بتاريخ(السبت)الموافق 11/06/2005م عدد الصفحات قبل النشر(43)
كتاب الفن والجمال والسلام والمحبة ..وقراءة منه وتأملات .. على قمة جبل مرة (الجزء الثاني)والأخير:
لا أدري بعد(بسم الله) ..ما إذا كنتم ستعتبرون هذا الذي سوف تقرءونه(رواية)للقراءة مجاناً على الإنترنيت؟ ..أم ستعتبرنه(مجموعة قصص واقعية قصيرة)؟ ..أم أنكم ستعتبرنه مثلما وعدتكم سابقا ..النصف الثاني المنتظر من(مقال) قديم ..كانت سطوره الأخيرة تتحدث عن مشكلة دارفور المستعصية؟دون وضع النقاط على الحروف آنذاك.
وقبل مواصلة ما إنقطع من حديث بدأناه في الماضي .. ستجدونني أعرض عليكم بعد بضع فقراءت تذكيراً بأهم ما جاء في الجزء الأول من المقال..خاصة وأن المدة قد طالت منذ ذلك الحين .. كما أرجو كذلك أن يتسع صدر القراء الكرام هذه المرة ..كي (أتمرد) على الأسلوب التقليدي في المقالات مثلما تمرد القائد الذكي الدكتور/جون قرنق ديمبيور في خطابه الذي ألقاه يوم الإحتفال بالتوقيع النهائي على إتفاقية السلام ذكر فيه ما راق له ذكره في يوم لن يتكرر ولكن وصفه المراقبون بالخطاب (المطوّل)..لأقحم حديثي عن (كتاب شديد الأهمية وبالغ القيمة في نظري)مثلما تفعل الفضائيات عندما تقحم(دعاياتها التجارية)المملة وسط برنامج مشوق تشرئب له أعناق المشاهدين.
فقد سألت نفسي قبل أن أكتب هذا النصف الثاني من المقال ..ياترى ما هو التاريخ الحقيقي لميلاد الإنسان ..هل هو التاريخ الذي يُكتب عادةً في شهادة ميلاده ..أم هو اللحظة الأولى التي يشعر فيها الطفل بوجوده أول مرة في الدنيا كأنسان ..لتبدأ ذلك زخيرة (الذكريات) في ذهنه في التنامي والإزدياد؟...فمن منا يذكر ساعة خروجه من بطن أمه أول مرة وهو يبكي؟ من منا يذكر الشهور الأولى التي قضاها طفلا رضيعا في حضن أمه ؟ ..ومن منا كذلك يذكر أول يوم تم فيه فطامه ؟..بالطبع لا أحد منا يذكر ذلك .
إن مسقط رأسي حسب شهادة ميلادي الأصلية هو مدينة من مدن(جنوب كردفان)..فيها جبل من جبالها ..كاد يشبه من إنحناء قمته (جبل النور) في الأراضي المقدسة..تحيط به الخضرة والمنازل من كل ناحية وصوب ..وعشاق الجمال يتسلقونه عيدا تلو عيد ..وهو المنظر الذي تعرضه(الفضائية السودانية)من حين لآخر ضمن المناظر الخلابة المختارة التي تذخر بها البلاد ..وإسمه(الجبل أبو زمام)..كنت مولودا بالقرب من سفح هذا الجبل الذي هو جبل من جبال النوبة ..ولأبوين (أسودين) مثل لبّ الأبنوس ..وهما أيضا من جبال النوبة.
ولما كان والدي يعمل معلما بالمرحلة الأولية كان لا بد له أثناء القيام بمهمته السامية تلك ..أن ينتقل بنا من مدرسة إلى مدرسة ..وبالتالي من قرية إلى قرية ..وربما من قرية إلى مدينة ..وليجتاز بنا حدود الولاية التي كنا بها إلى ولاية أخرى أيام كانت الولايات (مديريات) ..وكان الزمان زمان (المعلمين) ..ليرينا بأعيننا جزءاً من جمال (التنوع الثقافي) في بلادنا قبل أن يتحدث الناس في زماننا عن جمال التنوع..تلك الميزة الفريدة التي خص الله بها بلادنا ..غير أنني قبل سن الثانية تقريبا وقبل بلوغي سن الفطام ..كنت مخلوقا بجسد وروح لا أكثر ..مخلوقا بلا ذكريات ..مخلوقاً يبتسم إبتسامة جميلة ليسعد بها والديه ..ولكنه لا يذكر من تلك الإبتسامة شيئاً ..ولا من فرحة والديه بها شيئاً....وكنت هكذا بلا ذكريات حتى جاء اليوم الذي بدأت أشعر فيه لأول مرة بأنني إنسان موجود على كوكب الأرض .. كان ذلك في حوالي سنة 1961م ..ووقتها ربما كان عمري آنذاك ..لا يزيد كثيرا عن السنتين.
إن أول شيئ رأيته بعيني ولا أذكر إني قد رأيت قبله شيئاً ..هي أمي التي كانت تحاول جاهدة في إخراج مكعبات الثلج الملتصقة في قالب مستطيل الشكل صنع من مادة الألمونيوم أخرجته في التو من ثلاجة المنزل ..ولا أدري ما إذا كانت الثلاجة وقتها تعمل بالكهرباء أم بوقود الجاز الأبيض ..وكان في إمكاني أيضا النظر إلى ما حولي من أشياء أخرى تبدو غريبة ..فرأيت بنيانا فخما يضم أسرتنا بنته الدولة في الماضي بعناية ومسؤولية وجهزوه بأحسن تجهيز بما في ذلك الثلاجة التي وجدناها هناك.. وكان لا بد لي كذلك أن أسمع بأذني بعد أن رأيت بعيني ..فسمعت والدي يردد كلمة لم أكن أعرف معناها وقتها ..بيد أنها كانت تكرر دوماً في حديثه وهي كلمة(قارسيلا)..فعلمت فيما بعد أن هذا هو إسم المدينة التي كنا نعيش فيها ..وفيها بدأ(عداد)الذكريات عندي يعمل..بدأ يعمل هناك في (دارفور) وفي إحدى مدنها الصغيرة أو قراها الكبيرة.
وقد أضافت والدتي إلى (ذاكرتي) ولا أقول (ذكرياتي)..معلومات جديدة تخصني ولكن كان من المستحيل معرفتها بنفسي ..قالت لي عندما كنت أنا جنينا في بطنها ونحن ما زلنا ففي جبال النوبة ..قال لها والدي : إن كان (مولودنا الأول) هذا ذكراً ..سميته(الفاتح)..وإن كان أنثى سميتها(فتحية) فأتى المولود ذكرا فسماه كما أراد ..وأضافت والدتي قولها :كانت ولادتك عسيرة وداخل مستشفى ..كما كان سفرك معنا عسيراً إلى (دارفور) ..إذ إنقلبت بنا العربة في جنح الظلام وهي في طريقها إلى(قارسيلا) ..بحثنا عنك في تلك الليلة الليلاء في كل مكان فلم نجدك ..بحثنا عنك بين جثث الموتي ..بحثنا عنك بين جوالات الذرة المتناثرة ..بين أطفالا يصرخون أمهات يبكين ..فلم نجدك ..وبعد أن أخذ والدك مصباحا يدويا يعمل بالبطارية الجافة وبحث في مكان آخر..وجدك في مجرى الشاحنات وأنت ترضع أصبعك دون أن تحدث صراخاً ولا بكاء..فقلت في نفس إثر سماعي هذا ولكن بعد سنين(الأعمار بيد الله حقا).
لقد علمتني (دارفور)وأثبتت لي بالدليل والبرهان أن العلم في الصغر كالنقش كالحجر ..وأن الأطفال عندما يكبرون وتنقطع صلاتهم بالأرض التي عاشوا فيها وتركوها وبالناس الذين كانوا حوله ..فإن ذاكرتهم تبقى وفية لهم وللأرض التي عاشوا بها وإن طال الفراق وبدى فراقا أبدياً..لذلك فإنني ما زلت أذكر(جقدول)الذي علمت (قبل عامين)فقط دون أن أراه عن طريق شقيقتي وزوجها اللذان يعيشان في دولة أخرى من دول الخليج العربي ..أن (جقدول)الذي كان يكبرني بأعوام قليلة ..الآن أصبح من كبار رجال الأعمال ليس في منطقته دارفور فحسب ، ولكن تخطت تجارته حدود السودان ذاته ..بل أنه هو الذي تعرف بهم خاصة إذا علمنا أن شقيقتي عندما كنا بدارفور لم تكن قد ولدت بعد ..وكيف لا يذكرنا (جقدول)هكذا والعلم في الصغر كالنقش على الحجر.
مازلت أذكر صديقتي الحلوة الجميلة بنت الجيران ..أذكر إسمها وهو(هويدا)..وكيف أنها كانت من فرط صغر سنها ..تأتي بها والدتها وهي محمولة على ذراعها قبل أن تضعها بالقرب مني في فناء المنزل لتذهب والدتها بعد ذلك لوالدتي ..لنلعب سويا..ونمرح سويا ..ونبكي سويا ..ونضحك سويا!
أذكر أخي الذي كان يصغرني مباشرة وإسمه (صلاح الدين)..ولم يكن بيننا أخ ثالث بعد..أذكر كيف أنني كنت أمسك بيديه (لأتاتيه) حتى يقوى على المشي ..كنت أحبه حبا شديداً ولا أقوى على فراقه لحظة ..ولكنه توفي بعد أشهر من عودتنا إلى حيث مسقط رأسي في جبال النوبة..توفى وهو لم يزل طفلاً صغيراً ..وكان من فرط صغره لما توفي ..لم يكن قادراً على نطق كلمة (صفيحة)وهي آنية الإناء التي تستخدم في ذلك الزمان ..فينطقها (صفيفة) ..ولم أبك لموت أحد في حياتي مثلما بكتيت لموته .. وبقي في ذاكرتي حتى كبرت ..فعملت ..فهاجرت ..فتزوجت ..فأنجبت طفلا في بلاد المهجر ..سميته(صلاح الدين).
أن أول (لوحة تشكيلية) رأيتها في حياتي فأعجبتني ومن يومها إتخذت الرسم هوايتي في صباي وشبابي لأشارك بعد ذلك بأكثر من (أثني عشرة) لوحة تشكيلية جميلة بيعت جميعاً.. في إحتفالات عيد الإستقلال الذي أقيم في مدينة (كادوقلي)بجنوب كردفان في حقبة السبعينات وحضره رئيس الجمهورية /جعفر النميري.. وكنت وقتها ضمن فريق من مجموعة فنانين تشكيليين على رأسهم الفنان التشكيلي /عبد الرحمن بيليه الذي كتبت عنه الصحف العربية والمجلات منها مجلة الشرق الأوسط ..هي(صورة لحافلة كبيرة تقل ركاباً) رسمته لي والدتى بالسبابة على (أرض درافور) ..وعلى الرمل الناعم في فناء منزلنا هناك.
كما لا بد أن تكون والدتي قد تعلمت شيئا من فنون الطهي لدى نساء دارفور ..بل أنني أعتقد إذا عجز الباحثون في بلادي يوماً عن العثور على (مصدر الإلهام) للشعب السوداني في صنع أغلب أكلاته الشعبية وأسرار (خلطاتها) ..فليسألوا (المرأة الدارفورية) خاصة في عصر(سلطنة دارفور) لعلهم يجدون منها الإجابة ..وإن لم تكن والدتي قد تعلمت منهن شيئا من فنون الطبخ ..فيكفي أن أرى(البرتال) دوما يغطي أطباق الطعام في منزلنا ..و(البرتال)هو التحفة الفنية الرائعة الدائرية الشكل الزاهية الألوان مع شيء من البريق والمعان الطبيعي وتشتهر بصنعه نساء دارفور..كنت أرى (البرتال)هكذا ثلاث مرات في اليوم الواحد ..مرة ساعة الإفطار ..ومرة ساعة الغذاء ..ومرة ثالثة ساعة العشاء .. وكنت قبل لحظات من رفع (البرتال) لتذوق الإدام والطعام .. قد تذوقت من حلقاته الألوان ..فحفظت الألوان ..ورسمت فيما بعد أيضا بالألوان..بعد أن تعلمت الرسم من قبل على الأرض بلا ألوان.
أما في اليوم الذي إصطحبني فيه والدي في الصباح الباكر إلى المدرسة التي كان يعمل بها قرب منزلنا ..وهي قريبة من منزلنا بحيث ذهبنا إليها مشيا على الأقدام ..رأيت طابور التلاميذ أول مرة ..ورأيت المعلمين في ذلك اليوم وهم على أهبة الإستعداد لإستقبال مفتش التعليم الذي سوف يأتي بعد لحظات..وعندما أتي مفتش التعليم ..رأيته رجلا أبيض البشرة يرتدي رداء قصيرا بدلا عن البنطلون الطويل وقميصا أيضا بأكمام قصيرة وبرنيطة يضعها على رأسه إتخذت لون ملابسه المائلة إلى الخضرة و(الكاكي)..كان يمتطى جواداً أحمر فاقع اللون..وكان من (الخواجة) أو هكذا أعتقدت..فترجل الرجل من جواده ليستلمه منه شخص في المدرسة ليربطه بالقرب من مجموعة خيول أخرى كانت ترعى في فناء المدرسة ..خيول جميلة ترعى هنا وهناك ورأيت من بينها(المُهر العنيد)الذي توصف به الفتاة الشابة المفعمة بالصحة والحياة في الشعر الغنائي في بلادي..لكني لم أكن أدري أن تلك الخيول وكل الخيول الأخرى في دارفور سوف تتناسل مستقبلا بمرور الزمان لتنجب أحفاداً وسلالات من الخيول ..لتكون (دارفور)في زماننا هذا حسبما قرأت هي (ثاني أكبر)منطقة في (قارة أفريقيا) من حيث عدد الخيول التي بها..وليشتق منها كذلك في زماننا هكذا كلمة(جنجويد).
ثم بدأت رحلة العودة التدريجية إلى أرض كردفان مجددا ..ثم لاحقا إلى حيث مسقط رأسي بعد إنتهاء الفترة المحددة لوالدي للعمل في دارفور ..فكانت منطقة (كندرمة) التي تلقنت من أهلها عبارة (أناو ويجيلو)وهي عبارة السلام عندهم .. وفوق أرض تلودي وكلوقي الخصبة رأيت(مزارع القطن)التي إندثرت بعد ذلك.. وفي قرية (مرتا)ضاحية كادوقلي من ناحية الشمال رأيت مزارع المانجو والجوافة وتعلمت من أطفالها فنون صيد العصافير التي تتجمع بكثرة للشرب من ماء آبار الجنائن ..ومن مناسباتها الشعبية حفظت أبيات من أغاني الكمبلة ..وفي قرية (الصبي)وتوأمة(المندل)عشت أجمل سنين حياتي بعد الأماكن التي ذكرتها ..حياة لم أجد أجمل منها حتى الآن في المدن الكبرى المزدحمة التي عشت فيها بعد الكبر ..منها التي زود أهلها بأحدث وسائل الحياة المعاصرة ..ولكن في قريتنا (الصبيـ بكسر الصاد وفتح الباء بقليل من التشديد) والإسم تصغير لكلمة (صبيّ)أي الفتى صغير السن وربما قصد به محليا (الفتى الشاب المصارع)..كما للقرية إسمها الأعجمي أيضا والمعروف بين القبائل ..أقضيت أياما كالأحلام وأجمل من الأحلام ..كنت أقضي الأيام تارة في منزل جدي عن أبي (المك حسب الله كجقلا)وهو أول مك عرفته القبيلة ..وتارة عند الوالدين في سكن المعلمين الحكومي حيث تم تعيين والدى مديرا لمدرستها وأستأنفت أنا الدراسة فيها بدءاً من الصف الثاني الأولي ..وهذا قبل أن يتم تنصيب والدي فيما بعد أيضا (مكا) للقبيلة بعد خالي (المك مراد مؤمن)وذلك بعد نزوله المعاش..وكانت آخر المدن التي عمل بها هي مدينة(الفولة)حيث كان يشغل منصب (مدير مكتب التعليم لمرحلة الأساس لولاية غرب كردفان) وكلمة (مك) كما يعرفها السودانيين تعنى زعيم القبيلة وقد تعني أيضا ملكها وأشهر(المكوك)في كتب التاريخ السوداني هو (المك نمر)ملك الجعليين في شرقي السودان وقد أستبدلت الكلمة في عهد ثورة الإنقاذ الوطني بكلمة(أمير)..سمعت جارتنا (الحكامة) الشابة تعرض لجدتي عن أبي وتدعى(بالاه) بيتا من قصيدة غنائية ألفته الحكامة الشابة في التو قولا ولحنا فصارت بعد ذلك من أشهر الأغاني التي تتغنى بها فتيات القرية ..إن أجمل ما في القرية هو أن الجار يحكي ويسامر جاره والكل داخل منزله وكانت جارتها هذه تعرض عليها قصيدتها وكل منهما في منزله ولكن بينهما سياج قصير يرى من فوقه كل منهما الآخر ..إلا أنا الذي كنت واقفا بجوار جدتي ..وكانت جدتي في الأصل(حكامة)من قبيلة (الكُدُرـ بضم الكاف والدال) المجاورة والناطقة بلغة مشابهة للغة قبيلة( الدلنج)التي تتفق أغلب كلماتها مع لغة (نوبا الشمال السوداني) أو ما يعرف بإسم لغة (الأجانق)ولكنها كانت تتقن اللغتين بمستوىً واحدٍ ..فتزوجها جدي (حسب الله) فأنجب منها ولدا وحيدا كان هذا هو (والدي) ..و(الحكامة)كما تعلمون هي الشاعرة الغنائية للقبيلة والملحنة والمؤدية لأغانيها في البداية ليرددها الآخرون من بعدها وتصير أغنية شعبية.. أما الأغنية التي شهدتُ أنا شخصيا لحظة ميلادها أثناء عرضها لجدتي لتقول رأيها فيها بناء على خبرتها السابقة..يقول مطلعها فيما معناه(إنظروا إلى عائشة كيف تبدو حزينة) وهي بلغة(الغناء)التي تختلف عن لغة الحديث المعتادة عند القبيلة ..إذ تتكون من مزيج من لغة(الصبي) الشبيهة بلغتي (المندل) و(النيمانج) ولغة (الأجانق) الشبيهة بلغة(الدناقلة)أو(المحس)في شمال السودان.
وليس هذا فحسب ، بل جربت في قريتنا (الصبي)متعة الصيد بالسلاح الناري ورأيت كيف تقفذ الغزلان أمامي والجدي الجميل خلفها..رأيت القرود السوداء الضخمة لعلها من فصيلة(الشامبانزي)تمشى في إختيال بالقرب منى كأنها تتحداني غير آبهة بوجودي كبشر..وجربت متعة الخروج مع الأغنام من الصبح الباكر حتى ساعة الغروب ..سمعت صياح الديك ونباح الكلاب وعواء الضباء فجرا ومساء ..ورأيت جدي في الغابة الغنية المكتظة بأنواع الأشجار يشير إلى مجموعة أشجار ذات أشواك صغيرة محدّبة ..كان ينتج من جذعها ثماراً ذهبية اللون وشفافة قائلاً لي هذه هي(جنينتي) وأملاكي .. كانت الأشجار هي أشجار الهشاب ..وكانت الثمار الذهبية هي التي أشتهر السودان كأكبر مصدر لها في العالم ولا يزال وهي ما يعرف بإسم(الصمغ العربي)..كما صعدت الجبال هناك جبلا تلو جبل ..ودخلت كهوفها المظلمة التي ترك أجدادي أثارهم بداخلها بما في ذلك مخازن الغلال بداخلها.. ومن قممها نظرت إلى مسافات لم تطأها قدماي ..كما نظرت إلى جبال أخرى لم أتمكن من الوصول إليها في جبال النوبة..لقد كنت في وطن الجبال التي قيل أن عددها (تسع وتسعون) جبلا...ومع ذلك أبت نفسي إلا أن أضيف إليها جبلا آخراً ظل شامخاً وجميلاً في مكان آخر من أماكن الطفولة..لأتسلقه مثلما تسلقت الجبال في أرض الجبال ولكن (بخيالي)هذه المرة ..إنه (جبل مرة) الشامخ في أرض دارفور ..الذي ورد إسمه ضمن (عنوان المقال) في الجزء الأول الذي نشر قبل أكثر من عشرة أشهر مضت ..بتاريخ الجمعة الموافق 6/أغسطس/2004م.
فقد تخيلت وأنا أختار عنوانا للمقال في ذلك الوقت أنني كنت أجلس على قمة (جبل مرة)الشاهق الجميل في دارفور ..وهو الجبل الجميل بمكان ..حيث نال حظه من وصف الشعراء في غناء المطربين ..وتخيلت أن في يدي كتاب مدهش تستند فكرته ضمن ما تستند إلى قيم (الفن والجمال والسلام والمحبة) ليقدم بلسما شافيا ..ووصفات علاجية ناجعة ..لتلك الأمراض المزمنة وغير المزمنة التي ظل يعاني منها السودان الذي عرف أصلا في الماضي بلقب (رجل أفريقيا المريض).
ومن فوق قمة هذا الجبل السوداني السياحي الجميل ..ولكأني كنت أملك عيني (زرقاء اليمامة) ..تخيلت كذلك أنني كنت قادرا على النظر إلى كل ما تجرى أمامي من أحداث داخل السودان في أرضه الواسعة الممتدة على مساحة مليون ميل مربع ..غير أن منظرا غريبا شدني إليه أكثر من غيره من المناظر ..لم يكن منظرا جميلا من المناظر الطبيعية الخلابة التي اعتاد على رؤيته عشاق الطبيعة والجمال حول هذا الجبل ..كان منظرا مأساويا بكل مقاييس المأساوية ..كان مشكلة دارفور ..وأحداث دارفور..وقضية دارفور ..التي شغلت الناس في السودان والعالم أجمع..كانت بوادر تدويلها عندما كتبت الجزء الأول من المقال لم تزل في بداياتها الأولى..غير أنها كانت بداية قوية مثيرة للتساؤلات ..وبحيث أن مرشح إنتخابات الرئاسة الأمريكية(جون كيري)المنافس الخطير لجورج بوش آنذاك .. قد بدى وكأنه قد تدرب جيدا في تلك الأيام على نطق كلمتين غريبتين على ثقافته ليدخلها أول مرة في قاموس الأمريكيين ..ألا وهما كلمتا(دارفور) و(جانجويد) وهو الأمر الذي ربما من ناحية أخرى ..قد قاد الشعب الأمريكي المعروف أصلا بعدم إهتمامه بما يدور حوله من أخبار عن الدول الأخرى..إلى تقلب صفحات أطلس الجغرافيا لأول مرة لمعرفة أين يقع هذا البلد الذي كان مهمشا عندهم وإسمه (السودان) ؟!وتلك ربما تقع أيضا ضمن(إيجابيات)المشكلة إن كانت للمشاكل إيجابيات..خاصة أنني من المؤمنين بأن (المصائب)قد تقود أحيانا إلى(المكاسب)!
ولم أكن أدري وقتها عندما كنت أتخيل وجودي هكذا وأنا على قمة جبل مرة ..أن مشكلة دارفور سوف تتطور شيئا فشيئاً لتفضي في نهاية الأمر إلى ما يسمى (قرار مجلس الأمن رقم 1593 ) وهو القرار القاضي بإحالة قائمة المشتبه بتورطهم في قضية دارفور إلى(محكمة العدل الدولية)..تلك كانت هي قصة إختياري لعنوان المقال.
وإذا بدأنا بالتذكير ..فقد قادتنا قضية دارفور في المرة الفائتة إلى أن نفتتح مقالنا كالآتي: [الرجلان الأسودان المرموقان (كوفي عنان وكولن باول) يزوران السودان ..يزوران رجل أفريقيا المريض ..يتحسسان النبض في قلبه الخرطوم ..حيث يجري فيه (النيل الأزرق) و(النيل الأبيض) جريان الدم المؤكسد(إشتقاق من ثاني أكسيد الكربون) والدم المؤكسج(إشتقاق من أكسجين) ..وفي يده اليمنى وهي دارفور وجدوا موطن الداء ..ألخ ]..وهكذا طبعا قبل زيارة (كوفي عنان) لدارفور للمرة الثانية هذه الأيام التي نكتب فيها المقال في أواخر شهر مايو 2005م بعد مضي (11)شهرا من زيارته الأولى..وكانت رؤيته حول المشكلة السودانية بعد زيارته الثانية قد جاءت على لسان (أيان برونك) الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ..فكانت لها وقع الشعر في النفوس ..والهوى في القلوب..وذلك لقوله حسبما جاء في صحيفة المغتربين (الخرطوم)بالعدد 3928 بتاريخ 31/مايو/2005م [ أن رؤية (عنان)ركزت على ضرورة أن تبدأ المفاوضات في أبوجا في العاشر من يونيو (وهذا ما حدث فعلا بعد ذلك)وحدد لها نهاية ..وإنهاء (أزمة دارفور) قبل نهاية العام ..وأن يلتزم الأطراف خلال هذه الفترة بوقف إطلاق النار.. وأن تنتهي الدولة إلى عقد مؤتمر جامع للمصالحة بين الحكومة وكل أهل السودان بنهاية العام..وأضاف ..يجب أن يستقبل السودان القمة الأفريقية وأعياد الإستقلال القادمة دون مشكلات في أي جزء من أجزائه ..وأن يشهد العام القادم عودة كل السودانيين من الخارج] ..وأنا شخصيا كمغترب كنت أتمنى ومن كل قلبي العودة النهائية إلى وطني ليس بعد عام ولكن قبل أكثر من عام ..أتوقع أن يسأل كثير من المغتربين هذا السؤال ليس لكوفي عنان وحده ولكن للمسؤولين أيضا في بلادي قائلين لهم : كيف؟
ثم قادنا الحديث في المقال شيئا فشيئا لنتناول بعد ذلك مسألة (الحوار الحضاري) في العالم..فتطرقنا إلى ذكر إسم الرئيس الإيراني /خاتمي بإعتباره أحد مؤسسي الفكرة وصاحب الكتاب الشهير(حوار الحضارات) كانت محصلة المقال في هذا هي أن الذي جرى من مفاوضات في(ميشاكوس)و(نيفاشا)و(نيروبي) بكينيا ..وتألق فيها نجمان في سماء المفاوضات هما الدكتور/جون قرنق والنائب الأول لرئيس الجمهورية /علي عثمان محمد طه ..يعتبر من وجهة نظرنا هو (حوار الحضارات) الحقيقي في العالم ..كيف لا يكون حوارا حقيقيا للحضارات ..وهو الحوار الذي أتى بنتائج وملموسة على أرض الواقع ..وتمثل ذلك في(اتفاقية السلام السودانية) ببنودها التي يمكن أن يقرأها كل ما أراد القراءة .. ولعلها من غرائب الصدف بعد أيام قليلة من نشر المقال ..أن يزور السودان في زيارة رسمية الرئيس الإيراني نفسه بدعوة من رئيس الجمهورية المشير/عمر البشير..حيث ألقي محاضرة في قاعة الصداقة بالخرطوم بعنوان (حوار الحضارات) ..ونحن من جانبنا نقول : مرحبا بمؤسس الفكرة في بلادنا ..مرحبا به وبعنوان محاضرته التي ألقاها في قاعة حوار الحضارات بقاعة الصداقة داخل السودان ..لأنه في نظرنا البلد الذي استحق بجدارة عنوان المحاضرة.
ثم تحدثنا بعد ذلك عن (الثنائية) في كتابنا(سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون) وهو المفهوم الذي تطور ربما لأول مرة بهذا الشكل إلى مفهوم(التزاوجية) .. وفي هذا قلنا: أن الله تعالى خلق كل شئ في هذه الدنيا على هيئة (زوجين أثنين) ..وضربنا أمثلة بذلك .. ثم عرجنا بعد ذلك للحديث عن (الوسطية الحقة) وأشرنا إلى أننا عن طريق تلك (الوسطية الحقة) فإننا بمشيئة الله سنجد حلا ليس لمشكلة دارفور فحسب ,بل حلا لمشاكل السودان والعالم أجمع.
إن الذي يميز كتابنا (سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون) أو كتاب الفن والجمال والسلام والمحبة ..هو أنه كتاب فكري وفلسفي يستند ضمن ما يستند فيما يقدمه إلى (قيم الفن والجمال والسلام والمحبة) في إكتشافه أسرار جديدة حول سُنَن وقوانين طبيعية وكونية لم نكن نعيرها في الماضي الإهتمام الفكري المناسب ..كما يحاول هذا الكتاب أيضا خلق قدر من التواؤم والتلاؤم والمصالحة بين قوانين الطبيعة ..والأشياء التي نتعامل معها بشكل يومي في حياتنا المعاصرة ..ولهذا السبب فليس غريبا أن تجدونه يتناول الحديث عن التعليم والسياسة والقانون والإقتصاد ..وحتى رسم صورة حضارية (للسودان الجديد) ..ولتوضيح ما نعنيه بالمصالحة بين قوانين الطبيعة والأشياء التي نتعامل معها في حياتنا اليومية ..فإننا نعتقد على سبيل المثال أن (النظام الرأسمالي أوإقتصاد السوق أو الإقتصاد الحر) قد وفق في إكتشاف قدر من سنن الطبيعة في طبائع البشر متمثلة في حب الإنسان للحرية والتملك والخصوصية ..ثم راعي هذا النظام الإقتصادي هذه الطبائع في قوانينه المنظمة لهذا النوع من الإقتصاد لذلك نجده قد حقق نجاحات كبيرة ومتزايدة على الصعيد العالمي..ولكن هذا لا يعنى أن كتابنا سوف يتجاهل أهمية النظام(الاشتراكي)..بل إنكم ستجدونه أيضا يداعب مداعبةً(الفكر الشيوعي) ذاته في أكثر من فقرة !!
إن كتاب (سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون) يعتبر كتاب صغير الحجم بالنسبة لحجم القضايا الكبرى التي يناقشها ..إذ أن حجمه وهو على (قرص كمبيوتر) قبل تقديمه للطباعة والنشر لا يتعدى الـ (200)صفحة من حجم(A4) وبحروف قصد منها أن تكون كبيرة وواضحة من حجم (16) ..وأعتقد أن السر في كونه صغير الحجم ولكن كبير في معناه ومحتواه ..هو أنه قد إكتشف أقصر الطرق (المعبّدة)للوصول إلى الحقيقة ..ولأنه كذلك قد بدأ بالحكمة وأنتهي بالحكمة.. وهو حجم نراه من ناحية أخرى يتناسب وهذا العصر تكثر فيه الشواغل بحيث لا يجد الكثيرون كالسابق وقتا كافيا لقراءة الكتب الكبيرة والمجلدات إلا قليلون ..وفي فهرست محتويات الكتاب ..تبرز عناوين عديدة نراها تستحق القراءة في عصرنا هذا الذي يعيش فيه السودان مرحلة من مراحله التاريخية الحاسمة ..رأينا أن نختار لكم منها ما يلي مع قليل من التعليق على بعضها:
· بدايات البحث عن الحقيقة والحكمة.
· القاسم المشترك الأعظم في الطبيعة والكون.
· الفرق بين التين والزيتون.
· هرمونات الجلال وهرمونات الجمال.
· الصراع الحضاري في قالبين.
· حل إشكالية العامية والفصحى.
· تحديد الهوية السودانية.
· علاقة الدين بالدولة.
· القانون و تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان..
· الديموقراطية والشورى.
· التعليم السوداني الموحد وتغيير المناهج.
· القوامة الحتمية وحتمية القوامة.
· القوامة الحتمية وحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
· خيارات اللغة والثقافة والتوجه الحضاري.
· الوسطية المهملة في الدولة والعاصمة المقترحة.
· أيام العطلات الرسمية للدولة وفلسفة الرياضة.
التعليق على عنوان /التعليم السوداني الموحد وتغيير المناهج:
تناول كتابنا الذي تم تأليفه منذ يناير سنة 2004م موضوع التعليم الذي يعتبر من المواضيع شتى شغلت الساحة السياسية والفكرية السودانية بشكل كبير في الآونة الأخيرة بل أن بعضها قد ظهر فقط قبل أيام قليلة من تاريخ كتابة مقالنا هذا في وسائل الإعلام ..وقد بدي لي أن أغلب الحلول حول التعليم ومناهج التعليم ولغة التعليم هي في نظرنا حلول سياسية أكثر منها حلولا تم مناقشتها من قبل من قبل مفكرين وفلاسفة أو كتب قرأها الشعب السوداني وقتا كافيا.
ولقد لفت إنتباهي في هذا الشأن خبر أوردته جريدة الخرطوم العدد 3872 بتاريخ 27/مارس/2005م بعنوان (وضع منهج موحد للتعليم قبل المدرسي بالسودان) بقلم /أبو بكر محمود من بخت الرضا جاء فيه : [ أن إجتماع المجلس الإستشاري للمركز القومي للمناهج قد كشف عن وجود إختلاف في المناهج الدراسية التي تدرس في جبال النوبة وبعض الجهات في جنوب السودان عن المنهج القومي المطبق على كل ولايات البلاد ..فضلا عن عدم وجود منهج موحد لمرحلة التعليم ما قبل المدرسي مشيرا إلى أن أية ولاية لها منهج مغاير في مرحلة التعليم قبل المدرسي ...وشدد إجتماع المجلس الإستشاري للمركز القومي للمناهج على ضرورة إيكال مهمة إستصدار منهج قومي موحد لكل السودان لمرحلة التعليم فبل المدرسي لإدارة المركز القومي للمناهج .وقد أمن بعض أعضاء المجلس منهم الدكتور/على أحمد البشير عميد كلية اللغة العربية بجامعة أم درمان الإسلامية على نجاح تجربة تدريس مادة اللغة الإنجليزية (جنبا إلى جنب مع العربية) على طلاب الصف (الأول) أساس وأن عددا من الدول العربية قد طبقت التجربة وكللت بالنجاح ..كما أفاد الخبر إلى أن 30% من المدارس الخاصة طبقت تجربة تدريس اللغة الإنجليزية من الصف (الأول) أساس بينما 70% من المدارس الحكومية تدرس الإنجليزية إعتبارا من الفصل (الخامس)أساس ]..إنتهي الخبر هكذا ..ولم يتطرق إلى لغة التدريس في أكثر من (ثلاثين جامعة)منتشرة في شتى ربوع و ولايات السودان ..منها جامعات حكومية وأخرى غير حكومية.
وجاء في موقع (سودانيز أونلين) أن أبناء جبال النوبا في مؤتمرهم بكاودا ( 6-8 /أبريل/2005م )(مؤتمر كل النوبا)قد أكدوا على أن تكون (الإنجليزية) هي لغة التدريس..كما قرأت خلال شهر مايو الجاري عن تقرير أصدرته وكالة التنمية الدولية الأمريكية U.S.A.I.D. مفاده أن المساعدات الأمريكية في مجال التعليم لجنوب السودان سوف تشمل تأسيس وزارة للتعليم وبناء معهد إقليمي لتدريب المعلمين ، وبناء مائة مدرسة إبتدائية وثلاثة مدارس ثانوية ..وكذلك توزيع 150 ألف نسخة من كتاب(السودان الجديد) على المدارس.
تعليق على عنوان/ الوسطية المهملة في الدولة والعاصمة المقترحة:
تحت هذا العنوان يحاول كتابنا الإجابة عن سؤال واحد ومحدد ولكنه صعب ومعقد وهو إذا كانت هناك منطقة وسطى في السودان تقع بين الشمال والجنوب ..أي كفصل(الربيع) بين (الصيف ) و(الشتاء) ..وهي بإعتراف السياسيين ما نسميه(منطقة التماس).. فيا ترى فما هي لغة التدريس والمنهج التعليمي الذي ينبغي أن يتبع في تلك المنطقة؟
تعليق على عنوان / حل إشكالية العامية والفصحى:
تحت هذا العنوان يتحدث الكتاب عن تلك الإشكالية العظيمة التي حيرت عقول الباحثين والمفكرين وفقهاء اللغة ردحا طويلا من الزمان دون أن ينجدوا لها حلاً ناجعا وبلسما شافيا..وتتمثل هذه المشكلة في وجود فجوة لغوية في الوطن العربي كله الممتد من المحيط إلى الخليج ..بين اللغة العربية الفصحى التي نجدها فقط في الكتب ونشرات الأخبار وفي منابر الخطباء ..ولا نجدها بذات القدر في البيوت والأسواق ولغة الدراما في المسلسلات التلفزيونية اليومية ..غير أن كتابنا حلل المشكلة ثم أتى بالحل الجذري الذي يستند إلى فلسفة الفن والجمال ..وكان (القذافي) في كتابه الأخضر قد أشار بوضوح إلى تلك العلاقة الوطيدة بين (الفن)و(اللغة) بقوله فيما معناه (أن الإنسان لا يزال محتاجا إلى الفن والموسيقى طالما أنه لم يتمكن من إيجاد لغة كاملة)!!..غير أن الشيء الذي نراه سوف يفاجيء الذين لم يقرأوا هذا المقال ..هو ورود إسم الفنانة السودانية(حنان بُلو بُلو)ضمن تفاصيل الحل ..وهي المطربة التي ذاع صيتها في حقبة الثمانيات!! فيا ترى ما هي علاقتها بحل إشكالية العامية والفصحى؟!وما هي علاقتها برسم ملامح السودان الجديد؟
تعليق على عنوان /أيام العطلات الرسمية للدولة وفلسفة الرياضة :
أما تحت هذا العنوان فإنكم ستجدون بمشيئة الله إقتراح حول ساعات العمل المثلى أو ساعات الدوام الرسمية للبلاد في ظل السودان الجديد .. أما (الرياضة) التي جاءت قرينة للعنوان فإن أمرها يطول ..ويبدو أن سراً من أسرارها وفائدة عظمى من فوائدها قد حكت قصته لنا قبل أيام قليلة..المملكة العربية السعودية ..مهد الحضارة الإسلامية ..ومهبط الوحي ..عندما كشفت للعالم أجمع عن إبتكارها لأول دوري (رياضي إسلامي) جمع حوالي 54 دولة مسلمة من شتى أنحاء المعمورة ..و يوم أن أفتتح هذا العرس الرياضي الكبير أمسية يوم(الجمعة) الموافق يوم 8/أبريل/2005م ..أضاءت من جرائه سماوات المدن الثمينة الأربعة ..وإستاداتها الرياضية الراقية.. بالألعاب النارية وبلوحات من شعاع الليزر الملونة ..أستاد في(مكة المكرمة)..وأستاد في(المدينة المنورة)وأستاد في (جدة) عروس البحر وأستاد رابع في مدينة(الطائف)حيث الطبيعة الخلابة تعانق العمران المعاصر في إنسجام وتناغم عجيبين ..وقد إكتمل المشهد في ذلك اليوم ..بالقصائد المغناة من الشعر العربي الجميل..وبالرقصات الشعبية المعبرة ..وكذلك بالموسيقى الوطنية المعروفة لكل بلد مشارك.
إن هناك ثمة علاقة يجب عدم الإستهانة بها بين(الرياضة)و(الدولة) وإن شئت فقل بين(الرياضة)و(الوطن)مما يجعل القادة الأذكياء فقط هم الذين يحرصون دوما على أن يكون لهم حضور في المناسبات الرياضية الكبرى ..بل هنالك السر الحضاري الذي نرى أن الإنسان المعاصر لم يتمكن من إكتشافه بصورة كاملة بعد ونحاول بدورنا كشف أكثره في كتابنا..ألا ترى كيف كان قد ارتدى /نيلسون مانديلا فنيلة فريقه القومي داخل إستاد يعج ويضج بالجماهير ..وبالأمس القريب ألم نرى كذلك كيف كان القائد الأفريقي الذكي الدكتور/جون قرن ديمبيور يشد من أزر فريقنا القومي في جمهورية مصر معنوياً إلى درجة أنه رصد مبلغ 10000دولار (عشرة آلاف دولار) لكل لاعب من الفريق في حالة فوز الفريق القومي ..لو لا النتيجة المخذلة التي كادت هي نفسها أن تحكي تاريخ الحدث وهي الهزيمة (بستة) أهداف بتاريخ 6/ 6/ 2005م؟ والرياضة في نظرنا كمقياس الحرارة (الثيرموميتر)مما يعنى أن السودان لم يزال حتى الآن يعاني من وعكة صحية في مكان ما في جسده الكبير المترامي الأطراف.
وليس هذا فحسب، بل كان كذلك للزعيم الليبي /معمر القذافي ..وقائد ثورة الفاتح من سبتمبر دوره الريادي في(فلسفة الرياضة) .. بعد أن حللها وأعمل فيها فكره ..ثم أبت نفسه إلا أن يطرحها ضمن المواضيع الفلسفية والفكرية الكبيرة التي تناولها في كتابه الأخضر أو(النظرية العالمية الثالثة) وتحت مسمى(الرياضة الجماهيرية)..وكانت تلك هي الفكرة (الرياضية) التي حاول السودان في عهد ثورة مايو وحكومة/ جعفر النميري أن يكون سباقا في تبنيها وتطبيقها على أرض ملاعبه الخضراء ..ولكن سرعان ما تراجع عنها بعد ذلك..غير أن(فلسفة الرياضة) في كتابنا(سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون)تجدونها قد أخذت حيزا من الأبواب والصفحات ..بحيث تكاد لا تجد بابا من أبوابه إلا وبه عبارتا(هلال)و(مريخ) ..الأمر الذي يجعلنا واثقين من القول :بأن كتبانا هذا لو قرأتم في صفحاته ..وتمعنتم ما بين سطور كلماته ..فلربما وجدتموه كتابا لا يقل حكمةً وجمالا أيضا عن(الكتاب الأخضر)..خاصة وأن كتابنا أيضا قد تناول ذات المواضيع الشائكة التي كان قد تناولها(القذافي)في كتابه الذي كان قد فاض خضرة وجمالاً ..ولكن بطريقتنا السودانية الخاصة هذه المرة !
لذلك فالتحية(للقذافي)قائد ثورة الفاتح من سبتمبر..والزعيم الليبي الذي أخلص لقارته السمراء ..والذي لا أرى على رأسه شعرا (قُرقُديا)كما نسميه في بلادي ..ولا بشرة سوداء (أبنوسية)كما نسميها أيضا في بلادي ..ولكنه رغم ذلك كان أكثر حبا لأفريقيا ..وأكثر إجتهادا لنصرتها ونهضتها ..من بعض الأفارقة أنفسهم في بلادي..والذين نراهم أقل منه (حُسنا)و(بياضا) إن كان في الأمر(قُبحٌ)و(جمال)..وإلى حدّ القول أيضا في كتابه الأخضر..(أنّ السودَ سيسودون العالم)!!وقد رأيناه كذلك رأي العين على شاشات التلفاز..والقادة الأفارقة على (مستوى الرؤساء) يفوضونه في (القمة الأفريقية الثالثة) التي إنعقدت في طرابلس في الفترة مابين 16 و17/ مايو/2005م للإستمرار في إتصالاته مع كافة الأطراف في دارفور حتى يتم التوصل إلى حل دائم ..وهاهو قد قبل التحدي وهو يرعى من قبل أمر (دارفور) بمسؤولية وإقتدار..لأنه أهل لهذا التحدي ..وأهل لهذا التفويض.
ومن ناحية أخرى فإن القراء يذكرون في مقالاتي السابقة والمقتبسة من الكتاب..كيف أنني كنت أنبههم من مقال إلى آخر ..إلى أن كتابنا(سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون) لم يقدم للطباعة والنشر بعد ..كانت أولى تلك المقالات التي أشرت فيها إلى هذا.. مقال بعنوان(من عجائب الأخبار عن جبال النوبة ومنطقة التماس )نشر هذا المقال في يناير 2004م ..وقد اخترت له كالعادة توقيتا ليتزامن مع مفاوضات السلام السودانية التي كانت تجري في كينيا ..خاصة المفاوضات التي جرت حول مشكلة (أبييي) و(المناطق الثلاث) ..ثم تلاه مقال آخر بعنوان(رأيت النبي هنا في المنال)تزامن هذا المقال أيضا مع يوم الوقوف بعرفة وعيد الأضحى المبارك في موسم الحج لسنة 1424م.
ولو يذكر القراء أيضا..أنني كنت في الجزء الأول من المقال قد أبديت أيضاً شيئا من القلق حيال كتابة أفكار جديدة كهذه لم تنشر من قبل ..وهي مقتبسة من كتاب لم يتم طباعته بعد ولم يتم تسجيله لدى أي جهة من الجهات المختصة بحماية حقوق المؤلفين ..لذلك دعتني الضرورة آنذاك ..أن أطلب من كل قارئي يقرأ المقال أن يشهد لي على المستوى الشخصي والتطوعي بملكيتي الفكرية لتلك الأفكار حتى يأتي اليوم الذي أكون فيه قد تمكنت من إيجاد صيغة قانونية لحماية حقوقي الأدبية .. ولم يكن ذاك الطلب آنذاك قد أتي من فراغ ..بل كان من بين ما نقرأه في سودانيز أونلين في تلك الأيام ..دليلا واضحا وبرهانا ملموسا قادني إلى ذلك ..وكيف لا يصيبني قلق كهذا ..وكيف لا أطلب طلبا كهذا ؟! وأغلب القراء يذكرون تماما تلك المغالطات والملاسنات التي جرت على هذه الصفحة من الموقع ..بين كاتبين كان أحدهما قد كتب سلسلة من المقالات ثم بعد أيام قليلة ظهر شخص آخر يحكي ويشكو بمرارة مدعيا أن تلك المقالات التي نشرها الأول ما هي إلا فقرات مسروقة من رسالته الجامعية التي كان قد تقدم بها لإحدى الجامعات ..إن قلقاً مثل هذا هو في الحقيقة قد قادني من ناحية أخرى أيضاً إلى مناشدة شخصين بعينهما سميتهما في المقال ..بأن يكتبا لي ولو سطرا واحدا حتى يطمئن قلبي ..وحتى أشعر أيضا بشيء من حلاوة التواصل عبر تلك الوسيلة العصرية المذهلة ..ولكن أحدا من هؤلاء لم يكتب لي ولو حرفا واحدا ..ومع ذلك فقد سامحت الجميع في هذا وقلت في نفسي : (ربما يعود السبب في إحجامهم عن هذا ..إلى غرابة الطلب ذاته .. أو ربما يكون البعض قد إلتزم سرا بالقيام بواجبه حيال الأمر ولكن فقط إذا دعت الضرورة لذلك ..وهكذا تجدوني قد وجدت العذر للجميع دون أن يعلموا بذلك في تلك الأيام )..أما وأنتم تقرأون هذا المقال ..فإن الأمر قد إختلف كثيرا عما سبق..إذ لم أعد في حاجة كالسابق إلى من يشهد لي شهادة شخصية وتطوعية من قراء الموقع لملكيتي الفكرية ..وذلك للمستجدات التي سنوضحها فيما يلي:
كتاب سنن تزاوج الأشياء ..ومحاولات الطباعة والنشر:
فإذا تحدث بصراحة وشفافية في هذا الأمر ..فإن معاناتي في بلاد المهجر لم تقصر فقط على معاناتي في مجال البحث والتفكير والتأليف .. فمعاناتي هناك إمتدت إلى أكثر من ذلك ..وذلك في كوني أصبحت جزءاً من تلك الشريحة المنسية من المغتربين الذي عانوا من مشاكل عديدة فأصبحوا يتململون من الغربة ردحاً من الزمان ..ليس من طول مدتها ..ولكن لكونها أصبحت أيضا(غشاشة)مثلما وردت العبارة في قصيدة من قصائد المغتربين في أواسط التسعينات حيث برع فيها الشاعر في تصوير الغربة بالعامية السودانية حتى بدت لي كأنها فتاة تجلس أمامه بلحمها ودمها وهو يداعبها ببيت يتكرر مرة تلو مرة بقوله: يا غربة ! ياغشاشة ! يا مستهبلة!
فهل تصدقون أنني أيضا أحد المغتربين الذين (لم يتمكنوا) من السفر إلى السودان منذ أكثر من عشرة أعوام ..وهي مدة يتمنى الحصول عليها هذه الأيام ..الذين هرولوا بعد أن وجدوا في التجنس بالجنسية السعودية أفضل سانحة وأغلى فرصة للنجاة من آلام الغربة ومن سلبياتها التي بدت تطغى على إيجابياتنا ..لأن مثل تلك المدة هي كافية في الحقيقة لمنحهم(10) نقاط كاملات من إجمالي (23)نقطة كشرط من شروط التأهل لنيل الجنسية ..أما أنا ففضلا عن كوني لست من حملة شهادة (الدكتوراه) ولا من ذوي (التخصصات النادرة) حتى أستطيع أكمال بقية النقاط المطلوبة بجدارة ،فإنني أيضا متزوج بأنثى (سودانية) يحرقها الشوق مثلما يحرقني ..إلى(مقرن النيلين) وإلى(حدائق النيلين)..وإلى(أشجار)قيل عنها في الشعر الغنائي في بلادي أنها(باسقات).
لم أتمكن إذن أنا طيلة هذه المدة الطويلة ولا زوجتي أيضا بعد حضورها وإقامتها معي في بلاد المهجر منذ زواجنا سنة 1994م ..من زيارة الأهل والأقارب والأصدقاء في السودان غير مرة واحدة ويتيمة ..كانت هذه المرة من نصيب(زوجتي) التي سافرت مع إبننا الوحيد (صلاح الدين)ذو الأربع سنوات في أواخر سنة 2004م حيث شهدا هناك تعانق مجموعة أعياد عظيمة في السودان..حيث كان عيد (الإستقلال المجيد) ..الذي عانق عيد (رأس السنة)..الذي عانق أيضا(يوم السلام)الذي وصفه البشير بأنه يوم (الإستقلال الحقيقي) للسودان..وقد تمكنت زوجتي جزاها الله خيرا ..خلال تلك الزيارة اليتيمة إلى السودان ..وبعد أن إنضمت إليها هناك في السودان ..بعد طول فراق ..ونارٍ من إشتياق..صديقتها الحميمة(فائزة حسن عبد المجيد)التي كانت تربطها بها صداقة سودانية أصيلة منذ أن كانتا زميلتين في مرحلة التعليم فوق الثانوي ..تشهد على صدقها الرسائل التي كانت تعبر حدود الوطن.. فقد تمكن هذا الثنائي الإنثوي السوداني المكافح ..وبتوفيق من الله ..من تحقيق إنجاز عظيم في زمن الإنجازات ..وهو الزمن الذي إندلعت فيه ثورة جديدة في السودان لم يشهد لها السودانيون من قبل مثيل ..تمثلت في الإهتمام الكبير بحقوق المبدعين والمؤلفين والحقوق المجاورة ..الأمر الذي ربما دعا فيما بعد إلى ولادة جديدة إسمها (رابطة الكتّاب السودانيين) برئاسة البروفيسور/عون الشريف قاسم قبل أشهر قليلة من كتابة هذا المقال..فرأيت فيهما وكذلك في النساء اللاتي قابلنهن في مكاتب حقوق الملكية الفكرية والحقوق المجاورة و فروع المجلس الإتحادي للمصنفات الفنية والأدبية .. فقدمن لهن يد العون والإرشاد ..صورة عامة(للمرأة السودانية في عصرها الجديد) ..وفوزا لقضيتها التي لم تنشرها بعد كتابنا الذي لم يزل بين أيديهن ..فالتحية لهنّ هكذا والتحية لكل النساء السودانيات العاملات المكافحات المناضلات..من (الوزيرة)العالمة التي تجلس على كرسيها الدوار في مكتبها الفاخر ..إلى (بائعة الشاي)الكادحة التي نراها على النجيلة الخضراء تحت ظل الشجرة الوارفة ..واللاتي بقين هكذا صامدات لإدارة شؤون البلاد والأسرة ..عندما (هاجر) الرجال ..وعندما (حارب) الرجال ..والتحية موصولة أيضا لإبني(صلاح الدين)الذي تكبد المشاق بصحبة أمه..وهو طري العود لا يقوى على السفر..ولا على ما يسمى(دوار البحر).. ليرى السودان بعينه ليروي لوالده ما رآه بمفردات قليلة لا يعرف أكثر منها للتعبير..وهو أيضا الذي أهديته الكتاب في مقدمته متمنيا له فيها العيش الكريم في(وطنٍ عزيزٍ شامخٍ ..يعمّهُ الخير والعدل والسلام والمحبة) ..أما الإنجاز الذي تم على أيديهن فقد كان كما يلي :
(1) حصول كتابنا(سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون)الذي ذكرنا في مقدمته أن تاريخ تأليفه في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية هو يوم 23/يناير/2004م..على تصديق من(المجلس الإتحادي للمصنفات الأدبية والفنية) بالخرطوم بتاريخ 31/أكتوبر/2004م الموافق 17/رمضان/1425هـ وتحت رقم الإيداع (562/2004).
(2)حصوله أيضا على (شهادة تسجيل مصنف) بتاريخ 12/12/2004م من (إدارة حقوق التأليف) تحت تصنيف(كتاب فكري وفلسفي) بموجب المادة(22/3) من قانون (حماية حق المؤلف والحقوق المجاورة لعام 1966م) وقد زاد الشهادة قيمة وجمالا عندي وجود توقيع /التجاني حاج موسى بصفته الأمين العام للمصنفات الأدبية والفنية ـ الإتحادي ..وقد تم الإشارة في الشهادة إلى أنه قد تم نشر هذا في الجريدة الرسمية.
(3)تم تقديم مسودة الكتاب بعد ذلك ومنذ أواخر شهر ديسمبر الماضي (أي منذ ما يزيد قليلا عن الستة شهور) لطباعته لدى (أمانة الطباعة بالخرطوم عاصمة الثقافة العربية سنة 2005م) .. وهي الجهة التي قامت على عاتقها ثورة حقيقية جديدة في السودان تمثلت في توطين طباعة الكتب في السودان وظهور كتاب سودانيين جدد يعرفون لأول مرة ..يشرف عليها الأستاذ/ عبد الحميد الفضل وهو خريج قسم التصميم والطباعة سنة 1965م بكلية الفنون الجميلة (بالمعهد الفني) سابقا و(جامعة السودان للعلوم والتكنولوحيا)حاليا حسبما قرأت في إحدى إصدارات جريدة الخرطوم ..وهو الصرح التعليمي ذاته الذي تخرجت فيه عندما كان يسمى(معهد الخرطوم للكليات التكنولوجية)..إذ تقوم الأمانة بإستلام الكتب من المؤلفين لطباعتها على حسابها في البداية وفق شروط معينة وبهذا تكون الأمانة قد تمكنت من حل أكبر المعضلات التي تواجه المؤلفين الجدد الذي يجدون صعوبة في توفير رأس المال اللازم لطباعة كتبهم وحسب علمنا أن هذه الفكرة الفعالة ومطبقة أيضا في (سوريا) ..ومن المفترض قبل الشروع في طباعة الكتب هناك خاصة التي لم تحصل على تصديق مسبق بالنشر..على لجنة إختيار برئاسة البروفيسور/عون الشريف قاسم وعضوية كل من الدكتور/عبد الله حمدنا الله و الدكتور/عثمان جمال الدين والأستاذ /مجذوب عيدروس وصديق الحلو وقد يضاف إليها أيضا وزير الثقافة الأستاذ/عبد الباسط عبد الماجد.ولا ننسى كذلك الدور المشابه لهذا والذي سوف تلعبه (مؤسسة أروقة للثقافة والفنون)بقيادة /السمؤال خلف الله بشكل دائم بمشيئة الله دون أن ينتهي ذلك الدور بإنتهاء مراسم الإحتفال بمناسبة إختيار الخرطوم عاصمة الثقافة العربية2005م.
..وكنا نشعر أن كتابنا قد أصبح (قاب قوسين أو أدنى) من الطباعة،وهو فعلا كذلك خاصة بعد هذا الإنتظار الطويل ، حتى أشيع في حوالي شهر مارس أو أبريل المنصرمين ، عن ظهور مشكلة داخل أمانة الطباعة تتعلق بوجود بتلاعب في (المال العام)مما أثر على سير عملية طباعة الكتب ..وكذلك في كيفية ظهور بعض الكتب ..ليس من حيث مستوى التصميم أو الطباعة ..ولكن للأسف الشديد من حيث دخول (الواسطات)في أمر هكذا وعدم الإلتزام بالأسبقية الزمنية للكتب..وقد قرأت بعيني رأسي بجريدة الخرطوم أن النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ/على عثمان محمد طه قد تدخل شخصيا إثر تلك الإشاعات وقد بدى لي أن الأمر قد أغضبه كثيرا والأمر يستحق الغضب ..وتجلى ذلك في إصراره على إحالة كل المستندات المالية للمراجعة من قبل ديوان المراجع العام وأن الضالعين في الجريمة النكراء سوف سينالون العقاب الذي يناسبهم ..إنه في الحقيقة يجعل شخصا مثلي يشعر بخيبة أمل والخذلان من أشخاص رسمت لهم صورة جميلة في ذهني في بلاد الغربة ..خذلان أشبه بخذلان الفريق القومي السوداني في جمهورية مصر للسودان عامة وللقائد السوداني العظيم الذي لم يقصّر في دعمه الدكتور(جون قرنق ديموبيور) ..بل أنني أصلا أعتبر كرة القدم هي التيرمومتر الذي يمكن أن نقيس به (صحة)الوطن وسلوك(المسؤولين فيه وليس سلوك المواطنين والجماهير) في كثير من مؤسساته رغم أن بلادي أصبحت أفضل حالا مما مضى وبقليل من الإصلاح يتم الصلاح.
ويبدوا أن ما أقدم عليه (النائب الأول) من إصلاح بعد تدخله قد بدأ يأتي أكله بعد ذلك ..إذ نشرت صفحة مدارات بجريدة الخرطوم ،العدد 3922 بتاريخ 24/مايو/2005م خبرا يفيد بأن المشكلة بين الأمانة والمطابع قد تم حلها كما تم الإعلان عن ترشيح دفعة جديدة من الكتب (دون ذكر أسماء الكتب وهذا ما ينبغي فعله حسب إعتقادي)مقدمة للطباعة..كل هذا و(مسودة كتابنا) بالإضافة إلى (قرص الكمبيوتر) لا يزالان هما(الأمانة)التي هي في عنق(الأمانة)..ولا يسعنا بعد هذا إلا القول :اللهم هذا كتابي قد وضعته هكذا بين أيديهم فاشهد..أشهد إن كان حقا كتابي هذا يحمل راية الحق التي ينبغي أن تعلو هناك ..وبأيديهم لترفرف في السماء.
وكما رأيتم من ترتيبنا للإنجازات التي أوردناها ..إن الإنجاز الأخير ربما دل أكثر على إنني مثلما كنت أختار دوما أحداثا أو مناسبات بعينها للزج بمقالاتي ضمن مقالات سودانيز أونلين ..فقد قدر الله أن أختار أيضا مناسبة (إختيار الخرطوم عاصمة للثقافة العربية)لإبراز الكتاب إلى حيز الوجود ..ألا ترون من ناحية أخرى أيضا أن عبقري الرواية العربية (الطيب صالح) وصاحب الرواية العالمية الشهيرة(موسم الهجرة إلى الشمال)التي ترجمت إلى أكثر من(عشرين) لغة حية ..وأختيرت كما قرأت ضمن (المائة) رواية (الأفضل في تاريخ البشرية).. قد اختار المناسبة ذاتها للعودة النهائية إلى أرض السودان؟وها هي ذي صحيفة الخرطوم في عددها الصادر صبيحة يوم الأحد الموافق 24/4/2005م تنشر خبر عودته النهائية وفي معيّته عدد من جهابذة (الفن والجمال والسلام والمحبة)..نذكر منهم الدكتور التشكيلي/إبراهيم الصلحي وشيخ الخطاطين الأستاذ/عثمان وقيع الله الذي ما أن ذكر الناس الخط العربي الجميل بالمستوى الذي يرقى إلى أن ترسم به كلمات الله التامات في المصحف الشريف ..إلا وكان إسمه في البال.
جاء عبقري الرواية العربية هكذا من لندن ..حاملا معه لنا تجاربه وإستنتاجاته في بلاد المهجر ..قائلا لنا كما جاء في صحيفة الخرطوم بالعدد(3904 ) بتاريخ 3/مايو/2005م : (إننا لا نحسن تسويق المادة الثقافية ) ..وقال أيضا : (ليس هناك كاتبا عربيا أو أفريقيا يعيش من كتابته إلا في ظروف نادرة) وهذا يذكرني بالتجربة التي ساقها لنا أيضا من بلاد المهجر الدكتور/مختار عجوبة في مقال كتبه في جريدة الخرطوم بالعدد (3899) بتاريخ 27/أبريل/2005م عن (الطيب صالح) قبل أن يمنح (جائزة الرواية العربية) بالقاهرة وعودته الأخيرة للسودان ..عندما سرد لنا الآتي في إحدى الفقرات :(إن ظروف السودان غير مواتية للكتابة الإبداعية أو الصبورة الرصينة التي ينقطع لها الباحثون لسنوات وسنوات بين أضابير الكتب ..فالمجاملات الإجتماعية تغطي على كل هم كاتب أو باحة مبدع ..وأضاف قائلا: قد سألنا الطيب صالح أين كتب رواياته وقصصه ؟ وقبل أن يجيبنا قلنا وبصوت واحد بأنه لا بد أن يكون قد كتبها خارج السودان ..فرد علينا بأنه بالعقل قد كتبها خارج السودان ..إلا " دومة ود حامد " فقد كتبها بقريته " كرمكول" ولكن يا ترى في أي الأوقات في السودان كتبها ؟ ..كتبها في شهر رمضان حيث كان يصحو فجرا ليواصل الكتابة قبل أن يلتف حوله الأهل والأحباب ).
والغريب كذلك ونحن قد تناولنا تجربة(الطيب صالح) في المهجر ..فأن كتابنا (سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون ) تجدونه أيضا قد تناول ضمن ما تناول..سراً عجيبا من أسرار(موسم الهجرة إلى الشمال)..وهو السر الذي ربما يكمن خلفه ورود إسم هذه الرواية الشهيرة وإسم بطلها الغامض في أكثر من فقرة من فقرات كتابنا.
وإذا كان لا بد من التعليق على أقوال (الطيب صالح) فيما يتعلق بعدم قدرتنا في الوطن العربي وأفريقيا على حسن (تسويق المادة الثقافية) وكذلك عدم القدرة على(العيش من فعل الكتابة) فأننا لا نملك الآن خياراً غير التفاؤل بأننا في ظل (السودان الجديد) ربما سنكون أفضل حالاً من السابق وأقدر على تجاوز مثل تلك العقبات.
ومن تجربتي الشخصية المتواضعة في تأليف كتاب(سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون) ..فإنني أجد نفسي أتفق كثيرا مع رأي الدكتور/عجوبة فيما ذهب إليه ...بحيث يمكنني القول أنني لو لم أكن مغتربا طيلة هذه المدة الطويلة..فإنني لن أنفي تماما إمكانية الكتابة داخل السودان ، خاصة وأن الأمر قد يخضع للظروف الأسرية الخاصة للمؤلف وأن المكتبات السودانية كذلك لا تخلوا من كتب لمؤلفين أنجزوا أعمالهم داخل السودان ..ولكن لا أظن أن تلك الكتابة التي قد أقوم بها داخل السودان ستكون بذات العمق الذي تناولته في كتابي(سنن تزاوج الأشياء تزاوج الأِشياء في الطبيعة والكون ) وأنا في بلاد المهجر..خاصة وأن الكتاب قد استغرق مني أعواما عديدة أقضيتها في التفكير والتأليف وصاحب ذلك أوقات من الإنطواء والإختلاء بالنفس ..بالإضافة إلى التطوير التدريجي لأدوات الكتابة ..ففن الكتابة في نظري كفن التشكيل ، بل أنه لا فرق عندي بين الفنان التشكيلي والشاعر والروائي والمهندس المعماري والنحات والطبيب الجراح ..فالفرق فقط في الأدوات التي يفضلون إستخدامها ..والحقيقة أن كل شخص في الدنيا خلق فناناً حسب إعتقادي ..ولكن المشكلة تكمن في كيفية إكتشاف مجال فنّه.
أما قصتي مع (الفن التشكيلي) بعد سنين الطفولة في دارفور ..هي أنني إذا سئلت في سن الشباب وقبل إمتحان الشهادة السودانية التي يحدد فيها الطلبة رغباتهم ..ما هو أفضل عمل يمكنني إتقانه أكثر من غيره من أعمال في الدنيا..لكان هذا العمل هو الفن التشكيلي أو الرسم..وهو الفن الذي عندما كنت أمارسه بين زملائي في كل المراحل الدراسية التي مررت بها..يجعلني أشعر دوما بأنني أجلس على المقعد الأمامي خلف عجلة القيادة والجميع من خلفي ركاب ..وأذكر في العام الذي إمتحنت فيه للشهادة السودانية ..كنت قد إمتحنت من مدرسة (أبي جبيهة الثانوية العليا) بالمساق العلمي(رياضايات) وفي اليوم الذي صادف الجلوس للإمتحان ورقة من أوراق(مادة الفنون الجميلة والتطبيقية) ..كنت في ذلك اليوم قد تحركت في الصباح الباكر مشيا على القدمين من مسكن الطلاب إلى قاعة الإمتحانات ..ولكن لسوء الحظ في ذلك الصباح قد شبّ حريق في أحد المنازل على حافة الطريق التي كنت أسلكها..فصاح أهل الدار والجيران من حولهم مستنجدين بمن يقوم بمد يد العون لإطفاء الحريق ..نظرت حولي ميمنة وميسرة فإذا بالناس قليلون ..ثم نظرت إلى الساعة على معصمي وجدتها تقول إن موعد الإمتحان قد بقي له دقائق معدودات ..وأنا في ترددي بين هذا وذلك ..قررت في النهاية أن أساعد المنكوبين بزيادة عدد المنقذين ..ثم بعد أن كادت النار تخمد وإطمأن قلبي على ما سوف يحدث بعد ذلك ..واصلت مشواري مسرعاً إلى قاعة الإمتحانات ..فدخلت القاعة! ..نظرت ميمنة وميسرة ..فإذا بالكل ينظر إليّ في إستغراب بمن فيهم مراقب الإمتحان حتى خشيت أن يمنعني المراقب من الإمتحان مثلما يفعل المعلمون عادة كعقاب للطلاب الذين يأتون متأخرين ..لكن الحمد لله أن شيئا مثل هذا لم يحدث رغم أنني كنت في الحقيقة آخر من دخل قاعة الإمتحانات من الممتحنين..فجلست على مقعدي الذي كان المقدمة ..وبعد أن هدأت قليلاً ..أخذت ورقة الأسئلة ..أخترت من بين خياراتها الثلاثة ..أن أرسم لوحة ملونة ..لرجل يتعبّد (في خشوع)..هكذا كانت تقول الورقة ..ورغم صعوبة إظهار تعابير الوجه في هذه الحالة .. فقد كان الأمر بالنسبة إلى مثلما وصفت سابقا ..إذ بدى لي كأن المقعد الذي جلست عليه في مقدمة قاعة الإمتحانات هو مقعد السائق في حافلة الركاب ..وكأن (الفرشاة) التي أمسكت بها لأرسم هذا المشهد التخيلي ..كانت هي (عجلة القيادة) في تلك الحافلة التي كنت أقودها ..ولكأن زملائي الممتحنين من خلفي هم (الركاب) ..وجاءت النتيجة الحاسمة لإمتحان الشهادة السودانية التي إلتحقت بعدها بمعهد الخرطوم للكليات التكنولوجية سنة 1984م..وكانت النتيجة العامة في مادة (الفنون الجميلة والتطبيقية) هي 80%(ثمانون بالمائة).
وعلى الرغم من أن كلية الفنون وقتها كانت تقبل إليها الطلبة الناجحين الحاصلين على مجموع قدره 65% في مادة الفنون الجميلة ..ومع ذلك فقد بدى جليا أنني كنت عاشقا للشقاوة و(التمرد) آنذاك..فتمردت على(كلية الفنون الجميلة والتطبيقة)بعدم ذكرها حتى ذكراً ضمن رغباتي قبل الإمتحان..و التي كانت بلا شك هي الكلية الوحيدة التي أستطيع القول بأنني خُلقت(ميسّرا)لها أكثر من غيرها من الكليات..فالتحقت بكلية أخرى هي (كلية الدراسات التجارية ـ قسم التكاليفCosting ) ..إلى أن تخرجت فيها سنة 1984م ..وكنا وقتها (14)خريجا فقط يحملون شهادة(البكالوريوس)من هذا القسم ..ليس لأن هناك طلبة كانوا قد رسبوا في إمتحان التخرج أو أن بعضهم قد طرد ..ولكن لأن المعهد أصلا كان يقبل عددا قليلاً من الطلاب في جميع أقسامه وكلياته.
ولكنني رأيت بعد سنين من التخرج والعمل في عدة شركات ومؤسسات منها ماكان داخل السودان ومنها ما كان في بلاد المهجر ..أن فن الرسم الذي ظلمته وكأني ظلمت نفسي معه ..ظل يلاحقني ويفرض نفسه على فرضا مع مرور الزمن..لذلك عمدت إلى إختار أدوات أخرى للتعبير عن الفن والجمال بعد أن فاتني قطار الدراسة الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة مسافة طويلة يصعب بعدها اللحاق..فاخترت أقصر الطرق للتعويض عن ذلك ..فأبدلت(الفرشاة)التي كنت أرسم بها (بالقلم)الذي أكتب به .. و(الألوان)الزاهية التي كنت ألون بها ـ رغم صعوبة هذا ولم يزل ـ بالكلمة العربية الجميلة المعبرة ..كما أبدلت أيضا اللوحة التي كنت أرسم عليها ..بالأوراق البيضاء والصفحات المرقمة..وليس هذا فحسب، بل أنني نظرت أيضا إلى مادة (الرياضايات الإضافية) التي كنت قد أخترتها لي تخصصا في إمتحان الشهادة السودانية ..فحاولت أيضا أبدال (حلولها السحرية) وبراهينها العملية ..(بتكتيك الوصول إلى الفكرة)..وكذلك من (القيود المحاسبية) في (دفتر الأستاذ العام Ledger Book ) بعد التخرج ..وهي القيود المحاسبية التي يستعان بها للإشارة بدقة إلى أماكن تواجد المستندات المالية التي تملأ الأرفف في المكتب ..إستفدت كيفية الإشارة أيضا بدقة ومسؤولية إلى (الكتب والمراجع) التي إعتمدت عليها في بحثي مؤلفي بذكرها في(حواشي الصفحات)...وفي الحقيقة أن القصة عندي في مجال الإستفادة من الخبرات المتزايدة (أفقيا) تطول وتطول..ولكني أكتفي بهذا القدر.
أما عن تجربتي الحقيقية الأولى في الكتابة ..فقد كانت في أواسط التسعينات ..وكان كتابا إسمه (قلب أفريقيا بين الجلال والجمال)..كان قد تم طباعته بالفعل في جمهورية مصر سنة 1995م ..وكنت في بادئ الأمر قد جربت فيه الكتابة بقلم (الحبر)الجاف ..فوجدت صعوبة في شطب الفقرات وتعديلها أثناء الكتابة ..ثم أتتني بعد ذلك فكرة رأيتها أفضل ..كانت هي الكتابة بقلم (الرصاص)لذلك خرجت مسودة الكتاب التي ذهبت إلى دار الطباعة والنشر وهي مكتوبة من أولها لآخرها بقلم (الرصاص)..وكما تعلمون أن قلم الرصاص هو القلم الذي يستعين عادة في أعمالهم الفنية الرسامون التشكيليون ..لأنه في الحقيقة يوفر لهم إمكانية إذالة ما يريدون أزالته بسهولة مستخدمين(المساحة المطاطية)أو(الأستيكة) ..أما في كتابي الأخير(سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون) ..فقد تطور الأداة إلى أداة أخرى معاصرة وأكثر فعالية ..وهي الأداة التي رأيت أن يستفيد منها غيري من المبتدئين في هذا المجال..فقد إستعنت بأعظم إختراع يمكن أن تقدمه الحضارة الإنسانية للمؤلفين في هذا الزمان ..ألا وهو جهاز الكمبيوتر ..وهو الجهاز المدهش الذي عندما إنهيت من تأليف كتابي الأخير سنة 2004م .. تخيلته مخلوقا عجيبا يجلس أمامي ويسمع إلى همسي وحديثي وشكري له ..ولكأني كنت أقول له : الآن قد إنتهيت من التأليف .. فالشكر لك بعد الله على هذا التعاون الفريد..الشكر لك للأمكانية التي وفرتها لي في (قص) فقرة بأكملها ووضعها أو(لصقها)في مكان آخر كنت أريد لصقها فيه دون الحاجة إلى تمزيق الأوراق كما كنت أفعل كالسابق ..أشكرك أيضا لأنني كنت إذا قمت بشطب فقرة بأكملها من فقرات مؤلفي..ثم إكتشفت بعد لحظات إنني كنت قد إرتكبت خطأ كبيرا بشطبه ..فلكأنك كنت تنفخ الروح في الأشياء من جديد ..فتعيدها لي من جديد ..ولكأن الفقرة قد جاءت من عدم ..ثم أشكرك كذلك على وضعك (خطا أحمراً) تحت كل كلمة عربية تشككت أنت في صحة كتابتي لها ..وأنت المزود أصلا (بمعجم عربي كامل) بداخلك دعك عن (المعاجم الأخرى) وكل (كلمة) أكتبها كنت أنت تقوم بمقارنتها بكلمات المعجم الذي لديك..فتأتيني بالخيارات الصحيحة لكتابتها..ثم أشكرك على مساعدتك لي أيضا في (التدقيق الإملائي)بل(النحوي) أيضا.. ولكأنك كنت تعلم سلفاً أن بعضاً منّا قد تعلم العربية (قسرا) في بلادي في مدارسنا الأولية ..أشكرك كذلك على (ترقيم الصفحات) تلقائيا وعلى كيفية الإشارة إلى (المراجع) في (حواشي الصفحات) وترقيمها آلياً..كما أشكرك على إستعراض قدراتك أمامي رغم أنني لم أكن في حاجة إلى مثل هذا الإستعراض عندما أحصيت لي كم (كلمة) بل كم (حرف) كان يحتويه كتابي ..أشكرك على إمكانية (البحث السريع) عن كلمة بعينها كنت أبحث عنها في متاهات المؤلف ..عندما كنت أريد أبدالها بكلمة أخرى أكثر دقة منها وتعبيراً ..فجئت بها أنت من مكانها الذي لا أدري من الذي أخبرك به رغم أنني أنا الذي كنت قد كتبتها هناك ولكن الإنسان ينسى وأنت الشاهد الذي لا ينسى..أشكرك و أشكرك كثيرا ..بعد الله الذي ألهم المخترع فأتى بك في الدنيا..لأني عندما قلت لك :الآن قد إنتهيت من تأليفي ..ولكن بقي لي شيء واحد أطلبه منك طلبا أخيرا ..وهو أن تضع لي وفي هذه الصفحة الأخيرة الخالية التي اخترتها لك بالتحديد ..شيئا إسمه (الفهرست) وهو إذا لم تكن تعلم (قائمة محتويات الكتاب) ..أريدها الآن بعناوينها الرئيسية والفرعية وبأرقام الصفحات التي ظهرت عليها ..فإذا بك تأتيني بها ..وفي لمح البصر!
والفائدة الأخرى التي أود ذكرها لأستخدام الكمبيوتر هي أنك عند الشروع في طباعته لدى دار للطباعة والنشر ..فإن في إمكانك تسليمهم نسخة من الكتاب على (قرص كمبيوتر) وهذا يوفر لهم عناء الطباعة أو النسخ إلكترونيا من جديد وبذلك تكون مطمئنا على سلامة الطباعة وعدم ورود أخطاء مطبعية يقوم بها الناسخون من بعدك في المطبعة .. والسر الذي أريد أن أكشفه لكل المؤلفين السودانيين المبتدئين ..هو أنهم مهما بدى لهم أنهم أبدعوا ما فيه الكفاية داخل جهاز الكمبيوتر ..فإن هذا الإحساس فيه نوع من الخدعة ..لأنك لن ترى عملك على حقيقته إلا بعد طباعته وقراءة على (الورق)..لذلك فإن وجود طابعة مع الكمبيوتر أمر في غاية الأهمية لا يقل أهمية من الكمبيوتر ذاته..سوف يتعلم المرء الطباعة على الكمبيوتر ..ويستفيد من هذا في كتابته لأصدقائه عبر (البريد الإلكتروني) وإذا كنت أنت من النوع الذي يطبع على (الآلة الكاتبة) أو الكمبيوتر بطريقة(اللمس)السريعة ..أي بدون النظر إلى مفاتيح الحروف ..وهذا يعلمك له الكمبيوتر نفسه في منزلك وبدون معلم ..فإنك بلا شك (عازف بيانو)ماهر مع (وقف التنفيذ).
وقد تكون في حاجة للإلمام باللغة الإنجليزية كي تتعلم ولوحدك وفي المنزل كل الذي ورد ذكره مثلما فعلت أنا..خاصة وأنني قد إستفدت من دراستي لجميع المواد باللغة الإنجليزية في معهد الخرطوم للكليات التكنولوجية ..وهذا طبعا قبل (التعريب)الشامل الذي شمل المعهد ذاته بعد تسميته (جامعة السودان للعلوم والتكنولوجية).
ولو كنت أنا المسؤول في بلادي ..فإنه فمثلما فعلت الدولة من قبل بتيسير عملية دخول (جهاز الكمبيوتر)إلى بلادي بدون جمارك تذكر..فإنني سوف أعطي أيضا الحق لكل (فنان) مؤلف وراوي وصحفي وما إليهم .. في الحصول على ما يريد من مجموعة أجهزة معاصرة مفيده في المجال يعمل به بدون قيود تعجيزية ..سوف أخصص مبنى من مباني المجلس الإتحادي للمصنفات الفنية والأدبية وربما بنيته على هيئة (مقهى للأنترنيت)..لتوفير مثل تلك الإحتياجات بسعر التكلفة وبدون جمارك ولا ضرائب أيضا تذكر ..كما سوف أوفر لهم عملية الشراء بالأقساط المريحة خاصة وأن أغلبهم معروفون لدى المجلس الإتحادي للمصنفات أو لدى وزارة الثقافة..من الأجهزة التي سوف تظهر على أرفف هذا المبني على سبيل المثال لا الحصر أجهزة (الكمبيوتر المحمول) و(الطابعات)بأنواعها و(الأحبار) ..(آلات التصوير)بأنواعها..سأوفر لهم أيضا جهاز تقطيع الأوراق غير المرغوب فيها (Paper shredder) ..وجهاز الأسكنار أو مايسمى(الماسح الضوئي)وهو الجهاز الذي أشيع أن دخوله ممنوع في بلادي هذه الأيام ..وذلك ليوثق بواسطتها بعض المعلومات (المنتقاة)إنتقاءا من الكتب والمجلات والصحف اليومية بالصورة والكلمة المعبرتين والتي سيحتاج إليها في يوم من الأيام كمراجع لبحثه عن الحقيقة..وكذلك أجهزة (الرسيفر)اللاقطة للقنوات الفضائية ..سوف أعلمهم بواسطة خبراء في المبنى كيف يستخدمونها..سأحاول جاهدا إيصال الخبرة إلى الأقاليم الأخرى البعيدة عن المركز..وصحيح أن لبعض الأجهزة الحديثة خطورتها على المجتمع عندما تقع على أيدي المراهقين والشباب الطائشين وقليلي الخبرة في الحياة ..غير أن(الفنان) بإعتباره شخصا واعيا ومعروفا بإنتاجه الفكري والإبداعي ..بل ربما يكون إسمه قد ورد فعلاً بسجلات المبدعين في وزارة الثقافة أو (المجلس الإتحادي للمصنفات الفنية والأدبية) وكل شخص في نظري قد خُلق فناناً كما ذكرت ..حتى يثبت لنا(إهماله)لنعمة الله وعدم قدرته إلى إكتشاف ذاته ..ينبغي لنا إذن أن ندعه يرى بعينين أقوى من عيني(زرقاء اليمامة)التي كانت تنقذ بقوتهما قومها في الماضي ..خاصة وأن الأقمار الإصطناعية في عصرنا الحاضر تمكن من النظر أبعد من ذلك..كما ينبغي لنا أن نجعل الأقمار الإصطناعية أيضا أكثر إنصافاً وإلتفاتةً لإفريقيا (جنوب الصحراء)..إن الفنان في بلد ذو(هوية كهوية السودان) لا بد أن ندعه يرى هكذا كل شيء ..وإلا فكيف يأتي لنا بالجديد في عصر(سودانٍ جديد) ؟.إنه سيرى ملعبا (لكرة القدم) في أوربا والبرازيل ..ويرى كذلك(الفن والجمال)الحقيقيين في (إستاد الملك فهد الدولي) بمدينة الرياض..ليقول لنا في النهاية : أن (النجيلة)عندنا التي ينبغي أن تكون خضراء ..أراها تموت عطشاً والنيل عندنا(نيلان) ..ولكننا لا نشعر بذلك..ربما لأننا قد(إعتدنا) على ذلك.!!
فلماذا على سبيل المثال لا الحصر ..قد أكرموا في هذه الأيام التي نكتب فيها المقال ..الفنان المبدع/عثمان حسين ؟ ولماذا منحته الدولة (وسام الجدارة)؟ ..أعتقد أن هذا لسبب واحد ..وهو أنه كان فنانا حقيقيا قد عرف(مسبقا)بحسه وذوقه الفني ..ما كان يريده المجتمع السوداني الذي يعيش فيه ..فأختار له الكلمة الجميلة فصحى كانت أوالعامية ..وأختار له اللحن الفريد الذي يتميزه عن غيره ..الألوان الزاهية المتدرجة التداخل في(أغنية واحدة) ..ولكأنه كان قد إستخدم فيها ريشة ناعمة..جاعلاً (الأوركيسترا) التي خلفه شجرة إكتظت بالعصافير ..إتفقت جميعاً على إختلاف أحجامها وألوانها وفصائلها وأطوال أجنحتها ..أن تغرد خلفه باللحن الذي كان يريد..فحق له (وسام الجدارة)..كيف لا ؟!وهو الذي غنى بكيف لا ؟ حين قال : (كيف لا أعشق جمالك) .. أوتذكرون أغنية (شجن) أتذكرون كيف يأتي فجأة بكلمة(أغفرلو)؟ وكيف تخرج من حنجرته الذهبية ما بعد (أغفرلو)؟..أتذكرون قوله(لولا ربي وجهنم)؟ وعناوين مثل(الوكر المهجور)و(القبلة السكرى)و(غرد الفجر)وغيرها من أغنيات كل واحدة منها كانت أجمل من الأخرى..لقد فعل (عثمان حسين) كل ذلك دون أن يجري(إستفتاءاً شعبيا)مسبقا مثلما يفعل السياسيون ..ليتعرف على مدى قبول الجمهور لمثل تلك الكلمات والألحان..لأنه كان فنانا حقيقياًً.
وأيضا إذا كان حقا هذا الشخص الذي نعتني به(فناناً)حقيقيا ..فإنه سوف يرى بعينيه (كل شيء)..ولكنه سوف لن يقول للمجتمع الذي يعيش فيه (كل شيء) ..وذلك لأن الله تعالى قد ميزه دون غيره من الناس ..بحس فني راقٍ ..وذوق وشعور رفيعين ..نحو (الأشياء) التي يراها..و(المجتمع) الذي يعيش فيه ..كما لا بد أيضا أن تكون هنالك حكمة بالغة نستفيد منها في هذا الشأن..في قوله صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما أعلم ،لضحكتم قليــلاً وبكيتم كثيــرا.
ولكن جهاز الكمبيوتر الذي نتحدث عنه ..فإنه فضلا عن كونه جهاز يحتاج إلى (كهرباء) دائمة متواصلة لا تنقطع فجأة (إذا لم يكن من النوع المحمول والأغلى ثمنا عادة ..والذي بإمكانك شحن بطاريته للعمل عليه ساعات طوال وأنت على قمة جبل مرة على سبيل)..فهو أيضا كالإنسان يتأثر بحرارة الجو الخانقة ..المعكرة لمزاجه أحياناً.
وبعد أن تمردنا على أسلوب المقالات ..فأقحمنا ما أردنا إقحامه من حديث حول كتاب (الفن والجمال والسلام والمحبة)..ومثلما تفعل الفضائيات كما ذكرنا، رغم أن كتابنا كاد يملك جزءا من حقه في هذا من عنوان المقال ..فإن من أسباب تأخرنا كل هذه المدة الطويلة في كتابة الجزء الثاني من المقال يعود في المقام الأول إلى إننا كنا نرصد إلى أجل غير مسمى مناسبة جيدة وتوقيتا مناسبا لكتابة هذا الجزء الذي خصصناه مسبقا للحديث عن مشكلة دارفور ولتقديم إقتراحاتنا حول حل المشكلة.. مستندين في ذلك كما أشرنا إلى مفهوم(الوسطية الحقة)..ومن أهم العلامات التي رأيناها قد دلّت على أن الوقت قد حان ..علامتان بارزتان هما:
1- قرار مجلس الأمن رقم( 1593 )القاضي بمحاكمة المشتبه في تورطهم بأحداث دارفور وعرضهم على المحكمة الجنائية الدولية ..وهو القرار الذي خرج على إثره رئيس الجمهورية المشير/عمر حسن أحمد البشير ليقسم على الملأ (ثلاثاً)...أنه سوف (لن يسلم أي سوداني للمحاكمة خارج البلاد) ..تلا هذا القسم غير المعهود ..مظاهرات ولافتات في شوارع الخرطوم تندد بكوفي عنان والولايات المتحدة وفرنسا ..وقد ذهب البعض إلى القول أن هذا القسم قد جاء نتيجة لظروف المنبر المؤقتة ..كما يحدث أحيانا للخطباء المنساقين وراء الحماس ..كما كاد البعض أن يهمس في أذن (البشير) لعله يتخذ عبرة ودرسا من الذين سبقوه منذ سنين مضت ..من(أفغانستان التي حطمت التماثيل) من(نوريقا)و(الصرب الملاعين) ..من(شجاعة القذافي في قول الحقيقة والصمود وحيدا بلا نصير) ومن(صدام الفارس الهمام) ..من (الصومال التي منها أشتقت الصحف مفردة صوملة)..بل من (حطام مصنع الشفاء والأسباب كانت مونيكا) ...ولكن البشير أقفل باب الهمس على الجميع ..بعد أن عاد مجددا ليكرر القسم المهيب مرة تلو مرة ..بل وليزيد الباب إحكاما بقوله فيما بعد أو فيما معناه: ولم الخوف ؟ومن من نخاف؟ فإما (النصر) أو (الشهادة)! ..شهادة ندخل بها الجنة التي عرضها السماوات والأرض! وقال المؤيدون لقسم (البشير) أن السودان لم يوقع على معاهدة لاهاي لذلك فهو غير ملزم بهذا القرار غير أن البعض صحح هذا بقولهم أن الصحيح هو أنه وقع ولكنه لم يصادق عليه..والبعض الآخر يرى أنه سوى أن كان السودان قد وقّع أو لم يوقّع ..صادق أو لم يصادق ..فإن الأمر لا يغير شيئا لأن القرار قرار سياسي أتى من مجلس الأمن.
2- مؤتمر الدول المانحة في (أوسلو) الذي تبرعت فيه الدول المانحة بسخاء فاجأ الجميع بإعلان تبرعها بأكثر من (أربعة مليارات دولار) تعهد الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بمبلغ (مليار ونصف المليار دولار)وكان المطلوب فقط أو المتوقع حوالي(أثنان مليار ونصف المليار)..غير أن بعض المانحين وعلى رأسهم الولايات المتحدة قد ربطوا هذا بحل مشكلة دارفور.
إقتراحات الخروج من الأزمة ولو بعد حين :
1. طالما أن أساس الخلاف بين(الحكومة السودانية)و(مجلس الأمن الدولي) ..حول قرار مجلس الأمن رقم 1593 ليس في مبدأ (محاكمة المشتبه فيهم بالضلوع في أحداث دارفور) ..ولكن في (مكان المحاكمة) ..فإن الحل الذي يتراءى لنا بوضوح للخروج من الأزمة ولو بعد حين ..هو أن تسعى الدبلوماسية السودانية التي كان لها حضورها وتأثيرها الواضحين في السنين الأخيرة للحصول على موافقة بمحاكمة المتهمين بالضلوع في المشكلة في محكمة(دولية)داخل(السودان)..ولكي تتوفر لهذه المحكمة أسباب الحيادية والإستقلال فإنه يتم دعوة جزء أو كل فريق (محكمة العدل الدولية) ذاتها إلى السودان..وذلك أما لمراقبة المحاكمة داخل السودان أو إجراء المحاكمة ذاتها بأنفسهم داخل السودان.. ولا أعتقد أن مثل هذا الطلب سيكون صعب المنال عبر (الدبلوماسية السودانية)و(لجنة النظر في القرار رقم 1593)و(لجنة إعادة صياغة الدستور)وما يجري في(أبوجا)والجهود التي يبذلها(القذافي) إلا إذا إختلفت الآراء ولم يتفق الجميع على رأي واحد ..كما لا أعتقد أن هذا الطلب سيكون أيضا غاليا على السودان ..خاصة وأننا قد رأينا بأعيننا على شاشات التلفاز..وفي أمر كان يتعلق بالسودان ..كيف أن مجلس الأمن ذاته بقوته وهيبته وجبروته..غادر مكانه التقليدي ومقره الدائم في الولايات المتحدة الأمريكية لينتقل برمته إلى حيث محادثات السلام السودانية في كينيا .
2. طبعاً سيتبادر إلى أذهان الكثيرين من القراء حتى هذه النقطة ..أن المكان المقترح لإنعقاد أول جلسة للمحاكمة الدولية في السودان..سيكون هو(الخرطوم)العاصمة السودانية الحالية ..أو ربما (دارفور) ذاتها وقد ينجح هذين الخيارين بشكل آني ومؤقت وللمستقبل القريب فقط ..ولكننا من منظور كتابنا(سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون) ننظر إلى إيجاد حل للمشكلة من جذورها ليبقى الحل حلاً مستديماً طالما بقى السودان على كوكب الأرض ..ولهذا نرى أن المكان الأنسب لذلك هو مكان آخر بل(مدينة)أخرى بعينها غير الخرطوم وغير مدن(دارفور)أيضا وإن كادت مدن دارفور تؤدي مهامها..وقد ظلت هذه (المدينة)موجودة منذ أمد بعيد في خريطة السودان ولكننا لم نكتشف أهميتها وأهمية موقعا الجغرافي في هذا الشأن ..ولكن كتابنا المدهش يكشف عن هذا المكان بوضوح تام!!
3. تلك المدينة المقترحة و(الغامضة)في مقالنا حتى الآن ..قد أطلقنا عليها في كتابنا إسم(العاصمة الحيادية الثالثة)وكان ذلك منذ أمد بعيد وقبل تحقيق إتفاقية السلام..وبما أن كتابنا يقدم رسالة جديدة ومعاصرة في(كيفية تلاؤم الأشياء مع سنن وقوانين الطبيعة والمصالحة معها)..فقط أشترط أن تقع هذه المدينة في مكان ما بين (الخرطوم) و(جوبا أو رمبيك) ..بين (الصحراء القاحلة في الشمال) و(الأشجار المورقة في الجنوب) .. بين (السحنة القمحية الفاتحة والشعر الناعم الطويل في الشمال) ..و(السحنة الأبنوسية السوداء والشعر " القُرقُدي " الخشن ـ مثل لوني وشعري ـ في الجنوب) ...إنها في مكان ما أيضا ذو مناخ (معتدل)و(وسط) ..ليس فيه تدفق الأمطار الغزيرة في جوبا ..أو حرارة الخرطوم و(كتّاحتها)الخانقة رغم جمال المقرن الأخاذ .. ولا عجب أيضا ولا غرابة في إقتراحنا هذا ..خاصة وأنه قد حدث في أواسط التسعينات من القرن الماضي ..أن إقترح أحد الباحثين إنشاء عاصمة أخرى غير الخرطوم ..وقد إختار لها قريةً بعينها إسمها (الشريك)التي تقع شمال الخرطوم على بعد 200 كيلو مترا من ميناء بورتسودان ، وقد تم نشر هذا الإقتراح بجريد الشرق الأوسط مشفوعا بالخرائط والصور التوضيحية كما علقته سفارة السودان بالرياض ضمن ملصقاتها الإخبارية ...ثم لماذا نذهب بعيدا ؟ ألم نقرأ كذلك في موقع سودانيز أونلين خلال شهر يناير المنصرم ..مقالان كلاهما كان قد تناول موضوع إنشاء عاصمة قومية جديدة للبلاد ..وذلك إما بإحداث تغيير بالخرطوم ذاتها أو إنشاء عاصمة أخرى غيرها ؟ المقال الأول كان بعنوان (عاصمة جديدة بثقافة جديدة ،،لسودان جديد) بقلم / أبو بكر القاضي ويتحدث عن ندوة أقيمت في قطر ..والمقال الثاني كان إمتدادا لتلك الندوات ..وعنوانه(الملتقى الثقافي السوداني يفتح ملف البحث عن عاصمة قومية جديدة ) وفيه قدم أبو بكر القاضي آراء الباحث /عصام إبراهيم جمال حول هذه المسألة وفي هذا يقول الباحث ومحاضر الندوة بعد عدة نقاط : (لا بد من بناء عاصمة جديدة في منطقة تبعد على الأقل مائة كيلومتر من الخرطوم وفق مفاهيم التنمية الإقليمية حتى لا تدور المدينة الجديدة في فلك العاصمة القديمة ويراعى في الموقع الجديد كل الظروف البيئة والسياسية وشروط الدفاع والأمن ومتطلبات الإتصال بكل أنحاء السودان .. يمكن أن يتم إنجاز ذلك في مدى 10- 20 عاما من الآن ). ولكن كما يظهر لنا من المقال ..أن ذلك الباحث رغم بحثه القيم الذي قدمه إلا أنه لم يحدد لنا بالضبط (مكانا) بعينه أو (مدينة) بعينها لإنشاء تلك العاصمة المقترحة ولكن المفيد في ذلك أنه قدم الشروط والمواصفات التي ينبغي أن تتوفر لتلك العاصمة الجديدة ...أما كتابنا(سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون) فقد حدد المكان المناسب بعينه كما ذكرنا..ولكأنه أيضا قد تنبأ مسبقا بما ستفضي إليه أحداث دارفور فأطلق على المدينة إسماً آخرا هو(العاصمة القضائية)!!
4. إن من شروط وسمات تلك العاصمة القضائية المقترحة أن تقع أيضا في مكان محدد داخل(شريط الوسط التبايني الحقيقي للسودان)وهو الشريط الذي ذكرنا أنه يمتد من أقصى (شرق) السودان إلى أقصى (غربه)حيث (جبل مرة)الشامخ الجميل وهو الجبل الذي يحتل موقعا جغرافيا (وسطا)دقيقاً ومثيراً للتفكر بين ولايتي (شمال دارفور) و(جنوب دارفور)!!.
5. نقترح أن يكون لهذا الشريط (الوسط) حكما ذاتيا ودستورا وسطيا قائما بذاته بحيث يختلف هذا الدستور عن دستور البلاد في الشمال والجنوب ..وأن يستلهم هذا الكيان الحيادي خصوصيته من خصوصية (الوضع)المثالي المستقل الذي تجسده على سبيل المثال دولة(الفاتيكان)التي نشأت وعاشت بسلام داخل دولة أخرى ذات سيادة بموجب إتفاقية (لاتران سنة 1929م)..ألا وهي دولة (إيطاليا).
6. المشكلة الحقيقية بين مجلس الأمن و(حكومة السودان – أو الحزب الحاكم إذا شاء البعض )فيما يتعلق بالقرار رقم 1593..ليست في نزاهة قضاتنا السودانيين ولا في كفاءاتهم المهنية ..بالعكس إنهم أكفاء وبالمستوى العالمي كما نعلم..ولكن المشكلة تكمن حسب فهمنا ..في الإجابة عن سؤال واحد ومحدد ..وهو: هل القضاء عندنا مستقل؟ وإن كان كذلك ..فكيف نقنع الآخرين بأنه كذلك ؟ ..فكثيرا ما نسمع عن عبارة (إستقلالية القضاء) في أوطاننا العربية والأفريقية و دول العالم الثالث عامة، ولكن كثيرين في الدول العظمى والمتقدمة يتشككون في هذا وربما كان لهم الحق في ذلك ...خاصة وأننا نعلم إن العالم الغربي كله لا يثق في الدول التي يحكمها نظام عسكري .. إنه يتشكك حتى في مدى إستقلالية(الإعلام)فيها ناهيك عن القضاء ..ولا شك في نظرهم أن الذي يحدث للإعلام يمكن أن يحدث أيضا للسلطة القضائية ..ويحدث أيضا للسياسات الإقتصادية في تلك البلاد التي من المفترض أن تكون قد بنيت على أساس الدراسات والبحوث العلمية الإقتصادية المجردة ..هذا بالرغم من إقتناعي الشخصي كذلك بوجود إعلاميين سودانيين أكفاء وإقصاديين متميزين بعضهم حاز على جوائز عالمية.. وقضاة بارعون ومحامون أيضا إستحقوا رعاية حقوق الإنسان في بلادنا..لكن البيئة القضائية في أوطاننا العربية والأفريقية عموما نجدها دوما(بلا سياج)يمنعها من عوامل التأثير السياسي والجغرافي والأنثربولوجي الأمر الذي يقف حائلا دون إعتراف الآخرين بالوضع الحيادي المستقل لها. ولا شكل أن السلطة القضائية هي من أهم الأدوات في تحقيق (العدل والمساواة) وهو الهدف السامي والحلم الكبير الذي يساور الجميع في أنحاء العالم بغض النظر عن ألوانهم وألسنتهم وإنتماءاتهم السياسية ..لذلك فلا عجب ولا صدفة من صدف الثائرين المتمردين أيضا في دارفور..أن تتخذ إحدى الحركات المسلحة هناك من(العدل والمساواة)إسما وشعارا لها.
7. بتحديد وضع دستوري لشريط الوسط (التبايني)الحقيقي للسودان ..فإننا لا نكون فقط قد إقتربنا من إيجاد حل جذري لمشكلة دارفور ، بل نكون أيضا قد إقتربنا من إيجاد حل لمشكلة شرق السودان ..طالما أن الشرق سيقع أيضا داخل الإمتداد الطبيعي لهذا الشريط.
8. (الشريط الوسط)هو شريط من (صنع الطبيعة) وهو الذي أطلق عليه السياسيون من قبل إسم(منطقة التماس) ورسمه الجغرافيون في خريطة وجدتها حديثا توضح توزيع القبائل في السودان فأطلقوا عليه إسم(ساحة الحروب من أجل الموارد) كما سلط عليه الضوء بشكل أعجبنا الأستاذ/جراهام عبد القادر في حلقة من حلقات برنامجه الرائع(تراثيات) وكذلك الدكتور/جمعة كندة من جامعة جوبا في نفس البرنامج .. وسيكون لهذا الشريط الطبيعي دوره الأمني العظيم بمشيئة الله في المستقبل القريب ..خاصة في حال إنفصال الجنوب عن الشمال ـ لاقدر الله بعد إجراء الإستفتاء المرتقب ـ والسبب أن هذا (الكيان الوسطي) سوف يشكل الجدار الواقي للطرفين القويين المنفصلين والعمق الإستراتيجي لكليهما..وبدون إيجاد هوية مستقلة لهذا (العنصر الحيادي الوسط) ..فإن صراع (العمق الإستراتيجي)الذي غالبا ما سيتخذ شكلا دمويا كارثيا خارج سيطرة الطرفين..سوف يستمر هكذا يستنزف موارد الطرفين (أمنيا) و(إقتصاديا) و(إجتماعيا) إلى أجل غير مسمى..وإن كنتم لا تصدقون فإنظروا ماذا تفعل الآن(كشمير)بالدولتين النوويتين(الهند)و(باكستان).
وإذا كان لا بد لنا من تمثيل مشكلة (دارفور)في مشهد لمحبوبة الملايين (كرة القدم) فإن بإمكاننا تصور السودان ملعباً كبيراً لكرة القدم ..فيه يعلب فريق(الهلال)من الشمال إلى الجنوب..ويلعب فريق(المريخ)من الجنوب إلى الشمال .. والوضع الطبيعي المعروف منذ ظهور الفريقين في حقبة العشرينات من القرن الماضي هو توفير عناصر(العدل والمساواة) في مباراة كهذه ..العنصر الأول هو أن يكون هنالك (حكم)للمباراة (محايد) لا ينتمي لفريق الهلال ولا ينتمي لفريق المريخ ..العنصر الثاني هو: قبل بداية أية مباراة علي الحكم أن يضع الكرة في منتصف الملعب عند (دائرة الوسط)بين هجومي الفريقين قبل إطلاقه صفارة البداية ..ومع ذلك فلكأننا أتينا في وسط المباراة فلم نرى غير الحكم موجودا يحكم المباراة وهي مستمرة..ثم رأينا(رجلا الخط) ..أحدهما كان عند الحدود (الشرقية) للملعب والآخر عند الحدود (الغربية) للملعب ..كان العلم الذي يحمله (رجل الخط)في الحدود الغربية للملعب الغرب قد كتب على أحد (وجهيه)شعار(العدل والمساواة) ..رأيناه يرفع هذا العلم ويبدو أنه قد رأى خطأ في اللعب وأراد أن يلفت إنتباه (الحكم)إلى ذلك الخطأ ولما كان أغلب المشجعين كالعادة من فرط تركيزهم على اللعب لا يعرفون ماهو الخطأ بالضبط الذي إرتكبه(اللاعبون) خاصة في جهته الغربية ..فإن الأمر سوف يظل سراً غامضا حتى يخبر به الحكم ..ولكن رجل الخط ظل يلوح بعلمه لحكم المباراة ..دون أن ينتبه له الحكم من فرط سرعة المباراة ..وبعد أن طال تلويحه إضطر إلى لفت إنتباهه بطريقة(غير حضارية) وذلك برميه (بالحجارة) ..ولكن في اللحظة التي كان الحكم يحاول فيها الإقتراب إلى رجل الخط الذي يقف عند جهة الغرب للإستماع إليه فإذا برجل الخط الآخر من جهة (الشرق) أيضا يرفع علمه وشعاره..والحكم في حيرته هذه بين هذا وذاك ..سمعنا رجل الخط الذي من جهة الغرب يهمس إلى أحد المشجعين بالقرب منه ..والحكم ماذال في طريقه إليه ليستفسر عن الخطأ الذي حدث قائلاً له :ألا ترى أن هذا الحكم يبدو كأنه منحاز إلى أحد الفريقين أظنه فريق(الهلال)؟ ..كان رجل الخط يقول هذا وهو يقف عند نهاية (الخط المستقيم) الذي يمتد ليقسم في إمتداده الملعب إلى نصفين متساويين ..تابعنا هذا الخط بدقة فوجدناه في إمتداده يقسم (دائرة الوسط) أيضا إلى نصفين متساويين..وبينما نحن نتفكر في هذا (الخط المستقيم الفاصل)وفي أهميته بالنسبة للفريقين..وفي لماذا(دائرة الوسط)بالذات؟..فإذا بصيحات الجماهير تعلو بمدرجات الملعب..البعض منهم كان يصفق راضيا بسير المباراة ..والبعض الآخر كان يهتف بعبارات عدم الرضا كان من بينها عبارة لم تزل معهودة في ملاعبنا هي عبارة (التحكيم فاشل)!! ورأينا بعض أعضاء(الفيفا) الذين يراقبون المباراة من شاشة تلفزيونية مخبأة داخل المقصورة العليا..يتبسمون لتلك الهتافات وكأنهم مؤيدين لتلك الهتافات وكأنهم أيضا سوف يقومون لاحقا بإجراءات قانونية صارمة ضد هذا الحكم وربما كذلك ضد(اللعيبة)الذين يبدو أن الحكم قد تواطأ معهم!
خاتمة المقــال:
عندما يتحدث الناس عن (دارفور) ..فإن الحديث دوما(ذو شجون) ..فإنه سيتبادر إلى أذهانهم ضمن ما سيتبادر ..ما كان يعرف في الماضي بإسم (رواق دارفور) في الأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية..وإذا ذكر رواق دارفور لا بد أن يذكروا كذلك (أبيار على)بالمملكة العربية السعودية ..وإذا قرأتم في كتيبات (دليل الحجاج) فإنكم ستجدون منها ما يشير إلى أن هذا الإسم هو الإسم المعروف حاليا لأحد مواقيت الحج (الخمس) بالأراضي المقدسة بعد أن كان يعرف في الماضي بإسم ميقات (ذو الحُليفة) وهو ميقات أهل المدينة ..ومثال ذلك ميقات (قرن المنازل)الذي يخص أهل نجد والمسمى اليوم ميقات(السيل) ..والذي لا يعرفه الكثيرون أن(أبيار علي) هي في الحقيقة آبار المياه التي قام بحفرها في الماضي سلطان دارفور المسمى السلطان /على دينار ..ليشرب منها حجاج بيت الله الحرام فسميت بإسمه منذ ذلك الحين ..وأيضا كما جاء على لسان أحد الأئمة بجمهورية مصر العربية في خطبة خصصها للحديث عن دارفور ونشرت قبل أشهر على الأنترنيت ـ فليس للإسم أية علاقة بإسم /على كرم الله وجهه كما كان يعتقد الناس حسب قول هذا الخطيب المصري الجنسية..فكيف لا وهو الذي كان يكسو (الكعبة) في الماضي ؟ وإذا ذكرنا الحجيج وبيت الله الحرام ..فربما قادنا هذا أيضا إلى ذكر (المصحف الشريف) الذي عُرف أيضا أهل (دارفور) دون غيرهم من الناس في السودان على وجه الخصوص بحفظه عن ظهر قلب..وحتى قيل عنهم ـ كما ورد الخبر في إحدى الحلقات بالفضائية السودانية أيام التوقيع على إتفاقية السلام في الجنوب ـ أنهم كانوا يستقبلون الزوار من أعضاء الأمم المتحدة تحت ظلال الأشجار الوارفة بتلاوة(سورة يس) والتي كما نعلم هي قلب (القرآن الكريم).. ثم إننا إذا ذكرنا كذلك المصحف الشريف وتلاوته لدى أهل دارفور ..فإن الأمر سوف يقودني أنا شخصيا إلى تذكر حادثة غريبة لم أتمكن من نسيانها قط طيلة ما يزيد عن العشرين سنة مضت ..كنت أيامها في سن الفتوة والشباب ..وفي العقد العشرين من عمري ..عندما كنت أعشق ترتيل القرآن الكريم على طريقة أحد القارئين السودانيين الذين تميزوا في تلك الفترة بجمال صوتهم في الإذاعة السودانية ..غير أنني كنت أرتله هكذا حبا فيه وحبا في الترتيل غير آبه (بنجاستي) البدنية آنذاك..وفي يوم من الأيام بينما كنت أفعل ذلك وأنا ممدد على سريري لوحدي في غرفة من غرف منزلنا الحكومي بالمدرسة الإبتدائية التي كان والدي يعمل مديراً لها في قريتنا الكردفانية الهادئة الجميلة(الصبي)..فإذا بشعور عجيب يداهمني..لا أدري ما إذا كنت سوف أوفق في وصفه لكم أم سوف تعتبرونه مجرد حالة من حالات الأمراض النفسية أو (إنفصام الشخصية) ؟..شعور حقيقي بأن جسدي كله من أخمص قدمي إلى صدري يُطوى طيّ اللحاف !!.وكان مبلغ دهشتي في كيفية حدوث ذلك و كأن في الأمر قدرا كبيراً من(الميتافيزيقا)..فأين يا ترى كانتا ساقاي؟ وأين عظمتاهما القويتان؟ وأين كانت سلسلتي الفقرية؟ والمصحف الشريف لم يذل بين يدي ..فأصابني ذعر شديد فإعتبرته بمثابة تحذير قوي من الله عز وجل في ذلك الزمان..ومن يومها لم أعد أجرؤ على حمل المصحف الشريف بين يدي لأتلو قبل التأكد من خلو بدني من النجاسة ..ومن يومها كذلك لم تتكرر هذه الحادثة ..ولكن الذي أريده الآن من القراء الكرام بعد هذه التجربة الغريبة التي كنت قد عشتها بنفسي(بدون قصد التجريب طبعاً)..هو أن يشاركوني الإحساس الأمين والصادق..في تخيّل شخص في هذا الزمان الذي نعيش فيه ..يقوم برمي المصحف الشريف في (مرحاض) قذر!!..نعم في(مرحاض) قذر !! وقد جاء هذا الخبر المذهل ..في ذات الأيام التي كنا نضع فيها لمساتنا الأخيرة لمقالنا هذا ..بعد أن تناقلته الصحف العربية نقلا عن صحيفة أخرى غير عربية.. مفاده أن جنودا أمريكيين في سجن (جوانتنامو)قاموا بتدنيس (المصحف الشريف) وذلك برميه في (المراحيض) بالإضافة إلى خبر آخر يضيف إلى ذلك الدوس عليه بالأقدام ..وكل ذلك كان يحدث أمام أعين السجناء كأسلوب من أساليب الضغط للحصول على إعترفات..تظاهر على أثر هذا الخبر المسلمون في السودان وفي شتى بقاع الدنيا ومات قرابة العشرين في أفغانستان وحدها في مظاهرات و استفسرت المملكة العربية السعودية رسميا الولايات المتحدة الأمريكية حول هذا الشأن ..وتحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) بلهجة لم نسمعها من قبل إلا من بعض أتباع (الجبهة الإسلامية في بلادنا في الماضي)بقولها: أن بلادها سوف لن تسكت أبدا عما جرى للمصحف الشريف وأن الدين الإسلامي له مكانته وإحترامه في بلادها وأن المسلمين كذا وكذا.
وفي الحقيقة ليس الأمر سهلاً ..لأني في هذه اللحظة التي أختم فيها المقال أريد أن تقنعني ذات الصحف الأجنبية التي فجرت الخبر بأن هؤلاء الجنود الذين دنسوا المصحف الشريف ..ما زالوا يعيشون حياةً سوية (صحيا) و(نفسيا)مثلما كانوا يعيشون قبل تدنيسهم للمصحف الشريف ..وهذا طرح أطرحه (بجديّة) بإعتباري أحد المجربين كما أسلفت ..ولأن الأمر كذلك يتعلق بكتاب يخشى المسلمون جميعا من لمسه مجرد لمس عندما يكونوا على نجاسة ..لقوله تعالى في محكم تنزيله(لا يمسُّه إلا المطهرون)[سورة الواقعة الآية 79]..فما بالك في الذي يرمى به في(المرحاض)؟!.وما بالك أيضا فيمن يدوس علي نسخ منه بالأقدام؟!
ولكني إذا فرضت بيني وبين نفسي جدلا ..أن الصحف قد أثبتت لاحقا أنهم لا يزالون بصحة جيدة وعلى ما يرام ..فإني سوف أسأل نفسي بعد ذلك عدة أسئلة حائرة قد لا أجد لها الإجابة بسهولة في المستقبل القريب منها سؤال تخيلت فيه كتابي (سنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون)مثلما تخيلته من قبل أيضا وأنا فوق قمة جبل مرة قائلا: يا ترى لو قدر لنا ترجمته في المستقبل القريب إلى اللغة الإنجليزية..ألا يؤدي ذلك مستقبلا بهؤلاء الجنود الأمريكان أن يدركوا حقيقة أن الكتاب الذي دنسوه في الماضي في معتقل جواتنامو كان ينبغي له أن يكون في نظرهم كتابا يستحق منهم(التقديس) لا (التدنيس)؟
والحقيقة أن كتابنا(سنن تزواج الأشياء في الطبيعة والكون) بالرغم من أنكم ستجدونه بمشيئة الله قد تناول(القرآن والسنة)بقدر محدود ومتواضع وفي إطار لم يتعدى حدود تقديم الأدلة والبراهين حول صحة الفكرة المبنية أصلا على مفهوم(التزاوجية).. كتواضع المؤلف نفسه في هذا المجال الممتد كالبحر الذي ليس له ساحل ..والذي له فقهاؤه وأهله المعروفون في بلادي وخارجها والذين يشار إليهم بالبنان ..وبحيث يعترف المؤلف نفسه أنه(ليس قدر المقارنة بهؤلاء أصلا) وإنه إذا سئل ربما لا يعلم من هذا إلا(ما كتب) ..رغم كل هذا فأن لدى المؤلف أحساس عميق و ثقة كبيرة في أن القليل المتواضع الذي ورد في كتابه بعناية ربما حمل بين جنبيه (شيفرة)الدخول على الحقيقة من أوسع أبوابها،وكذلك سر الوصل إليها بأقصر طرقها ..وفي تلك أيضا دعوة للذين كرمهم الله بقدرات في الإبحار والتوسع في هذا المجال أكثر من المؤلف ذاته لمزيد لفائدة الجميع ومنهم أنا..إنه من ناحية أخرى(الرأي الأخر في الإسلام)إن كان في الإسلام (رأي آخر) ..في هذا العصر الذي إختلط فيه الحابل بالنابل ..وأصبح فيه المسلم ينتظر أخاه المسلم عند باب المسجد ليقتله بدم بارد..عصر الفضائيات وتعدد المنابر ولكل منبر (إفتاؤه الديني)الذي يخصه ..عصر يحاول فيه هيئات كبار العلماء لم شمل المسلمين في كلمة واحدة بالبت في أمر من أمورهم بالإجماع ولا حياة لمن ينادي ولكأن الأمر قد أتي من عدو لدود.
ولكن إذا لم ينجح كتابنا(الأسطورة في عين المؤلف طبعا) في أداء هذه المهمة الصعبة بعد الترجمة مستقبلا..فإن الأسئلة التالية ستكون أيضا هي المطروحة كما يلي : متى إذن سيعاقب الله هؤلاء الجنود في (جواتنامو) على فعلهم الشنيع هذا ؟ ومتى سيرينا فيهم عجائبه ومعجزاته وشديد غضبه؟ هل سيعاقبهم عليها قريبا ؟ أم أنه سيعاقبهم عليها في المستقبل البعيد لأن الله كما نعلم ..(يمهِل ولا يهمِل) ؟ أم أنه سوف يعذرهم على فعلهم هذا لأن الله قد علم مسبقا أنهم قوم لا يفقهون العربية أصلا ولا يعرفون حقيقة الإسلام ..وأن في بلادهم (تمثال)لمحمد كتب عليه (أعظم العباقرة في تاريخ البشرية) ..إعتقدوا خطأ أن مثل هذا سيكون شرفا له وللمسلمين..ولهذا فليس بإمكانهم تصور الأحاسيس التي تجيش بنفس المسلم عندما يرتل القرآن الكريم ويتمعن في كلماته المضيئات؟ أم أن الله سوف يعذرهم رغم تصرفهم الشنيع هذا ..لأن السبب وراء كل هذا يعود أصلا إلى فئة من المسلمين (ضلوا الطريق) وتصرفوا تصرفا خاطئاً فيه ظلم وإستفزاز للإنسانية جمعاء..فكان رد الفعل الطبيعي لمن لا يدين أصلا بالإسلام هو تدنيس المصحف الشريف؟ ويا ترى هل كانوا يفعلون ذلك بالمصحف الشريف وهم يتخيلون كيف مات آلاف من بني جلدتهم في يوم الثلاثاء الأسود ؟ بين ألسنة اللهيب وإنهيار المبنى والدخان الخانق؟ ..هل كانوا يفعلون ذلك وهم يتخيلون ضحاياهم الذين استجاروا من (النار) (بالموت الشنيع) عندما رموا بأنفسهم إلى حتفهم من إحدى أعلى ناطحات السحاب في العالم ..فكانوا في السماء كالطيور ..بل كصغارها حين تسقط من أعشاشها قبل أن تتقن فن الطيران وهي تكاد لا ترى بالعين المجردة وهي في طريقها إلى الأرض من فرط العلو وضخامة المبنى؟ هل كان من بينهم مسلما أمريكيا أسوداً كما نعرف السود في تلك البلاد؟..وهل صحيح أنه يستحق القتل هكذا مع غيره من الناس ؟ أم أن الطرفين متعادلان ومتساويان في ظلم كل واحد منهما الآخر؟ ولهذا فإن التدخل الإلهي المباشر ونزول مدد إلهي من الملائكة مثلما حدث في أحدى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لن يحدث؟ ثم أين يمكننا إيجاد الحقيقة ؟ وأين نجد أرض المعركة الفاصلة في هذا ؟ هل من حطام مصنع الشفاء ؟ أم في فلسطين التي لم (تستُجب بعد دعواتنا لله)بالإنتصار على العدو منذ عام 1948م حتى وفاة رمزها(عرفات) وحتى ظهور أقوى رؤساء إسرائيل في تاريخها في زماننا ؟هل هي في حطام(مصنع الشفاء) في الماضي؟ أم في (أفريقيا الجديدة)التي بدأت تسرع الخطى في طى ذكريات أطول حروبها بعد ذلك؟ أم هي في عراق (الزرقاوي) بعد (صدام) ؟ وإن كانت هي فعلا هناك ..فإلى متى سوف تصمد الدولة العظمى فيها ضد الإنفجارات الدامية والهجمات المباغتة ؟ وإلى متى أيضا سوف يصمد المباغِتون ؟ وهل يملك الطرفان خيار غير الصمود ؟ ثم من مِن الطرفين سوف يكون هو المنتصر في نهاية الأمر؟ وإذا إنتصر (المباغتون)فكيف يحكمون البلاد (على العلن)بعد الإنتصار؟ وإذا إنتصر المباغتون(بفتح الغين) فهل سيكون لنا الحق في مزيد من الأسئلة بعد ذلك؟ أم أن الأمر سوف يستمر هكذا إلى أجل غير مسمى ؟ لا المنتصر فيه سوف يظهر ولا المهزوم أيضا سوف يظهر؟ هل في الأمر صراع بين أولياء(العلم)وأولياء(الدين)؟ وأيهما إذن أفضل عند الله هل(العلم)أم(الدين)؟ وهل سيتحاور الطرفان مستقبلا ويتفاوضان كما فعلنا في بلادنا ؟ أم أن في الأمر (كبرياء) الطرفين ؟ إنها أسئلة حائرة كهذه طرحتها على نفسي كما حاولت الإجابة عن كثير منها في كتابي ..ولكن الله أعلم بالإجابة.
أما السؤال الذي لم أطرحه بعد ..وأريد أن أحصل على الإجابه عليه بشكل عملي قبل إنتهاء مدة نشر هذا المقال على موقع (سوادنيز أونلين)،،هو سؤال أوجهه إلى المسؤولين في بلادي ..من (البشير المشير)إلى (الوزير والسفير).. وهو إذا إعتبرنا كتابنا هذا قبل طباعته مثل(الجنين) الذي سواه الله في بلاد الغربة..فحملته (إمرأة) مجتازة بها الحدود إلى أرض الوطن العزيز..ليكون (مسقط رأسه)الذي يليق برسالته هو (السودان) ؟ كشفت عليه بأجهزة الكشف الطبية فقالوا لها أنه (بصحة جيدة) وأنه قد أكمل (تسعة أشهر وتسعة أيام) ، دخلت به المستشفى دون أن نرى(المولود)بعد..فهل يجوز لنا الإنتظار هكذا طويلاً عند باب (غرفة العمليات)؟أم أن الأطباء في بلادي لا تهمهم آلام المخاض ؟ وأحياناً أيضاً يرفضون إجراء العمليات؟ بيد أن الشيء الذي لم أفهمه بعد ورأيته بعيني هو خروج(مواليد جدد) من (ذات الغرفة) قبل لحظات ..وليس من بينهم (ولدي)!!؟؟.
البصمة أوالتوقيـــع:
هناك فاتحان زينان في السودان إن لم يظهر هنالك ثالث و رابع..خشيت أن يخلط الناس بينهما ..وهما (الفاتح الزين حسب الله) و(الفاتح الزين الطيب) ..الأول هو صاحب هذا المقال ..أما الثاني حسبما جاء بجريدة الخرطوم،العدد 3931،بتاريخ 4/6/2005م والصفحة(4) فهو رئيس(نقطة التجارة السودانية)عبر شبكة الإنترنيت.