وبقدرة قادر بدأ هذا النسيج الجميل في التفكك رويداً رويداً والأسباب متعددة وشائكة لا يسعنا المجال لسردها فالكل يعلمها إن كانت أسباب سياسية أو اجتماعية فإنها في الأول والآخر عوامل قدر الله لها أن تكون إذ لا مفر من قدر الله ، إلا أننا الآن نحسب أن الزمان قد استدار كهيأته الاولى وبدأت تباشير السلام تلوح في الأفق القريب ونكاد نلمس هذه التباشير من خلال أشراطها وأول هذه التباشير إعادة العافية إلى النقد السوداني بعد أن اتفق الجانبان على تسمية الجنيه كعملة انتقالية وسيعود قوياً كما كان بعد أن توفرت له كل أسباب العافية من بترول ومعادن وثروة زراعية وحيوانية وكوادر خلاقة اكتسبت خبراتها في بلاد الدنيا بعد رحلة التيه التي استمرت لما يقارب الأربعة عقود من الزمن ، وستكتمل حبات هذا العقد البهيج بعد أن يعم السلام غربنا الحبيب وشرقنا المشرق.
الخال الدكتور جون قرنق الغائب الحاضر وفي أول تصريحات له بعد توقيع البروتوكولات الست في نيفاشا قبل التوقيع الأخير في يناير المنصرم قال وبالفم الملآن أتمنى أن أعود إلى منزلي في ضاحية الحاج يوسف أخالط السكان واشتري من البقال والجزار واعزي في الموتى واهنئ في الأفراح .
الناظر بعين البصيرة الثاقبة يستشف من كلام الدكتور جون قرنق أنه يعي أهمية إعادة النسيج الاجتماعي إلى سابق عهده من التسامح لأنها أكبر مكتسب وإرث حضاري عرف به شعب السودان العظيم ، وحديث الدكتور قرنق يلفت انتباهنا إلى الحلقة المفقودة ألا وهي عدم الثقة التي بفقدها تأرجح محمد أحمد وتضعضع شول وتقلب هارون وشـَـوشَ أدروب ، وهؤلاء كانوا في بيت واحد جاءه جحا ذات ليلة ودق فيه مسماره العجيب وبات يأتيه ليلاً نهاراً بحجة تفقده له مخفياً مآربه الأخرى ، فقد كان يتعمد في كل مرة أن يأتي بشيطانه المتمرد ليوسوس في عقول أهل السودان الطيبين بطبعهم ، فيحرض هذا على الآخر بغرض تفكيك هذا النسيج الراقي الذي لا يوجد له مثال في الدنيا بأجمعها.
هذا الشيطان الوارد ذكره في الكتب الأربعة لعب بنا لعقود أربعة وفكك الجهات الأربعة وزرع فينا خصالاً سيئة أربعة وهي :
1- الأنانية المتمثلة في تكريس الأنا وهي حب النفس حتى في أبناء الرجل الواحد والبيت الواحد.
2- حب السلطة ولو على حساب المبادئ والقيم.
3- التهافت على الثروة والمكاسب والمغانم ففسدت الذمم وراء الثراء السريع فأورثنا السرطان والفشل الكلوي.
4- إقصاء الآخر والتقوقع جهوياً وعقائدياً وقبلياً.
وللخروج من هذه الأزمات فإن الشعب السوداني بحاجة إلى تأهيل نفسي يعيد إليه توازنه وثقته في نفسه أولاً قبل ثقته في الآخرين ، وكما يقول المثل الشعوب على دين ملوكها فإن النخب السياسية القادمة برؤاها الجديدة حري بها أن تلعب دور المعالج النفسي لترميم الشروخ التي أصابت جسد السودان الهزيل بإعادة اللحمة الاجتماعية إلى سابق عهدها ، من خلال الندوات الفكرية والثقافية وأحسب أن الجولات التنويرية الحالية التي يقوم بها جماعة الدكتور جون قرنق في الكثير من أنحاء السودان لا تستهدف الكسب السياسي بقدرما تستهدف البعد التنويري الرامي إلى إبعاد شبح الطنون السيئة والصورة الغاتمة التي عشعشت في مخيلة أبناء الشمال بأن أبناء الجنوب لا يجيدون سوى رمي الرماح وإطلاق السهام ولا يعرفون غير لغة الحرب وجلالاتها ، فقد أرادوا أن يثبتوا لنا أن ذات القلب الذي تفجر غضباً في ميادين القتال في الجنوب قد يستدر العاطفة ليتفجر ينبوعاً من الإلفة والحنان تعم جميع أرجاء السودان ولنا في إخوتنا في الغرب الحبيب والشرق العزيز أسوة حسنة وحتى نعيده سيرته الأولى يبقى السلام هو المرام.