جاء في تاريخنا السياسي أنّ الأحزاب السودانيّة في عام 2005م ، ومع اتفاقيّة السلام الشهيرة ، رأت ألا يفوتها شرف تأسيس الحياة السودانيّة الجديدة ، القائمة على معادلة الاستقرار والتنمية ، فتداعت في لقاءات جادة تؤسس فيها لمفاهيم جديدة ، تنبذ أساليب المماحكة والمزايدة التي اتسمت بها في كل عهودها التجريبيّة في اعترافٍ صريح وشجاع .. وبعد تداول حر ومباشر ، رأت هذه الأحزاب أن تترك عمل المنافي وتتداعى للداخل ، وأن تضع يدها في يد القوى التي أسست لشراكة السلام الانتقاليّة على مآخذها عليها ، وأقسمت الأحزاب ألا تدخُل العمل السياسي إلا بعد شروط ولوائح ومفاهيم وتغيرات جديدة ، تختلف تماماً عن سيرتها الأولى التي استمرت لأكثر مِن خمسين عاماً .. وشكّلت لجنة من 60 عضواً ينتدب فيها كُل حزب مُمثليه بالتساوي ، وأسمتها ( لجنة إزالة السكن العشوائي السياسي والاندماجات وتأسيس المفاهيم ) وأدّت اللجنة القسم في حضورٍ إعلامي كثيف ثمّ باشرت أعمالها .. كانت طبيعة عملها شاقة للغاية ، لأنّه لأول مرة تدخل لجنةٍ ما ، أوكار الجريمة السياسيّة التي أُرتكِبت في حق الشعب السوداني بأجيالِهِ التي أعقبت الاستقلال .. كانت اللجنة تظن أنّ اغتيالات أو مهددات ستقف في طريقها لا محالة ، لكن الأحزاب كانت صادقة مع نفسها هذه المرة ، وأمرت بأن تذلل أعمال اللجنة وتوضع تحت أيديها كل المتطلبات والاحتياجاتِ .. دخلت اللجنة كل بيوت الطين العتيقة الخفيّة التي تتوارى فيها العقليّة الحزبيّة بواجهتِها الزجاجيّة المُزيّنة ! فتّشت في كُل المحاضر والأوراق القديمة التي كانت تهندس تكتيكات ومماحكات الأحزاب ، نشرت كل ما وجدته للعلن ، عرف النّاس كيف كانت تدار المؤامرات ضد الوطن وأجياله ، عرف أصدقاء كُثر كيف كانت صداقتهُم مُزيّفة ، عرف الشارع كيف كان التلاعُب بكوتات السكّر والبنزين وكيف كانت غنائم الأراضي وغيرها ، عرف النّاس كيف كانت الزعامات تؤدي عملها ، بأساليب لم تكن مفضوحة مائة بالمائة ! نشرت اللجنة كل ما عثرت عليه . غير أنّ مُهمّة أُخرى شاقة كانت تنتظرها ، وهي مُهمّة (الاندماجات و تأسيس المفاهيم) دخلت اللجنة في استفسارات وأسئلة واضحة وصريحة هذه المرة ، تسأل الأمين العام لكل حزب : مَا الذي يتبعه حزبكُم ؟ وتقصد البرنامج فيقول لها : السيّد علي رحمه الله . فتسأله :ومتى توفي السيد علي رحمه الله ؟ فيقول لا أدري . ما هو برنامجكُم ؟ فيجيب : الاتحاد مع مصر !! ( كتبت اللجنة : انتهت صلاحيّته منذ خمسين عاماً ، عشوائي قائم بوضع اليد ! ) ثمّ سألت الآخر : ما الذي يتّبعه حزبكُم ؟ فيقول : السيد عبد الرحمن المهدي رحمه الله . فتسأله : ومتى توفي السيد عبد الرحمن المهدي رحمه الله ؟ فيرد : لا أدري ، ما هو برنامجكُم ؟ فيجيب : الاستقلال !! ( كتبت اللجنة : انتهت صلاحيّته منذ خمسين عاماً ، عشوائي قائم بوضع اليد ! ) ثمّ ذهبت لمبنى ضخم وفخم فسألت موظف الحزب فيه : ما هو برنامجكُم ؟ فأجاب : الحزب الحاكم ! من أين تموِّلون حزبكُم ؟ قال مِن الخزينة العامة والضرائب ؟ مِن أموال معتقليكُم ؟ فأجاب : لا أدري ! ما هو وضعكُم بعد نهاية الحُكم ؟ فجاءت مجموعة من داخل المبنى ، شديدة بياض الثياب ، تقرأ في وجوهِهِم نضرة النعيم ، قال أحدهُم يجيب على سؤال اللجنة وفي يدِهِ عصا أنيقة : (حينها لكُل حادثةٍ حديث !) استنكر أحد أعضاء اللجنة أسلوبه المتعالي وهمس في أُذن صديقه : ( صدقني ستتحوّل عنجهيّته إلى صفرٍ كبير !) ثمّ كتبت اللجنة : عشوائي فاخر ، غير قانوني ، قائم بوضع اليد وسطوة الدولة ! . وسألت الآخر : ما الذي يتّبعه حزبكُم ؟ فيقول: ماركس ولينين !! فتسأله :هل هُم سودانيون ؟ فيرد : لا . فتسأله: وتمارسون السياسة هنا في السودان ؟ قال : نعم ومُنذ عدّة عقود !! ( كتبت اللجنة : انتهت صلاحيّته منذ خمسين عاماً ، حزب من خارج الحدود ، غير قانوني ، عشوائي قائم بوضع اليد ! ) فتسأل الآخر : ما لذي يتّبعه حزبكم ؟ فيرد الإمام الشهيد حسن البنا تقبّله الله ، فتسأله : ومتى توفي الإمام الشهيد حسن البنا تقبّله الله ؟ فيرد : 1949م فتسأله : هل هو سوداني ؟ فيرد : لا . كيف يتزعّم حزبكُم شخص غير سوداني توفي قبل نصف قرن ؟ فيجيب : بأركان البيعة العشرة !! ( كتبت اللجنة : انتهت صلاحيّته منذ خمسين عاماً ، حزب من خارج الحدود ، غير قانوني ، عشوائي قائم بوضع اليد ! ) فتسأل الآخر : ما الذي يتّبعه حزبكم ؟ فيقول : ميشيل عفلق .. فتسأله : إيش ؟ فيجيب بثبات :ميشيل عفلق . أين هو ؟ فيرد: توفي قبل عشر سنوات تقريباً . وهل هو سوداني ؟ فيرد : لا .. ( كتبت اللجنة : انتهت صلاحيّته منذ خمسين عاماً ، حزب من خارج الحدود ، غير قانوني ، عشوائي قائم بوضع اليد ! ) فتسأل آخر : ما هو حزبكُم ؟ فيجيب : قوى تحالف الشعب العاملة ، فتسأله: يعني حزب للموظفين !! أين هُم ؟ لا أحد بداخل هذا التحالف ! من تحالف مع من ؟ أسئلة لم يستطع الأمين العام الإجابة عليها !! كتبت اللجنة ( حزب بلا جماهير ، حضرنا ولم نجدكُم !) فتسأل آخرا: ما هو حزبكُم ؟ فيجيب : قوات التحالف القادمة من أسمرا و المناطق المحررة !! استغربت اللجنة لصراحة هذا الأمين العام وبراءتِهِ ! ثمّ كتبت ( حزب عشوائي ينقصهُ كُل شيء!) ثمّ تسأل آخراً : ما هو طرحكُم ؟ فيقول : التنمية ورفاهية الشعب . من هو زعيمكم ؟ يجيب : فلان الولي حفظه الله . كم سنة شغّال زعيم ليكم ؟ فيرد : أقل من خمسين لكن لا أدري على وجه الدّقة . فتسأله : ما هي آخر مرة عقدتم فيها مؤتمركم العام ؟ فيقول : المؤتمر الأول بعد فيضان 48 لكن الثاني الظروف ما ساعدت بس هناك عزم على قيامِهِ .. فتقول له اللجنة : الأحزاب ( س ، ص ، ش ، ض ... الخ) كُلّها على نهجكُم ، هل تمانعون في اندماجكُم مع بعض للمرحلة المُقبلة بمسمى جديد ومفاهيم جديدة وقيادات جديدة وطروحات جديدة ووسائل وأساليب جديدة ؟ يتصبب الأمين العام عرقاً ويجيب : اسألوا السيّد ( وهو لقب معروف ومحجوز لأسياد البلد فقط ) . كتبت اللجنة : انتهت صلاحيّته منذ خمسين عاماً ، عشوائي قائم بوضع اليد ! .. قامت اللجنة بعد أن فرغت من أعمالها بنشر تقريرها في وسائل الإعلام الموجودة يومذاك ، ثمّ انعقد ( المؤتمر الدستوري الجامع ) وطُرِحت فيه ثلاث أوراق عمل فقط مستهدية بما توصّلت إليه اللجنة ، وأدى قادة الأحزاب القسم في حضور إعلامي كثيف ، على أن يحترموا قرارات مؤتمرهِم الدستوري هذا ، وأن يصدقوا هذه المرّة مع أنفُسِهِم والشعب (لأنه سيعطيهِم من جديد) وأن يحترموا خيار الاندماج إن كان من قرارات المؤتمر ، وبعد إسبوع من التداول الساخِن المباشر ، خرج المؤتمر بتوصيات كبيرة وخطيرة وصفت بأنّها الأهم في تاريخ الممارسة الحزبيّة في إفريقيا كلها ، تحدّثت عن شروط الزعامة ، و مدة الزعامة ، وأسس العلاقات الخارجيّة وتحريم العمالة ، وبرامج الأحزاب ، وتمويلها ..الخ وبمقتضى ذلك المؤتمر الدستوري الجامع تأسست الحياة السياسيّة بصورة صحيحة بعد أن تم تصحيح المنهج و المسار والوسائل والنوايا ، ومنذ ذلك العام ـ الذي سمّاه السودانيون عام التأسيس ويحتفلون به كل عام مثل عام الاستقلال ـ منذ ذلك العام والبلاد تعيش في تطورٍ لافت حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم من المكانة والسؤدد بعد أن كانت بالفعل هواناً على النّاس تعيش الفقر والاحتراب والبؤس وتستجدي حلولها في نصف عواصم العالم !