصطفي عثمان وزيرا للخارجية خلفا للأستاذ علي عثمان محمد طه دار في خلد الكثيرين أنه غير مناسب للمنصب ولم يروا في شخصيته ما يؤهله لسد ذاك الفراغ خاصة وأن الساحة كانت تعج بكثير من الأسماء التي أحترفت العمل الخارجي وأرتبطت به منذ عقود طويلة. برر رهط من الناس أستكثروا عليه المنصب بأنه صغير السن لم تعجم عوده الليالي فرد عليهم الرئيس عمر البشير بأن التاريخ الأسلامي يوضح أن العمر لم يكن قيدا علي تسنم المناصب والمهام مستدلا بحادثة أسامة بن زيد الذي قلد أمارة جيش فيه من الصحابة من يفوقونه عمرا وسابقة وقال مضيفا بأنه عندما قاد عملية التغيير في الثلاثين من يونيو كان عمره مثل عمر مصطفي عثمان في ذلك الوقت. أحد السياسيين المخضرمين الذين تجاوزهم الترشيح لذلك المنصب قال منتقدا ذلك التعيين بأن مصطفي عثمان رجل عرف بعلاقاته الأسلامية وبذلك فهو ليس مؤهلا للتعامل مع المجتمع الدولي في ظل التعقيدات التي يمر بها السودان. شانئوه عبروا عن سخطهم بأطلاق النعوت والأوصاف التي تعبر عن الحالة التي وصفها بوش بأنها misunderestimation . أما أهل التيار الحركي فكان يرون أنه بلا سابقة في العمل الخاص حيث لم يكن معروفا في الوسط الطلابي بالنشاط السياسي والتنظيمي بل كان مشهورا بالتحصيل الأكاديمي الذي أتي أكله حيث عين لتفوقه الأكاديمي معيدا بالكلية . إلا أن المنصفين منهم شهدوا له بنشاط جم في العمل النقابي الطلابي داخل الجامعة حتي تعرض للسجن فترة ليست بالقصيرة في عهد مايو سيما وقد عرف بأنتظامه أثناء فترة الجامعة في مجالس الشيخ الترابي. وعندما دلف الدكتور مصطفي عثمان الي مكتبه في وزارة الخارجية توجس منه الحرس القديم من كبار السفراء والدبلوماسيين الذين تبرموا من أدارته لمجلس الصداقة الشعبية التي كانت حسب رأيهم في تلك الفترة المبكرة من عمر النظام البديل الثوري لوزارة الخارجية.
في هذا المد الهادر من الرفض للقادم الجديد كانت هناك ثلاث شخصيات أتفقت علي قدراته وتأهيله لشغل المنصب وهي الدكتور حسن الترابي الأب الروحي للنظام وقتها والرئيس عمر البشير والأستاذ علي عثمان محمد طه نائب الرئيس. وكان لابد لهذه الشخصيات أن توفر له الحماية السياسية والدعم المعنوي حتي يستطيع أن يؤدي عمله علي أكمل وجه.
بعض أهل منطقته الذين أستطلعهم كاتب المقال أكدوا أن مصطفي عثمان عرف منذ نعومة أظفاره وصغره الباكر بالرشد ورجاحة الرأي حيث كان يتوسط لحل خلافات الميراث ومشاكل السواقي بين أهله مما أكسبه قبولا وأحتراما بينهم. وقد كبرت معه هذه الجينات حتي شكلت أخلاقياته المهنية ورأس ماله السياسي في العمل العام.
أصدقاؤه وزملاء دراسته يرون أن أميز خصائص شخصية مصطفي عثمان هي في جملتها هبة الهية وليست ملكات مكتسبة مثل التوفيق الفطري الذي يسري في حركته والقبول الفوري لشخصيته. ويدللون علي ذلك بأنه عندما كان طالبا في لندن كان يتغيب في كثير من الأحيان عن المحاضرات العملية بسبب أنشغاله في رئاسة الأتحاد الأسلامي. وكان عندما يدلف الي المعمل متأخرا يجد الطلاب قد قطعوا شوطا في التجارب المعملية وعندما تستعصي عليهم المسائل كان كثيرا ما تنجح محاولاته في التجارب المختبرية رغم غيابه الكثير حتي لقبه زملاؤه بصاحب الأيدي السحرية MAGIC HANDS . عمل الدكتور مصطفي عثمان بعد تخرجه وبعد حياة حافلة بالنشاط الطلابي في أحدي الجامعات البريطانية حيث طاب له العمل والمقام ولم يقطع هدأة عمله وأستقراره سوي توقف عابر للدكتور حسن الترابي في مطار هيثروا حيث أمره بالعودة للسودان خلال أيام دون أن يفصح له عن طبيعة المسئوليات التي سيسندها اليه. لم يتردد في الأستجابة الفورية لذلك التوجيه فقدم الدكتور مصطفي عثمان خلال أيام قلائل أستقالته من العمل وتوجه الي السودان تاركا أسرته الصغيرة في لندن لترتب أوضاعها وتلحق به. وعندما عاد الي السودان محاضرا بجامعة الخرطوم كانت الأنقاذ في مخاضها الأول فأسند اليه عمل رئاسة الأتحاد الأسلامي العالمي للمنظمات الطلابية التي نقل مقرها الي الخرطوم. ورغم لقبه العلمي الرفيع ومنصبه بالجامعة إلا أنه كان يتنقل بالدراجة النارية دون وجل أو تأفف حتي تم تكوين مجلس الصداقة الشعبية حيث شغل فيه منصب الأمين العام بدرجة وزير دولة.
يكاد يجمع المراقبون بأن الدكتور مصطفي عثمان يصنف من ضمن أفضل ثلاث وزراء خارجية مروا علي السودان وهم أحمد خير المحامي والدكتور منصور خالد. ولعل الفرق بين هؤلاء أن أحمد خير ومنصور خالد قد قدما الي الخارجية وهما ملء السمع والبصر حيث توقع لهما الكل النجاح نسبة لمكانتهما السياسية وقامتهما الفكرية السامقة. فأحمد خير هو مفكر الحركة الوطنية وصاحب فكرة مؤتمر الخريجين وهو كذلك مؤلف كتاب (كفاح جيل ) الذي وصفه الدكتور مدثر عبدالرحيم بأنه أنجيل الحركة الوطنية في السودان. وقد أعطي أنضمام أحمد خير المحامي الي نظام عبود عام 1958 زخما ووزنا سياسيا بأعتباره أبرز مثقفي جيل الأستقلال. أما الدكتور منصور خالد فقد جاء الي وزارة الخارجية وهو نجما في سماء الوطن تسبقه هالة فكرية متوهجة وتأهيل أكاديمي رفيع وتجربة ثرة في العمل التنفيذي وعلاقات خارجية متصلة لذا فقد توفرت له أسباب النجاح مقدما. أما الدكتور مصطفي عثمان فقد جاء الي الخارجية بأسمه مجردا ينتعل العزيمة ويلتحف وثوقيته الذاتية وقناعة القيادة السياسية بكفاءته ، حيث لم تسبقه هالة فكرية أو تاريخ سياسي معلوم أو تأهيل أكاديمي رفيع في القانون أو العلوم الأجتماعية يمهدان له طريق النجاح. بل بالعكس فقد جاء الي الخارجية والجميع يتوقعون له الفشل الذريع قياسا الي عمره الزمني وتجاربه في السياسة الدولية فكان لا بد أن ينحت بأظافره الصخر خاصة وأن الشانئين والقادحين في قدراته ونضجه العمري تناوشوه بالسهام وترصدوه بطبول الفشل فكان عليه أن يحارب في جبهتين جبهة العلاقات الخارجية حيث ورث تركة مثقلة من العلاقات المتدهورة والقطيعة الدولية والعزلة الأقليمية والسودان يشتعل حربا من جميع أطرافه. وجبهة المترصدين والمناكفين الداخلية الذين سلقوه بألسنة حداد وأنتاشوه بمنافخ الكير.
أولي العقبات الشكلية التي أصطدم بها مصطفي عثمان هي البيروقراطية في وزارة الخارجية خاصة وهو القادم من سوح الدبلوماسية الشعبية التي لا تؤمن بالبرتكولات والطقوس المراسمية ومما فاقم الأمر سوءا أن حكومة الأنقاذ كانت قليلة الثقة في الوزارة التي كانت حسب تقديرها أقرب الي الوصف اليساري المأثور بأنها جزيرة رجعية في محيط ثوري هادر. فكان لا بد أن يبدأ بأعادة الثقة الي نفوس موظفيه وأن يعيد لوزارة الخارجية حيويتها وثقتها في نفسها وتفعيل دورها في تقديم أستشارات ناضجة لصناع القرار في السياسة الخارجية. في ظل تلك الظروف العسيرة قام بكسر البرتكول من أجل تدعيم صلاته مع سفراء الدول المختلفة بالخرطوم حيث كان يلتقي بالسفراء وممثلي الحكومات دون التقيد ببرتكولات العمل الدبلوماسي الدارج من أجل أيصال رسالته الي الحكومات الخارجية. وحسب رأي المحلليين فقد كانت تدار السياسية الخارجية في تلك الفترة بكثير من الدوغمائية وبقليل من الرشد والحكمة. وكما قال الدكتور عبدالوهاب الأفندي فأن من آيات خطل السياسة الخارجية في ذلك الوقت هو أستعدائها لمراكز القوي الأقليمية وهما السعودية ومصر ولدول الجوار أيضا في وقت تجابه فيه البلاد أشرس مراحل الحرب الأهلية. فأنتبه الدكتور مصطفي عثمان الي ذلك الخلل فأتجه الي ترميم ذلك التصدع في العلاقات الأقليمية ودول الجوار. فأستعمل كل مخزون ملكاته في العلاقات العامة والدهاء السياسي لتحقيق تلك الغايات. فعمل بمبدأ الأهداف المرحلية حيث بدأ بمرحلة الأنفتاح الأسيوي لكسر سياج الحصار الأقتصادي ومن ثم رمي بسهامه في أتجاه تطبيع العلاقات مع كل من مصر والسعودية وأثيوبيا لأختراق جدار العزلة الدولية والأقليمية وأستعان علي ذلك بالدبلوماسية الماكوكية النشطة وهي أن يذرع فضاء الله متنقلا بين العواصم من أجل تعزيز التواصل وأزالة المخاوف وتكريس روح الحوار والتفاهم المشترك لحل المشاكل العالقة. وقد كان زاده في ذلك الواقعية والأعتراف بالأخطاء وتقديم البدائل الموضوعية. وفي المقابل كان يعود من الخارج ليقدم النصح والأستشارات للقيادة السياسية حتي تستجيب لمقتضيات السياسة الدولية فأحدث بذلك أول تحول جوهري في السياسة الخارجية في عهد الأنقاذ حيث نقلها من خانة الشعارات الأيدلوجية الي الواقعية السياسيةPolitical Realism.. وقاد في هذا الصدد مفاوضات مضنية مع العديد من دول الجوار ومراكز الثقل الأقليمي وواجه أصعب الأسئلة عن النوايا الخفية والطبيعة الأيدلوجية للنظام هذا فضلا عن أتهامات تصدير الثورة وغيرها. وكان علي الدوام يحمل أجابات مباشرة وقوية ترتكز علي الوقائع السياسية والمعطيات الموضوعية ولعل أول من أنتبه الي قوة حجته وترابط منطقه هو الرئيس الليبي معمر القذافي الذي كان يري في ثورة الأنقاذ حينئذ ملامح وجهه القديم وأطلال ثورته الفتية .أعقد المهام التي تواجه وزير خارجية في تلك الأيام هي أن يفي بألتزماته ووعوده الي المسئوليين وممثلي الدول في الخارج في ظل تجاذب وتدافع بين مراكز القوي وصنع القرار في الداخل. وقد دفع وزير الخارجية الأسبق الدكتور حسين أبوصالح ثمنا سياسيا باهظا لذلك لأن تصوراته للعلاقات والتزاماته للخارج لم تكن توفي بها القيادة السياسية في الداخل. إلا أن الدكتور مصطفي عثمان أستطاع أن يجتاز تلك العقبة بنجاح حيث بدأ في كسب ثقة وزراء الخارجية والمسئولين في الخارج وأستطاع أقناعهم بِأن ما يعبر عنه ويقوله يمثل سياسات الحكومة وتوجهات الرئيس في الداخل. ولأجتياز تلك المرحلة كان عليه أن يخوض حربا داخلية خفية مع مختلف الأجهزة النافذة التي لا تشاركه تصوراته لأدارة العلاقات الخارجية. ومثال لذلك العلاقات مع أثيوبيا التي أنتصر فيه منهجه القائم علي ضبط النفس وكظم الغيظ وبناء الثقة بصورة تدريجية وذلك لتأمين أطول حدود مشتركة مع دولة مجاورة والتي يبلغ طولها 1400 كليومتر والأنتقال لتثبيت ذلك التحول بتعميق المصالح الأستراتيجية وتفعيل صيغ الأعتماد المتبادل في السلع الحيوية والمنافع الأقتصادية حتي لا تنتكس العلاقات لأي طارئ عارض وربطته كذلك علاقة صداقة قوية مع وزير خارجية أثيوبيا سيوم مسفن حتي وصلت حد تبادل الزيارات الأسرية بينهما. قال عنه الرئيس البشير بأنه لم يحدث ان أرسل مصطفي عثمان لمهمة خارجية وعاد اليه خاوي الوفاض. وقال عنه الدكتور منصور خالد ما وطأت أقدامنا دولة خارجية إلا وجدنا آثار مصطفي عثمان قد سبقتنا اليها. عمرو موسي وزير خارجية مصر السابق والأمين العام للجامعة العربية حاليا أدلي بشهادته في هذا الصدد حيث قال. "أنني التقيت بالدكتور مصطفي عثمان في الطائرة لأول مرة ولم نكن نعرف بعضنا البعض. وبعد التعارف وتجاذب أطراف الحديث نشأت بيننا صداقة وأستمر التواصل والتعاون بيننا لحل المشاكل العالقة حتي وصلت العلاقات الثنائية بين مصر والسودان الي مراحل متقدمة ". وقال في واشنطون أيضا أمام حشد من وزراء الخارجية والسفراء العرب "ان مصطفي عثمان هو أفضل وزير خارجية عربي في الوقت الراهن". سيما وقد أدلي بذات الشهادة الرئيس اليوغندي يوري موسفيني والرئيس الليبي معمر القذافي الذي كرمه شخصيا وأنعم عليه بوسام رفيع نتيجة جهوده لرفع الحصار عن الشعب الليبي. وكذلك الرئيس المصري حسني مبارك الذي كثيرا ما يتبادل معه النكات. بل بلغ الحد بأحد زعماء الدول العربية أن طلب من الرئيس البشير أنتداب الدكتور مصطفي عثمان ليعمل وزيرا لخارجية بلاده. ورغم سياق الدعابة التي ورد فيه هذا الألتماس إلا أنه يعكس عمق التقدير لعمله وأداءه في العمل الخارجي. إن أهم التحولات التي أحدثها الدكتور مصطفي عثمان في السياسة الخارجية هو أنه نقلها من دغمائية الأيديلوجيا الي الواقعية السياسية ولغة المصالح المشتركة. حيث تبني سياسة الأنحياز الأيجابي والمحاور الأقليمية للخروج من سياج العزلة الدولية المفروضة علي السودان. تبني سياسة الأتجاه شرقا نحو آسيا حيث نجح بمجهوداته وأتصالاته الشخصية بتكوين الكونسورتيوم الأسيوي الغربي للأستثمار في البترول وكذلك تطوير العلاقات الأقتصادية والتجارية مع الدول الأسيوية خاصة الصين وماليزيا للخروج من دائرة المشروطية السياسية للدول الغربية وتخفيف الضغط الأقتصادي علي السودان.وهو قد وظف علاقاته الشخصية مع نائب رئيس الوزراء الماليزي السابق أنور أبراهيم لدفع العلاقات الثنائية قدما الي الأمام ولم ينزع الي تأطير تلك العلاقة في محيطها الشخصي بل بلورها لتأخذ شكلها المؤسسي، لذا عندما تسربت المعلومات حول المتاعب السياسية لنائب رئيس الوزراء أنور أبراهيم وشاعت الأنباء بقرب المفاصلة بينه و رئيس الوزراء الدكتور مهاتير محمد قال الدكتور مصطفي عثمان للمشفقين وهو يهب لمقابلة أنور أبراهيم في آخر مقابلة معه في منصبه الرسمي بأن العلاقات مع ماليزيا تجاوزت شخصية أنور وصارت علاقات مؤسسية وذات مصالح أقتصادية مشتركة. ورغم التعقيدات السياسية لقضية أنور أبراهيم إلا وفاءه الشخصي لصداقته الممتدة لعقود خلت دفعته مرات عديدة ليطلب من الدكتور محاذير محمد شخصيا أطلاق سراحه ومعالجة قضيته بحكمة وهدوء وهو موقف لم يجرؤ أي وزير خارجية آخر أن يفعله في ظل الغليان السياسي للقضية. وهذا الموقف يؤكد أدراكه العميق لمصالح السودان الحقيقية بعيدا عن العواطف الشخصية التي تجلبها الأنتكاسات السياسية من حين الي آخر.
تشهد المضابط الداخلية لأتخاذ القرار في السودان أن مصطفي عثمان أول من أعترض علي السياسة المعلنة في حرب الخليج الثانية حيث أستشف بواقعيته وحسن قراءته للأوضاع ضرورة دعم الحق الكويتي بدلا من الوقوف في الوسط المتلجج. وصدق حدسه حيث كلف ذلك الموقف السودان الكثير. وعندما ذهب الي الكويت لفتح منافذ الحوار مع المسئولين التقاه رئيس الوزراء سعد العبدالله كاشحا ومشيحا ثم ما لبث بعد دقائق من تبادل الحديث والأجابة علي الأسئلة الحرجة بلباقة ذربة ودعابة لطيفة حتي أنشرح صدره وتجاوز العتاب الأخوي وأعلن الغاء قائمة دول الضد وبدأ التطبيع التدريجي في العلاقة مع السودان. كما خرق البرتكول الرئاسي في الأمم المتحدة حتي يتحدث الي الرئيس كلنتون بعد أن حجب عن مقابلة كل المسئوليين الأمريكيين. ففي أثناء حفل أقامته الأمم المتحدة تقدم الي الرئيس كلنتون دون سابق أنذار أو أستئذان في ما يسمي high table مقدما نفسه وطالبا مقابلة شخص مع الأدارة لمناقشة العلاقات الثنائية لأنه لن يتمكن من مقابلته ثانية.
أحد كبار الدبلوماسيين الغربيين قال عنه"إن اسلوبه في التفاوض مختلف عمن سبقوه حيث لا يميل الي الجدل الدائري والحجاج الحلزوني ولكن يعترف بالأخطاء وينفذ الي تطوير مواقف عملية بناءة" . يطلق عليه السفراء الأجانب في الخرطوم لقب MR. SMILE وذلك بدلا عن مستر أسماعيل نسبة لأبتسامته الدائمة التي يقابل بها أحرج المواقف.
هذا السرد قصد منه أستبيان ملامح شخصيته العملية التي تميل الي المباشرة واللغة الموضوعية والقراءة الواقعية للأحداث. أضافة الي ذلك فهو يتميز بذكاء ناعم الملمس لا يستفز الآخرين. ذكر أحد المحلليين أن الرئيس البشير أنتدب في يوم ما أحد المسئولين لحمل رسالة سياسية محددة الي رئيس دولة عربي فطفق ذلك المسئول الذي أشتهر بتأثره البين بالدكتور الترابي يحاضر بأستعلاء جهير الرئيس العربي عن الشئون الأستراتيجية في المنطقة. والرئيس ينظر اليه بتبرم وضيق لأنه لا يحسن مثل ذلك الحديث حتي أنفضت المقابلة في أقصر من الوقت المحدد لها. وعندما حمل الدكتور مصطفي رسالة لنفس الرئيس العربي قابله هاشا باشا وتحدث معه بود وترحاب وأمتدت المقابلة أكثر من الوقت المحدد لها.
هذه الحادثة مع آخريات يضيق المجال لذكرها تؤكد أن مصطفي عثمان يتميز بصفتين هما أس نجاحه في العمل الخارجي وهما: الموفقية والمقبولية.إذ وفرت له بساطته وجاذبيته الشخصية خاصية القبول وذلك تؤكد عليه علاقاته الشخصية الواسعة مع وزراء الخارجية العرب. وقد أهله ذلك الي التقدم بمقترحات وجدت قبولا من كل الأطراف لحل كثير من القضايا المستعصية . ولعل آخر تلك القضايا هي الأعتراف بالحكومة العراقية الجديدة وعودة العراق الي الجامعة العربية وقد وصلته أشادات شخصية من العديد من الدول منها الولايات المتحدة علي دوره التوفيقي داخل أروقة الجامعة العربية بشأن الحكومة العراقية الجديدة. كثير من كبارالساسة ومن قادة المعارضة بالداخل يشاطرون هذا الرأي فقد قال عنه الأمام الصادق المهدي وهو في قمة عدائه لنظام الأنقاذ " أن مصطفي عثمان هو الوحيد الذي يعطي وجها آدميا لهذا النظام".
يقول عدد من الذين عملوا معه بصورة لصيقة بأن أهم خصائصه العملية هي الدقة والمتابعة وهما مهارتان أكتسبهما من مهنته السابقة كأستاذ جامعي.كما أنه يتميز بذاكرة فتوغرافية إذ يتمتع بقدرة مذهلة علي حفظ المعلومات والتفاصيل وأسترجاعها في الوقت المناسب لذلك يشكو العاملين معه بأنهم يعانون من التركيز والتأهب الدائم لأنهم يجب أن يكونوا علي الدوام في قمة الأستعداد واليقظة للأجابة علي أسئلته وتفاصيل الملفات التي عالجها منذ وقت طويل. أضافة الي ذلك فهو له طاقة جبارة للعمل المتواصل workaholic .مما أورثه أمراضا وعللا جسدية لم يكن يعرفها من قبل.يقول عنه الصحفي محمد سعيد محمد الحسن الذي رافقه في مهامه الخارجية أنه يحرص أثناء رحلته الخارجية علي حمل الملفات التي تحتاج الي دراسة متأنية والي قرارات منه بحكم منصبه لذا فأن طائرته أشبه ما تكون بخلية النحل. ويعلم الصحفيون الذي درجوا علي مرافقته أنه يحمل أرتالا من الملفات تعرض عليه أثناء السفر لأتخاذ القرارات المناسبة حتي لا يضيع زمن الطيران في الأسترخاء والتحديق في الفراغ العريض داخل الطائرة. يقول أبرز منقديه أن الدكتور مصطفي عثمان يكثر من السفر الخارجي حتي صارت فترات وجوده في الخارج أكثر من الداخل. وذلك زعم صحيح إلا أنه يبرر ذلك بأنه اللقاء المباشر مع المسئولين في الخارج يزيل الألتباسات وسؤ الفهم ويطور التفاهم المشترك ويعزو معظم النجاحات التي حققها الي ذلك النهج.ويشتهر الدكتور مصطفي عثمان في زيارته الخارجية بأنه يوظف كل فترة الزيارة في المناشط والأجتماعات الرسمية لذلك فهو رغم سفره المتواصل إلا أنه يجهل معالم معظم المدن التي زارها لأنه لا يشغل نفسه بالفرجة والأمتاع الذاتي.وذلك هو أحد الفروق الجوهرية بينه وبين وزير الخارجية الأسبق منصور خالد الذي أشتهر بأنه لا ينسي حظ نفسه من المتعة الذاتية بعد قضاء المهام الخارجية حيث كان يسافر من بلد الي آخر لقضاء برامجه الخاصة وهي أبرز عيوبه كما ذكر عنه الرئيس الأسبق جعفر نميري.
أكدت التجربة أنه يوظف اللمسات الأنسانية والتواصل الأجتماعي لتحفيز العاملين و تجديد دوافع العمل وأشتهر في هذا السياق دون غيره من وزراء الخارجية السابقين بتسجيل زيارات أجتماعية الي منازل العاملين في السفارات الخارجية مما يضفي حميمية علي العلاقة ويخرج الزيارة من دائرة البرتكولات الرسمية.
يقول الدبلوماسيون في وزارة الخارجية أن عهده شهد نجاحات عديدة وتحولات جوهرية في سياسية السودان الخارجية إلا أنهم يستدركون عليه ضعف أهتمامه بتحسين بيئة العمل الداخلية لأنشغاله بالقضايا الخارجية وكذلك توليد اللوائح المنظمة التي أبطأت من سيرورة نظام الترقيات والأغلاظ في المحاسبة وكذلك تشدده في شروط النقل للخارج. ويرون أنه لم يستطع توفير البنية التدريبية لتحقيق بعض مفاهيمه التي أطلقها مثل الدبلوماسي متعدد الأغراض.multifunctional diplomat . يقول أبرز نقاده من الصحفيين أنه يتميز بمركزية أدارية قابضة حيث لاحظوا بطء أتخاذ القرارات عند غيابه الخارجي وقد أفضي ذلك الي تقليل فعالية مساعديه ومستشاريه من القيادات التنفيذية بالوزارة المشهود لها بالكفاءة والخبرة . ويعيب عليه بعض الصحفيين أيضا كثرة التصريحات والظهور الأعلامي الكثيف . ورغم صحة هذا النقد إلا أنه يبرر ذلك بأن الفراغ الأعلامي إذا لم يملأه المسئول بالمعلومات والتصريحات فسيملأه آخرون بأنصاف الحقائق والمعلومات المبتسرة. كما أخذ عليه الأعلام المحلي نزعته لتعيين بعض السفراء من دائرة معارفه وأصدقاءه دون أتباع أسس الأختيار المؤسسي للخبرات الوطنية. هذا الغيض من الأستدراكات يفوقه ذلك الفيض من النجاحات ولعل آخرها هو الشهادة التي أصدرتها الأمم المتحدة في مرشدها السنوي لغلاء المعيشة في مدن العالم المختلفة حيث أكدت أن المخصصات المالية للسفارات السودانية في الخارج قد شهدت تحسنا وأستقرارا كبيرا مقارنة بالعقود الثلاثة الماضية. كما شهد عهده توسعا في فتح السفارات وتملك العقارات للبعثات الدبلوماسية في الخارج. كما عمل وسع جهده لأعادة الوظائف القيادية للسودان في المنظمات الأقليمية والدولية.
لقد دخل الدكتور مصطفي عثمان الي وزارة الخارجية تحت ظلال الشك أو ما أطلق عليه بوش MISUNDERESTIMATE حيث توقع له كثيرون الفشل في مهمته تحت دعاوي النضج العمري وقلة خبرته في معتركات السياسة الدولية ولكنه الآن وهو يتأهب لمغادرة وزارة الخارجية يعتبر بشهادة الشانئين من أنجح وزراء الخارجية في التاريخ الوطني وذلك بفضل التوفيق الألهي أولا ومميزات شخصيته الذاتية ثانيا والدعم المتواصل من القيادة السياسية ثالثا وللكفاءة المهنية التي يتمتع بها دبلوماسيي الخارجية رابعا وبالطبع الدعم والمساندة من القيادة التنفيذية للوزارة خاصة كبار مساعديه ومستشاريه. ولعل المفارقة أن مصطفي عثمان قد أختط مسيرة رفيقه وصديقه عمرو موسي وزير الخارجية المصري الأسبق الذي غادر الوزارة وهو في قمة نجاحاته الخارجية وذروة شعبيته الداخلية ولكن مع بعض الهمهمات واللمم من أصحاب الياقات البيضاء.
عندما دلف الدكتور مصطفي للخارجية كان الناس ينظرون اليها بأنها بحيرة أسترخاء للصفوة والمترفين ولكن ينظر الناس اليها الآن وهو يغادرها بأنها خندق الدفاع الأول عن الأمن القومي السوداني.

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved