ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
التجديد الديني ومسائل التحديث والتنمية بقلم علاء الدين أبومدين
سودانيزاونلاين.كوم sudaneseonline.com 6/2/2005 1:12 م
تمهيد ظلت مسألتا الديمقراطية وعلاقة الدين بالدولة ( بكافة أبعادهما ) تشكلان كوابح حقيقية أمام انطلاقة مستدامة لعمليات التنمية في المنطقتين العربية والإسلامية . ومن نافلة القول الصحيح أن الهروب إلى الأمام ظل سمة ملازمة لأغلب معالجات هاتين القضيتين . فما أتيحت لي الفرصة لمشاهدته من الدراما العربية ( المصرية والسورية ) في معالجاتها لهذا النوع من القضايا في إطار ما اصطلح على تسميته بالدراما التاريخية ، إنما يتخذ سياسة الهروب إلى الأمام طريقاً للمعالجة ، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالدين . مصرياً يبرز كأنه لم يتم استخدامه في الصراع على الدنيا بين صحابة الرسول ، على طريقة ( كله تمام ياباشا ) ، وسورياً يبرز كأنه ليست هنالك إشكالات دينية ولا يحزنون ، على طريقة ( القفز على المراحل ) . النشاز الوحيد ضمن السائد هو مسلسل ( الطارق ) ، الذي ظهر على شاشات التلفزيون في رمضان السابق ، وتخللته روح نقدية لبعض الجوانب ، خاصةً مسألة الديمقراطية . وبالرغم من أن استمرارية الديمقراطية بأبعادها السياسية والإجتماعية تعمل على تقليص نفوذ ووزن الإسلامويين كما ظهر في فترة أواخر الديمقراطية السودانية الثالثة ، إلا أن مواجهة جذور الأزمة تتطلب تغييرشكل التدين التقليدي السائد إلى تدين مستنير عبر فعل التجديد الديني . والطلب على ذلك ملح لجهة بروز إسلامويين ( أنصار سنة وسلفيين وإخوان مسلمين ..إلخ ) أكثر تشدداً من الإسلامويين الحاكمين ، ولتجاوز عثرات الفترات الديمقراطية السابقة . كما أن الفرصة مؤاتية بعين معارضة ذكية ترتقب الإنتخابات لإنزال هزيمة ساحقة بالإسلامويين ، بناءاً على إفلاسهم النظري والعملي ، واقتدار المعارضة برؤيةٍ دينيةٍ مستنيرة تجمع بين الدين ومسائل التنوير والتحديث والتنمية وعلمانية الدولة نسبةً إلى العلم لا العالم . في التاريخ الإسلامي يمكن القول أن مرحلة الخليفة عمر بن الخطاب في إطارها العام ، تشكل أهم النماذج المضيئة قياساً على منهجه في تنزيل الدين لأرض الواقع ، على الرغم من شدته ودرته الشهيرة . والتقييم هنا ينطلق من عموم منهجه في النظر للنصوص وإستخلاص الأحكام منها قياساً على ظروفها الزمانية والمكانية . وفي هذا السياق فإن موقف الخليفة الأول أبي بكر الصديق فيما يتعلق بتوريث العبيد ، كان أقرب لهذا المنهج في هذه المسألة ( بالذات ) ، عند المقارنة بموقف الخليفة الثاني ( عمر بن الخطاب ) الذي خالفه الرأي . ولأن الدين يحسب ضمن البنية الفوقية للمجتمع مع الثقافة والقيم والتقاليد ..إلخ ، فإن اهتمام السلطة ـ الطبقة الحاكمة وحلفاءها ـ بالدين ظل قائماً على مدى التاريخ الإنساني . لا شك أن ادراكها ( أي السلطة ) لمدى قدرته على التأثير في حركة المجتمع كان دافعها لإستخدامه سياسياً . ولم يكن الدين بجوهره الإيجابي مطلوبها . أكبر دليل على ذلك أن معظم مراحل التاريخ الإسلامي اكتنفتها ظواهر القمع والظلم والإضطرابات الإجتماعية والثورات . تجاوز السلبيات والوصول لبر الأمان يتطلب ضمن إجراءات أخرى ، عمل تطويرات على علم أصول الفقه : يبني على إيجابياته ويتجاوز سلبياته كعلم إنساني اخترعه الفقهاء قبل أكثر من ألف سنة ، حسب معطيات العلم في عصرهم ومابذلوه من جهد . فهو محض إجتهاد فقهاء لهم أجر أو لهم أجران . وأصول الفقه عدا ـ القرآن والسنة كنصوص ـ بما في ذلك المعالجات الفقهية في التفسير واستنباط الأحكام من القرآن والسنة ، إنما هي اختراع الفقهاء . وسنة التطور تقضي بتطوير أصول الفقه ( بإستثناء القرآن والسنة كنصوص ) حسب معطيات العلم في عصرنا الراهن ؛ وبالتالي تطوير كافة المعالجات الفقهية . فالفقه منذ وقت بعيد أوقف أحد مصارف الزكاة الذي يقول بإعطاء المؤلفة قلوبهم حقهم من الزكاة ، ليطل من جديد بتحريم الرق وتشريط الجهاد . يفصح ذلك عن إمكانية ولادة علم أصول فقه متطور ضمن بنيةٍ فوقيةٍ جديدة تشكل حوافز حقيقية لعمليات التنوير والتحديث والتنمية ؛ بدون أدنى تعارض مع مفاهيم وتطبيقات حقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق النساء . وهذا حراك وتطوير لا يمكن تفسيره إلا في إطار مفاهيم العلمية ( 1 ) ومصالح الناس ( 2 ) الحاكمة . كما أن ما تثيره مسائل تحريم الرق وتشريط الجهاد من جدل حتى الآن ، تقدم من جانبٍ آخر إشارة بليغة على صعوبة البناء الفوقي بما لا يقارن مع البناء المادي برغم ما بلغته تلك المسائل من تطوير حتى الآن . بلا شك فإن البنية الفوقية الراقية تجعل المعالجة للجوانب المادية سلسة وتلقائية ، دون أن يعني ذلك بأي حالٍ من الأحوال عدم التكامل بين البنيتين المعنوية والمادية ؛ رغم إحتياجاتهم وإشباعاتهم المتمايزة . تتعزز هذه الأفكار ـ حسب معطيات الواقع ـ من جهة أن التوسل بأصول فقه متطورة وبالتالي فقه مستنير يعني الفهم العلمي والعملي لأهمية الدين وضرورات تطويره حتى لايتناقض مع مفاهيم التنوير والتحديث والتنمية ؛ من جهةٍ أخرى فإن عدم المساهمة في هذا التطوير من قبل أنصار مشروع الإستنارة والتنمية ( القادرين ) ، لا يعني فقط إنعدام الجرأة الفكرية ، بل قد يعني أيضاً في المقام الأول ، نوعاً من الإنتهازية التي تستنكر هذا النوع من العمل ، وتركد انتظاراً لوصول المجتمع لفهم ديني مستنير عبر جهد ونحت الآخرين . التجديد الديني طريقنا للتنوير والتحديث يبدو المشهد السياسي / الفكري عند النظر إلى قضية علاقة الدين بالدولة منقسماً بين علمانيين ينادون بدولة مدنية ، ودينيين كل همهم الدولة الدينية . والوقوف عند حدود هذا التعريف فقط بممكناته المفتوح عليها ، يصبح من قبيل ما يمكن أن يوصف بالتبسيط الضار الذي يصادر أمل الديمقراطية والتنمية المنشودتان . فليس الإصطفاف مع العلمانيين ـ في حد ذاته ـ بجالب لدولة الحقوق والواجبات السليمة في الدولة المدنية ، كما أن الوقوف على أبواب الدولة الدينية لا يعني كفكفة شرور الهم والتحزين . الشاهد ليس فشل الدولة الدينية الذي يفقأ الأعين ، أو المتخلق في أرحام المتربصين بالديمقراطية والتنمية معاً ، ممن يظنون أنهم يمثلون صحيح الدين والقادرين على تطبيقه بما يصلح الدين والدنيا حينما يعيدون من جديد سيرة السلف الصالح . سواءاً على طريقة حذو النعل للنعل ، أو بنعلٍ وحذوٍ مختلفين . الشاهد ( الحقيقي ) جذوره أعمق مما نتصور . ففي الواقع أن جذور فكرة الدولة الدينية هي في شكل الإسلام الخام من جهة ، وقابلية المجتمع السوداني للتجاوب مع الشعارات والصياغات الدينية من جهةٍ أخرى ( كما يقول المفكر عبد العزيز حسين الصاوي في كتاب الهوية والديمقراطية ) . وهذا يعني بعبارة أخرى الإسلام التقليدي ـ الصوفي ـ وقدرته الفائقة بصياغات سياسية على تحريك الجماهير السودانية ، سلباً أم ايجاباً . وإذا كان الأمر كذلك ، وهو ما عليه الحال ؛ فإن الجاهزية والاستعداد المسبق هما حتى الآن حليف نسخة البديل الديني السلفي من الإسلامويين ( 3 ) متمثلاً في أنصار السنة والسلفيين والإخوان المسلمين والقرآنيين .. إلخ . فبالإضافة إلى المنافسة القوية من قائمة البديل الديني السلفي لقائمة المعارضة المكونة من التجمع الوطني الديمقراطي والمتحالفين معه ، بما فيهم حزب الأمة في انتخابات اتحادات الطلاب ، فإن كون الإسلامويين ( رغم انقسامهم على قائمتين ) منافس أساسي لتحالف المعارضة بجامعة الخرطوم رغم ذاكرة الجامعة ومساهمتها الفاعلة في ثورة اكتوبر 1964، وتبادل النصر والهزيمة مع الإسلامويين في جامعات أخرى ، والمظاهر غير المعهودة من حلقات الذكر والطبل الصوفي بين أوساط الطلبة والطالبات داخل حرم الجامعات ، التي لا تترافق معها رؤية كاملة بديلة للحالة القائمة ، والتمدد غير المنظور للبديل السلفي على أرضية الإسلام التقليدي في مناطق السودان المختلفة وما ظهر عليه حتى الآن من حوادث عنف غير مسبوق وتكفير للآخرين ، بالإضافة لبعض مظاهر الإلحاد في بعض الصحف الحائطية بالجامعات التي لا يمكن النظر لها إلا في إطار ردة الفعل على تسييس الدين وإضفاء القداسة على ممارسات الإسلامويين في القمع والفساد السياسي والاقتصادي . ما حدث ويحدث حتى الآن يدل على أن الأمر لا يقتصر على مجرد انفلات عناصر ماركسية ووصول ذلك إلى مرحلة تغيير الديانة في أوساط عناصر شمالية مسلمة يوضح مدى الأزمة والتأثير غير المنظور لشعار الإسلام دين ودولة . المؤكد أن هذا لا ينفي وجود جذور أعمق للإلحاد في الثقافة العربية الإسلامية كما يقول حسين مروة في كتابه حول النزعات المادية . سوى أن ترسيخ الديمقراطية في التربة والمجتمع السودانيين مع الثقة بأن الدين ـ أي دين ـ قادر على مقارعة الحجة بالحجة لدى خصومه ؛ وإلا فما فائدته ؟ إنما ينطلق في تصوره من رؤية دينية مستنيرة ضمن إيجابيات بضخامة إلحاح عملية التجديد الديني المطلوب بشدة . كل ذلك وغيره يؤكد على فشل سياسة الهروب إلى الأمام القائمة حتى الآن . وإذا كانت عمليات التنوير والتحديث والتنمية في السودان ترتكز اليوم بشكل كبير على خلق الأرضية الملائمة لإنطلاقة مستدامة بإنجاز عملية التجديد الديني ، فإن المدخل السليم لذلك وهو الديمقراطية بشقيها السياسي والاجتماعي تبدو بلا اختلافٍ كبيرٍ على أهميتها الراجحة . إذ لم يدخر عدم إنجاز تنمية حقيقية بسبب الصراع على السلطة والثروة شيئاً كبيراً يُحسبَ لمن كانت بيدهم السلطة في الديمقراطيات السابقة ، فلا دامت لهم السلطة كما أرادوا ، ولا بقي الصراع على السلطة والثروة كما كان . وظلت مشكلة التنمية شاخصة كما انفضحت البنية الفوقية للمجتمع السوداني ( التدين التقليدي ، التعصب القبلي ، ضعف رسوخ الديمقراطية داخل منظومة القيم .. إلخ ) بشكل لم يسبق له مثيل ، لعل أبرز ما فيه تحول مصطلح الجنجويد لمصطلح عالمي في مظاهرة للشهرة السلبية ـ المنكورة ـ التي لا يتشرف بها أحد تحت ظل أو / لهيب حكم الإنقاذ . تأسيساً على مجرد مراجعة سريعة لخطاب الرئيس البشير في تبرير إنقلابه العسكري يقول فيها أنه لولا الإنقاذ ـ الإنقلاب ـ لتم إلغاء الشريعة ولبلغ سعر الدولار عشرين جنيهاً سودانياً ولوصل جون قرنق إلى كوستي ، ومعالجات الإسلامويين لتلك المشاكل عبر تطبيق الشريعة وأسلمة الاقتصاد والدعوة للجهاد ( حسب فهمهم ) . تلك السياسات الإسلاموية التي أنتجت دماراً مهولاً . والتي تؤكد على طريقة زرقاء اليمامة أن الأمر يحتاج لوقفةٍ ومراجعةٍ لشكل التدين التقليدي سيرةً ومسيرةً ؛ لكي لا يكون بديل الإسلامويين بديلاً إسلاموياً أكثر تعصباً . العقدة على ضوء الخبرة السودانية والخبرة الإنسانية بشكل عام وأشواقها لإله ودين ( مثال وقدوة ) وملاذ ( آخرة / أخير ) تلجأ وتفزع إليه حين تغلق بوجهها الأبواب ، ليست في الدين في حد ذاته بكل تأكيد . فما يحققه الدين من طمأنينة وتوازن نفسي ليس بالأمر الهين حتى يهدر بلا بدائل مقنعة على المستوى الفردي والمجتمعي . ومن أهم ما ينبغي تقديم معالجات ديمقراطية / دينية فيه كمدخل لعملية التجديد الديني : أمر النظر لأي مسألة مطروحة ، سواءاً أكان النظر لها من داخل إطار الدين أم من خارجه . المصطلح السائد إسلاموياً يُسمي الإيمان في مقابل الكفر أو الإلحاد . وبالطبع هو مصطلح له أبعاده ومحمولاته الثقافية ، كما له معانيه ودلالاته . وفي هذا الصدد يُلاحظ أن المتعصبين دينياً ينظرون إلى أندادهم ـ الكفار والملحدين ـ على أساس أنهم يمثلون الإباحية وكافة الموبقات ، وقد يردفون أن أولئك النفر ـ الكفار ـ من البشر ولكنهم أقرب للحيوانات . ولا تقل نظرة أولئك النفر للمتعصبين دينياً سوءاً ، ففي نظرهم أن المتعصبين ليسوا سوى متخلفين وعنيفين في غير مبرر . وهكذا فإن كل طرف ينظر للآخر من آخر تمثلات النتائج ( التعميمات ) السلبية للنظرية ، دون مرور أصلاً بالفرضية وأسبابها ، مع مرور عابر على تحليلاتها ( أي محاولات الفرضية للوصول إلى نظرية ) . الخلاصة هي أن الإلحاد والتعصب الديني في أغلب حالاته ينطلق من ذهنية ونفسية واحدة ، هي ذهنية ونفسية الأزمة الداهمة عندما تقترن بالضعف الإنساني في تمظهراته السلبية المتفاجئة وغير المتوازنة التي تبحث عن مخرج . إذ أن الإلحاد أو التعصب الديني الذي ينطلق من موقف فلسفي ونظري متكامل ضئيل للغاية في الواقع . وفي يقيني أن هذا صائب تماماً للدرجة التي يمكن أن أُقرر فيها أن الإثنان معاً ( الإلحاد والتعصب الديني ) هما أحد تعبيرات الأزمة الشاملة . الأمر الذي يؤكد طوباوية وعدم علمية الدعوة لفصل الدين عن الدولة دون منهج يؤسس لذلك ، ودون فقه مستنير بديل ، ودون تحقق قدر من الديمقراطية السياسية والإجتماعية ـ الإقتصادية ـ يكبح ويعقلن جماح اللجوء إلى الغيب في شأن دنيوي بسبب ظروف الواقع وضغوطه المادية والمعيشية الباهظة وما يخلقه ذلك من إحساس بإنغلاق أبواب الدنيا بحيث تبدو الهيستريا الإسلاموية في نشدان الإستشهاد الإسلاموي بين غالبية فئات الفقراء المضللين ، محض إسقاط وتعويض وتشوق نفسي لضروريات وحاجيات وتحسينيات ( حسب أصول الفقه ) عجز النظام عن توفيرها لهم في الدنيا . يتأكد ذلك من ملاحظات مباشرة لي أثناء دراستي بكلية الدراسات العليا بجامعة الخرطوم وأثناء زيارات متعددة لعدد من الجامعات بولاية الخرطوم ( من 1997وحتى 2001 م ) حيث برزت مظاهر حادة للتعصب الديني والإلحاد ؛ تجاوزت مهاترات أركان النقاش السياسي والعنف البدني المحدود إلى البيانات السياسية والمقالات بالصحف الجدارية ، كما وصلت مداها بإعلانات اهدار الدم ومحاولات الإغتيال السياسي وإزهاق الأرواح . وقد كانت تلك الأحداث ضمن واقع سيادة الإسلام الخام وشكل التدين التقليدي في المجتمع السوداني تفرز مايمكن تسميته بالموقف السياسي السلبي في أوساط غالبية شريحة الطلاب ، على العكس من طبيعتها الحراكية الناشطة والمفهومة ؛ وذلك بما تخلقه من ضبابية في الرؤية السياسية وتثيره من غبار على طبيعة الصراع السياسي خاصةً عندما تكون الهجمة الدينية موجهةً ضد تيارٍ سياسي معارض بسبب انفلات أحد عناصره ، إذ يلتقط حينها الإسلاميون القفاز ليكيلوا الإتهامات بالجملة لكافة قوى المعارضة . وبالرغم من التكتيكات الممتازة لقوى المعارضة الطلابية التجمعية حينها في أحداث من هذا النوع بجامعة الخرطوم ( 1999 ) ، تمثلت في ثلاثة محاور هي : أ/ اعتذار تنظيم الجبهة الديمقراطية ـ الشيوعي ـ ببيان عما ورد بصحيفته في جامعة الخرطوم ، ب/ التأكيد على حق أي إنسان أو أي تنظيم في قول ما يراه بشأن الدين بأي وسيلة من وسائل التعبير وحق الآخرين في الرد عليه بشرط عدم التجاوز على أدب الخطاب والإختلاف السياسي وبدون تجريح أو إساءة شخصية ، ج/ اعتبار أي اعتداء على أي عضو من أعضاء التجمع اعتداءاً على التجمع ومن حقه اتخاذ أي اجراء لحماية عضويته . وهو الأمر الذي سعت له ونسقت لأجله قيادات من جبهة كفاح الطلبة ـ البعثية ـ بطلب من الجبهة الديمقراطية ومركزية التجمع الطلابي ، ليعبر عنه فتحي مادبو من قيادات طلاب حزب الأمة معلناً تضامنهم مع التجمع في مخاطبة سياسية بجامعة الخرطوم . برغم أن حزب الأمة كان قد خرج حينها من التجمع . مما أنقذ الشيوعيين والبلاد من تداعيات كانت ستكون أسوأ من تداعيات حادثة معهد المعلمين في ظل إنفراد الإسلامويين بالسلطة . لكن التأثيرات السلبية لهذه الأحداث والمتمثلة في تجميد الصراع السياسي وزيادة سلبية الطلاب ( لحين ) لم يكن ممكناً تلافيها . يلتقي ذلك مع ما ذكره الأستاذ عبد العزيز الصاوي في كتاب الهوية والديمقراطية من " أن قوة هجمة الإسلاميين على حياة الناس العامة والخاصة ولدت رد فعل مضاد من جنسها هو عبارة عن بداية موجة الحاد خام ، مشابهة لموجة التدين الخام غير المصقول بالمعاناة الفكرية والتي تتغذى منها الهجمة ، وإن كنا لأسباب مفهومة لا نلمس من الموجة الإلحادية على السطح حتى الآن إلا وجهها المخفف بالنكتة والتشنيعة على هامش الموضوع الديني ، بينما يقتصر ظهور أشكالها الواضحة والصريحة على الدوائر الحميمة " . كما يحدث تراجعاً عن الإلتزام الديني بنسبة عالية في إيران بعد عقدين من تجربة إيران الإسلامية بحسب رئيس الشئون الثقافية في بلدية طهران كما ورد في الكتاب السابق . المطلوب ـ لا مناص ـ فقه مستنير يخدم قضايا التنوير والتحديث والتنمية ، ومادام الدفع بأن الإسلام أو أي دين آخر ضد العلم أو ضد مصلحة الناس بالضرورة أمر قابل للدحض ببراهين متنوعة ، فإن إمكانية الإتفاق حول تفاصيل الديمقراطية بشقيها السياسي والإجتماعي ( آلة اشتغال التنوير والتحديث والتنمية ) متوفرة في حدها الأدنى على أقل تقدير. بذلك فإن شرط إستدامة التحديث والتنمية والتطوير في الفقه والتطبيق السياسي والإقتصادي .. إلخ ، يرتكز بشكل كامل على حشد الجهود لفقه عملي يفصل بين الدين والدولة ، مبيناً طبيعة الإحتياجات والإشباعات المتمايزة والمتكاملة لكل من الدين والدولة بالنسبة للفرد والمجتمع . ويستند أيضاً إلى تتبع فلسفة وشكل العلاقة بين الدين والدولة في المسيحية والإسلام والتجربة السودانية ، بما في ذلك العلاقة بين القضاء الشرعي والقضاء المدني في الدولة السودانية في العهدين الوطني والإستعماري الذي يعكس بالإضافة لتمظهراته الأخرى نوعاً من الصراع على المصالح والإمتيازات كما يحكي عنها د. عبد الله علي إبراهيم في كتابه ( الشريعة والحداثة ) . يظهر ذلك مثلاً في تحول الإسلامويين من القول بالإشتراكية الإسلامية في عقود فقرهم ، إلى القول بإقتصاد السوق الحر والأصل في الإسلام الحرية في الإقتصاد ، عند عهود غناهم وتمتعهم بالبترودولار الخليجي والدولة / القاعدة في السودان . وهم بذلك إنما استخدموه ( الإسلام / القرآن ) حمال أوجه من العيار الثقيل . بينما مايمثل العلمية ومصالح الناس ( أي التحديث والتنمية بعبارة أخرى ) لا زال كامناً في منهج الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما غلَّب العلمية ومصلحة المسلمين على النصوص . مبتدعاً منهجاً ينظر للنصوص من داخل ظروفها وملابساتها وسياقها التاريخي ( الزماني والمكاني ) . على الصعيد السوداني فيما يتعلق بالكتابات السياسية السودانية المقاربة ، تبدو كتابات الجمهوريين ، وكتابات حزب الأمة والأنصار ( الجديدة ) ، بالإضافة إلى البعثيين ، كتابات داعمة ومفيدة في هذا الإتجاه بسبب طبيعة منطلقاتهم وإهتماماتهم . وذلك على الرغم من عناية البعثيين بالعموميات وجحد التفاصيل فيما يتعلق برؤيتهم الدينية . وفي هذا السياق فمن المؤكد أن الفقيه العصري الذي يلم بعلوم الأولين في اللغة العربية والقرآن والسنة والقياس .. وعلوم المحدثين مثل علم الإجتماع وعلم النفس وعلوم اللغويات وتحليل الخطاب ومبادئ العلوم الطبيعية وإستخدامات الكومبيوتر ..إلخ هو أكثر علماً وفقهاً بمراحل من الأصولي أو الفقيه القديم . العلمانيون مذاهب شتى العلمانيون السودانيون يختلفون على مدى الفصل بين الدين والدولة . وهم بذلك إنما يختلفون على مدى علمانية الدولة ، سواءاً أكانت العلمانية نسبةً إلى العلم كما يقول البعثيون السودانيون أو إلى العالم ( الدنيا ) كما يقول الشيوعيين السودانيين . وللخروج من هذا المأزق تم الإتفاق على مااصطلح بتسميته بالدولة المدنية الديمقراطية في أوساط التجمع الوطني الديمقراطي . وهو توافق كان يمكن تحقيق اختراق أكثر تقدماً فيه بالقول بعلمانية الدولة نسبةً إلى العلم لولا عدم حضور البعثيين السودانيين لإجتماع أسمرا للقضايا المصيرية ؛ فقد جمدوا عضويتهم في التجمع الوطني الديمقراطي قبل مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية بسبب اختلافات داخلية في الخط السياسي والفكري تفجرت لاحقاً وأسفرت عن معاودة فصيل منهم لنشاطه بالتجمع الوطني الديمقراطي مجدداً منذ أواخر 1997م . وهكذا فالديمقراطية ( غير العلمانية ) في معاني الفصل بين السلطات والحريات العامة وحقوق الإنسان والدولة المدنية الديمقراطية ، تصبح بلا أفق أو رؤية حاكمة ، كما تخلق مصاعب كثيرة ، خاصةً عندما يتم التقييد على الحريات والحقوق المعطاة بالدين . بينما مفهوم الدين يبدو بلا معالم محددة له ولمدياته ، كما أن الكثير من الفقه الديني ـ خاصةً عند الإسلامويين ـ يقدم مفاهيم متخلفة لمسائل الدين بما يشكل عوائق حقيقية أمام ضروريات عمليات التنوير والتحديث والتنمية . ونظرة مؤتمر التجمع الوطني للقضايا المصيرية المعروفة بالتقييد الديني للشأن النسوي لا تكفل مشاركة كاملة للمرأة ، ولا تساوي بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات . الأمر الذي أفرز ما يمكن تسميته بثورة النساء بوجه قيادات التجمع بسبب المادة الخامسة من الدين والسياسة في السودان التي تنص على الآتي " يلتزم التجمع الوطني الديمقراطي بصيانة كرامة المرأة السودانية ويؤكد على دورها في الحركة الوطنية السودانية ، ويعترف لها بالحقوق والواجبات المضمنة في المواثيق والعهود الدولية بما لا يتعارض مع الأديان " ، وللإحتجاج مبرراته الموضوعية فالرؤية غائمة فيما يختص بأسئلة من نوع : أي دين ؟ وأي فقه ؟ ولأي مدى ؟ وهذا الطرح للتجمع فيما يختص بالمادة الخامسة يبرز تناقضاً فاضحاً عند قراءته مع مادة سابقة له هي المادة الثالثة من الدين والسياسة في السودان التي تنص على " لا يجوز لأي حزب سياسي أن يؤسس على أساس ديني " . ولا يمكن فهم أبعاد هذا التناقض على حقيقته إلا بإستحضار حقيقة تخوف التجمع من قابلية الشارع السوداني للتجاوب مع الشعارات والصياغات السياسية للدين مع عدم وجود فقه مستنير متفق عليه . بالإضافة لتمسك الذكور بشكل عام ، بمكاسبهم من منتوج الثقافة الذكورية السائدة في الريف والمدينة على اختلاف درجة تمثلاتها الحقيقية على أرض الواقع وماأضفوه عليها من طابع ديني . وهو ماناقشته بشكل مباشر الأستاذة هادية حسب الله في دراسة بعنوان ( من التحديات والمشاكل التي تواجه تمكين ومساواة المرأة ) ، كما ناقشه الدكتور عبدالله علي إبراهيم من خلال الصراع بين القضاة الشرعيين والقضاة المدنيين في كتاب الشريعة والحداثة . مايتبين هنا ليس هو هذا التناقض البارز فقط ، وإنما أيضاً أبعاد إشكالية علاقة الدين بالدولة في الذهن والنفسية التجمعية المعارضة التي جعلت الرؤية الحاكمة قائمة على " كل المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الإنسان والمضمنة في المواثيق والعهود الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان " ، في تعبير عن العجز وإيثار السهولة رغم مايهيئه ذلك من أجواء ملائمة لإسلامويين متعصبين بثوب جديد . ويمكن تلخيص إختلالات هذا الطرح في النقاط التالية : أولاً : رفض قيام حزب على أساس ديني في نفس الوقت الذي يتم فيه تقييد حقوق النساء من منطلق ديني . ولا يشكل مخرجاً القول بضبط مسائل الأسرة والوراثة ، ليس فقط لإختلاف الأديان واختلافات الفقه ضمن الدين الواحد ـ على وجاهة ذلك ـ وإنما لأنه إذا كان الدين وجيهاً ومقبولاً في مسائل الأسرة والوراثة ( على مافيها من اختلاف ) وهي ذات تأثير كبير على الدولة في السياسة والإقتصاد عبر تأثيرها على طبيعة الثقافة السائدة وعملية مراكمة الثروة ؛ يبدو شاخصاً من جانبٍ آخرٍ سؤالٌ يقول لماذا عدم الأخذ بالدين في الجوانب الأخرى قياساً على التعامل مع معشر النساء ؟ أي لماذا لا يتم تقييد حرية الرجال بنفس الرؤية الدينية منعاً لأي تمييز سواءاً أكان سلبياً أم إيجابياً ؟ .. بعبارةٍ أُخرى لماذا عدم العمل على أن يكون الدين وجيهاً ومقبولاً بشكلٍ مباشرٍ في جوانبٍ أخرى ( سياسة ، إقتصاد .. إلخ ) ، بما في ذلك مسألة الفصل بين الدين والدولة من منطلق ديني ؛ وهو أمر تبدو ملامحه الأولية شبه مكتملة ، إذ قال به عدد من المفكرين والكُتاب من الإسلاميين وغيرهم . وبينما يجرد التجديد الديني المتطرفين من كافة أسلحتهم التي يستخدمونها لإعاقة عمليات التنوير والتحديث ـ آلات اشتغال التنمية ـ فإن ترك الأمور على حالها أو الإقتباس من خطاب الإسلامويين أو أي معالجات أُخرى ، لن تفعل أكثر من جعل عفريت التعصب الديني كامناً في قمقمه . ثانياً : المؤكد أن الأديان ( أياً كانت ) تمثل خزائن وأرصدة منظومة القيم والتقاليد ، خاصةً الأخلاقية منها . وبرغم أن القيم وسلوكياتها المُتفق عليها شعبياً من التقاليد ليست ثابتة إلا كمفاهيم . في معنى أن صيغ التعبير عن قيم راكزة عميقاً في الثقافة الشعبية السودانية ( مثل الكرم ، الشجاعة ، المرؤة ) تغيرت كثيراً عند المقارنة بصيغ التعبير عن نفس القيم قبل خمسين عاماً مثلاً ؛ إلا أن وجود ضابط اجتماعي معنوي من القيم والتقاليد مسألة مهمة ومطلوبة في كل المجتمعات الإنسانية بشرط استدامة عملية تطوير هذه القيم والتقاليد حتى لاتتعارض مع الإحتياجات الإنسانية في الديمقراطية والتنوير والتحديث والتنمية الصاعدة . من ناحيةٍ أُخرى فإن أي مقاربة موضوعية لمسألة الديمقراطية ( مدخل التنوير والتحديث والتنمية ) عند مقارنة أوضاع الدول غير النامية ـ المتخلفة ـ بدول الرفاه الإجتماعي ، تؤكد بشكلٍ عام على ما يمكن تسميته بالتلازم الإشتراطي بين كلٍ من القيم والتقاليد الراقية ( المتطورة ) والديمقراطية السياسية والإقتصادية والتنمية المستدامة والرفاه الإجتماعي . سوى أن تجربة السودانيين في الشتات الغربي ( خاصةً أميركا ) لا يبدو أنها تشجع منحى تطوير القيم والتقاليد رغماً عن إعجابهم بالنموذج الغربي في التحديث والتنمية ورغم كون غالبيتهم العظمى من المعارضين العلمانيين لنظام الإسلامويين . الأسباب المباشرة وراء ذلك هي إعطاء الأطفال في أماكن دراستهم أرقام تلفونات أجهزة قانونية وأمنية للإتصال بها عند تعرضهم لأي إيذاء أو عنف تأديبي ، الأمر الذي تعرض بموجبه بعض الآباء والأمهات لبعض المشاكل . بالإضافة لما يُسميه المهاجرون السودانيون بخروج بعض النساء والفتيات عن دائرة القيم والتقاليد السودانية السمحة ضمن أجواء الحقوق الواسعة للمرأة بتلك البلدان . ويبدو بعض ذلك في إطار المسكوت عنه في أوساط قيادات التجمع ، ولذلك يتعامل بشكلٍ غير مباشر مع حقوق وواجبات المرأة ضمن لازمة " بما لا يتعارض مع الأديان " . لا يمكن فهم هذا الفصل الذهني والنفسي بين الأشواق الراسخة والإستحقاقات الواجبة إلا في إطار عدم وجود بدائل نظرية وعملية لقيم وتقاليد سودانية متطورة مع رفضٍ للقيم والتقاليد الغربية تشتد حدته عند اشتطاطها وعند تعارض المصالح . ومما يجرح في ديمقراطية وصلاحية القيم والتقاليد السودانية السمحة طبيعة علاقة الآباء والأمهات بأبناءهم وبناتهم ، وعلاقة الأخ الأكبر بالأخ الأصغر ، والأخ بأخته أو أخواته داخل الأسرة الواحدة . بالإضافة إلى طبيعة علاقة الأستاذ بالطالب في كافة المراحل الدراسية ، وعلاقة القطب أو الزعيم في الطائفة أو الطريقة الدينية بمريديه . ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتعداه إلى طبيعة العلاقة بين أفراد القبيلة وقائدها في مجتمع قبلي كالمجتمع السوداني ، حيث الأوضاع سيئة للغاية بالنسبة للمرأة الجنوبية ( الدينكاوية مثلاً ) مقارنةً بالمرأة الشمالية . كما يجمع رئيس القبيلة بين السلطتين الدينية والدنيوية كما هو حال رث الشلك على سبيل المثال . بالمقابل يمكن تطوير بعض القيم السودانية النبيلة ( مثل الشجاعة والكرم والمرؤة ) عبر استخدامها بشكل داعم لقضايا التنوير والتحديث والتنمية ، بحيث تكون الشجاعة مثلاً في الإستعداد للرجوع عن أي أمر متى ما ظهر لك خطأه ، والكرم في إعطاء نسبةً من زمنك الخاص للعمل المدني العام ، والمرؤة في بث ( رب الأسرة ) روح الديمقراطية والحوار بين أفراد أسرته ..كأمثلة على ما يمكن تطويره ؛ دون أن يقلل ذلك من المعاني والتطبيقات الرفيعة لهذه القيم بمفهومها التقليدي . ولأننا نعلم جميعاً أن فاقد الشئ لايعطيه ، فلا سبيل أمامنا للولوج إلى آفاق التحديث والتنمية والرفاهية سوى بناء كافة أشكال علاقاتنا على أساسٍ ديمقراطي وإنساني . إذاً تطوير القيم والتقاليد أمرٌ لا مفر منه لخدمة أغراض التنوير والتحديث والتنمية ، خاصةً في بلدٍ متعدد الثقافات مثل السودان . وفي هذا الصدد فإن تطوير القيم والتقاليد ـ بما فيها الأخلاق ـ لا يعني بأي حال من الأحوال إلغاء أو تجميد هذه القيم والتقاليد ، أكثر من ذلك أن التطرف في ممارسة الديمقراطية على المستوى الفردي بدون أدنى اعتبار لطبيعة القيم والتقاليد السائدة في المجتمع ، هو من أكثر العوامل المنفرة من الديمقراطية ( بوابة التحديث والتنمية ) . فبالإضافة إلى أنه يُعبِر عن خفة فهم الديمقراطية في أذهان هذا النوع من الديمقراطيين ، فإنه يتيح الفرصة أيضاً لأعداء الديمقراطية لإختصارها في حرية شرب الخمر وحرية إرتداء النساء لألبسة تعري مفاتن الجسد الأنثوي ، وحرية ممارسة الجنس .. إلخ ، برغم أن الحريات المذكورة مقيدة بنص القانون في الدول الغربية . والأمر كذلك فالمطلوب التدرج في تطوير القيم والتقاليد ، دون أن يُقيد رسوخها عملية التطوير . كما يجب تطوير هذه القوانين بحيث تشكل آفاقاً أرحب لهذه القيم والتقاليد ( في سيرورة رقيها ) كلما اقتضي الحال . وذلك في معنى أن تكون القوانين أكثر تطوراً بدرجة معقولة عن القيم والتقاليد السائدة . القاعدة أن الحفاظ على القيم والتقاليد إنما يكون عبر تطويرها لتصبح أكثر ديمقراطية وإنسانية ، وأن حامي القيم والتقاليد هو الوعي والإستنارة وليس إغلاق الأبواب وفرض الرأي الواحد . كما أن القيم والتقاليد الديمقراطية والإنسانية هي التي تنتج الحكومات الديمقراطية التي تفتح الطريق أمام مطلوبات التنوير والتحديث والتنمية . ثالثاً : إن الإتكاء بشكلٍ أساسي على عهود ومواثيق حقوق الإنسان الإقليمية والدولية رغم شدة مطلوبيتها الآنية تكتيكياً ، يجعل الأولوية لهذه العهود والمواثيق وثقلها المعنوي والمادي والفعلي ، بحكم كونها أفقاً ورؤيةً حاكمة في حالة مخالفة أي قانون أو مرسوم أو قرار أو إجراء لمعاييرها ومبادئها المعنية بحقوق الإنسان . وبذلك فإن السند والركيزة لحقوق الإنسان السوداني ليست الفرد او المجتمع السوداني بمحمولاته الثقافية وإنما تلك العهود والمواثيق وحماتها الدوليين . والمعلوم أن مبادئ الدستور السوداني والقوانين المنبثقة منه وكافة مواثيق وعهود الإنسان الإقليمية والدولية ، لم تمنع سابقاً وقوع الإنقلابات العسكرية وتسلق الديكتاتوريين للسلطة ، ولن تمنعهما مستقبلاً مهما طرأ عليها من تطويرات . وذلك لبديهية كون العلاقات الدولية عموماً وعلاقات الدول خصوصاً تحكمها المصالح أصلاً . ولأن ركيزة حماية الديمقراطية السودانية هي وعي وفعالية الفرد والمجتمع السودانيين . رابعاً : الخطاب الإسلاموي وقدرته على الإستقطاب أثناء الفترة الإنتقالية وأثناء الإنتخابات يعد من أهم أسباب سعي التجمع لحجر تأسيس الأحزاب على أساس ديني . وتلك معالجة فطيرة لشأن بمثل حساسية وأهمية الدين للإنسان ، فضلاً عن صعوبة فرضها . فهي تستدعي الدين حيناً في معالجات سياسية وترفضه أحياناً في معالجات سياسية أُخرى . وفي الصراع السياسي قد تستحضر ملاسنات إسلاموية ذات سند نصي قرآني من معانيه أن التجمعيون يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه . في الحقيقة فإن للتخوف أساساً واقعياً بناءاً على تجربة عدة نماذج في المنطقة . إذ أن استطالة أمد الحكم الشمولي بسلبياته المعروفة يؤدي إلى زيادة حجم ووزن الإسلامويين السياسي ، بحيث تتخوف قوى الديمقراطية من تطبيق ديمقراطي يأتي بالإسلامويين ، مثلما حدث في الجزائر والعراق . وقد تسعى قيادات الأنظمة الشمولية لدى الغرب ( وأمريكا خاصة ) تطالب بعدم الضغط عليها لعمل إصلاحات ديمقراطية ، لأن الديمقراطية قد تأتي بالمتشددين دينياً . وهذا تحجج فاسد ، لأن المتشددين دينياً هم صناعة الأنظمة الشمولية ونتاج سياساتها في نفس الوقت . في الواقع تصنع الأنظمة الشمولية ( الإسلاموية ) وضعاً أكثر تعقيداً ، حيث يكون تيار غالبية الجماهير فيها ممثلاً لحالة الإيمان السلبي ، ويشكل أنصار النظام تياراً آخر أقل عدداً وأكثر تنظيماً ، بينما يظل تيار الملحدين بلا تأثير حقيقي . واقع الحال أن غالبية العلمانيين مؤمنون سلبيون ( غير ملحدين ) ، أي بلا تصورات متكاملة حول كيف يكون الإسلام متصالحاً مع منظومات حقوق الإنسان والحريات العامة المتفق عليها دولياً وإقليمياً . وبرغم أن المتعصبين دينياً هم ايضاً ـ لحدٍ كبير ـ بلا تصورات متكاملة حول كيف يكون الإسلام شورياً وغير ديمقراطي في نفس الوقت ؟ أو كيف يقف الإسلام ضد الديمقراطية التي تمثل أرقى صيغة وصلت إليها الإنسانية لإدارة وتنظيم الصراع على المصالح ؛ بينما تمثل هذه الصيغة العلم ومصلحة المسلمين ... فإن مايهمني حسب الأولويات السياسية ( استراتيجياً وتكتيكياً ) هو تطوير موقف العلمانيين المؤمنين ( الأغلبية ) من حالة المؤمنين السلبيين إلى حالة المؤمنين الفاعلين الذين يصطفون بوعي ـ وفقه مستنير ـ مع العلمانية والديمقراطية .. إلخ . ويستوجب ذلك تطوير مفهوم العلمانية من جانب ، كما يستوجب التجديد الديني من جانب آخر . وإذا كانت قدرة الخطاب الديني بصياغات سياسية بالغة التأثير لهذا الحد ، فإن السير في الطريق الصحيح يستوجب عدم ترك الجماهير لوحدها في مواجهة خطاب ديني متخلف . والمعروف أن التجمع لم يخرج عن إقحام الدين في شؤون الدنيا فيما يتصل بنصف المجتمع ( المرأة ) . من زاوية أخرى ، فإن الريادة والقيادة تقتضي تقديم خطاب ديني مستنير ـ بديل ـ في مواجهة الخطاب الإسلاموي المتخلف السائد . في كل الأحوال يظل الملحدون عن رأي والملحدون سطحياً من العلمانيين رصيداً يُحسب لصالح مشروع التنوير والتحديث والتنمية ، ليس فقط لأنهم يثيرون أسئلة مشككة أو محرجة في نظر البعض ، وإنما أيضاً لأنهم أقرب للديمقراطية وأقرب للوصول إلى إيمان حقيقي بالمقارنة مع المتعصبين دينياً . إذ يحتاج المتعصبون دينياً الوصول لمرحلة الشك والقبول بالحوار والنقاش أولاً حتى يصلوا لمرحلة العلمانيين المؤمنين والفاعلين . والإثنان معاً ( ملحدين ومتعصبين دينياً ) يشكلان رصيداً لحساب العلمانية يختلف من حيث الدرجة لا من حيث النوع ـ حسب تعبير الأستاذ محمود محمد طه ـ بحسبان أنهم من نوعٍ واحد يتميز بنشاط وحركية عالية مقارنةً بالمؤمنين من العلمانيين السلبيين . أما الذين حققوا عملية الإنتقال هذه مسبقاً وصاروا علمانيين مؤمنين وفاعلين فهم بلا شك يمثلون رأس قطار هذه المرحلة . وفي سياق متصل فإن اتفاق القاهرة الأخير ( 16 يناير 2005 م ) بين الحكومة والتجمع الوطني الديمقراطي تشوبه عيوب رئيسية في عدم تغطية ثغرات اتفاق نيفاشا التي شخصها التجمع والقوى السياسية الأخرى ، بجانب ضعف ضماناته وعدم تفصيله لقضايا في غاية الأهمية . المهم هنا عدم ارتقاء اتفاق القاهرة لما أقره التجمع في مؤتمر القضايا المصيرية ـ على علاته ـ فيما يختص بعلاقة الدين بالدولة . بالرغم من أن الإتفاق على علمانية الدولة يعزز بشكل مباشر السير بخطوات واثقة تجاه وحدة السودان ، ولا يتعارض مع طرح الحركة الشعبية والقوى الجنوبية الأخرى ( والعديد من القوى الشمالية ) في هذا الشأن . ورغم كل ذلك يظل التجمع الوطني الديمقراطي مع / أو بشرط تطويره وتوسيعه وتنشيطه ، الصيغة المثلى للمعارضة حتى الآن . ملامح مبادرة التجديد الديني مع سابق الإصرار والتأكيد على ان الفقه الميسر بقرائن ( يسروا ولا تعسروا ) ، ( ولا تنسوا نصيبكم من الحياة الدنيا ) ، ( .. المؤمن لايكذب ) .. هو الأقرب لصحيح الدين من المفاهيم العكسية الرائجة . فلا شك أن الرؤية الصحيحة للتداخلات بين الديني والدنيوي والعلاقة بين الدولة من جهة وبين المجتمع ووعيه الجمعي والفرد ووعيه الذاتي من جهةٍ أخرى إنما تكمن في استحضار كل من الفرد أو المجتمع رؤيتهما أو موقفهما أو سلوكهما تجاه الدين أو الدولة أو العلاقة بينهما في إطار العلمانية ( العلمية ) التي تفصل بين الدين والدولة ، وتضع مصالح الناس جميعاً نصب عينيها .. لأن أصول الفقه الأقرب لروح وجوهر الإسلام هي أصول الفقه ( المتطورة ) المحكومة بالعلمية ومصالح الناس ، خاصةً فيما يتعلق بشئون الدنيا والمعاملات ، فتضبط العلمية مصالح الناس ـ في إطلاقها ـ التي هي مقصد الشارع الأعظم ، ويعمل الفصل بين الدين والدولة على إشباع الإحتياجات المتمايزة لكل منهما رغم تأثير الدين على مستوى الفرد والمجتمع على الدولة والتطور الدائم في مستوى العلاقة بين الدين والدولة حسب مستوى الوعي والعلم . والدوقمائيين ( المتحجرين ) مهما كان وزنهم ، أعجز من إقناع غالبية الجماهير بأن الإسلام ـ أو أي دين آخر ـ يقف بالضد من مصالح الناس وبالضد من العلمية . وثمة تجربة للإسلامويين لا زالت شاخصة ، حيث ليس من رأى كمن عاش التجربة من الجماهير . لذلك فإن تواثق وتوحد الغالبية المعارضة على خطاب ديني مستنير يجمع بين طموحات الجماهير والتجديد الديني ، قادر في حد ذاته على إنزال هزيمةٍ ساحقةٍ بالإسلامويين ورموزهم . فإن كان لا يمكن البتة أن تطلب من الوزير أن يترك رؤيته الدينية ـ أمانات ـ لدى سكرتيرته ، ريثما ينتهي من تصريف مهام وظيفته وواجباته تجاه مواطنيه بدياناتهم المختلفة ؛ فالمطلوب على الصعيد الديني أولاً هو : رؤية دينية راقية ( مستنيرة ) لمسائل الدين والدولة والعلاقة بينهما إذ لا شك من ورود التأثير المتبادل لكل منهما ( الدين والدولة ) على الآخر . ويمكن التمثيل لذلك بالعلاقة بين النفس والجسد . فالمرض النفسي قد يؤثر على الجسد ويتحول إلى مرض نفسي / عضوي . كما يمكن للمرض العضوي ان يحدث مرضاً نفسياً ، برغم الفصل ( العلمي ) بين النفس والجسد في إطار التكامل الداخلي ( العلمي ) بينهما ؛ والإحتياجات والإشباعات المتمايزة لكل منهما عن الآخر . الوعي بهذا التكامل يمنع تحول مشاكل الحياة إلى مشاكل نفسية أو ( نفسية / عضوية ) أو العكس . والوعي بأن المرض العضوي ( المحدد ) له أساس نفسي ، هو أول خطوة صحيحة في اتجاه علاج المرض ( النفسي / العضوي ) . ويبشر هذا الفهم بميزة خصوصية الدين كمسألةٍ شخصية يتقرب بها الشخص إلى ربه عبر طريقة الأذكار والأوراد أو طريقة السلف وأهل السنة والجماعة .. إلخ ، دون أن يتعرض له أحد أو يجرح في عقيدته طالما لم يتضرر من عبادته أحد . وهكذا فالفصل العلماني ( العلمي ) بين النفس والجسد ( الدين والدولة ) هو لخدمة أغراض ومصالح كل منهما ، بينما الخلط بين الدين والدولة يسئ إليهما معاً . والإلتزام بالوسائل والآليات الملائمة يجعل الفصل ( العلمي ) بين الدين والدولة ممكناً . فهو في النهاية نتاج العلم والوعي ، ونتاج مراكمة الخبرات والتجارب الإنسانية لذلك فإن ديدنه هو التدرج وبيئته الملائمة هي الديمقراطية . ولا يعني ذلك بأي حالٍ من الأحوال عدم النص في صلب الدستور ومتفرعاته من القوانين على الفصل ( العلمي ) بين الدين والدولة ، بل يعني أن بلوغ التطبيق العملي غاياته في الواقع يتناسب حسب قانون الطفو والإزاحة ( وصولاً لدرجة التوازن ) مع درجة تطور العلم والوعي على مستوى الفرد والمجتمع . بما يعنيه من حضور ذلك عملياً في شكل علاقة الإنفصال والتكامل ( العلميان ) ما بين الدين والدولة .. بعبارةٍ أخرى فإن درجة تطور العلم والوعي تحدد مستوى الفصل الحقيقي بين الدين والدولة على أرض الواقع . هذه المبادرة تستهدف بشكل مباشر تطوير أصول الفقه وجانب القيم والتقاليد في الدين الإسلامي لأسباب متعددة .. أبرزها التفصيل في فقه العبادات في مقابل عموميات فقه المعاملات ( ومنها القيم والتقاليد ) المفتوحة على سنة التطور ، بما يؤكد سمة خصوصية العبادات ( كشأن شخصي ) التي تعززها التعارضات في تفاصيل فقه العبادات مما يجب أن لا يتأذى منه الآخرون بالضرورة . بالإضافة إلى تأثيرات أصول الفقه على مسائل تطوير الفقه بشكل مباشر ومسائل التنوير والتحديث والتنمية المستدامة على وجه الخصوص . فبما يناقض الصورة سيئة السمعة التي قدمها الإسلامويون في السودان للإسلام ، من أن ليس في الإسلام ديمقراطية وإنما شورى غير ملزمة ولا محاسبة فيها لولي الأمر ؛ الذي تجب طاعته وإن استخدم الإسلام فزاعةً وشماعةً للقمع والإرهاب ، والنهب وتخريب الإقتصاد ، تحت شعار ( الإسلام دين ودولة ) ..إلخ ؛ لم يحدد الإسلام في الواقع نظاماً لإدارة الدولة وإنما مبادئ عامة يمكن بموجبها القول بأن بالإسلام حقوق إنسان وديمقراطية . بينما ظهر الإسلام في عهد الإسلامويين كأنه هو نفسه طغيانهم ومفاسدهم . الأمر الذي أبرز حالات ردة عن الإسلام وحالات تشدد ديني لم يعرف لهما السودانيين مثيلاً .. على الرغم من محدثات إيجابية تاريخية معروفة وقيام الصحابة من الخلفاء الراشدين ـ وغيرهم من الصحابة ـ بمستحدثات لم تكن معروفةً من قبلهم مثل إيقاف إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبهم من الزكاة وإتخاذ الوزارات وتعيين القضاة وتحريم المتعة وجمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات وتهديد شهود الزور .. إلخ . الأمور التي لا يمكن تفسيرها إلا في إطار العلمية ومصالح الناس حسب الزمان والمكان المعنيين . أذكر هنا توجيه الحديث النبوي في معنى أنتم أدرى أو أعلم بأمور دنياكم وبعض جوانب الفقه ( القديم ) المضيئة التي تقول بدفع الضرر وأن المشقة تجلب التيسير على أساس تقديم المصالح على النصوص . إلا أن ظاهرة النفور من العمل السياسي العام ( الطارئة ) بسلبياتها ومسبباتها المتنوعة ، على العكس من طبيعة السودانيين الميالة للعمل العام كما تظهر في صورة النفير الشعبي والمساهمة التكافلية ( في دفع حق الكشف في الأفراح والأتراح ) مثلاً ، إنما تأخذ طابع الركود وطاقة إستمرارية النفور من العمل السياسي من عدم وجود فقه مستنير في مواجهة الفقه الإسلاموي المتخلف ومايخلقه ذلك من تجاذب وتنازع عقلي ونفسي يفضي إلى الركود في أوساط غالبية الجماهير ، علاوةً على تأثيرات فشل الديمقراطيات السابقة وتأثيرات الشمولية الراهنة . وعكس المتصور ، فإن فترات الديكتاتوريات الطويلة تخصم من رصيد الوعي السياسي العام في أوساط الجماهير. دون إغفال الإشارة إلى أن التحسن النسبي في الظروف والأوضاع الأخرى ، خاصةً الظروف والأوضاع المعيشية والإقتصادية ، يزيد من معدل ممارسة العمل العام ـ بشكل إيجابي ـ كماً وكيفاً . البديهي أنه إذا كان الدين لا يتناقض مع مفاهيم وتطبيقات التنوير والتحديث والتنمية ، فمن الواجب تقديم فقه مغاير لفقه الكوارث الذي قادنا إلى الخراب والفقر وتهتك النسيج الإجتماعي والوطني وإحتمالات تفكيك البلاد والكيان السوداني الواحد . بالتأكيد إن التجديد الديني المقترح يقف بالضد من مبدأ التقية الذي استخدمه الإسلامويون في تمرير إنقلابهم داخلياً وخارجياً ، كما يقف أيضاً بالضد من مفاهيمهم لمسألة التمكين ( الذين إن مكنا لهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ..) بتطبيقاتها وعلاتها الباهظة التكلفة .. المدخل لذلك هو تطوير أصول الفقه عبر تحكيم العلمية ومصالح الناس .. وبطرح أسئلة مباشرة من نوع كيف يقف الإسلام مع العلمية ومصالح الناس ؟ بدلاً من أسئلة استدراجية ذات أجوبة جاهزة ومبتسرة من نوع هل يقف الإسلام بالضد من العلمية ومصالح الناس؟ في البداية لابد من عرض يوضح كيف نشأ علم أصول الفقه وطبيعة الظروف التي حكمت تطوره ، إذ لا شك أن أسباب النشأة وطبيعة الظروف المحيطة قد ألقت بظلالها على علم أصول الفقه ؛ لأن علم أصول الفقه قد سبقت نشأته مساجلات ومناظرات شتى بين علماء الدين ، أخذت مادتها من تمدد الرقعة الجغرافية للإسلام بمكوناتها الثقافية المتعددة ومستجدات القضايا المطروحة في القرنين الثاني والثالث بالتقويم الهجري ، لذا تميز هذا العلم بالسمات الرئيسية التالية : 1) غلبة الميل إلى آليتي ( التحليل والتحريم ) في استنباط الأحكام ، ليس فقط بسبب الإحتياج ـ المفهوم ـ لتبيين ذلك للمسلمين لتثبيت قواعد المرحلة الجديدة وإنما أيضاً بسبب انبهار واستعداد البشرية للقبول بالإسلام وبالأحكام القطعية ـ شبه القانونية ـ في ظل الأوضاع المتردية السائدة عالمياً حينها . لذلك جنح الفقهاء إلى فقه الحلال والحرام بأكثر مما انشغلوا بتجويد منهج علمي يتوصل به إلى الأحكام . ولأن هكذا نزعة تغذي بعضها عملياً ، فإن نتيجتها عدداً من درجات الحلالات والحرامات المتعارضة التي شكلت جذور الصراعات اللاحقة . لا شك أن بدايات هذا الصراع قد برزت في أوضح صورة أثناء النزاع بين المسلمين الأوائل على السلطة حين وقف بعض المسلمين إلى جانب الصحابي علي بن أبي طالب ، بينما وقف بعضهم الآخر إلى جانب الصحابي معاوية بن أبي سفيان وسالت دماء المسلمين من الجانبين في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام . 2) شيوع التزيد والتشدد بسبب الصراع على السلطة والثروة وطبيعة البنية الفوقية السائدة ، ساعد لاحقاً على ظهور مسألة وضع الأحاديث في تلك المرحلة ، في إطار تقديرات لرد الناس لطريقٍ واحدٍ محدد بسبب طبيعة جو الجدال والحوار السائد الذي سعى فيه المتناظرين من أصحاب المذاهب المختلفة إلى تقوية حججهم حيث استخدموا علم الكلام والمنطق والبلاغة وغيرها من العلوم المعروفة لديهم لدحض حجة خصومهم . ويبدو التعويل على الدليل الشرعي في ( الإجماع / المتعذر ) الذي لايمكن انعقاده من جانب أهل الحديث ، في مقابل القياس والإستحسان .. إلخ من جانب أهل الرأي ، دليلاً شاخصاً على نزعة وطبيعة التشدد والتزيد من جانب وشيوعه والعمل به من جانبٍ آخر . وقد كان الصراع في ذروته بين أهل الرأي وأهل الحديث حول الثقة في بعض أنواع الأحاديث . ولما لم تكن الأمور دائماً بهذه السهولة ، فقد اضطروا أحياناً إلى القول بأن من يقول كذا أو كذا فقد كفر أو خرج مما هو معلوم من الدين بالضرورة .. إلخ . 3) ضعف الحصيلة مقارنةً بما يمكن الوصول له اليوم ، خاصةً في مسائل الرق وفقه الجهاد والزكاة وحرية المرأة .. إلخ . وهذا لايقلل من جهود الفقهاء السابقين ، بقدر ما يقرر ويعزز السير نحو تطوير علم أصول الفقه القديم ، بقراءته وإعادة كتابته على ضوء المنجزات الحديثة في كافة مجالات العلوم إذ أن ما وصل له الفقهاء ـ حينها ـ كان محكوماً بما وصلت إليه البشرية من علمٍ ووعي في ذلك الزمان . لا شك أن العلم والوعي بمصالح الناس هو الذي دفع بعض الإسلاميين إلى القول بتحريم الرق وتشريط الجهاد وإمكانية ولاية المرأة لبعض الشأن العام . لكن الذي ينتقص من فقههم هذا إنما هو ما يتراءى لهم من خيالات الاستحلال والاستحرام في أصول الفقه القديم ومكاسب النظام الأبوي . بالإضافة لعدم ارتكاز فقههم على معايير ( حاكمة ) يمكن إدراج أبواب أخرى مثل الدين والدولة والعلاقة بينهما ( على سبيل المثال ) في إطارها الضابط . المؤكد أن التشدد إيماناً وإلحاداً ينطلق من عقلية ونفسية الأزمة الداهمة ، حيث تكمن هنا جذور عجزه عن التعامل العلمي والواعي مع ما يواجهه من مشاكل . لذلك فإن قابلية المواطن السوداني للتجاوب مع الشعارات السياسية / الدينية إنما تستند بشكل ٍ مباشرٍ على غياب الديمقراطية السياسية والاجتماعية ، كبيئةٍ ملائمةٍ لشيوع هكذا نزوع ، يستحضر في وعيه أو لا وعيه فشل الديمقراطيات السابقة . وبما أن الشارع الأعظم ( الله ) قد قصد من التشريع تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفيرحاجياتهم وتحسينياتهم ، وهي بلا شك مصالح تتغير حسب الزمان والمكان وحسب ما بلغه الناس من علم ٍ ووعي ، فقد أكدت نصوص القرآن والسنة بعبارات وتعابير وأساليب متنوعة على الأخذ بالوعي والعلمية في تناول شؤون الدين والدنيا . ولما كان المطلوب تحقيق مصالح الناس ، فإن اختيار المدخل الملائم لتحقيق هذه المصالح وضبطها بحيث لا يتضرر منها أحد مهم للغاية حيث لا يوجد ـ في تقديري ـ أنسب من الإجماع ( مطوراً ) كمدخل لتحقيق هذه المصالح ، فيصبح الإجماع ( حينئذٍ ) هو الديمقراطية بمفاهيمها وتطبيقاتها الحديثة المعروفة . من جانبٍ آخر فإن العلم هو الوسيلة الأنسب لتحديد وضبط ما يمثل مصالح الناس . النتيجة أن مصالح الناس ( في الدين والدنيا ) إنما تمثلها العلمية التي تفصل بين الدين والدولة بحسب إحتياجاتهم وإشباعاتهم المتمايزة ولا يمثلها الخلط الذي أساء لهما معاً . ورغم قولي بأن التجديد في الفقه وأصوله بناءاً على معياري العلمية ومصالح الناس ( الحاكمان ) يشمل جانب المعاملات ، فإن إمكانية رد بعض جوانب العبادات لأسباب علمية ـ كالصيام ـ بجانب أسبابها التعبدية الأخرى ، إنما يؤكد الإمكانيات الواسعة لمساهمة معياري العلمية ومصالح الناس ( الحاكمان ) في خدمة الدين والدنيا . بهذا الفهم فإن مصالح الناس تندرج تحت باب العلمية . فالعلم هو الأصل وهو ما يحاسب الناس بموجبه ، بينما الفرع هو مصالح الناس المتغيرة دوماً . وهكذا يمكنني أن أقول :- أولاً / المقصد العام للشارع الأكبر ( الله ) هو تحقيق مصالح الناس وكفالة حقوقهم من ضروريات وحاجيات وتحسينيات مثلما تبين كتب أصول الفقه وهو قد دعا في أكثر من مناسبة وبأساليب وتعابير وعبارات متنوعة لإستخدام العلمية في تناول شئون الدين والدنيا ، ولأن المصالح تتغيرحسب الزمان والمكان وحسب تطور العلم ووعي الناس فيجب ضبط مصالح الناس ـ مقصد الشارع ـ بالعلمية . وضبط مصالح الناس بمعيار العلمية يمنع طغيان الناس على بعضهم ويكفل استدامة التطوير والتنمية . في الواقع فإن تكريس الثروة في يد فئةٍ قليلة بينما الغالبية ترزح تحت خط الفقر ، يؤدي بالنتيجة إلى تزايد معدلات التضخم الإقتصادي . كما يؤدي تطاول أمد التضخم الإقتصادي إلى مايعرف بالكساد الإقتصادي وهروب رؤوس الأموال ( خاصة الفئة القليلة ) إلى الخارج بحثاً عن استثمارات تدر أرباحاً وتمنع تآكل رؤوس أموالهم مما لا شك في تعارضه مع مصالح الناس منهجاً وتطبيقاً . ثانياً / هنالك ضرورة حقيقية لإعادة قراءة وكتابة علم أصول الفقه وعلم الفقه بمنهج علمي شامل يستفيد من معطيات العلوم ومناهج البحث العلمي الحديث . حيث يمكن اعتماداً على معياري العلمية ومصالح الناس ( الحاكمان ) فض التعارض الظاهري بين الدين من جهة والعلم ومصالح الناس في التنوير والتحديث والتنمية من جهةٍ أخرى . وفي هذا الإطار يمكن إضافة العلمية ومصالح الناس إلى أدلة الأحكام في القرآن والسنة والإجماع والقياس ، كما يمكن استخدامهما ( كمعايير حاكمة ) في تطوير كل من علم أصول الفقه وعلم الفقه . فالذي اعتمدت عليه أصول الفقه قديماً في الأدلة والأحكام الشرعية والقواعد الأصولية واللغوية ، بما في ذلك شروط أهلية الإجتهاد ـ القديمة ـ في العلم باللغة العربية والقرآن والسنة ووجوه القياس ؛ أصبحت غير كافية لتلبية متطلبات هذا العصر . فمع شروط أهلية الإجتهاد القديمة ، فإن الشروط العصرية ( في المعرفة بمبادئ العلوم الإنسانية والطبيعية واستخدامات الكومبيوتر والإنترنت لأغراض البحث العلمي ، بالإضافة لإجادة لغة أجنبية عالمية تجعل الإتصال ممكناً مع غالبية المسلمين الذين لا يحسنون اللغة العربية ) ، هي شروط في نفس أهمية الشروط القديمة . بل هي شروط تكتمل بها الشروط القديمة لتصل إلى عدم تعارض الفقه مع عمليات التنوير والتحديث والتنمية .. كما أنها تفتح الطريق أمام التعامل العقلاني مع التطورات العالمية العاصفة ، وفهم التعارض الظاهري بين نصوص القرآن ، حسب درجة العلمية والوعي والتعبير عن مصالح الناس في المكان والزمان المعنيين . ولا مخرج سوى فتح باب الإجتهاد واسعاً وتطويرأصول الفقه وشروط أهلية الإجتهاد ، على العكس من رؤية بعض السلفيين التي تضيق ماوسع من أمر الدين لأسباب تتعلق بضيق الأفق أو خدمة المصالح الدنيوية والسياسية الضيقة لفئةٍ أو لأخرى . ثالثاً / تطوير الإجماع بحيث لا يكون هو إجماع علماء المسلمين مثلما ورد في أصول الفقه القديمة ، بل يكون هو إجماع كل المسلمين ( فلا كهنوت في الإسلام ) في أصول الفقه المتطورة . ويصبح بذلك الإجماع ـ مطوراً ـ هو الديمقراطية بمعانيها الحديثة المعروفة التي تعبر عن مصالح الناس كمقصدٍ للشارع وكمعيار ( حاكم ) في نفس الوقت . وفي ذلك إعمال لمعيار العلمية في تحديد أنسب الوسائل للوصول إلى مصالح الناس ، كما فيه اتفاق مع مقصد الشارع في مصالح الناس في الديمقراطية وغيرها . في مقابل إنعدام الديمقراطية الذي يؤدي إلى ضياع حقوق الوطن والمواطن ويهدد وحدة ووجود وإستقلال البلاد . رابعاً / تطوير مفهوم العلمانية ليعني العلمية . إذ أن نسبة العلمانية إلى العالم وليس العلم يستبطن بوعيٍ أو بدونه فكرة نفي الدين عن العالم ( الدنيا ) ؛ وكأن الدين غير موجود أصلاً بالدنيا ولا يمارس تأثيراً على حياة الناس الإجتماعية والسياسية من خلال طبيعة فهمهم له . فالشائع الذي يقول بفصل مطلق بين الدين والدولة مفهوم غير علمي كما أسلفت ، كما سقط تاريخياً بسقوط دولة الإتحاد السوفيتي . ولا تقوم العلمانية الليبرالية في أوربا وأمريكا على نفس معاني وتطبيقات العلمانية في الإتحاد السوفيتي ( السابق ) ، وإنما هي أقرب لمعاني عدم إقحام الدين بشكل مباشر في السياسة . والمفهوم ( العلمي ) الذي يلبي إحتياجات الواقع ( ديناً ودنيا ) يقول بالفصل من حيث الإحتياجات والإشباعات المتمايزة ، والتكامل العلمي بين الدين والدولة الذي يتطور بتطور العلم والوعي ، ويأخذ مداه الحقيقي على أرض الواقع بناءاً على مستوى العلم والوعي الحادث فعلاً . وسائل تحقيق المبادرة 1/ الديمقراطية : للديمقراطية بأبعادها السياسية والإجتماعية تأثير إيجابي في كسر حدة التطرف الأصولي (الإيماني والإلحادي ) . وتلك مسألة طبيعية فالإنسان الذي تتوفر له إحتياجاته في الحرية وضروريات حياته هو أكثر توازناً من الإنسان المكبوت الذي يعاني ضنك الحياة . وهكذا فمن حيث لا يتصور البعض تدعم الديمقراطية بجوانبها السياسية والإقتصادية مسألة العلمانية ( العلمية ) والفصل ( العلمي ) بين الدين والدولة ، من باب مساهمتها في إحداث التوازن الإجتماعي على عدة مستويات . وليست الديمقراطية بهذا الفهم وسيلةً فقط وإنما هي مدخل اساسي لحلحلة كافة الإشكاليات . فديمقراطية الإعلام لها من الإعتبار ما لديمقراطية توزيع السلطة والثروة من إعتبار ، بينما ديمقراطية وإنسانية التربية داخل الأسرة والمجتمع ذات دور أساسي في بناء الفرد والمجتمع الديمقراطي ، والقيم والتقاليد الديمقراطية والإنسانية ( ففاقد الشئ لا يعطيه ) . 2/ التربية والتعليم : لا يبدو أن الجدل بين أولوية التربية على التعليم أو العكس قد تم حسمه . المؤكد هو استمرارية الإنسان في التعلم وتطوير قيمه وتقاليده ، وتكامل ذلك على مستوى الممارسة لكل من القيم والتقاليد والمعرفة المكتسبة . ولما كان التكامل بين الدين والدولة في إطار الإنفصال قائم في مستواه الواقعي والتطبيقي على أساس مستوى العلم والوعي الذي بلغه الفرد والمجتمع وقدرته على تمثيله . فإن للمناخ الديمقراطي في المؤسسات التعليمية والمناهج التعليمية التي تكرس روح النقد والبحث العلمي ، دوراً مركزياً في ترسيخ العلمانية والفصل والتكامل ( العلميان ) ما بين الدين والدولة . فموظفي الدولة هم الذين تخرجوا في مؤسسات التعليم العامة والخاصة . بينما تشتغل مناهج الحفظ والحشو والتلقين بآلية معاكسة لفكرة الفصل ـ العلمي ـ بين الدين والدولة . 3/ الإعلام : إعطاء الآخر ( المختلف ) فرصة طرح رؤيته في شتى المواضيع يمثل أساس ديمقراطية الإعلام . كما يلعب الإعلام دوراً تعليمياً وتعبوياً لا شك فيه . وتلعب الأغنية العاطفية والدراما وغيرها من البرامج الترفيهية ، دوراً تعليمياً وتعبوياً مماثلاً برغم عدم مباشرتها . وهو دور قد يتفوق على دور البرامج العلمية المتخصصة من حيث التأثير المباشر على غالبية الجماهير التي لا تستسيغ الطرح الجاف والمتخصص . لذلك ومثل أي أفكار أخرى يمكن استخدام الإعلام للتبشير والعمل على تجديد أصول الفقه والفقه عبر ربطه بمطلوبات التنوير والتحديث والتنمية . الآليات 1/ كسر احتكار الدين من قبل الإسلامويين بإنشاء مكاتب متخصصة في منظمات المجتمع المدني السياسية وغير السياسية ، تبحث في مجالات علاقة الدين بمسائل التنوير والتحديث والتنمية . 2/ إتخاذ عدد من الإجراءات والتدابير التي تمنع الإسلامويين من تكفير الآخرين ومحاولة منعهم من التفكير عبر تحالف وتواثق سياسي يجيز الآتي : أ) من حق أي فرد أو مؤسسة قول مايراه بشأن الدين بأي وسيلة من وسائل التعبير المعروفة . ومن حق الآخرين الرد عليه في إطار التزام الجميع بأدب الخطاب السياسي وعدم التجريح والإساءة الشخصية . ب) الإعتداء المادي أو المعنوي على أي فرد أو أي مؤسسة أو أي مادة للمتواثقين سياسياً يعتبر اعتداءاً مباشراً على جميع المتواثقين . ج) من حق المتواثقين الذين حدث أي نوع من أنواع الإعتداء المادي أو المعنوي عليهم الرد على الإعتداء بما يرونه مناسباً في إطار القانون . 3/ خلق نهضة ثقافية تناقش مشاكل الواقع السوداني وعلى رأسه إشكاليات علاقة الدين بالدولة منذ فجر الممالك السودانية قبل وبعد ميلاد المسيح . بالإضافة لإشكاليات علاقة الدين بالدولة في عصر الدولة الإسلامية عموماً ، بتركيز خاص على علاقة الدين بالدولة في التجارب الإسلامية الحديثة في السعودية وإيران والسودان وأفغانستان . والمقارنة بين التطور التاريخي لطبيعة علاقة الدين بالدولة في المجتمعات المسيحية في فترة الممالك النوبية السودانية وفترة الممالك الإسلامية السودانية . 4/ إثارة النقاش حول علاقة المنفعة التبادلية بين أوضاع الديمقراطية السياسية والإجتماعية والتربية والتعليم والإعلام ، والفصل العلمي بين الدين والدولة ، وتحويل غالبية المسلمين من حالة المؤمنين السلبيين إلى حالة المؤمنين الإيجابيين من جهة ، وبين تطلعات وطموحات الجماهير في ضروريات الحياة والعلاج والتعليم والتنمية والرفاه الإجتماعي من جهةٍ أخرى . إذ يكفل ذلك الربط ( التلازمي ) تمهيد طريق التنمية ، وضمان استدامتها عبر قطع الطريق أمام مغامرات المتطرفين من حيثما جاءوا . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضبط المصطلحات : ( 1 ) العلمية : تعني المناهج والموقف العقلي والمبادئ أو أساليب التعبير التي يختص بها أو يعتقد بأنها من مميزات العلماء . ( 2 ) مصالح الناس : المقصود بها الإطار العام للأمور الضرورية والحاجية والتحسينية لكافة البشر كما تنص عليها كتب أصول الفقه . ( 3 ) الإسلامويين : هم من يدعون أنهم يمثلون صحيح الدين الإسلامي ويعملون على تكفير الآخرين أو الحط من درجة إسلامهم لمجرد اختلافهم معهم في الرأي الديني أو الدنيوي أو الموقف من الدين .