طأطأ القدر الجبار هامته فانطلقت رشقات الردى لترسم وشم الموت على جبين شهيدنا الذي إكتسته ابتسامة ساخرة فتمتم قائلا " إني لا أخافك أيها الموت ... فما أنت سوى بغل تحملنا إلى حضرة الرب"...لقد كان الجرح غائرا حتى الأحشاء ...اتسعت عيناه، ثم شهق شهقة احتضار حتى كحل ظلام المنون أجفانه ثم استغرق في سباته الأبدي .
" رجموا جثته حياً
دفنوه في أعماق التربة
وأقاموا الجدران
لم تكن الجثة ما يخشون
ولكن الحكمة والكبرياء "
سادتي : الأخيار والأشرار، الأبرياء والخطاة، القضاة واللصوص، دعونا نقطف اليوم زهر الشجن الأليم لننشد في خشوع أمام قبر لوممبا دارفور الذي صلبناه:
" مشى على الأشواك أزمانا وأزمانا
وعانق الأرض جوعانا وعريانا
وعاش يسقي من عروقه الثرى دما
ثم خر تحت رشق الرصاص مصلوبا"
نعم كان عاريا إلا من هموم العرايا، محرر الروح من ربقة الجسد، يمضغ أحزانه في صمت وهو يسير وحيدا على طريق الآلام حاملا أكفان الشهادة على كتفيه، يمد يده ليمسح على آثام جراحنا المتقيئة، يفتدي الثوار وخطاياهم بفواتير من قطرات دمه، ثوبه مرقع ......حذائه مثقوب..... وأقدامه متشققة.
شهيدنا هو عبد الله بن الفكي حسب الله دومي، مواليد عام 1960 بقرية مزيد، شمال دارفور، إدارة إنا دقيل، درس القانون بالمغرب وتخرج فيها عام 1984 حيث سلك درب جيفارا ولوممبا متنقلا بين كهوف جبل مرة ومنعرجات وادي هور وأدغال أفريقيا الغربية والجنوبية. تدرج في سلم القيادة حتى أصبح حكيم الحركة وأم الثوار، لم يمت العملاق وإنما روحه الطاهرة هي التي صعدت لبارئها في 28/5/2005 بمنطقة مهاجرية.
"أبداً لم تمت
فمثلك فوق الموت والنسيان
إنما الموت للزواحف فوق الأرض"
أي زاهد هذا الذي يقتات أديم الأرض ويقنع بالعيش بين الكهوف، أي حكيم هذا الذي يأبى الثأر لقتل أبيه الشيخ الوقور الذي تجاوز الثمانون عاماً، وأي قلب هذا الذي يحمل بين جوانحه حزن وأسي استشهاد جميع أشقائه الخمس، وأي راهب هذا الذي يناجي ربه طالبا أن يمنح الثوار الحب والفضيلة بدلاً من الحقد والكراهية وأي تضحية أعظم من أن تسقط قتيلا لتنقذ ما تبقى من مودة بين التورابورا....ياللشجاعة ويا للكبرياء ويالك من معجزة أخلاقية.
كنا نقرأ في عينيك حلم الثورة، نراك حاملاً عصاك تحت ذراعيك، تشمر ردائك الأسود، تلهث صائحاً الوفاق....
الوفاق.... لا تقتلوا المسيح من جديد .....لا تقطعوا رأس الحسين في كربلاء..... ها قد أتى ابوبكر من مكة على صوت بلال....ها قد جاء دور العقل فقد أدى حملة السيوف واجبهم من دون أن يدركوا الهدف، فلنمنح الحكمة فرصة.
أخي أكاد ألمس صوتك وأنت تودعنا في فبراير الماضي بعد أن قرأت لك أبياتا من قصيدة "مقتل السلطان تاج الدين" لنازك الملائكة:
"وكان هناك بحر الدين
وأشار إلينا تاج الدين
ومضى السلطان يقول
يا أخواني هذا زمن الأحزان
داسو عزة أرضك
هتكوا حرمة عرضك
غرباء الأوجه سفاكين
إن الموت اليوم شرف
فأضرب.... أضرب يا تاج الدين
بالسيف والحربة....... يا دار مساليت أنا حي".
والله لو فتحوا قلب هذا الشهيد لوجدوا دار مساليت ودار زغاوة ودار الرزيقات بل وكل دارفور ممتدا في دمائه..هواه وحبه دارفور يكبر كلما كبر حتى صار أقوى من الموت وأبقى من تراب اللحود.
"أنت وان أفردت في دار وحشة
فاني بدار الأنس في وحشة الفرد"
عليك سلام الله مني تحية
ومن كل غيث صادق البرق والرعد"
ابن الرومي
عبدالرحمن حسين دوسة