السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

قراءة في السرد والشعرية عند طارق الطيب .. وبعيدا عن الذاكرة المشتركة... بقلم احمد ضحية

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
6/16/2005 1:12 م

احمد ضحية
[email protected]
قراءة في السرد والشعرية عند طارق الطيب .. وبعيدا عن الذاكرة المشتركة...
السيرة الذاتية - الشعرية والسرد :
ربما يسمع الكثيرون في السودان عن اسم( طارق الطيب) الذي تردد كثيرا في الملفات الثقافية في الصحافة السودانية, كاحد الاسماء الابداعية المشرقة في وسط اوروبا- لكن للاسف لا يتردد الاسم الا اثر حصوله على جائزة في التشكيل او الرواية , كخبر منقول عن وسائط الاعلام العالمية فقط , دون التعرض لتفاصيل عن هذه الشخصية التي ورد عنها الخبر ؟! - , ولذلك نحن مضطرون هنا للاسهاب قليلا, في تعريف القاريء السوداني , بهذا الاسم اللامع , والذي يعتبر مصدر فخر ثقافي للسودان..
طارق الطيّب من أب سوداني من مدينة( كوستي - على النيل الابيض ) وأم من أصول( سودانية) مصرية. الطيب من مواليد القاهرة 1959 (حي باب الشعرية العتيق). عاش طفولته في حيّ عين شمس (مدينة الشمس عند الفراعنة) محل سكن والدته حتى اليوم؛ متنقلاً في الصيف, بين حيّ البيومي في منطقة الحسينية حيث عاشت جدته لأمه، ومنطقة "أبي صقل" (أبو سَجَل) في شمال سيناء, حيث عمل والده في سلاح الحدود, التابع للجيش المصري حتى المعاش والوفاة. ضاع بيت العريش هذا في حرب يونيو1967 ..
تعلم في كتّاب الشيخ علي, بعين شمس. قبل أن يلتحق بمدرسة( الأمام محمد عبده الابتدائية) وبعدها( النهضة الإعدادية) بعين شمس أيضاً، ثم مدرسة ابن خلدون الثانوية بالحلمية. تخرج في عام 1981 في كلية التجارة - جامعة عين شمس- مصر.. ويقول طارق الطيب عن رحلة الخروج من الوطن الام ( السودان ) : " كانت بداية هذا الخروج من الوطن قبل نصف قرن؟ حين خرج هذا الشاب الصغير الطيب (أبي) في أوائل الخمسينات من قلب السودان إلى مصر، ليرى تلك الفتاة الفاتنة, التي سيغادر بسببها كل دنياه السودانية, ليخرج باختياره هو مصحوباً بلعنات الأب (جدّي), لهذا النأي الغادر من الولد الوحيد, الراغب في الزواج من امرأة من نساء الشمال، ليخرج هذا الطيب الشاب, محروماً من المباركة. والميراث الضخم لولدٍ وحيدِ جدّه الميسور, الذي تزوّج ثلاث عشرة مرّة, في عمره الطويل. ثم يتزوّج الطيب الصغير, في القاهرة، في منتصف الخمسينات، زيجة واحدة: هنيئة, موفقة. لينجب من زينب ثلاث بنات وثلاثة أولاد...
لم يكن يعلم هذا الجدّ- الرحّالة الرافض- أن أحفاده ومن سيأتين ويأتون, فيما بعد سيسحبن ويسحبون جذوره, إلى قارات ثلاث أخرى غير أفريقيا. ولم يكن ثمة منفى, في رحيل هذا الشاب الصغير. رغم قسوة قبول فكرته. وحينما طرقت أنا الطارق الجديد, ذات الباب بعد طرْقةِ أبي بثلاثين عامٍ ونيّف (أي قبل عشرين عامٍ تقريبا من اليوم - نحن الآن في عام 2003) لم يُبدِ الرجل أيٍّ تبرُّم، بل على العكس كان مشجّعاً, وأباً لي في الخروج والنأي, إلى رحاب العالم الواسع. وكنت محظوظاً بخروجٍ لا لعنة عليه، وإن كنت فقط أشابه أبي, في الخروج دون أيّ سندٍ من مال..
مهّدتُ الآن لأن أقول: أنني سأكون بالفعل منتحلا صفة المنفيّ, إن وصفت حالي بها؛ فقد خرجت باختياري, وكان يمكنني أن أبقى إن شئت. رأيته قراراً صائباً منـّي وما زلت. أعود أدراجي إن شئت. أو أبقى في منزلي الشمالي الذي أحببت. لا بطولة هنا ولا أسى. لم أترك إلا بعض الحنين, لذكريات في خزائن الزمن. لا علاقة لها بتغيير المكان، وحنيناً لأمكنة, غارت أيضاً مع الزمن. وكثير من رأس مال براءة الطفولة..
صحيح أنني حملت جسدي, ورحلت عن مكان. وما زلت طوال عمري, مسحوباً إليه بحبل سُرّة طويل, مربوط بالمنشأ الأول، وهي حال في رأيي ليست "سيزيفية" جبارة. وليست يأساً. وإنما تنطوي, على اكتشاف وجرأة. ليست ثمة عنتريات ساذجة, في دواعي الرحيل، ربما جرأة بالخروج عن المألوف المُمل الذي قد يصير إلى حال أكثر كآبة, أو يسير في طريق إبداع وخلق، وكل إبداع جرأة وكل خلق خروج عن المألوف...
صرتُ في منأى لا منفى. صرت بعيداً بالجسد. نأيت إلى مكان أردت أن أواصل فيه, ما لم يمكنني هناك مواصلته. كان طموحي متأججا، خفت أن تتشيّط جذوته أو تتشتت أو تذوى؛ فهِمتُ بهذه الجذوة إلى فيينـّا رأساً. لماذا فيينـّا؟ سؤال يتكرر دوماً- يبدو للآخرين كأنني لو سافرت إلى لندن, أو باريس لكان الأمر أكثر فهما.ً أو قبولا لديهم. حتى لا أنزلق لتفسيرات على هذا السؤال الفرعي. الآن. وأخرج من قضبان الموضوع، أعود إلى وصولي إلي فيينـّا ذات شتاء أوروبي صارم, صادم. بحقيبة ثقيلة معبأة بخمسة وعشرين عاماً. ليحدث "شرخ مكان في مغرب الزمن"(1).. وفي معرض رد طارق الطيب على ندى منزلجي ( صحيفة الزمان اللندنية ) حول الكتابة يقول:
" الكتابة إبداع، والإبداع مغامرة الوصول إلى الذروة، الغوص في أعماق لذات الحياة, الدنيا. وسنا خيال الآخرة .. الكتابة بحث عن صلة مع الواقع المخلوقات "بالكتابة". الكتابة هوى الإدراك .. الكتابة متعة. دفق ينسال هنيا، يتكون حرفا فحرفا.. فكلمة, فجملة.. فمعنى فوصولا. أن تمت الحلقة، عادة الكتابة متعة ودفقا ينسال من جديد هنيا. لا أستبعد أن يكون هناك, من يستعذب العذاب. ومن هو مجبر على العذاب. لكني أري دروب الإبداع أوسع.
الكتابة ليست حاجة فهي ليست عوزا، ربما يكون الكاتب معوزا, وهذا وأرد في أغلب الأحيان، أن كانت الكتابة - الحاجة هي مهنة أكل عيش، وسيط ووسيلة، ودربها يختلف, لكننا في عصر أصبح فيه الأمر مخلوطا مغلوطا. ولابد هنا من التفريق بين الكتابة الإبداعية والصحافية، لا لإعلاء واحدة على أخرى، بل لأن الأولى - في رأيي المستمر - هواية، بينما الأخيرة حرفة، فالصحفي يحصل على مقابل لموضوعه ماديا، بينما الأديب، مثلا، يحصل على فرحته وفرحة أهله التي يعتقدها الناشر أو صاحب الجريدة، والذي قد يتبجح أحياناً بأنه يقدمه للجمهور ويقبل بعرض منتجات له مجاناً(2)".. بعد ان تعرفنا على طارق الطيب ومفهومه للكتابة . نستهل هذه القراءة.. بملاحظات عامة حول السرد والشعرية في اعمال طارق الطيب...
حول العالم الشعري والسردي لطارق الطيب:
هذه القراءة ليست لعالم طارق الطيب السردي والشعري, بقدر ما هي قراءة حول هذه الاعمال , وهي عبارة عن النص الكامل للورقة التي قمت بتقديمها في منتدى ورشة الزيتون , احتفاء بحضوره الى القاهرة في العام 2003.. واجد نفسي هنا اخوض غمار مغامرة حقة , بسبب اضطراري لمزيد من الاضافات, على النص الكامل للورقة , ما جعل هذه الاضافات تكاد تضاهي, النص الاصلي الذي قدمته سلفا لضرورات هذا الكتاب ..
وطارق الطيب من مبدعي السودان العالميين الذين , لم تتاح لهم الفرصة لسبب او لاخر, بالبقاء طويلا في السودان- في بواكير سنوات عمرهم- , للتزود بمعين الذاكرة السودانية الملهمة, الغنية بثقافات السودان وعقائده ومناخاته المتباينة - بكل محمولات الحياة الطقسية لاثنياته - , من خلال التجربة الحياتية والواقع الحي المعاش . ومع ذلك ظلت اسهاماته الابداعية, تحاول ان تجوس بعيدا الى الخلف تمند جسور الحنين , لاستكناه تلك الذاكرة التي تبدو ضبابية , وموغلة البعد.. يدفعها الحنين والحنين وحده كما نلاحظ على مجموعتيه " الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء"(3), و" اذكروا محاسن"(4) وروايته " مدن بلا نخيل (5)" .. كتب الروائي الطيب صالح, في مقدمة المجموعة القصصية القصيرة لطارق ( الجمل لا يقف خلف اشارة حمراء ):
" كون طارق الطيب مغتربا فهذه ميزة للكاتب المرهف الحساسية أما أن يكون مغترباً ليس في لندن أو باريس بل في فيينا فهذه في ظني ميزة عظيمة. ذلك أن الأدب العربي, قد عرف كُتاباً تأثروا, بالثقافة الفرنسية. والثقافة الانجلوسكسونية، لكنه لم يعرف إلا نادراً - حسب علمي - كُتاباً تأثروا بالثقافة الألمانية. وهي ثقافة لا تقل ثراء و أهمية..
ومن حسن حظ هذا الكاتب, أنه يستطيع أن يقرأ في أصولها الألمانية, الأعمال الروائية العظيمة لكتاب مثل: توماس مان وهيرمان هسه وقُنتر قراس . ناهيك بالشعراء الكلاسيكيين العمالقة, امثال قوته وشلر. ناهيك بالتراث الألماني الضخم في الفكر والفلسفة...
هذه المؤثرات المتعددة المتباينة، من شانها توسيع إدراك الكاتب, وتذكي جذوة الإبداع لديه. وعلينا أن نتابع أطوار هذا الكاتب الشاب, لنرى كيف ينعكس كل هذا في نتاجه"..
ويقول طارق الطيب في حواراجراه معه الصديق الشاعر عفيف اسماعيل (6) عن كونه سوداني مصري نمساوي" لا أحب كلمة الهوية في هذا المجال. لكني ببساطة ابن لرجل سوداني, وأم سودانية مصرية. عاشا عمرهما كله في القاهرة, حيث جئت للحياة؛ فعشت ربع قرن سعيدا في هذا المكان, ومازلت أتردد عليه باستمرار. حصلت على جواز سفر نمساوي يمثل: "هوية سفر وحرية حركة" وعضوية دائمة في عالم وسط أوروبا. ولا حاجة لي لإثبات الانتماء للأصول؛ ولم تصبح عيوني زرقاء بعد, ولم يشقر شعري...
مشكلة هذه التركيبة ليست عندي, بل عند الآخرين. في النمسا يقول السودانيون: "طارق الطيب سوداني!" فأرد هذا صحيح. ويقول المصريون: "لا، طارق الطيب مصري!" وأقول نعم هذا صحيح. ويخرج عليهم النمساويون بأن طارق الطيب نمساوي فييناوي, وأقول هذا أيضا صحيح. لدي ثلاثة: لن أقول هويات بل رحاب أعيش فيها, فما هي المشكلة. لا أقول هويات. لأن الهويات ضيقة, تنزع إلى الانفصال والعزلة محدودة الأفق..
وهكذا تتضافر مصادر الثقافة والمعرفة الاوروبية , والمصرية بحكم ميلاد ونشأة الكاتب - وترعرعه لاكثر من ربع قرن في مصر- , تتضافر كل هذه العناصر مع ما يحمله حنين الذاكرة السودانية المشتركة , ليخلق ابداع طارق الطيب, في الرواية والقصة والشعر .. ما يجعلنا هنا - على الرغم من اشتغال هذه الورقة في السردي- كما يفترض - مضطرين للتعرض للشعري عند طارق - حيث نتناول تجربته بحذر , فامتلاك القوانين التي يتحرك فيها العالم الروائي في روايته ( مدن بلا نخيل ), شديد التشابك والترابط مع اعماله اشعرية النثرية والقصصية - على الاقل على مستوى اللغة والسرد - وواحدة من الامور التي تلفت الانتباه, احتفاء طارق الطيب في اعماله السردية بالتفاصيل, والتشكيل , والوصف الدقيق دون ان يترك لنا مساحة لاكمال, المشاهد وفقا لتأويلنا , بمعنى مشاركتنا كقراء في انتاج النص ..
تخليصات حس :
لقد درج البعض فى السودان , على اطلاق عبارة :( عصر سيادة الشعر ), على سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى .. لتحتل القصة القصرة و الرواية, هذا الموقع منذ تسعينيات القرن الماضى, وحتى الان. وتاتى المجموعة الشعرية( تخليصات حس ) لدكتور طارق الطيب الان اسهامامقدراينضاف الى الانتاج الشعري الحديث فى السودان .. ولا اقول بهذا التوصيف, لاحدد موقع دكتور طارق كسودانى, او سودانى مصرى. فذلك عندى كالتفتيش فى الاوراق السرية للشاعر..
فالكتابة ايا كان جنسها تنزع للكونية, ولذلك اقول بهذا التوصيف, من موقعى كقارىء, تركت فيه تخليصات حس اثارا حميمة .. وهو يحاول- القاريء - الاقتفاء فى الفاصل بين الشعرى والسردى, بعيدا عن هموم الذاكرة المشتركة, للكتابة الشعرية فى السودان. وقبل كل ذلك اود ان اؤكد على ان( تخليصات حس) ياتى والسودان , لا يزال يغيب عنه مفهوم الوسط الثقافى, كمجال حيوى لتبادل المنتوجات الثقافية والفنية, عبر الوسائل المتعارف عليها- وسائط الاعلام والمؤسسات, التى تسمح بالتفكير الجماعى, وتداول المنتوجات الثقافية, فى وسط كبير لتحديد قيمتها- ربما يفسر ذلك عدم قراءة دكتور طارق الطيب - فى السودان كما شكى لنا قبل قليل - وتحضرنى هنا تجربة التيجانى يوسف بشير, نقلا عن الصديق القاص عبد الحميد البرنس, فالتجانى كانموذج للشاعر الفذ مضى وقت طويل قبل ان تتم قراءته .. يحكى عنه احد الذين كتبوا مذكراتهم مؤخرا, انهم فى حضارة السودان, التى كان يملكها السيد عبد الرحمن المهدى, بينما كانوا يجلسون حضر شاب شديد" الخضرة", يرتدى ثياب وعمامة من الدمورية, فتعامل معه ببرود, وعرف فيما بعد, ان هذا الشخص هو( التيجانى يوسف بشير) فقال بعد ذلك انه اصبح يحقد عليه, وفى معنى تبريره لذلك, ان التيجانى كان يحلق فى سماء, ليس لديهم الاجنحة الكافية للتحليق معه فيها !!!!! .. كان التيجانى يؤمن, ان مصر قد تحتفى به وبعبقريته, عندما ظلمه ذوى القربى. وقد صدقت نبؤة التيجانى فى شهر فبراير2003 , اذ اصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب, ديوان التيجانى( اشراقة ) ضمن سلسلة افاق عربية, وتمت اعادة الاعتبار اليه من الاخوة فى مصر, وبصورة لم تحدث له فى السودان حتى الان !.. ما اود ان اقوله لدكتور طارق بالضبط - في هذه الجلسة الحميمة - ان الافراد المبدعين فى السودان, يجابهون اقدارا ماساوية .. اشياء مفروضة عليهم فرضا, كانها تتحرك عبر ريموت كونترول, وفى ذات الوقت هناك نسبية, فى مواجهة هذه الاقدار من مبدع لاخر .. والاهم من كل هذه المجابهات, ان الكتابة الجادة تظل محفورة فى التاريخ, مهما اهملت. اذ ان وقت قراءتها ياتى يوما ما ! ليكتسب منها الناس معرفة جديدة, وذاك هو حال ديوان التيجانى يوسف بشير( اشراقة )...
إن كتاب (تخلصات حس او ارهاب العين البيضاء ) تحتشد فيه الكثير من الحيوانات والطيور , التي في حالة تواصل مع بعضها البعض و كنت قد اشرت فى مستهل هذه المداخلة للفاصل السحرى بين الشعرى والسردى فى تخليصات حس ... السردى كما نجده فى النص : ثمة ناس لا شقاء لهم
وبعد عام ونصف من تعلمى الالمانية
دفعتنى دعوة لذلك المكان , كانا غارقين فى اناقة الضحك
رجل وامراة , يتهكمان
على ملابس الخلق وقلة زينتهم وعلى مشرد دخيل
بالخطا
فهنا استهلال لحكاية بما تحمله بنيتها الظاهرية من متعة وبما تحمله بنيتها الباطنية من رؤية عميقة للحظة من اللحظات الانسانية لرجل وامراة هكذا دون تسمية محددة .. رجل وامراة يمارسان موقفهما الوجودى
لكن هذا الاستهلال السردى ينطوى على الشعرى ايضا:
_ ثمة ناس لا شتاء لهم
ولا مظلات
ولا بلاطى ولا احذية شتاء
ولا دفايات
ناس بلا مارونى ولا نبيذ (7)..
كذلك فى امراة تحدث قهوة وعصيرا اذ يسيطر الحوار:
صرخت فى همس : انا
لا اشرب القهوة
علا صوتها قليلا
لابد ان هناك خطا
همست من جديد
ام هى لى بالفعل
هل اشرب القهوة فعلا (8)..
وهكذا فى ارهاب العين البيضاء النص الاستراتيجى للنصوص: تخليصات - ولسنا بحاجة لتكرار ان الشعرية اليوم هى موضوع كل الاجناس حتى السرد- نجد ان هذه النصوص كنماذج وظفت السردى, بما انطوى عليه من شعرية, فى تعميق دلالات الشعرى, ليشكلان معا نصوصا عميقة متميزة, هى النصوص التى حملها ديوان, تخليصات حس او ارهاب العين البيضاء..
شىء اخرالاحظه على نصوص الديوان .. انها تتراوح فى تقنياتها بين النص القصير, المكثف. الشبيه بالهايكو اليابانى, والنص المسترسل. مما يثير السؤال القديم الجديد حول السردى والشعرى كما اشرنا اليه سابقا : السؤال عن خصائص النص الشعرى, وهل يصلح عنصرا التكثيف او الاسترسال وحدهما لتصنيف او تحديد ما نطلق عليه شعرا ؟ الحداثة تحدد نوعا من التواصل بين النص, كطرف فى علاقة من طرفين. طرفها الاخر هو القارىء لهذا النص. باعتباره- اى القارىء - طرف متغير فى الزمن والمكان, ازاء نص ثابت(لكنه دينامي في عالمه وعلاقاته الداخلية ) .. وهنا بالطبع يحددالقارىء بتاوله لنص, ما مدى تواصله مع هذا النص, وان توارى النص خلف رؤى رمزية عميقة مثلما فى النص ولادة:
على حافة الموت
هى
هو
على حافة الحياة
بصرخاتهما
داخل الغرفة الضيقة
يتقاسمان الحياة من الموت(9)..
بما تنطوى عليه هذه الرؤى, من اسئلة وجودية كبرى, كالموت والحياة. ومفهومى المكان والزمان , فى هذه العلاقات الوجودية : الانسان ولد ليحيا, واجمل ما فى الحياة, هى الحياة ذاتها.. هذه المعانى العميقة الكثيرة, حملتها لنا كلمات قليلة جدا, مكثفة ومركزة فى النص( ولادة) حتى لتكاد كل كلمة تكون دالة بذاتها, دون الدخول فى علاقة مع كلمات اخرى, انه الجوهري الانساني.. حيث لا عارض او عابر خارج التاريخ : :
هى
هو
بصرخاتهما
من الموت
تقاطع الشعري / السردي في نصوص طارق الطيب, بمختلف اجناسها. التي تنتمي اليها , بحد ذاته تأكيد على انهيار الفواصل, بين هذه الاجناس .وما استشعرناه من سرد في النصوص الشعرية, التي استعنا بها نستشعره بطريقة اخرى - شعريا - في نصوصه السردية.. ويقول طارق الطيب حول هذا التشابك بين لغة السرد ولغة الشعر : "الكتابة مثل الولادة لا تأتي من فراغ. أكتب حين يأتي طلق الكتابة وما يخرج مني لا أحدده مسبقا (هذا في البدايات) قد يخرج في شكل قصة أو مقطع من رواية أو قصيدة أو مقالة، بل قد يخرج في شكل رسم. أترك الحرية لهذا الطفل الفطري, ليعبث كما يحلو له وأعدل ربما فيما بعد قليلا أو كثيرا حسبما يقتضي الحال.. .
ولا أري البتة أن هذا التنوع عيبا (لا أسميه تعددا؛ ففي التنوع تباين وثراء وفي التعدد كم متشابه في الغالب) ولا أراه محاولات ساذجة بل الفنون تكمل بعضها, بشرط أن تكون واعيا لما يريد أن يخرج منك. ولا تغتصب الكتابة في شكل, لا تستسيغه ليبدو على شاكلة لم تكن لها...
لا أعرف ما يقولني بشكل أفضل، لكنني أعرف تماما, ما أفضّل أن أقول. المتلقي قد لا يستريح لنص لي. أو لقصة أو لا يروقه مقطع من رواية, بل تروقه لوحة لي. أنا في كل ممارساتي, أدخل بهوى كبير. وأعشق ما أعمل حد الوله, إلى أن انتهي منه, فتصير حالة انفصال ضرورية, وصحية في آن. حتى أستطيع رؤية المكتوب عن بعد, وحتى أتفرغ لعمل جديد(10)...
مدن بلا نخيل :
يستهل الطيب مدن بلا نخيل بمشهد للراوي / المتكلم وهو في حال نفسية متردية , نقلتها لنا اللغة بمشحوناتها الشعورية والوصف الدقيق بانفعالاته الجائشة "جالساً على حجر أمام دارنا المبنية من الطين، ماسكاً في يدي عوداً يابساً، إلى طرف منه تسري أفكار كثيرة متزاحمة، وفي طرفه الآخر تعبث يدي بخطوط وحروف غريبة، فأرسم على الأرض حروفاً وأشكالاً تعني ربما ما لا أعني، فأنا غارق في أفكاري الحزينة...
أضغط بالعود اليابس على الأرض المتشققة الجدباء، في غل وغضب، وثورة عنيفة في داخلي تستقر مرارتها في حلقي، فأبصق على الأرض لاعناً هذا الفقر وهذا الجدب الذي حل بنا بلا رحمة، وأتنهد متذكراً أبي وما فعله بنا، فأبصق مرة أخرى. إني أكرهه كرهاً لا حد له، وأكيد أنه يكرهني ويكره أمي وأختي الصغيرتين أيضاً، وإلا فلماذا تركنا بعد أن تزوج من امرأة أخرى، ولم نسمع منه شيئاً. مرة يقال لنا إنه في سوق الخرطوم يبيع المرطبات، ومرة يقال إنه يعمل في السكة الحديد بوادي حلفا، ومرة نسمع أنه ذهب إلى مصر حيث يعمل نادلاً في أحد المقاهي .."...
من خلال هذا الاستهلال المتوتر لرواية مدن بلا نخيل نتوغل في اعماق الرواية فنتعرف في الراوي على متناقضات حياته واحساسه المرير بهزيمة الاب للاسرة.. حيث تتبدى رمزية النخيل الذي اخذت هذه الرواية اسمه " تطير إحدى سعفات النخيل التي تسقف دارنا المسكينة، أمسكها بأطراف أصابعي، وأفكر وأبصق وأفكر، ألفها على طرف بنصري وأضغط بها عليه بلا شعور، يجرحني طرفها الحاد، أدس أصبعي في التراب كما تعودنا جميعاً حين كنا نلعب ويجرح واحد منا في قدمه أو يده. كان يدسها سريعاً في التراب حتى يقف نزيف الدم ثم نمارس اللعب مرة أخرى".. فالنخيل في هذه اللوحة اذا كان على المستوى الظاهري يلعب دور السقيفة ,فهو على مستوى الرؤية يلعب دور الصمود امام الريح العاتية . لتظل هذه الرمزية تلاحق الراوي في مدن المهجر الخالية من هذا النخيل , فيتصاعد النخيل المتسحب الى الذاكرة, منذ الطفولة ليغذي في الراوي طاقة الحنين .. والنخيل رمز للكبرياء والانتصاب .. والنخلة رمزية ايضا للتاريخ التليد عميق الجذور, الذي ترك بصماته واضحة على الشخوص " كنخلة بجسده العملاق. حين يدخل الغرفة يملأها. صدّقت جدتي وأنا بصحبتها حين رأيت تمثال رمسيس الثاني, في ميدان رمسيس للمرة الأولى. قلت لها:"هما الفراعين كانوا كبار كده زيّ رمسيس؟" قالت: "أيوه، كلهم كانوا زيّه كده وأكبر كمان!". يومها ظللت أمشي مشدوداً بيدها, وعنقي ملتوية إلى الخلف، أراه طوال سيرنا في الميدان. حتى اختفى عن عيني، حين دخلنا شارع الفجالة. لكنه لم يختف عن نظري, طوال عمري. كان في رأسي سؤالان: لماذا لا يلبس حذاء؛ وماذا كانوا يأكلون وهم بهذا الحجم .."...
مدن بلا نخيل هي رواية الحنين الى مكان ما ثاو بقاع الذاكرة ." وأتذكر حين كنت صغيراً، ألعب جوار بعض النخلات وأحمل في يدي كوزاً من الصفيح، وفي يدي الأخرى كيساً من النايلون السميك، فيه كمية لا بأس بها من الحجارة والزلط، أقذف بها أعالي النخيل، فأصيب منها ما أصيب من التمر الأخضر، الذي لم ينضج بعد. كنت ألتهم معظمه وأعود بجزء منه إلى صديق لي، أمنحه بعضه ليعطيني طوقاً ألعب به ساعة من الزمن، لكنه كان لئيماً، يتركني ألعب حتى ينتهي من أكل التمر، ثم يأتي إلى مسرعاً مستعيداً طوقه مرة أخرى، فأعود صاغراً إلى النخلات، وأظل أقذفها بالحج رة والزلط، حتى تتخدر ذراعي الصغيرة. يأتي الغروب، فأعود إلى البيت حاملاً معي التمر الأخضر، عازماً إعطاءه إياه في اليوم التالي، بعد دقائق قليلة أبدأ في أكل التمر وأقول: "لا يهم، غداً سأصيب من التمر أكثره، فلأ سبع أنا الآن..". فهذا الثاو بقاع الذاكرة تتبدى ملامحه شيئا فشيئا للراوي من خلال احساسه بالمقابر كرمز لما انطمر في الذاكرة وتراكمت عليه اتربة النسيان .. وتشعل الغربة هذا الحنين اللاهج بالاشواق واللوعات , اكثر فاكثر , فكل شيء فيها يثير تلك الملامح الضبابية لذلك المكان البعيد ," انها مشكلات الاجانب والمضطهدين في كل بقاع الارض (11)" .. فكل المشاهدات والصور الواقعية اليومية تثير الحنين وتجعل تفسير سلوك الاخر على خلفية الغربة , يتلائم وهذا الحنين الى الوطن .. مثل حنين حمزة المغلف بهمومه واحزانه الكبيرة , في سبيل تحسين حياته.. فالحنين في العلاقة الجنسية بالحبيبة (حمزة / حياة) هذا الحنين الذي يثمر طفلا طبيعيا, من علاقة آثمة بين حمزة وزوجة رب عمله حياة .. كما حملت هذه الرواية آثار اللغة الشعرية , لطارق الطيب , فيما يشبه تداخل الانواع الذي نجده في شعره , فربما لكون طارق تشكيلي وشاعر , جعلت - هذه المواهب المختلفة - القصة او الرواية عنده تحمل آثار التشكيل والشعر ..
صلاح الدين النوبي :
" تسع سنوات وأربعة أشهر بالتمام، معقوداً بعقد سخيف لِلَمّ مال أسخف
عدت. أول أسئلتي كان
"أخبار صلاح إيه؟"
"صلاح مين؟"
(12) "صلاح عباس "
في هذه القصة ومنذ اول لحظة في الاستهلال , نتعرف على الشخصيتين المركزيتين ( صلاح الدين النوبي / والراوي المتكلم ).. وطبيعة العلاقة الحميمية التي هي اكثر من مجرد علاقة دم بين اقرباء , هذه العلاقة التي تربط بين الراوي وصلاح , والتي من اهم تقنياتها على مستوى البناء النفسي للشخصية تصعيد طارق الطيب للانساني الى مدياته القصوى "اقترب من السرير لأري صلاح الدين النوبي. ذاك الطويل العريض العملاق الذي كان يملأ الغرفة مثل رمسيس الثاني، الآن لا يكاد يغطي ربع السرير. كم كان وجهه فرحاً حين رآني! وكم كنت في دغل من الأحاسيس الملخبطة. تبادلنا كلاما متشابكاً لا أذكر منه كلمة واحدة....أراد أن يقوم من مكانه. اقتربت منه وضممته إلى صدري بمحبة خاشياً أن أهشم وهن عظامه. اختفى الكلام منه ومنى للحظات ونحن ننظر كلانا للأخ" .. ويتماهى هذا الانساني في لحظات الضعف الانساني بسبب المرض , او الانكسار النفسي جراء احاسيس الهزيمة ومشاعرها المؤلمة , وهي تنهض في اجواء النكسة التي خيمت فيها مناخات الهزيمة والانكسار" صلاح يحكي في كلمات لا أعرفها: الحرب، النكسة، مائير، ديان، حرب الاستنزاف، الانسحاب، الضفة، القنال، عبد الناصر، الهدنة، وكلمات أخرى كثيرة لا أفهم منها سوى ثلاث كلمات: مائير الذي اعتقدت أنه الجار خطاف الطيارات، وأنه له علاقة وسبب في ما يسمونه بالنكسة؛ ثم جمال عبد الناصر الذي أراه أيضاً عملاقاً مثل صلاح وأحب أن أرسم وجهه "البروفيل" من الجرائد والمجلات وألصقها طوال الوقت على حيطان البيت. ولما كانت خالتي تخلعها كل حين لتضعها على المائدة. ألجأ للرسم مباشرة على الحيطان. توبخني خالتي في عتاب رقيق أفهم منه أنه يجوز لي الرسم لكن ليس بهذه الكثرة وهذا الجنون".. صلاح الرمز الانساني الذي ربما يكون هو اى شخص يمشي بيننا او نراه في الطريق العام .. لا تخلو هذه القصة من الحس الفانتازي , الي يسم شخصية صلاح , الذي هو امتداد لاسلافه النوبيين في اخصب عهودهم ( عهد رمسيس الثاني )...
الجمل لايقف خلف اشارة حمراء .. و اذكروا محاسن:
وفي قصته ( طفو فوق الذكريات ) يقول الرجل المغترب الذي ادركه الشيب , وهو بعد لم ينجز مشروعه في الحياة بل وعند مفترق طرق " هويتي ضاعت . حائر اقف في منتصف الطريق , احمل رأسا مخضبا بالذكريات(13) " حيث نلاحظ هنا مدي الشعرية التي تخللت السردي .. ومن الاشياء التي نلاحظها دون عناء تشابه بعض الشخصيات في المجموعتين القصصيتين والرواية , فشخصية حمزة و في مدن بلا نخيل نجدها تتكررفي المجموعتين بشكل من الاشكال من خلال ( خليل الناس ) في اذكروا محاسن . وشخصية جاب الله في المجموعة( الجمل لا يقف خلف اشارة حمراء - قصة رب البنات).. وشخصية صلاح الدين في قصة صلاح الدين النوبي . فالشخصيات الثلاث هي شخصيات انتقالية تربط بين مرحلتين او عالمين .. رؤيا العالم في الجمل لا يقف خلف اشارة حمراء , حددت في اكثر من قصة بالموقف من العنصرية "عد الى بلدك واشتم هناك كما (14 )" .. حيث تكشف العديد من القصص عن احزان ومعاناة المهاجرين في الغرب.. من خلال اسلوب مباشر في رواية الاحداث , ويجيء الاسلوب انتقاليا ايضا مثل الشخوص اذ سرعان ما ينتقل الى مستوى اخر يتمثل في الاسلوب الدرامي الذي لا يخلو من الاثر التشكيلي والسخرية ,والفنتازيا والاسطرة كما في شخصية صلاح الدين التي كجسر بين عالمين يقف الراوي في منتصف المسافة بينهما .. ونلاحظ وتكثيف اللحظة الانسانية لدى الشخوص , بكل ما يعتمل في داخلهم من احساسات حبيسة واشواق مثالية, احد اهم تقنيات طارق الطيب السردية , .. و حيث ينهض الجنس , كاحالة لهذا العالم بنوازعه المتناقضة , خلال ذكريات طفولة الراوي( قصة في آن - مجموعة اذكروا محاسن) انما يجيء الجنس كتعبير عن الذات, وتنبيه الاخرين لوجود هذه الذات .. كذلك وظف طارق الطيب الاساطير و الحكي الشعبي , بعوالمه الغنية التي اختزنتها الذاكرة لقرون عديدة - ربما - نلاحظ ايضا ان النهاية في صلاح الدين النوبي و في قصص هاتين المجموعتين غالبا ما تكون مفاجئة ولا تخطر على بال..

الهوامش :
http://web.utanet.at/eltayeb(1)
السابق .(2)
(1) طارق الطيب . الجمل لا يقف خلف اشارة حمرا ء" مجموعة قصصية ". الحضارة للنشر . القاهرة
(2) طارق الطيب . اذكروا محاسن "ططط مجموعة قصصية .دار مشرقيات . القاهرة .1998
(3) طارق الطيب . مدن بلا نخيل .الحضارة للنشر . القاهرة . الطبعة الثانية 1994.
(4) www.rezgar.com
(5) طارق الطيب . مدن بلا نخيل .الحضارة للنشر . القاهرة طبعة ثانية 1994 ص : 36
(7) طارق الطيب . تخليصات حس . ص : 57 .
(8) السابق ص : 20
(9)السابق . ص : 185
(10) www.rezgar.com
(11) طارق الطيب. مدن بلا نخيل. " مرجع سابق " ص :36
(12) طارق الكيب . قصة صلاح الدين النوبي . صدرت في مجلة امكنة في الاسكندرية شتاء 2003
(13) طارق الطيب الجمل لايقف ..." مرجع سابق " .ص 63
(14) طارق الطيب . السابق . ص :144
موقع دكتور طارق الطيب على شبكة المعلومات الدولية :

للمزيد من االمقالات
للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved