قبل أيام قليلة ودع الكنديون موسما شتويا طويلا إتسم بكمية من الجليد والثلوج لا عهد لهم بها منذ زمن ، والآن إنتقلت كندا إلى موسم الصيف ، ومع بداية الأسبوع الماضي إضطربت أحوال الناس بسبب موجة من الحر كانت مزعجة ومخيفة كما حر السودان وشمسه اللافحة ، ولسوء حظي لم أكن مستعدا بأجهزة التكييف اللازمة ، فنمت تلك الليلة نوما متقطعا وصحوت مبكرا ، واتجهت إلى الكومبيوتر كي أشغل نفسي بشيء يسليني في الإنترنت أو أجد خبرا مفرحا في زمن أخبار الكوارث والمجاعات والموت ، كنت أتنفس بصعوبة بالغة وجسمي يبلله العرق من أخمص قدمي إلى شعر رأسي ، كنت أختنق ، ومع هذا الجو الكالح القاتم الموحش - " وحاشة " كندا وكل بلاد المهجر - طالعت أخبار السودان وقرأت خبرا قتل فيني الأمل الوحيد المتبقي لكي أقاوم ذلك الحر المخيف .
" رحيل الفنان المسرحي الفاضل سعيد "
أبكيك يا كرتوب يا قدر مكتوب
قرأت الخبر ولم أشغل نفسي بالتفاصيل ، فقد إنتابتني رعشة مثل شهقة الموت ، ومضت ثواني معدودة كنت فيها كالمصلوب على جذع شجرة ، وشرعت أجهش بالبكاء حتى كادت شراييني أن تنفجر ....
عدت مرة أخرى لتفاصيل الخير " رحل الفاضل سعيد نتيجة إنفجار القرحة بينما كان يعرض مسرحيته " حسكنيت " على مسرح تاجوج بمدينة بورتسودان .
لله درك يا فاضل يا سعيد ، أتموت وأنت تمثل ؟أترحل عن دنيانا وتضع أصابعك في عيوننا وتقول لنا بمليء الفم " طظ " أموت مسرحيا كما شقيت كوميديا ، أترحل عنا في هذا الزمن الباكي ؟ ونحن أكثر حاجة لك يا غالي ؟ قسما عظما أبكيك كل العمر يا كرتوب يا قدر مكتوب ، هل تعلم يا صديقي وأستاذي أن أجمل ما في رحيلك - إذا كان هناك ثمة جمال في الرحيل - هو أنك فارقتنا وأنت تعرض فنك الجميل ليس في الخرطوم وأم درمان بل في كل مكان من حلفا ونمولي والجنينة إلى بورتسودان ، أترحل عنا بينما الضحك في المسرح ينهمر وجسمك النحيل الوديع بالقرحة ينفجر ؟
لكنك لم ترحل !!!! فأنت قدرنا وقمرنا ، إنت المبكينا والمضحكنا ، إنت فارس مسرحنا وإذاعتنا وتلفزيونا ، لم ترحل لأنك رفضت الظلم والضيم من خلال شخصيتك الرائعة بت قضيم ، لم ترحل يا العجب أمو وعهدا نقطعه لك تراثك كلو نلمو !!
شهادة للتاريخ
دعني أولا أخاطب أصدقائي وأقراني وأساتذتي وطلابي معتذرا لهم عن ما أصابك مني من جراحات بغير وعي مني ، فقد كنت أصغر منك سنا ، و شتمت مسرحك وهاجمتك مرارا وتكرارا ، ولكنك تذكر عندما إلتقينا في القاهرة أوائل التسعينات في اللقاء المسرحي الذي أقامه المركز الإعلامي السوداني ، حينها وقفت وبكل شجاعة وقلت " الفاضل سعيد ثروة قومية وفنان مسرحي كوميدي من الدرجة الأولى ولا يسعني في هذه اللحظة إلا أن أمد له يدي معتذرا " وعندما سالت دموعك وحضنتني بقوة على صدرك الدافيء النبيل لم أملك سوى أن أبكي وهاآنذاك أبكيك للمرة الثانية والثالثة مثلما بكت بنتي مهيرة عندما أشفقت عليّ وأنا أقرأ خبر وفاتك ، فقد سبق وأن حدثتها عنك وعن تلك الذكريات والمواقف التي لم تكن إطلاقا ذات معنى . لست أنت وحدك بل ينبغي أن أمد حبل الإعتذار إلى أولئك الفنانين الأفذاذ الذين قدموا وما يزال بعضهم يقدم عصارة فنه المسرحي ، مثل عثمان حميدة "تور الجر " ، عثمان أحمد حمد " أبو دليبة " ، ومحمود سراج " أبو قبورة " ، وإسماعيل خورشيد ، والفاتح عشمانة ، وأبو العباس محمد طاهر وكل اللذين أضاءوا مسرحنا وحياتنا بكل جميل ورائع .
أنا والمسرح والجمهور
الفاضل سعيد كان فنانا شاملا مثابرا مناضلا بعناد شديد ، مقاتلا صامدا في سبيل رسالته التي آمن بها وعاش بها فقيرا معدما إلا من حب غير عادي للمسرح والإذاعة والتلفزيون ، كان يقول لي : من أنت ؟ حتة ناقد قدر النملة ! وأنا ممثل ولي جمهوري . وما هو المسرح سوى ممثل وجمهور؟ .
وفي عز خصومتنا كنت أعتبره صادقا إلى أقصى حدود الصدق ، وقد قلت ذلك في كتابي الذي نشرته في أواخر السبعينات " المسرح في السودان " والذي أصبح مرجعا للكثيرين من كتاب المسرح ، وكنت قد كتبت كتابا آخر لم ير النور بعنوان " الديمقراطية والمسرح " تحدثت فيه عن جميع النصوص المسرحية التي قدمت على خشبة المسرح القومي بأم درمان ، وأفرزت حيزا مقدرا للمسرح الكوميدي ، بإعتباره سلاحا خطيرا ويجب التعامل معه بكثير من الحذر والوعي ، وكنت أقصد بذلك مسرح الفاضل سعيد ، وعلى الرغم من أنني الآن في كندا ولا أملك نسخة من ذلك المؤلف ولكنني أذكر أنني أفردت فصلا كاملا للفاضل سعيد ككاتب و ممثل ومخرج .
كان الفاضل سعيد على وعي شديد بفن التمثيل والإخراج والديكور والإضاءة والصوت والميكياج والموسيقى والحركة وكان كاتبا كوميديا عبقريا ، ومن غرائب الأمور أنه كان يجيدها جميعا ، وفي إحدى الجلسات بمنزله على طعام الغذاء وقد فاجأني بأنه شاعر وقرأ عليّ أشعاره ، سالته من أين جاء بكل تلك المواهب ؟ قال لي : دي عايزة جلسة طويلة .
تلك الجلسة لم تتم ، كان صراعي قد بدأ مع أجهزة نميري الأمنية والذي إنتهى بفصلي من الخدمة وعدم تعاوني مع جميع الأجهزة الإعلامية من مسرح وإذاعة وتلفزيون وصحافة أيضا ، وبدأت رحلتي مع الغربة بحثا عن سبل كسب العيش .
غربتي الأولى كانت في مصر ، وكانت معظم جلساتي مع صديقي وأستاذي الفنان المسرحي الكبير نبيل الألفي والراحل المقيم كرم مطاوع ، كنا ثلاثتنا " نؤدب الملوخية بالأرانب " بينما كانا يستمعان لي وأنا أتحدث عن المسرح السوداني ، وكان الألفي على دراية بالمسرح السوداني وكان على علاقة خاصة بالفكي عبدالرحمن ،وأكاد أذكركل الحوارات التي كانت تدور حول مسرح الفاضل سعيد ، وكان الفكي مستغربا أنني كنت أشيد بالفاضل سعيد وهو ذات الأمر اللذي تكرر مع كرم والألفي في مصر .
والحديث الآن في حضرة الراحل المقيم الفاضل سعيد ، هذا الإنسان الذي كان يتميز بصفات خلقية وفنية وإجتماعية وفكرية وثقافية يندر أن تتوفر لإنسان في هذا العالم إلا الندرة .
جسم نحيل على وزن الريشة ، أي بنطال مهما كان يسعه ، عينان واسعتان كبيرتان ، ملامح وجه فيها كل ما في الطيبة والسذاجة والعبقرية والموهبة والسخرية والقدرة على الإضحاك لا يمكن أن تتوفر إلا للقلائل في العالم بأسره ، وفوق ذلك قوي جدا ، وطيب جدا ، وذكي جدا وسوداني قح لا يمكن مقارنته بأي سوداني مهما كان .
هل أنا أبالغ ؟ لا
لقد عاشرت الفاضل سعيد سنوات طويلة ، خصومة وصداقة ، ولذلك ينبغي أن أدلي بشهادتي وأنا بعيد عن الوطن ، كان الفارق بيننا واسعا ، حتى الآن أذكر جيدا أول لقاء لي معه ، كان ذلك في العام 1968 ، أي بعد عام واحد من بدء الموسم المسرحي في المسرح القومي بأمدرمان ، وكنت قد ولجت المسرح على غير ما ولجه الآخرون ، كنت قد قرأت - تقريبا كل ما في مكتبة خالي الراحل الفكي عبدالرحمن المليئة بكل أنواع الكتب المسرحية وغيرها - ، وكنت شغوفا بكتب المسرح ، قرأت لكتاب مثل سوفوكليس ، راسين ، شكسبير ، هنريك إبسن ، بيرانديللو ، جان جينيه ، إستانسلافسكي ، أنطون تشيخوف ، كاسونا ، جان أنوي ، جان جينيه ، هارولد بينتر ، آرنست فيشر ، البير كامو ، تينيسي وليامز ، آرثر ميللر ، وول شوينكا ، سعدالله ونوس ، نجيب سرور ، توفيق الحكيم ، نعمان عاشور ، الفريد فرج ، خالد أبوالروس ، إبراهيم العبادي وعشرات العشرات من كتاب المسرح والمخرجين والممثلين ، ولا توجد هناك مسرحية لم أقرأها ، كما قرأت أيضا برتولد بريخت ، وهذا الأخير هو اللذي شغلني بإعتباره مسرحيا فذا كان يرى المسرح فنا راقيا ، وينبغي أن يلعب دورا فاعلا ومؤثرا في حياة الناس ويحرضهم على الثورة ، وضد الظلم والفساد ، مسرح ملحمي تعليمي فكري ثقافي يشع بنور المعرفة والإدراك ، تماما كما كان العبقري نجيب سرور يردد : أرني المسرح في أي بلد أقل لك توع النظام الذي يحكمه .
على هذه الخلفية الفكرية الثقافية كان لقائي الأول مع الفاضل سعيد وجعفر عثمان النصيري وخالد المبارك ود. علي عباس ووالقائمة طويلة ، ولكن لفت إنتباهي بشكل خاص الفاضل سعيد ، منذ أول موسم مسرحي بالمسرح القومي بأمدرمان عام 67- 68 قدم الفاضل سعيد مسرحيته " أكل عيش " من تأليفه وإخراجه وبطولته مع كوكبة من الفنانين الكوميديين البارزين ، صحيح أنها كانت تجميعا لتلك الإسكتشات التي بدأ تقديمها من خلال الإذاعة عام 1955 ، ولفت الأنظار إليه لأنه نافس بقوة مسرحيات في ذات الموسم مثل " المك نمر " تأليف إبراهيم العبادي وإخراج الفكي عبدالرحمن ، و" سنار المحروسة " تأليف وإخراج الطاهر شبيكة ، و" إبليس " تأليف خالد أبو الروس ومن إخراج أحمد عثمان عيسى .
ثم كان الموسم الثاني 68 - 69 وهو موسم المسرحيات العربية والعالمية والذي شهد مسرحيات مثل " على عينك يا تاجر " تأليف بدرالدين هاشم وإخراج الفكي عبدالرحمن " و " مأساة الحلاج " لصلاح عبدالصبور وإخراج عثمان جعفر النصيري ، و " السلطان الحائر " لتوفيق الحكيم وإخراج عوض محمد عوض ، وإذا بالفاضل سعيد يقتحم هذا الموسم بمسرحيته " ما من بلدنا " وهي من تأليفه وإخراجه .
ثم يعود الفاضل سعيد في موسم 71 - 72 ليقدم مسرحيته " النصف الحلو " وأيضا من تأليفه وإخراجه .
ويتفوق الفاضل سعيد في موسم 72 - 73 ويقدم مسرحيته " أبو فانوس " ، تعرض بعدها الفاضل سعيد لأول حالة إنشقاق مسرحي بنشأة فرقة أضواء المسرح من مجموعة من الممثلين هم كانوا عماد فرقة الفاضل سعيد المسرحية .
وفي موسم 76 77 تجيء مسرحية الفاضل سعيد " الحسكنيت " وهي التي رحل فيها عن دنيانا وهو يعرضها لجمهور بورتسودان .
واصل الفاضل سعيد تفوقه فقدم في موسم 77 - 78 مسرحية " نحن كده " ، ولكنه إكتفى في موسم 79 - 80 بإعادة عرض مسرحية " أكل عيش " .
هذه المسرحية كانت المدخل للصراع " الدامي " الذي نشأ بيني وبين الفاضل سعيد ، وكانت أول قطرة في الصراع فجرها عثمان النصيري في مقال له نشر بصفحته بمجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح عندما كان مسؤؤل تحرير صفحة المسر ح عام 1969، إذ كتب يقول " كلما أرى عملا للفاضل سعيد أصاب بالحنق ، فمن جهة لا يمكن الترفع عن الفاضل سعيد وتجاهله مرة واحدة ، ومن جهة أخرى لا يمكن كتابة دراسة نقدية عن أي عمل له ، لأن الدراسة النقدية تستلزم عملا مسرحيا ، باديء ذي بدء الشيء الذي يقوم به الفاضل سعيد له علاقة بالضحك وليس المسرح " .
ثم يختم النصيري قائلا " لا أحد يتردد لحظة في الإعتراف بأن الفاضل سعيد طاقة كوميدية هائلة كممثل ، ولكن أن يذهب الأمر إلى كتابة المسرحيات وإخراجها فهذا كثير جدا "
وحدث أن غادر النصيري إلى لندن في بعثة دراسية وتسلمت صفحة المسرح بمجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح وكانت هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة التى تعنى بشؤون المسر ح وبدأت نشر مقالاتي عن مسرح الفاضل سعيد وآخرين مهاجما بشراسة المسرح الذي وصفته بالإسفاف ومخاطبة الغرائز الجنسية والشخصيات النمطية وخطورة كل ذلك على الإنسان والمسرح والفن عموما .
ثم كان قرار فصلي من الخدمة الذي أشرت إليه سابقا ومغادرتي السودان عام 1975 ، وهي الفترة التي درست فيها المسرح والصحافة بشكل أعمق وكونت صداقات مع كبارالمسرحيين العالميين والعرب ، وعندما عدت للسودان عام 1980 كانت نظرتي للفن والمسرح والحياة عموما قد تغيرت ، وعن الفاضل سعيد قرأت أول ما قرأت ما كتبه د. خالد المبارك في كتابه " حرف ونقطة " فيقول عن مسرحية " أكل عيش " أنها عمل فني متكامل ومتماسك كم فرحت بها ويضيف قائلا " صورت المسرحية المجتمع السوداني ، الناس البسطاء والفقراء والعطالى من ناحية ، وكبار الموظفين وكبار رجال الأعمال من ناحية أخرى ، وهذا أمر يحدث لأول مرة على خشبة المسرح القومي ، إنها مسرحية جديرة بعام 1968 " .
ود. خالد المبارك هو الذي جعلني أعيد قراءة مسرح الفاضل سعيد عندما وصلت إلى هذه الفقرة من كتابه " الفاضل سعيد جذب أيضا جمهور المسرح وكان يعرفه في شخصيتي العجب وبت قضيم ، وهو موهوب ، كون فرقة مسرحية تفرعت منها فرقتان أخريتان على الأقل ، وقد كان أثره قويا بدرجة جعلت حتى المنشقين عنه يواصلون السير في الطريق الذي دربهم عليه ، كما شاهدنا جميعا في مسرحية أولاد مجذوب مثلا في مستشفى الأمراض النفسية يرجع نسبه إلى مسرحية أكل عيش "
وتأسست علاقة جديدة بيني وبين مسرح الفاضل سعيد جعلتني أقول الفاضل سعيد ثروة قومية وفنان مسرحي
كوميدي من الدرجة الأولى .