السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

جنوب كردفان : طموحات التَّسامح، الوحدة المحليَّة والتَّعايش السِّلمي (۲/۲) ...تداعيات الخلل السياسى وإضطراب النسق الإجتماعى.. . بقلم الدكتور/ قندول إبراهيم قندول

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
6/15/2005 10:29 م

جنوب كردفان : طموحات التَّسامح، الوحدة المحليَّة والتَّعايش السِّلمي (۲/۲)

الدكتور/ قندول إبراهيم قندول
[email protected]
تداعيات الخلل السياسى وإضطراب النسق الإجتماعى

تُحدثُنا الأسفارُ القديمة والحديثة بما لا شك فيه أن مناطق الهامش-جنوب كردفان، جنوب النيل الأزرق، دارفور، الجنوب، شرق السودان وبعض مناطق الشمال النيليى- لم تسلم من إضطرابات الإهمال وعدم التوازن التنموى مما نتجت عنها سنوات من غليان الغضب ومن ثَمّ الإنفجار بحمل السلاح ضد الحكومة بعدما فشلت الطرق السلمية للمطالبة بحقوقهم الشرعية، فردت الحكومة بإستغلال أهل نفس الأصقاع - الجنوبيون، الفور، البقارة، النوبة، الفونج، الفلاتة وغيرهم- لإرتكاب، كرهاَ أو طوعاَ، فظائع الحروب الأهلية. ولكن بلغت هذه التداعيات قمتها فى جنوب كردفان فى منتصف الثامنينات وتسعينيات القرن الماضى عندما عاد نفرٌ من الدينكا الذين إنخرطوا فى صفوف الجيش الشعبى لتحرير السودان من معسكر التدريب ليجدوا أهليهم مشمّرين ميتين، ومَنْ أًستحيت مِن نسائهم وبناتهم أُغُتصبت وماشيتهم سُرقن. حنق غضبُ هؤلاء الفتية التراقى والحلقوم فإختنقوا غيظاَ وأقسموا أن يثأروا لذويهم جميعاً ولم يحنثوا ما عاهدوا أنفسهم عليه. فى محاولتهم الغاضبة هذه، قتلوا خطاءً الأبرياء من مواطنى عرب البقارة التابعين لفرع من فروع القبائل العربية (۳٦) التى تساكن معهم ومع النوبة فى قرية القردود، فشاعت الأنباء وعمّت المدن والحضر بأن النوبة، بقيادة يوسف كوه مكى، غدروا بجيرانهم وأخذوا القردود بالقوه و"خربو الخوة " بين عرب البقارة والنوبة - هكذا تغنّت الحكَّمات (المغنيّات الشعبيّات) فى المنطقة. كشفت الأيام فيما بعد عدم صحة ما شاع وأُذيع فى محطة أم درمان الإخبارية، ولكن لم تتوقف أجهزة الحكومة الأمنية، الإستخباراتية والإعلامية من الضرب على وتيرة هذه الحادثة وواصلت كالسندان تطرق طبول العنصرية. ولعدم وجود رجلٌ جامعٌ وموحد - أو قُل لعدم وجود رجلٌ رشيد - للسودان وقتذاك، وفى غياب تام للحكمة المحلية لتوحيد الآراء والصفوف ضد هذا الحمق الحكومى أخذت هذه الأجهزة تنعت أبناء وبنات وشيوخ النوبة، بالمارقين، الخارجين عن القانون، العنصرين وطابور خامس متواطئين مع متمردى الجنوب على الرغم من الإستنكار الشديد من قيادات النوبة فى الحركة الشعبية بعدم قيامهم بتنفيذ تلك المشأمة. ونتيجة لكل هذا وذاك تفشت فوضى أمنية دون خافض لها ولارافع لها عن الناس فباشرت الإستخبارات العسكرية إصطياد خير أبناء المنطقة من النوبة آناء الليل وأطراف النهار بلا قِسط ولا رحمة فمنهم مَنْ قضى نحبه بالقتل الفورى أو بالتعذيب حتى الموت ومنهم من صبر على العذاب والآثام وكثيرٌ تشرّد قسرياَ لأرض قائظة جرداء ليسِ هم بها راضون فى شمال كردفان وتخوم مدن الشمال. فعندما لم يجد شباب النوبة الحماية من ذات الحكومة حينما إستغاثوا بها ولم يُغاثوا، إنخرطوا زُمراً إلى الجيش الشعبى لتحرير السودان وأعلنوا أن عصيانهم وتمردهم لم يكن إلا حرباَ ضد نظام ثورة مايو "الظافرة" وإمتداداتها - حكومة الجزولى الإنتقالية والعهد الديمقراطى الثالث الذى أدى إلى تعميق هذه الهوة. هكذا إندلعت الشرارة الأُولى وإشتعلت ناراَ تلظى تحرق كل شئ حى وغير حى (All that moves including rocks). نادى النوبة الذين إتخذوا الحركة الشعبية مثوىً لهم فى حربهم على حكومة الخرطوم، نادوا كل أبناء الإقليم للإنضمام إلى الحركة الشعبية لمناهضة الظلم والطغيان اللذان وقعا على الإقليم، ولكنهم لم يجدوا آذان صاغية أو قلوب واجلة من خشية الله لتغير منكر الفتنة العرقية والدينية الذى حلّ بأهل السودان عامة والإقليم بصفة خاصة. ما يؤلم حقيقة أنَّه كان رد فعل الفعاليات والفئات المختلفة - بما فيهم بعض النوبة - فى المنطقة عكس ما نادى به إخوتهم فى الحركة الشعبية (٣٧) حيث قاموا بمحاربتهم بجانب الحكومة وآذوا أهليهم أذىًَ شديداَ. هذا الفعل النكِر والتجافى حدث فى العهد الإنتقالى الثانى من أبريل ١۹۸٥م إلى مايو من نفس العام عندما أقدم اللواء فضل الله برمة ناصر عضو المجلس الإنتقالى بتسليح القبائل العربية فى المنطقة. ما كان ليحدث هذا التسليح فى الحكم الديمقراطى الذى أعقب الفترة الإنتقالية برئاسة الصادق المهدى (١۹۸٦م - ١۹۸۹م) ولكنه كان أمراً مقضياً مقدراً على النوبةً.

جاءت حكومة الصادق المهدى الديمقراطية بأمرٍ لم يأت به أحد من قبل حيث فرّقت بين الأخ وأخيه، المرء وصاحبته، وبين الصاحب الحميم وصديقه من الطفولة البريئة وأيام الصِبا. قامت هذه الحكومة بتقنين تسليح القبائل المختلفة فى المنطقة دون النوبة بدعاوى الدفاع عن نفسها من متمردى الجنوب ولم تحدد ذات الحكومة من ذا الذى سيدافع عن النوبة. وبدون موافقة وبعمل غير قانونى أو ديمقراطى تخطى الصادق ووزير دفاع حكومته مجلس الشعب (٣٨) فإستنفرا الجماعة والعناصر الموالية لهما للإنضمام إلى المليشيات وقوات المراحيل والقوات الصديقة والتى سُميت لاحقاً بقوات الدفاع الشعبى Defense Forces) (Popular . (٣٩) ففى مايو ١٩٨٩م إنعقد أول مؤتمر من نوعه لتأسيس قوات الدفاع الشعبى بمدينة كادقلى تحت رعاية المدير التنفيذى لمجلس مديرية جنوب كردفان السيد حامد يوسف بتوجيه من محافظ المديرية آنذاك السيد على جمّاع تنفيذاً لأوامر الحاكم الأسبق لإقليم كردفان الكبرى السيد عبد الرسول النور. بعد هذا المؤتمر وبموجبه، إمتاض عبدالرحمن أبو البشر - ورد إسمه مرات عديدة فى تقارير منطمات حقوق الإنسان - قيادة أول مجموعة لقوات الدفاع الشعبى وقام هؤلاء الجهادية الجدد وبلا تردد بحملة القتل العشوائى ونشر الهلع فى وسط كل المواطنين- متمرد وغيرمتمرد، الحُبلى والمراضع وأطفالهن- وعداً بأن لهم الأنفال وغنائم الأرض وما حوت. بهذا الوعد، ما كان على أصحاب السلاح الذى وُزِّع لهم بواسطة الحكومة إلا تسوية خلافاتهم الشخصية والقبلية التى كانت لا تعدو الإحتكاك حول المراعى ونقاط المياه وأحياناً تسوية الغُبن والشعور بما يُعتقد ﺒ"العار" نتيجة الهزيمة من الغلبة فى منافسات المصارعة وغيرها من الأنشطة المحلية التى أعتبرت من عوامل الترابط الإجتماعى فى يومٍ من الأيام. فهذا الإعتقاد، بدعة من بدع الدهر التى أُريد بها باطل، لا يعرفه التقليد فى المجتمع المحلى من قبل. على أية حال، إستعملت المجموعات هذه الأسلحة الفتاكة للإنتقام دون سابق عراك أو لعراكٍ فى غير معترك ودون الرجوع إلى السلطات. بل ذهبت نفس المجموعات أميالاً فى التاريخ الزمانى والمكانى لتكوين منظمات قبلية شتى منها تنظيم قُريش الأولى وقُريش الثانية مهمتهما القيام بتغيير نسق الحياة بجبال النوبة وكثيراً ما رفعت شعارات: العندو كلاش- يعنى بندقبة الكلاشنكوف السوفيتية الصُنع - يأكل بلاش، وجعلنا النوبة معاشا وهلمجرا. إن الثأر أو إستعادة لقب البطولة من هزيمة المصارعة هذه كان يسبقه الإستعداد السلمى ليوم جمعٍ معلوم يضرب له موعداً مشهوداً تتغنى فيه الحَكّمات من الطرفين - النوبة وعرب البقارة - ما جاد وطاب لهنّ من أغانى الحماس بدلاً من إستعمال السلاح النارى لتبدأ المنافسة فى أروع ما يكون من بهجة وحبور الحاضرين بعد إطلاق صُفّارة الحكم بإعلان بداية المصارعة. هذا من أنباء وقصص تلك الأيام نسردها كتاباً مبيناً لعلّنا نقتبس منه نوراً وهُدىً لإعادة بناء ما دُمِّر من هذا التقليد الرائع.
إزاء هذا التدهور الأمنى فى المنطقة عبّر أعضاء البرلمان السودانى خاصة ممثلى جبال النوبة البرلمانيين - على رأسهم الاسقف الأب فيليب عباس غبوش - عن مخاوف ما يحدث وأبدوا إستياءهم بهذا التصرف غير المسؤول وغير الوطنى بتحذير رئيس الوزراء عن خطورة الموقف وقابليته للإنفجار وطالبوا بأن تجرِّد الحكومة قوات الدفاع الشعبى من السلاح على أن يتولى الجيش مسؤولية الدفاع وحماية الوطن والمواطنين. إنضمّ إلى صفوف هؤلاء البرلمانيين بعض الوطنيين التقدميين والاكاديميين بجامعة الخرطوم أمثال الدكتور عشاري محمود والدكتور سليمان بلدو (٤٠) وآخرون. كان النقد الجاهر من هؤلاء لسياسة إنتهاك حقوق الإنسان، خاصة مذبحة الضعين بجنوب دارفورالتى حلّت بالدينكا، سبباَ مباشراً لمحاسبتهم، كما لم يسلم العضو البرلمانى من الحزب القومى السودانى السيد هارون إدريس من الحجز والمساءلة بواسطة أمن الحكومة عندما تطوّع للذهاب بنفسه إلى المنطقة لتقصى حقيقة ما يجرى هناك. كان الحجز والمساءلة على الرغم من تمتعه بالحصانة البرلمانية دون أن يحرك هذا التصرف أية جارحة من جوارح رئيس الوزراء أو الهيئة البرلمانية للتصدى لهذا العبث أو لتحقيق فيه (٤١)!
عندما إنقضت الإنقاذ على حكومة الصادق المهدى إستبشر أهل السودان خيراً، خاصة النوبة، بأن حكومة الجبهة الإسلامية "القومية" ستكون إنقاذاً لهم بالحق ولكنها كانت عليهم وقذاً. حَسِبَ النوبة أن وجود اللواء معاش إبراهيم نايل إيدام، من جبال النوبة والمسؤول الثانى لجهاز أمن حكومة صادق مهدى قبيل الإنقلاب، وبعض الجنوبيين وأهل دارفور فى التشكيلة الحكوميّة الجديدة، ظنوا أن هذه حكومة قومية وطنية ستضع حداً لكثيرٍ من اللغط رغم طابعها العسكرى الديكتاتورى. ولكن خابهم الظن وأحبطهم أيما إحباط لأن منتسبيى الهامش - جميعاً - كانوا طُعُماً للتمويه حيث تساقطوا واحداً بعد الآخر وزحزحوا من السلطة بما فيهم الشيخ الدكتور الترابى المُدبِّر الحقيقى للإنقلاب والذى توسوسُ صدورُ الناس حتى الآن أن أصوله من تكارير غرب السودان، وكذا الدكتور على الحاج محمد، من قبيلة البرقو وقيل البرتى بدارفور، لذا لابد من إبعادهم جميعاً وقد كان. ومن عجائب وغرائب ما تؤول إليه الأمور فى السودان أن الدكتور الترابى العقل المفكر للجبهة الذى أفنى حياته للحركة الإسلامية أُودع السجن وأنّ الدكتور على الحاج المُبَشَّر يوماً بتقلد منصب النائب الاول لرئيس الجمهورية بعد إستشهاد اللواء الزبير محمد صالح، إلا أن سليلته الأفريقية حرمته من إعتلاء هذا البهو المقدّس، خرج من السودان هرباً من إخوته وليعارض نفس النظام الذى نظّر له طويلاً. لم تخطئ الإنقاذ بذلك الفعل موضع القدم كما لم تعبس أو تغمض عينها لحظة عن أهدافها الباطنة بقيامها بإساءة إستغلال الدين والعِرق اللذين أجج نارهما حكومة الصادق. فأول ما قامت به الإنقاذ لحماية نفسها هو المصادقة على قانون قوات الدفاع الشعبى الذى جهّزه وضع لبناته النظام الديمقراطى لتطبيق سياسة فرِّق تسد وبذلك لم تُمنح هدنة أو فترة إستجمام للنوبة (٤۲) من إعياء وأتعاب ذاك النظام الديمقراطى. ولتنفيذ هذه السياسة على أرض الواقع، رخّصت الإنقاذ تسليح بعض قيادات النوبة كالمكوك، الشيوخ (كافى طيّارة مثالاً) والمثقفين- مادياً ومعنوياً- ولُقِبوا جميعاً أمراء بلا إمارات أو ممالك ولم تزد هؤلاء هذه الألقاب إلا تمرداً وقسوةً على أهلهم لِما شعروا به من العزة بلإثم. إشتركوا، بدراية أو بجهل، فى إبادة أهلهم إما بدوافع النزعة الدينية، النِفْقة السياسية، أو من أجل حفنة من الدنانير والجاه الزائل أو لإختلاف الرأى مع قيادات النوبة فى الحركة الشعبية. فُرِضَ على النوبة حصارٌ محكم حتى من برنامج شريان الحياة (Sudan Life Line) الذى دشّنته الولايات المتحدة الأمريكية - شيطان الإنس والجن كما يلقبونها - لتوفير المساعدات الإنسانية لجنوب السودان. بهذا الحصار الداخلى أو قُل بإحياء قانون المناطق المقفولة المشؤوم (Restoration of the Evil Closed Districts Act)، ومنع التدخل الخارجى بحجة عدم المساس بسيادة الوطن، إنقطع الوصال وصلة الرحم بين النوبة فى دار السلام وأولئك الذين تقطّت بهم الأسباب فى دار الحرب لسنينٍ عدداً ومسَّهم الجوعُ بالضر والسقمُ بالهزال وزلزلت الأرض من تحتهم زلزالاً شديداً.
لم يمضِ وقتٌ طويل على إجازة قانون قوات الدفاع الشعبى إلا وسيطرت على عقول أهل الإنقاذ إرهاصات الجهاد ضد النوبة لوضع حداَ نهائياَ (Final solution, once and for all) لمشكلة التمرد فى جبال النوبة. ففى يناير ١٩٩٢م حضر الرئيس المشير عمر حسن أحمد البشير تظاهرة وضجة جماهيرية ضخمة وحضور دينى ورسمى غير طيب فى مدينة الأُبيض نُصِّبَ فيها إماماَ للجهاد والمسلمين كما بايع القوم من ذى قبل الرئيس السابق المشير جعفر محمد النميرى إماماَ وأميراً للمسلمين الذى خاصمهم آخر المطاف. إن ظاهرة البيعات هذه للمشيريين كأئمة للمسلمين وأخيراً تنصيب الصادق المهدى إماماً للأنصار تجعلنا فى حيرة من أمر السودانيين وتركتنا فى تساؤل دائم أهذه نِعْمة أم نِقْمَة وأى إمامٍ سيأتى من بعد ومَنْ يُتبعُ؟ وإنّ جوارحنا لَتميلُ ولتجيبُ أنّ هذه نِقْمَة لأن هؤلاء الأئمة لم يكونوا إلا وبالاً على الأمة فهم فى تسابقٍ وتنافسٍ مستمر أيُهم أشد قسوة ومَنْ سيؤذى الناس حتى يكثر الأتباع والمريدين رهبة ورغبة فى بعض الأحيان. فالشواهد على ما نقول كثيرة. فعقب تنصيب المشير البشير مباشرةَ حمَّل نائبه الأول، وقتذاك، الزبير محمد صالح أمانة ومسؤولية تنفيذ الجهاد فى عملية الفتح الكبرى(٤۳) فنقل الزبيررئاسة عملياته العسكرية، موقتاَ، إلى مدينة الأبيض ليقوم بتطهير جبال النوبة من المتمردين، المجوس والمرتدين. وللتنفيذ الناجع ولضمان النصر الخاطف جمع الزبير٣٠ ألفاً من الجيش النظامىَ أو يزيدون - وتردد أنَّ أُضِيف إليهم جماعة ساندة من دول عربية وأُخرى إسلامية - وأعد له ما إستطاع من أحدث العتاد العسكرى وما أُتي من القوة ليجابه جيشاً ضعيف الطلعة، قوى الإرادة وشحيح العتاد ((Ill-equipped إلا أنه قوىُّ الإيمان بقضيته. كان قوام ذاك الجيش ٩٧٠ رجلاَ تحت قيادة القائد المناوب الشهيد محمد جمعة نايل. (٤٤) بعد أن جهّز الزبير جهازه، جمع أئمة المساجد فى مدينة الأُبيض مرةً أخرى وأمرهم - والأمرُ الأعلى أو الموافقة عليه جاءت من الإمام البشير - بإعلان الجهاد فى ٢٧ أبريل ١٩٩٢ لتكون الهجمة الشرسة على جبل تُلشى أحد حصون الجبال كنقطة الإنطلاق الفاصلة بين الحق والباطل (Good and evil). صمدت جبال تُلشى شهوراً أمام القصف المدفعى وإنتصرت الحركة وما تزال جبال تلشى تحت سيطرتها وإدارتها المدنية إلى لحظة كتابة هذه الأسطر. حقاً آذت الإنقاذ النوبة فى تلك المعركة شر أذية. فيها قُتِل المواطنون الأبرياء عمداَ بدلاَ من "المتمردين"، أُستِعمل الغاز المسيِّل للدموع لإخراج الناس من الكهوف التى إحتموا بها كأهل الكهف كما أُستِعمل سلاح التجويع لكيما تستسلم الناس، أُختطفت النساء وأغتصبن، سيقت وإقتيدت الناس فى جماعات وفرادى إلى معسكرات سميت بقُرى السلام Peace camps) (.(٤٥) فى هذه القُرى صُنّف شعب النوبة إلى أربع شُعَب. الأطفال والصبيان: هؤلاء نالوا نصيباً من الأسلمة والتعريب القسريين وتغيّرت أسماءهم إلى ما يُعرف فى السودان بأسماء عربية أو قُلْ إسلامية. وإنا لا نرى حاجة لعبث تغييرالأسماء. فالأسماء، كل الأسماء، من خلق الله ومن علمه. فمثلاً، إسم كوكو - الذى يرمز إلى المولود الذكر الأول عند بعض قبائل النوبة (دميك قبيلة الكاتب كمثال)- لا يختلف عند الله عن إسم عمر أو جون مثلما علَّم اللهُ أبانا آدم أن يسميهم به. كما أن الأسماء عمر، خالد وأكثم وهلمجرا سابقة الوجود من العرب أو الإسلام. فكثيراً ما تدهشنا أساطير أهل الأديان، أي دين، وغيرهم بأن هذه الاسماء ترجع لهذا العِرق وذاك الدين. ولهذا يتساءل المرء من اًين آتى أهلنا فى السودان بهذا الزعم ومن الذى قال لهم بأن الأسماء التى يصعب النطق بها بالعربية أو بأى لسان أو لم تكن لها النغمة العربية فى الآذان "العربية" أو غيرها ليست إسلامية أو عربية يجب تغييرها؟ ولئلا نتهم بإلقاء القول على عواهنه فى أمر الأسماء الذى نحن فيه مختلفون ومفتنون، نود أن نبيِّن أنِّ لعوامل الثقافة والإرث الإجتماعى والبيئة دوراً رائساً فى إطلاق الأسماء، وليس للدين فيه من شيئ من حتى. لعمرى، إن إسم كبى، ماجوك، أُوهاج، إسحق، شجر، سيد أحمد وخلافه من أسماء البشر وبِيدى (Bidi) - بمعنى ماء (لغة قبيلة دميك وغيرها) أو مِسَل (Missal) -بمعنى الله (عند قبيلة ميرى، دميك وغيرهما) وبحر وغير هذه من المخلوقات من بين الأسماء التى علَّمها الله لآدم.(٤٦) إذ ما ينطبق على عرب السودان وغيرهم من المسلمين ينطبق على أصحاب الأديان الأُخرى فى السودان والعالم بأسره. فبدعة تغيير الأسماء متوفرة فى المسيحية، وربما فى غيرها، حيثما نسمع الإخوة المسيحيين يقولون أن "إسمى المسيحى دانيال أوبطرس والقبلى نيال أو كافى فكأنما التَسمى بأسماء القساوسة والأنبياء أو الأسماء العربية -وليس التقوى والعمل الصالح - سيزحزحهم من النار ويدخلهم نعيم الجنان. ولماذا لا نأخذ إسماً واحداً لنا لتفادى اللّدد أوالدربكة؟ هذا فيما يختص بالأسماء و الأسلمة القسريّة لدى القسم الأول فى "قرى السلام". أما الشعبة الثانية فتمثل طبقة العجزة من الرجال والنساء وهؤلاء كانوا عبئاً إدارياً ثقيلاً لا حاجة له فتُرِكوا فى العراء لنوائب الدهر لتأخذهم شرَّ مأخذ. وأما الأصحاء الأقوياء من الرجال والشباب، فإما إستئجروا قسراَ كعمالة رخيصة فى مشاريع الزراعة الآلية أو إنخرطوا عنوة ورهبة إلى قوات الدفاع الشعبى وذُل للحاجة الماسة والملحة إلى الجيش لخوض الحرب لدعم أسرهم، هذه هى الشُعبة الثالثة. فأما الشُعبة الرابعة مثلت الولود من النساء واللائى تم تزويجهن للجنود وسرى ببعضهن وأُتِخذَ البعض الآخركسبايا على نحو ما ملكت أيمانهم! (٤٧) ومن المحزن أن الحكومة - أو أى كائن من كان - لم تمتلك معياراً للتمييز بين المسلم وغيره أو تمتلك ثيرمومتراً لقياس درجة الإيمان عند هؤلاء غير أنهم جميعاً ينتمون للنوبة وعلى درجات قليلة أو كبيرة من التباين اللغوى. هكذا أُستغل الدين مراتٍ عديدة كعامل فرقة وليس أداة وحدة. هذا التصرف من الحكومة لا يجسٍّد غير شيئاً واحداً: العنصرية لكسب مآرب سياسية بأى ثمن ولو أدى ذلك إلى تدمير النسق الإجتماعى. فإن كان الأمر هو الدين والدعوة والهداية إليه، فإكراه الناس على الدين منهيٌ عنه فى قوله تعالى ﴿لا إكراه فى الدين قد تبيّن الرشد من الغى﴾ )البقرة 2/256) وإن أمر الهداية لا يكون إلا لله ولمن إصطفى من خلقه ﴿ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء﴾ (البقرة ٢/٢۷٢)، و﴿إنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين﴾ (القصص ٢۸/٥٦) ثُمّ إتباع الموعظة الحسنة واللين عند الدعوة إليه ﴿ فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاَ غليظ القلب لإنفضوا من حولك فأعف عنهم وإستغفر لهم﴾ (آل عمران ۳/۱٥۹).

إن إنتهاكات الحكومة لحقوق مواطنيها فى جبال النوبة بسبب التباين العِرقى والسياسى وإستغلال الدين غطاءَ لهذه الممارسة أدت إلى شرخ كبير فى النسيج الإجتماعى وعمّقت عدم توفرالثقة ليس فقط بين كل أبناء المنطقة - البقارة، الفلاتة، البرنو، البرقو إلخ..، بل بين النوبة أنفسهم (٤۸) وبالتأكيد بينهم والحكومة المركزية. فقد شهدت منطقة الشعير بالقرب من مطار كادقلى مجازراً لآلاف من النوبة حسبما صرحت به مصادر عدة أنه عندما باغتت البارونة كوكس الحكومة بزيارتها وأصرَّت على الذهاب لترى بأُم عينيها ما تناقلته الأنباء عن وجود جماجم بشرية جمّة مبعثرة فى تلك المنطقة، أثنت الحكومة وألحّت عليها بعدم الذهاب بسبية كثرة الألغام المزروعة تحت الأرض مما يشكل خطراً على حياتها. قضت الأستخبارات تلك الليلة فى تنظيف المنطقة من رميم العظام ثُمّ سمحت للبارونة كوكس بالزيارة فى الصباح الباكر من اليوم التالى لتجد أن الألغام قد أُذيلت دون أن ترى هى واحدة منها! كما تشهد تقارير كاسبر بيرو، مندوب الأمم المتحدة للسودان فى أوائل التسعينيات بتلك الإنتهاكات الحقوقية. ومن المؤلم حقاَ أن مواطنى جنوب كردفان الذين نفّذوا خطط الحكومة ضد النوبة، أنفسهم مهمشين ومسلوبى الحقوق السياسية الشرعية زد على أنه تم إخراجهم من مناطقهم. كانت أدوار الضُباط وضباط صف والجنود من أبناء المنطقة - نوبة، عرب البقارة، فلاتة وغيرهم - فى الجيش، الأمن، الدفاع الشعبى وغيرها وفى أجهزة الدولة على مختلف مستوياتها والقطاع الخاص مخيبة للنوبة تماماً. ما كُنا لندعو هؤلاء للعدوان والإستيلاء والإستحواذ على السلطة عنوة كما فعل الأخيار من الأغيار أو التمرد ولكنّا نبغى إستئثار الحكمة لإثناء السلطات عن هذه الممارسات والتصدى لها بالتى هى أقوم - من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. إن الضابط (المقدم) أحمد خميس وغيره ممن لقّب نفسه أو لقَّبوه بالمسّاح، لأنه ما من قرية مرّ بها ألا "مسحها" أى نظفها وقتل أهلها - والعميد أمن محمد مركزو كوكو- الوالى الحالى للولاية - كلاهما نوبة دماً، ولحماً وعظما مثلين - للذين لم يتغيَّب ذكرهما من صفحات النشرات الدورية للمنظمات المهتمة بإنتهاك حقوق الأنسان، خاصة، فى جبال النوبة. (٤۹) إنتهكوا تلك الحقوق ظانين أنهم يحسنون عملاً وصُنعاً. ومن التأسى أن الأخير، عندما سُئل فى لقاء المصارحة، على هامش محادثات السلام بنيروبى، بين أبناء جبال النوبة فى الحركة الشعبية وأوُلئك الذين أتوا من دار السلام لتمثيل الحكومة أنْ ما خَطْبُِك يا محمد فى تمشيط مناطق الكواليب، تحديداً منطقة كمِان - Kimian - مسقط رأسك وتخومها؟ أجاب أنه كان ينفَّذ أوامر "ذويه" بتطهير المنطقة من المتمرين. لم يفصح محمدُ للحاضرين من هم أهله الذين أمروه وترك السائلين يتكهنون الإجابة. وخيرَ ما توصلوا إليه فى تأويلهم هو أن أهل الإنقاذ هم الآمرون وليس قبيلة الكواليب التى عُرفت بولائها ومساندتها لقضية النوبة عبر تاريخ النوبة النضالى. فوالله لو هو عناهم، فتبريره لأقبحُ من الذنب لأنه مبعثٌ للفتنة بين "أهله" وبقية القبائل النوبية الأخرى التى تسامت وتسامت قبيلة الكواليب أيضاً عن صغائر الكلِم والتحرش بهم. مهما كان رفضنا لإجابة العميد، كان الأجدر بسيادته أن يقول: لم يكن لى من المفر سبيلاً ولا من القوة مبلغاً وكنت أنفِّذ للحكومة أمراً كان مقضياً وفى إختصاص واجبى ومعاشى. لَقال هذا لَقُبِلَ منه وتُقُبِّل هو ولَكان وقعه أهون على القوم. ليس هذا تحاملاً على هؤلاء ولكنه قبسٌ يسيرٌ من فيضٍ كثير من التداعيات التى أدت إلى الخلل الإجتماعى والسياسى اللذان حلاّ بأهل جنوب كردفان وجب ذكره لكيما يكون حُججاً لهم أو عليهم يوم يبعثون منسلين إلى بارئهم. كما لا ننكر أنّ للحركة الشعبية نصيبٌ من الوزر بما إقترفت على الناس إلا أن وزرها مبرور كحركة عصت على الأنظمة الظالمة والتى كالت الصاع أضعافاً مضاعفة بضربها الناس بعضهم بعضا لتفشى غُبنها. ومهما كان من موقف هذين الرجلين وغيرهم من النوبة وأبناء المنطقة من الإثنيات الأُخرى، فإن تباشير السلام قد لاحت وأن زمن الشكوى والتباكى على ظلم المركز وتهميشه للأطراف السودانية قد شارف النهاية وإن هذه النهاية لا تتم دون التسامح والعفو عن أخطاء الماضى من أجل بناء مستقبل زاهر للأجيال القادمة. بين هذه وتلك ماذا فعل البسطاء الطيبون لتغيير حالهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟

دواعى السَّلام المحلى وكذبة شعار السلام من الداخل

أحسّ القادة الحقيقيون من البقارة والنوبة، الذين لم يتأثروا بمفاسد التعليم وحب الذات والتأثيرات الخارجية(The spoils of education, selfishness and external influences) ، فداحة ما لحق بشعوبهم من الدمار فجنحوا للسلم وعقدوا عدة مؤتمرات لإصلاح ذات البين فى أحلك ظروف الحرب وأخطرها. فعلوا ذلك بعدما تبيّن خداع حكومة المركز لهم وظهورالحق وزهوق الباطل-إن الباطل كان زهوقاً. إعترفوا بالحاجة الماسة للرجوع إلى التعايش السملى الذى ساد المنطقة قبل عصر القادة الزائفين (Pseudo-leaders)، النخبة "المستعلِمة"، المتطرفين الدينيين والعنصريين السُمُر كما وصفهم - وأجاد الوصف - الوزير السابق مكى على بلايل بعدما رأى منهم من آلاء العنصرية ما ورأى. ضمّت هذه المؤتمرات: مؤتمر البُرام فى فبراير ۱۹۹۳م، إتفاقية الرَّجفى فى۱٥ نوفمبر۱۹۹٥م وإتفاقية كايٍن ۱۹۹٦م. لم تُرضِ هذه الإتفاقيات الحكومة فعملت لإفشالها بشتى الوسائل كما طاولت يدها صفوف الحركة الشعبية لكيما تزرع بذورالفتنة فى نطاق ودائرة أكبر فإنشطرت الحركة بالإنقلاب المشهور على الدكتور جون قرنق. بعد الإنشطار، إخترعت الحكومة إتفاقية السلام من الداخل ((Peace from Within فى ۱۹۹۷ وقعّتها مع المنشقين عن الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور رياك مشار وآخرون بالخرطوم(٥٠). وبقدر المقامات تُسمى الأشياء، فسُميت هذه الإتفاقية فى بعض أدبيات التمييز السياسى ﺒ"إتفاقية الخرطوم للسلام. أما الشق الثانى من الحركة، والذى سمى نفسه حينئذٍ بالجيش الشعبى لتحرير السودان/قطاع جبال النوبة بقيادة محمد هارون كافى وقّّع نفس الإتفاقية (السلام من الداخل) مع الحكومة على مستوى أو مقام أدنى بمدينة الأبيض حيث مثّل جانب الحكومة محمد الأمين خليفة. (٥١) على الرغم من أن إتفاقيتى الخرطوم والأبيض وصفتا بالسلام من الداخل إلا أن جوهرهما كان مختلفاً تماماً أهمها الأعتراف ومنح حق تقرير المصير للجنوب وعدم الإعتراف به وحرمانه على جبال النوبة. فلا غرابة فى أنّ الحكومة كانت تسعى لتفرّق بين جميع فصائل الحركة الشعبية لإضعافها ثُمّ الإنقضاض والقضاء عليها آنياً. فقد كانت إستراتيجيتها إستغلال القوات التابعة للدكتور رياك مشار، الدكتور لام أكول وكربينو كوانين بول ومن ثَمَّ القضاء على "حركة" الدكتور جون قرنق. أما قطاع جبال النوبة فلم يكن له جيشاَ يساوم به فأُبتلع قبل أن يجف المداد الذى أُبرمت به إتفاقيته. حقاً، نجحت الحكومة فى إتباع تقاليد الساسة الشماليين فى إستراتيجياتها لإقتناص أية فرصة لنقض العهود، فقد كان لها ما أرادت وهكذا حقَّ المثلُ العربى السودانى: إبن الفأر بيطلع حفّار. مهما يكن من أمر الإتفاقيات المحلية فى جبال النوبة، فقد نُقضت إتفاقيتا السلام من الداخل فرجع القائد تعبان دينج تعبان إلى الغابة مُتعَباً من مُشاكسة الخرطوم له أو مُشاكسته لها ولحق به الدكتور رياك مشار بعد طول بال ومشوار، إكتفى الدكتور لام أكول أجاوين (شُلكاوى) بوزارة المواصلات حيناً من الدهر ثم أفل نجمه وهوى ليدخل مع بعض المهمشين - الأُستاذ أمين بنانى (بقارى) والسيد مكى على بلايل (نوباوى) فى حزب العدل والمساواة بسبيبة تجافيهم مع الإنقاذ. ثمة ملاحظات هامة فى أمر ثلاثى حزب العدل والمساواة لابد التطرق لها لنوضح كيف يسيئ أهل العِلم فى السودان فهم أوالتشكيك فى مقدرات العامة - وأحياناً أترابهم - لإستقراء ما قد تؤول إليه الأمور. مثلاً، ظن ثلاثتهم أن الناس ستأخذ تخاصمهم مع الحكومة موضع الجد إلا أنّهم نسَوا أو تناسوا أن الإختلاف الدينى، ناهيك عن العرقى والفكرى أو الأيديولوجى، بينهم سيهدد إستمرارية الشراكة بينهم. فالقاسم المشترك الوحيد بين الثلاثى هو التهميش، وأن ثلاثتهم متباينين إثنياً ودينياً إلا أن الأخيرين يدينون بدين الإسلام و"ربما" أيديولوجية فكرية واحدة، وهى تلك التى تعود جذورها إلى الحركة الإسلاميَّة فى السودان. فالتباين الدينى والتفارق العرقى كافيين بإجهاض هذه الشراكة وكفيلين أو مؤهلين للطلاق بينهم من غير رجعة لإيمان كل واحد منهم بثوابت دينه وربما التطرف الخفى المستور لعنصره! هذا الفِراق إستقرأته وإستنتجته الناس لحظة تكوين هذا الحزب. فها هو الدكتور لام أكول قد رجع وإنضم إلى صفوف الحركة الشعبية وهذا ما نعتبره ذكاء وحنكة الرجل الخارقين بينما ولم نسمع منذ ذاك عن مكى على بلايل ولا أمين بنانى وإلى أى حزبٍ ينتمون وهم به فرحون! نعاود السرد عن إتفاقية السلام من الداخل لنقول أن قائد قطاع جبال النوبة محمد هارون كافى، من غير سبب أو بسبب خفى، قد أُزيح من وزارته وشُتتْ زُمرته فآثر هو السكون بصمت إلى نفسه مكتفياً بالقضاء والقدر راضيا مرضيأ بالتساكن مع أهله الغلابة فلا أطعمهم من الجوع ولا سقاهم من العطش ولا آمنهم من شرور الزمان ولا الخوف من البطش وإزالة مساكنهم حول ما سُميت، مجازاً وتجاوزاً، العاصمة القومية.
أخيراً جاءت إتفاقية وقف إطلاق النار فى جبال النوبة بسويسرا فى ۱۹ يناير ٢٠٠٢م (٥۲) بين الحركة الشعبية من جهة والحكومة من جهة ثانية لأغراض إنسانية بحتة بضغط شديد ومحكم من المجتمع الدولى. تبع هذه الأتفاقية مؤتمر كل النوبة فى ديسمبر ٢٠٠٢م (٥۳) بكاودا بهدف التشخيص الموضوعى الدقيق لقضايا الجبال وتوحيد الرؤى لإيجاد الحلول لها. وكان من أهم إحدى مقررات المؤتمر، الدعوة إلى ضرورة عقد مؤتمر جامع للأعراق المختلفة التى تسكن المنطقة لبحث السُبلَ الكفيلة ولإيجاد آلية موحدة للتسامح والتعايش السلمى المعهود وتطويرها. وحديثأ إنعقد مؤتمر كل النوبة الثانى ومؤتمر كل قبائل جبال النوبة/جنوب كردفان الأول فى الفترة من ٦-٨ أبريل و٩-١١ أبريل ۲٠٠٥م، على التوالى، بعد إتفاقية السلام. ففى إختزالٍ شديد، تمخضت عن هذه الإتفاقيات، ما عدا إتفاقية الأبيض للسلام من الداخل، النتائج الآتية:

(أ) أقرّ النوبة وأكدوا أنهم تمردوا وأعلنوا الحرب على الحكومة وليس ضد العرب البقارة، أو أية مجموعة كما أقرّ عرب البقارة وإعترفوا بأن الحكومة المركزية قد خدعتهم وحثتهم لمحاربة النوبة وأن الحرب ضد المتمردين ستستغرق أشهر قليلة ولكنها أخذت أكثر من عشر سنوات مخلفة دماراً شاملاً بالمنطقة. (٥٤) لم تكتف البقارة بهذا فقط بل رمت باللوم على سياسييها وعلى رأسهم السيد الصادق الذى خرج من السودان ليعلن أنه يحارب جنباً إلى جنب مع الحركة الشعبية التى من أجلها أنشأ هو المليشيات لمحاربتها أول الأمر، وجزموا إن تحالف حزب الأمة بقيادة الصادق المهدى مع الحركة الشعبية لإسقاط نظام الإنقاذ الذى أطاح بحكومة الأول ما هو إلا تزيُّد فى إستغلالهم - أى المليشيات العربية وغيرها - سياسياً، ، عرقياً ودينياً لأمورٍ دنيوية ذاتية غير وطنية.

(ب) أقرّ عرب البقارة والنوبة، سوياً، بأنهم عاشوا معاً قرابة المائتين سنة وإختلطوا بالتزاوج كما إمتزج كثيرٌ من عاداتهم وتقاليدهم وأنّ كثيراً من النوبة قد إعتنق الإسلام طوعاً من جراء هذا الإختلاط وليس رهبةً.

(ت) تبيَّن لعرب البقارة والنوبة أن الجلابة هم المستفيدين الوحيدين من هذه الحرب، وأنّ الجلابة سُكّان مؤقتين عابرين حسب مصالحهم وأنهم سيغادرون المنطقة متى ما تحققت أهدافهم المادية أو ساءت الأحوال - الإقتصادية، السياسية والإجتماعية - كما هو الحال الآن، وأنّ النوبة والعرب البقارة باقون -إن لم يُجبروا على ترك ديارهم - أو عائدون إليها بعد زوال مسببات الهجرة أو النزوح لأن ليست لهم ديار غيرها. وعليه يجب العمل معاً لإيجاد حلولاً مرضية لهم للعيش فى سلام وبناء ما دمرته الحرب.

(ث) جلبت إتفاقية وقف إطلاق النار الهدوء والسكون ثُمّ السلام النسبى فى المنطقة مما أتاح الفرصة لعودة أعداداً كبيرة من اللاجئين والنازحين إلى قُراهم بعد مضى أكثر من ثمانية عشرة عام من الحرب وعدم الإستقرار فضلاً عن أخذ هذه الإتفاقية كنموذج يُطبق فى مناطق بؤر النزاع فى السودان إذا ما توفرت الإرادة السياسية لإتخاذ مثل هذا القرار.(٥٥)

(ج) أقرّ النوبة فى مؤتمرهم الجامع الأول على ضرورة المبادرة، الإستمرار والمحافظة على عملية الحوار البنّاء بين كل الأعراق والفعاليات السياسية والدينية فى المنطقة- عرب البقارة، النوبة، الفلاتة البرقو، البرنو إلخ.. مسلمين، مسحيين وأصحاب المعتقدات الدينية الأفريقية (الكجور وغيره) - لتجسيد دعائم السلام والتنمية المفقودة لأهل الإقليم. كما أبان النوبة أنهم لم يرفعوا السلاح ضد أية مجموعة عرقية معينة وأنما رفعوا السلاح ضد حكومة المركز دفاعاً عن النفس، التراث والمعتقد.(٥٦)

(ح) الإعتراف بأن سياسات حكومات المركز هى المسؤولة عن التهميش والتخلُّف والنزاعات بين شعوب إقليم جنوب كردفان وعليه يجب العمل على ترسيخ المبادئ الوطنية وإشاعة روح الإعتراف بالتباين العرقي والديني والثقافي وقبول الآخر والتسامح بين مختلف قبائل جنوب كردفان من أجل تنمية إنسان الإقليم.(٥٧) كان سعى أهالى جنوب كردفان سعياً مشكوراً لتغير حالهم فإن الله لا يغيِر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم. فما هى إذاً دوافع التصالح والوحدة؟

الوحدة فى التنوع..قوة

لأهالى جنوب كردفان كثيرٌ من القواسم المشتركة التى تربطهم عوضاً عن عوامل الإختلاف والفرقة، ومن أهم هذه القواسم علاقة الدم والإنتماء للمنطقة التى نتجت من التزاوج بينهم سواء أكان من من جانبٍ واحدٍ أو الجانبين، إندماج العادات والتلاقح الثقافى والتسامح الدينى وحق حرية الإعتقاد خاصة فى المجتمع النوبى الخالص الذى نجد فيه خليط من الأديان حتى فى الاسرة الواحدة. بما أن المحقق والكاتب السياسى الجسور الدكتور منصور خالد قد أفصح فى تحقيقه بعدم وجود سلالة عربية خالصة فى السودان إلا قبيلة الرشايدة (٥۸) فى شرق السودان والتى يشارك نفرٌ منها الجيش الشعبى لتحرير السودان الحرب ضد المركز، لا يسعنا إلا أن نضيف بترديد هذه المقولة بأنه لا توجد قبيلة خالصة العروبة فى جنوب كردفان. فإمتزاج دم كل أهالى جبال النوبة -إلا قليلاً - لا ينكرها إلا مُكابر. وفى عزمنا هذا لا نخال أو نتوهَّم القول بأن الخليط الإثنى فى جنوب كردفان هو نتيجة تزاوج نوبى- عربى فقط أو العكس ولكنه حتماً عربى- أفريقى أو العكس إلا أن الأخذ والإستمساك بلإنتماء للأبوة كعادة وتقليد عروبى ينكر حق الإنتساب للأمومة (Denial the worth of affiliation to motherhood) كعادة أفريقية (نوبية) قديمة فى السودان، (٥۹) وإنا لنعتقد بأن الأُم هى الأصل يجب أن نُنادى بها لولا إمتثالنا لقوله ﴿ أدعوهم لآبآئهم هو أقسط عند الله ﴾ (الأحزاب ٣٣/٥).
كما أشرنا سابقاً، تتميز ولاية جنوب كردفان بالتعددية الإثنية، السياسية - إذا جاز هذا الوصف - والتعددية الثقافية مما يجعلها نقطة إنصهار جامعة بحق لكل الثقافات. من أميز أمثلة هذا التنوع والإنصهار الثقافى الفنون الشعبية المحلية والتى أضحت وطنية. فمثلاً رقصات النُقارة، المردوم، الكمبلا، الكِرنق ورياضة المصارعة أصبحت فنون مشتركة تمارسها قبائل عرب البقارة والنوبة على السواء وبدون تمايز. فالمصارعة، أقوى عوامل الجمع الإجتماعى والمنافسة المحررة من الماديات، تعقد حولياً بين القبائل النوبية نفسها وبينها وبين العربية. رقصة الكايتة (إن لم تندثر بعد) - ويا لها من سحرٍ جاذب - التى تمارس حصرياً بواسطة السودانيين من أُصول نيجيرية هى الأخرى من عوامل الترابط والإلتحام الثقافى التى كانت تجمع بين قبائل المنطقة فى تلك الليالى القمراء. رقَّنى وأسعدنى جداً ما شاهدته يوماً على شاشة تلفاز الإمارات العربية المتحدة. شاهدت فرقة فنون سودانية وهى تعرض هذه الرقصات الشعبية بإسم السودان بأداء من أفراد الفرقة المكونة من مجموعات إثنية مختلفة من مختلف أنحاء السودان. ولكن أحزننى حقاً أن حكومات المركز تخفق فى تطوير أو قُل تعمل لتهميش هذه الفنون وطمسها وتتزيّد فى محاولة إبادة المجموعات التى تؤديها فى حرب خفية صامتة. لعمرى، إن هذه الفنون الشعبية قابلة للتطوير وتمثيل السودان ليس فى المحافل الأفروعربية بل العالمية خاصة المصارعة التى لها حضور وجمهور عالمى.

أما فيما يتعلق بالتسامح الدينى، فكثيراً ما نجد في الأسرة النوبية الخالصة، المسلم، المسيحى والكجور وكلهم يمارسون معتقداتهم دون الإخلال بحق الآخر فى إقامة شعائر معتقده أو ممارسة عبادات دينه. هذه هى حرية التدين والإعتناق كما يجب ألا تنفى هذه الحرية العمل لإستيعاب أكبر عدد من الأتباع دون تعصب بل بالمجادلة الحسنة و"الحشاش يملأ شبكتو". ولكن العنف لا يلد إلا عنفاً مضاداً وغير متساوٍ له فى المقدار خلافاً لقانون الطبيعة والفيزياء. أما علاقات النوبة الإجتماعية مع من ساكنهم الديار فلا تختلف عن علاقة النوباوى بالنوباوى، إن لم تكن أقوى فى بعض الأحيان. فعلاقات الصداقة، مثلاً، بين أبناء جنوب كردفان - قبل وبعد معرفتهم وتواصلهم بالأعراق الأُخرى - بغض النظر عن الإنتماءات السياسية والدينية لهم تعتبر من أقوى عوامل الوحدة فى المنطقة. من المؤسف أن هذه العلائق قد شوِهت وبدأ هدمها فى منتصف الثمانينات ثُمَّ دُمِرت تماماً فى تسعنيات القرن المنصرم وبداية القرن الحالى بتأجيج نار الفتنة ثُمّ إحداث شرخاً كبيراً فى هذه العلائق كما أسلفنا الإشارة لها. هذا على المستوى الفردى. أما على السلم القبلى الأعلى مرتبة فتسود علائق خاصة ﺒ "الكتاب" وكيفية المحافظة على العهود. لتوضيح أمر "الكتاب" لمن يسأل: ما "الكتاب"؟ نجيب أنه تعاهد وميثاق بالقسم على المصحف الشريف - القرآن الكريم - بين قبيلة نوبية وأخرى عربية - أو خشم بيتها - على الإخاء والتعاون فى السراء والضراء وعلى عدم الخيانة والغدر أو الأعتداء على الآخر كما يؤكد هذا الحِلف على سعى القبائل المتحالفة لمناصرة بعضها البعض عند الحاجة إذا ما هى تعرضت لإعتداءٍ "غاشم" بأُخرى خارج الحِلف. ونتيجة لهذه العهود نمت التحالفات لدرجة إئتمان البقارة على كثيرٍ من مواشى النوبة -خاصة الأبقار - لأن النوبة مجتمع مستقر ولا يميل للترحال بين سهول الجبال صيفاً وشتاءً وبين رمال شمال جنوب كردفان أو جنوب شمال كردفان خريفاً. ولكن من عجائب قدر النوبة وطيبة نفوسهم وسذاجتهم لبسطة فيهم أن هذه الأحلاف - القسم بالمصحف- أحياناً ما تتم بين المسلمين وأولئك الذين لا يدينون حتى بالإسلام مما يضفى على هذه الممارسة ظِلالاً كثيفة عن مغزاها الحقيقى وذلك لسببين: الأول أن الله ينهى عن مس المصحف بأى كائن - مسلم وغير مسلم - من غير الطهارة المعنوية بأداء الوضوء، الإغتسال أو التيمم ﴿لا يَمَسُّه إلا المُطَهَّرون﴾ (الواقعة ٥٦/٧٩) فكيف يجوز مَسُّ المصحف بغير المسلمين؟ مهما يكن ما يضمره أو يبطنه هذا الميثاق، فقد حافظ على مضمونه الظاهرى سنيناً عدداً إلى أن محته حكومات المركز الحالية وتلك التى حكمت السودان. فأما السبب الثانى هو أنّ النوبة لا تعرف الإغارة على الغير سبيلاً إليهم. إذن لماذا يتلاعب المبشرين الإسلاموعروبين وأهل الدين فى المنطقة بالمنهى عنه؟ لا غرابة فقد إقترن مراسم تولى المناصب الدستورية أو العليا بأداء قسم الولاء على القرآن أو الإنجيل دون مراعاة بواسطة أُولى العِلم لهذه الشروط والشعائر مما يستوجب بحثاً حثيثاً. على أية حال، ما يهمنا هنا هو أن يُحْى أهالى جنوب كردفان هذه الأحلاف وتطويرها وليتعاونوا على البر بدلاً من الإثم والعدوان. فما التطرف الإثنى - فى غير موضعه - والتشدد الدينى (لا ياشدد أحدُكم فى الدين إلا غلبه) إلا منبتاً لتاءاتٍ ثلاثة و"هاءٍ" واحدة (إن جاز لنا أن نقتبس من السيد الصادق): التباغض، التنافر،التناحر والهلاك. كل هذه تستوجب إستحسان الناس لأنفسها بإجتنابها ونثر ثقافة الحب والسلام، ليس الحب للأرض فقط بل لبعضهم البعض. فالأرض التى هم بها مفتنون لباقية لا تزول إلا إذا زلزلت زلزالها وشاء الله أن يرثها ومن عليها. فلاريب، أن نشر ثقافة الترابط والوحدة بين أبناء هذا الإقليم الكبير والغنى سيؤدى حتماً إلى الأمن والإستقرار حسبما نرى إذا النفوس تطايبت، كما يقولون، فأفشوا السلام بينكم تحابوا. فشعب جنوب كردفان يبغى سلاماً حقيقياً مستداماً يمكنهم من تنمية وإستغلال موارد الولاية.

تعتبر ولاية جنوب كردفان من الولايات الغنية بما تذخر به من موارد طبيعية من أراضى زراعية خصبة، أمطارٍ غزيرة، غابات، ثروة حيوانية كبيرة، معادن، ومخزون ضخم من النفط الخام إلا أن إغفال حكومات المركز المتعمِد عن الإستغلال الأمثل لهذه الموارد للتنمية والنهوض بالمنطقة إقتصادياً، إجتماعيا، سياسياً وثقافياًً حال دون إحداث تغيير، إيجابى كمّاً ونوعاً، فى حياة المجتمع أو الفرد. أدى هذا الإهمال والتهميش إلى حرمان الأهالى من كل شئ فأصبح الفقر المتقع سمة وصفة ملازمة لساكنى الولاية، فضلاً عن كون الوافدين من خارج المنطقة هم المستفيدون الحقيقيون من هذه الموارد. فالزراعة المطرية التقليدية والنشاط الرعوى التقليدى، مثلاً، يعتبران من أهم الدعامة الإقتضادية لغالبية سكان الإقليم وعليه لابد من تطويرهما بتوفير مدخلات الإنتاج التى تؤدى للزيادة الإنتاجية، توفير وسائل التسويق وحماية المنتجات المحلية وترشيد إستغلال الأرض، المراعى وتقنين الإستغلال الغابى لدرء مخاطر الأنشطة الجائرة للمحافظة على التوازن البيئى والإيكولوجى. أما فى مجال المعادن، فبالإضافة إلى البترول فى الركن الغربى من الولاية والذى أُستقطع ليكون غرب كردفان ثم رجع الحق إلى حيث أُخِذَ، يتوفر فى الإقليم خام الحديد واليورانيوم (٦٠)، فعلى حكومة الإقليم وأهله العمل سوياً للإستفادة من الفترة الإنتفالية لرفع مستوى التنقيب عما يكتنزه ويحمله رحم أرض جنوب كردفان وزيادة إنتاجية النفط وكذلك إنشاء مصانع تحويلية بالإضافة إلى إعطاء أولوية فرص العمالة لأبناء الاقليم. هذا النهج سيؤدى إلى الإسراع فى التنمية المتكاملة على مستوى الاقليم ولا يتأتى ذلك إلا بتوحيد رؤى أبناء الاقليم. ليست هذه بأمانى وأحلام زلوط بعيدة المنال فتحقيقها سيؤدى لا محالة إلى إحتواء مسببات الحرب وعدم العودة إلى المربع الأول الذى سيؤدى إلى المزيد من الإنحدار إلى الوراء بالتدحرج على البطن.

العقل السليم فى الجسم السليم، قولٌ مأثور شهير وقديم، ومن التأسى أنه أجوفٌ فارغُ المحتوى بالنسبة لأهالى ولاية جنوب كردفان ليس لدَمَامَة فى دماغهم لكنّ الحرب دمّرت كل شئ خدمى ولم تترك له باقية وأفرزت كل ما هو سالب، فإنتشر الداء بدون دواء، ووهن البدن من أفاعيل الجوع والمرض. ومن أخطر هذه الإفرازات تفشى الكراهية وإنعدام المروءة والبر. فالتنمية التى تطرقنا لها لا يمكن أن تتم إلا فى مناخ صحى ومجتمع معافى قادر ومؤهلاً تعليمياً وعلمياً للقيام بواجبه. ففى فترة الحرب تدنت الخدمات الصحية ودمرت مرافقها. ساءت طرق المواصلات التى لم تكن هنالك أصلاً بل تجنَّب الناسُ ما كانوا يستخدمونه من الطرقات خوفاً من الألغام وكمائن القوات الحكومية، قوات الدفاع الشعبى والجيش الشعبى لتحرير السودان. أثناء الحرب هُدِمت المدارس بجميع مراحلها ونتيجة لذلك فقد جيلان، على الأقل، من أطفال جنوب كردفان فرص التعليم إلا القلة من القادرين الميسرين. هنا، لا بد أن نضرب مثلاً للخراب الذى طال الحقل التعليمى ولتكن مدرسة كادقلى الثانوية العليا للبنين -الأسطورة - والمعروفة حالياً ﺒ "تِلَو Tillaw" ضرباً لذلك المثل. لا جدال فى أنه لم تكن هناك أكثر من أربع مدارس حكومية ثانوية نظامية فى الإقليم بما فيها مدرسة واحدة للبنات، ومع نشوب الحرب خاصة فى تسعينيات القرن الماضى تحولت هذه المدرسة من منهلٍ للعلم إلى حقلٍ لصنع المجاهدين ومركزاً لتوجيه ومتابعة العمليات العسكرية فى الأقليم. فإلى لحظة كتابة هذه الأسطر تحولت نفس المدرسة مرة ثانية لمقر اللجنة العسكرية المشتركة (Joint Military Commission-JMC) لمراقبة إتفاقية وقف إطلاق النار فى إقليم جبال النوبة. فالحق يُقال أن هذه المدرسة خرّجت من القادة عدداً ليس بالقليل على الرغم من محاولة الكثير من إنكار هذه الحقيقة أو النيل من سمعة المدرسة. إن التدنى فى الخدمات الصحية، الطرق و"الفجوة" التعليمية - فى الزمان والمكان - بين أبناء الأقليم وبعضٍ من الأقاليم الأُخرى ستخلق مجتمعاً يسوده الشعور بالدونية وغالباً بالإتكالية على من نال حظه من التعليم من الأقاليم الأُخرى. وما نخشاه أن تعود نفس الأفكار القديمة والهيمنة بسبيبة عدم إمتلاك هؤلاء الناس المؤهلات العلمية المطلوبة للخدمة. فالتعليم حق كل مواطن خاصة النشئ الذين سيقع على أكتافهم مسؤولية قيادة الوطن وليس جنوب كردفان فقط. فالعلم وليس قوة ما يخرج من فوهة البندقية فى هذه المرحلة، هو ما تحتاجه الولاية لأن السلاح قد أدى رسالته وخيّر مواطنى جنوب كردفان بين شرور الحروب ونِعم السلام. فشرّ الحرب شيطانٌ أخرصٌ مارد غير مرغوب ولا مطلوب. السلام خيراته كثيرة ولكنها غير دانية القطوف ولا تتحقق إلا بالتضامن، التسامح وحدة الرؤى والمصير.

إن كان دور المركز هو إدامة التهميش وإهمال الأطراف، فقد جاءت الإتفاقية لتكشف الغطاء عن ذلك الدور وتفتح أبواباً واسعة لأن يلعب أبناء الولاية دوراً مضاداً، سلمياً وسياسياً، لأفاعيل السلطة المركزية أو أى حزب سياسى يطأ بلاط السلطة. قد يجادل المجادلون أن الخروج عن البرامج السياسية للأحزاب جريمة وإثم عظيم. لهولاء نقول: أن التاريخ القديم والحديث للسودان أثبت أن تلك الأطروحات لم تخدم إلا قمة تلك الأحزاب وما على جماهير الحزب، أى حزب، إلا التهليل والتكبير وفى كثير من الأحيان التركُّع، التسجُد وتقديم الهبات ليزدادوا هم فقراً ويزداد القادة غِناً. فإنا لم نسمع أن رئيساً منتخباً بطريقة ديمقراطية إحتفل بإفتتاح مدرسة، أية مدرسة، أو طريقاً، أية طريق، أو أُنشئ مصنعاً فى جنوب كردفان. هذا ليس إذكاءً وحبوراً لما نفّذته النُظم الديكتاتورية من خطط تنموية سابقة لمجيئها للحكم لأن فى التنفيذ مآربٍ أُخرى. فالنظم العسكرية والحكومات المدنية التى حكمت تساوت فى ممارسة الظلم على الأطراف. مثلاً، إشتركت الأنظمة العسكرية والمدنية فى سلب الأراضى الزراعية بجبال النوبة وتمليكها لمحسوبيهم بدلاً من وضع الخُطط الكفيلة للتنمية والقيام بتقديم الدعم لتطوير أهالى هذه المناطق إقتصادياً لإزالة التباين والتفارق الإجتماعى حتى لا يكون هناك سبباً أو مجالاً للشكوى بالتهميش. مثالاً آخر، لم يكن إستخراج البترول السودانى هدفاً إقتصادياً قومياً بقدر ما كان لدعم الحرب ولرفاهية الأخيار من الأغيار فضلأ عن ترنح مناطق الإنتاج فى الهجليج والأراضى التى تمر بها أنبوب نقل الخام تحت أزمة تخلف تنموى ودمارٍ حقيقيين مقارنة بالتنمية التى حظيت بها منطقة التكرير فى الجيلى وشمالها. وهل أتاكم نبأ طريق الغرب التى فيها قالت الناس ما قالوا وفيها إختلفوا ما شاء لهم الإختلاف وأضحوا فيها يتساءلون؟ هذه الطريق الأسطورة التى لم تكتمل ولم تحل طلاسمها مثالاً آخر لإدمان الإهمال الذى يعانى منه المركز فى أى أمرٍ أو مشروعٍ يخص هوامش جنوبى كوستى. إننا لا ندعو إلى التمرد على الأحزاب وتركها لأن الإنتساب الحزبى خيار فردى (نتمنى أن يكون طوعياً وعن إقتناع وليس إرثاً عن الآباء والاجداد) - ولكنّا نحبِّذ نبذ هذه الأحزاب التقليدية التى تؤخر ولا تُقدِّم فإن فى ترك ما لا يُقدِّم حنكة وفضيلة. كما لا نشجع الإسراف فى الإنغلاق على السياسة المحلية وترك ألاعيب السياسة المركزية دون مراقبتها. فالإنغلاق والإنطواء على النفس ومحلية الرؤية لا يجلبان ألا التعاسة وفيهما شبئ من الأثم وكثيرٌ من عدم التمثيل الصالح للشعب. فإن كنا حقاً نعمل بإرادة الشعب مع الشعب وللشعب، فلا بد لنا، بلا شك، أن ندعو لتسطير برامج الأحزاب لتلبى- بحق وحقيقة - طموحات الجماهير والصعود بهذه المطالب عمودياً لقمة الهرم لا لخدمة قلة بل تجب أن تكون الخدمة لمناطق السودان المختلفة مع مراعاة القِسط والتوازن بدلاً من دعم وتنفيذ تلك البرامج التى تمليها قادة الأحزاب لخدمتها هى أولاً ثُمّ مناطقها ثانياً وأخيراً.

الخلاصة
لم يشهد السودان إستقراراَ مع نفسه من أغسطس ١٩٥٥م إلى ديسمبر٢٠٠٤م إلا بمقدار إحدى عشر سنة من السلام النسبى بفضل إتفاقية ١٩٧۲الموقعة بين حكومة جعفر نميرى وحركة الأنيانيا۱ بأديس أبابا. طيلة هذه الفترة عزا أهل السودان عدم الإستقرار هذا ﻟ "مشكلة الجنوب" بدلاً عن مشكلة السودان بأسره وذلك لتجاهلهم التشخيص الدقيق والصحيح لمشكلة السودان كما لم يفعلوا شيئاً لحل المشكلة المتمثلة فى التنمية الإقتصادية غير المتوازنة، التهميش السياسى، الإقصاء والظلم الإجتماعى والإستعلاء العرقى والدينى. النظرة الأحادية للمشكلة على محور شمال - جنوب نتجت عنها سنوات من الغضب فى جنوبى وسط وشرق السودان (جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق)، شرق السودان (البجه) وغرب السودان (دارفور) ومن ثَمّ الإنفجار بحمل السلاح ضد الحكومة بعدما فشلت الطرق السلمية للمطالبة بحقوقهم الشرعية.
تحمّلت منطقة جبال النوبة - أرضاً وشعباً - وزراً ثقيلاً لحربها ضد حكومة الخرطوم. ففيها وعليها تم الإعتداء على حرية الفرد للحياة وجلب النزاع كثيراً من مآسى الفقر ودمار كلى للخدمات والبنية التحتية فضلاً عن تدهور العلائق والنسق الإجتماعى بين سُكان المنطقة نتيجة لإستغلال السلطة الحاكمة الدين والإثنية لتفكيك الترابط الذى تمتع به أهل المنطقة. جاءت إتفاقية السلام الشامل التى أُبرمت بين حكومة السودان والحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان فى التاسع من يناير ۲٠٠٥م بإيجابياتها وسلبياتها لتتيح الفرصة للتسامح والتصالح بين أبناء الإقليم لإسترداد ما سلبته الحرب من التعايش السلمى والعمل جميعاً للحفاظ على مكتسبات الحل السلمى للنزاع ولكسب الكثير مما لم يتحقق للنهوض بالمنطقة أمنياً، تنموياً، إقتصادياً وإجتماعياً.
عملت القيادات الأهلية المحلية الأصيلة على رأب الصدع على الرغم من محاولات الحكومة الدؤوبة لإفشال المساعى الحميدة من مؤتمرات الصلح. على الرغم من التعددية الإثنية، الدينية والثقافية فى المنطقة إلا أن الثوابت التاريخية تؤكد قابلية هذه المعطيات على النمو لإثراء إرث التعايش السلمى المحلى كما أنّ إستغلال الموارد الطبيعية التى تذخر بها جبال النوبة كفيلة لتنمية المنطقة ورفع مستوى المعيشية فى الإقليم. يعتمد نجاح وإستدامة إتفاقية السلام على وحدة وتماسك مواطنى الولاية للمحافظة على ما تم تحقيقه فى بنود الإتفاقية والسعى لنيل المزيد من المكتسبات. ولتحقيق هذه الوحدة لا بد من إرساء مبادئها المتمثلة أولاً فى التسامح والمصالحة والعفو عما إقترفه أبناء جنوب كردفان فى حق أهلهم نتيجة لافرازات الحرب السامة والنهوض بالمنطقة أمنياً، إقتصادياً وإجتماعياً من خلال تنمية الموارد تنمية رشيدة.

هوامش وإحالات

٣٦. نسبة للتزاوج عبر العصور بين القبائل العربية والأفريقية يصعب بل يندر الجزم بأن هنالك قبائل عربية خالصة فى السودان ناهيك عن جنوب كردفان. راجع كتاب المحقق والمحلل السياسى الدكتور منصور خالد، السودان: أهوال الحر ..وطموحات السلام. قصة بلدين. ص ٣٩. دار تراث - لندن.
٣٧. إنضمّ إلى صفوف الحركة الشعبية مجموعات إثنية مختلفة (عرب وغير عرب) وذات معتقدات دينية متباينة
(مسلمين وغير مسلمين). رأت هذه المجموعات جاذبية أهداف وبرنامج الحركة الشعبية وقالبليتها لحل قضايا السودان المزمنةالمتمثلة فى الظلم، إنتهاك حقوق الإنسان والتهميش. من أبرز الشماليين فى الحركة، الدكتور منصور خالد والقائد ياسر عرمان الناطق الرسمى للحركة الشعبية لتحرير السودان.
٣۸. وصل تسليح القبائل العربية فى جنوب كردفان قمته فى عهد السيد الصادق المهدى عندما كان اللواء فضل الله برمة ناصر وزيراً للدفاع. تجدر الإشارة أن فضل الله برمة ناصر ينتمى إلى هذه القبائل من ناحية الأب وأن جذوره نوبية من ناحية الأُم.
٣٩. محمد سليمان محمد. السودان: حرب الهوية والموارد. لندن، ۲٠٠۲م.
٤٠. نفس المصدر.
٤١. عمر مصطفى شركيان. النوبة بين عهدين (١٩۸٥-١٩۸٩م) ( ١من ٣). جريدتى سودانايل و سودانيز أُونلاين الإلكترونية. ١٦ مايو ۲٠٠٥م.
٤۲. محمد سليمان محمد. السودان: حرب الهوية والموارد. لندن، ۲٠٠۲م.
43. De Waal, A, Massacre in the Mountains While the World Looked the Other Way, 2005 in http://www.thepolitician.org/sudan/articles/massacre_in_the_mountains.html.
44. Flinet, J, Democracy in a War Zone: The Nuba Parliament, in The Right to be Nuba: The Story of a Sudanese People’s Struggle for Survival, Rahhal, S M (editor). The Red Sea Press Inc, 2001. Page 103.
45. De Waal, A, Massacre in the Mountains While the World Looked the Other Way, 2005 in http://www.thepolitician.org/sudan/articles/massacre_in_the_mountains.html.
٤٦. قصص الأنياء لإبن كثير أو قصص الأنبياء فى مجموعة أشرطة طارق السويدان.
47. De Waal, A, Massacre in the Mountains While the World Looked the Other Way, 2005 in http://www.thepolitician.org/sudan/articles/massacre_in_the_mountains.html.
٤٧. أمين زكريا إسماعيل. ايجابيات ومهددات تطبيق اتفاقية السلام والوحدة كعامل استراتيجى لمواجهة التحديات. جريدة سودانيز أُونلاين الإلكترونية. ۲٠ مايو ۲٠٠٥م.
49. De Waal A. Facing Genocide: The Nuba of Sudan, 1995. African Rights. ISBN 1899477047.
50. Peace from Within, see http://www.sudanupdate.org/REPORTS/Oil/13pw.html
51. Al-Bashir, I H, In Search of the Lost Wisdom: War and Peace in the Nuba Mountains, Khartoum, 2002.
52. See the terms of the Nuba Mountains Ceasefire Agreement, Switzerland, January 19, 2002. http://www.iss.co.za/AF/RegOrg/unity_to_union/pdfs/igad/NubaCeasefire.pdf.
53. See the resolutions of All Nuba Conference, Kauda, the Nuba Mountains, December 2-5, 2002. http://www.arkamani.org/newcush_files/hist_documents/ancfullreport1.htm
٥٤. محمد سليمان محمد. السودان: حرب الهوية والموارد. لندن، ۲٠٠۲م.
55. See the terms of the Nuba Mountains Ceasefire Agreement, Switzerland, January 19, 2002. http://www.iss.co.za/AF/RegOrg/unity_to_union/pdfs/igad/NubaCeasefire.pdf.
56. See the resolutions of All Nuba Conference, Kauda, the Nuba Mountains, December 2-5, 2002. http://www.arkamani.org/newcush_files/hist_documents/ancfullreport1.htm
٥٧. توصيات ومقررات المؤتمر الأول لكل القبائل من ٩ - ١١ أبريل ۲٠٠٥م - كاودا/جبال النوبة.
٥۸. منصور خالد. السودان: أهوال الحربززوطموحات السلام. قصة بلدين. صفحة ٣۹، ۲٠٠٣.
59. William, Chancellor. 1987. The Destruction of Black Civilization: Great Issues of a Race from 4500 B.C to 2000 A.D. Third World Press, Chicago, Illinois.
كان النوبة وإلى عهدٍ قريب يورٍّثون إبن الأخت ممتلكاتهم وسلطانهم عند الممات إلى أن حُرِّمَ هذا الإرث بعد الأسلمة. وما يدعو للإستغراب أن هذا التقليد الأفريقى لم يتم القضاء عليه حيث كانت إنتقال السلطة من الخال إلى أبناء الاخت ذكوراً أو إناثاً وما لبث إلى أن تمكّن هؤلاء الوافدين حتى ألغوا الأرث وهكذا إنتقل الحكم للإسلاموعروبيين فى السودان عن طريق أبنائهم من أصلابهم ومن أماهاتٍ أفريقيات الأصول. وحديثاً يُقال فى السودان الأب خال، والخال بيحلف أن هذا إبن أُختى خلافاً للعم الذى قد يتردد كثيراً فى الجزم بنسب مولودٍ لأخيه!
٦٠. أمين زكريا إسماعيل. ايجابيات ومهددات تطبيق اتفاقية السلام والوحدة كعامل استراتيجى لمواجهة التحديات. جريدة سودانيز أُونلاين الإلكترونية. ۲٠ مايو ۲٠٠٥م.

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved