اطلعت على كتابات كثيرة حول دور منظمات المجتمع المدنى كما مارست بعض نشاطاتها فى بداية حياتى العملية، ولكن استوقفنى ما جاء فى البحث العميق الذى أعدته أليسا هيريرو كانقاس والذى نشر فى نشرة (In Brief) فى عددها الثانى عشر فى ديسمبر من العام الماضى وهى تصدر من المركز الأوربى لادارة سياسة التنمية (ECDPM) وكان البحث تحت عنوان " الحكم الراشد أجندة المجتمع المدنى وآثار ذلك على التعاون بين مجموعة الدول الأفريقية الكاريبية الباسيفكية والاتحاد الأوربى" وهدف البحث الى التعريف باتفاقية كوتونو التى تشكل مرجعية الشراكة بين دول المجموعة البالغة 78 دولة والاتحاد الأوربى والتى تم توقيعها فى العام 2000 لتحل محل اتفاقيات لومى. ولكن أهم ما يميز هذه الاتفاقية هو نصها على ضرورة المشاركة التنموية مما فتح آفاقا جديدة أمام منظمات المجتمع المدنى للمشاركة فى تحديد شكل برنامج ومشروعات التنمية والمشاركة فى تنفيذها ومراقبتها، على الرغم من أن الاتفاقية لم تنص تفصيلا على من الذى يستطيع أن يشارك ولكنها تضمنت عددا من معايير شروط الأهلية الأساسية والتى أوردتها فى بندها 6.2 على النحو التالى: "ان منظمات المجتمع المدنى التى تخاطب احتياجات السكان ولديها اختصاصات معينة وتدار بطريقة ديمقراطية وبشفافية تعتبر شريكا معترفا به"
جاء فى البحث أن حكومة غانا أصدرت فى بدايات العام 2004 تحذيرا لآلاف المنظمات غير الحكومة التى تعمل فى البلاد وفشلت فى تقديم تقارير صحيحة عن نشاطاتها وبيانات حساباتها السنوية لادارة الرعاية الاجتماعية (وفقا للقانون) مما وضعها فى القائمة السوداء. وقد هدف الاجراء الى التعبير عن رغبة الحكومة فى ترقية منظمات مجتمع مدنى ذات مصداقية وشفافية تحتمل المساءلة، وان كان بعض هذه المنظمات قد فسرت هذا الاجراء كتصرف مقصود من السلطات للتشويش على عملية المشاركة التنموية.
وخلال المؤتمر الدولى لمنظمة (CIVICUS) ،الذى انعقد فى مارس 2004 ببتسوانا وشهده 700 وفدا يمثلون 105 دولة، تم مناقشة "فن تعزيز المجتمع المدنى" عبر المشروعية والمحاسبة والشفافية والمصداقية وصفة التمثيل وكانت هذه المكونات تتردد فى كل عناوين الأوراق التى طرحت. وفى اعتراف المؤتمر بالحضور المتعاظم لمنظمات المجتمع المدنى على المسرح العالمى قام باستكشاف نماذج جديدة للمشاركة والمساءلة لتطوير الحكم الفردى والجماعى بين المجتمع المدنى. وقد كانت رسالة المؤتمر المذكور واضحة على النحو التالى: فى المناخ الذى يجب أن تنجز فيه أو تتقاعس فيه منظمات المجتمع المدنى بصورة تصاعدية فان المشروعية تصبح اهتماما أساسيا يجب طرقه بصورة منتظمة لتأكيد أن أن هذه المنظمات تتحرك بفعالية وبنزاهة لمصلحة العامة. وهذه المعايير والتجارب التى أوردناه أعلاه تصلح أن نحتكم اليها فى نشاطنا غير الحكومى دون تجاهله أو تركه منفلتا، بل يجب بذل المزيد لترقيته واصلاح عثراته من الدولة وعلى رأسها جهازها التشريعى الذى يجب أن يولى هذه المنظمات ذات المساحات المتزايدة مزيدا من التشريعات تذليلا لعقبات النشاط غير الحكومى الذى يتكامل فيه جهد الدولة الرسمى ومنظماته غير الرسمية فى الارتقاء بأحوال المجتمع والحكم وليحث الجهاز التنفيذى على تقديم مساعداته وتنفيذ مشروعاته التنموية عبر منظماته الوطنية.
ان تعاظم دور منظمات المجتمع المدنى فى المسرح السياسى يجعل من مشاركتها فى صنع القرار والسلطة على الموارد ضرورة لا مناص منها. فالعمل العام لم يعد حكرا على المؤسسات العامة للدولة كما أن الحكومات المركزية لم تعد هى الوكيل الأوحد التنمية. فالتحرير السياسى وبروز آليات مؤسسية جديدة لتحريك الأجندة الدولية لمحاربة الفقر قد خلق مساحة تتيح لمنظمات المجتمع المدنى التأثير والمشاركة فى عملية وضع السياسات. ان أوراق الاستراتيجية حول محاربة الفقر وأهداف التنمية الألفية، وفى اطار التعاون بين مجموعة الدول الأفريقية الكاريبية الباسيفيكية فان اتفاقية كوتونو قد فتحت منابرا جديدة للحوار يتم عبره دعوة الحكومات ومنظمات المجتمع المدنى للتفاكر مع وكالات التنمية الرسمية الأجنبية لوضع وتنفيذ ومراقبة السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وفى هذا الاطار فان كثيرا من حكومات المجموعة قد صعدت من جهودها لضم منظمات المجتمع المدنى الى سياسة التخطيط التى هى فى العادة شرطا لتلقى الدعم الخارجى. ولكن نبنى منظمات مجتمعنا المدنى على مبادئ معينة تجعلها أهلا للمشاركة فى القرار العام يجب أن تتمتع بحكم راشد يتمثل فى وضوح مناقشاتها فى مسائل الاخلاق المهنية والاداء والثقة وكذلك فى مسالة نسبية التمثيل وعكس الاراء وفى ممارسة الديمقراطية داخل هياكلها وفى مقدرتها على بناء آلية مساءلة. وكلما توفرت هذه المبادئ وبمقدرما استطاعت المنظمة من تلبية احتياجات دائرة جمهورها فى المجال الطبى أو العلمى أو الثقافى أو الرياضى أو الاجتماعى بقدر ما كان تأثيرها فى صناعة القرار فى الشأن العام قويا. وقد تكون هذه المنظمات أحزابا سياسية أو أذرعا لتنظيمات سياسية وقد لا تكون كذلك، ولكن ما يهمنا هنا هو المنظمات من غير الاحزاب السياسية، فهى تعبر عن اهتمامها فى المشاركة فى التنمية عبر حضورها ومشاركتها فى وضع البرنامج والمشروعات فى وزارة التعاون الدولى أو مناقشة الميزانية فى المجلس الوطنى حتى تتمكن من طرح رؤاها لا أن تكون مغيبة فيكون كل همها أن تسقط هذه البرامج والسياسات بالتظاهر وتعطيل الحياة العامة مما يحدث شللا فى المجتمع. أو تكون أذرعا لأجندة خارجية غير مرغوب فيها. لا نريد بعد اليوم أن نترك أمرا يخص العامة يفرض بالاكراه من السلطات التنفيذية ولا أن تعارض منظمات المجتمع المدنى مصلحة عامة بغير هدى. لا نريد عبقرية فرد تتسامى على الجميع بقدر ما نريد ترفقا بالمجتمع حتى لا يتخلف بعضه فى الوراء. يجب أن تشارك كل قوى المجتمع الفاعلة فى رسم سياسات مستقبل البلد دون املاء أواقصاء ودون انفلات أوفوضوية أوهتافية خادعة...ألا هل بلغت اللهم فاشهد،،،