) ... أما الظاهرة الغريبة .. فهي أني و إن كنت من أصل تركي قريب ..
فإني أحس بأني شديد الاندماج بتربة مصر و أهلها . و في بعض الأحيان يرجني هذا
الشعور رجاءً عنيفاً ..و معرفتي باللغة المصرية و تعبيراتها تفوق ما حصلته
منها مباشرةً و قد يكون ذلك راجعاً إلي الفطرة و الحدس و الإحساس غير الواعي
و لعل هذا الحب هو الذي يميل بي إلي استخدام بعض الكلمات العامية في كتاباتي
رغم إني من المهوسيين بالفصحى .(
إذن هذا هو يحيى حقي القصاص و الأديب و المؤرخ و المترجم الذي ولد في السابع من
يناير 1905 م بالقاهرة (حي الميضة)خلف مقام السيدة زينب في أسرة متوسطة الحال
في بيت ضئيل من أملاك وزارة الأوقاف … في كنف السيدة حيث تلك الأجواء الموحية
. ساحة الست : بائعة الطعمية –الأسطى حسن حلاق الحي –بائع (الدقه) و جموع
الشحاذين و الدراويش الملتفين حول مقام (الست) علي حد تعبير يحيى حقي الذي كتب
لنا فيما بعد من روائع الأدب في القصة القصيرة : قنديل أم هاشم – أم العواجز –
صح النوم - خليها علي الله – والفراش الشاغر ...علي الرغم من إتهامه بقلة
منتوجه الإبداعي ... و ما أن يأتي اسمه إلا و تبادرت للأذهان ((قنديل أم هاشم))
لكأنه لم يكتب سواها و لعل ذلك الوصف أي - صاحب القنديل - كان يزعجه و
يضيق منه أكثر الضيق .. حيث كان يقول:] إن اسمي يكاد لا يذكر إلا و تذكر معه
(قنديل أم هاشم) كأني لم أكتب سواها و كنت أحياناً أضيق بذلك و لكن كثيرين
حدثوني عنها و احترفوا بعمق تأثيرها في نفوسهم .... منهم أديب يمني قال لي :
أحسنت إنك تصفني من القاهرة إلي اليمن [ .
و حتى إذا سلمنا بأن كاتبنا الكبير لم يكتب سوي (قنديل أم هاشم) فإن ذلك
يكفي من حيث العبقرية التي انسألت لنا من ذلك المبدع و الذي فيها يضعا أمام
وعي بالأشياء و تعرية حسية صادقة .. للصراع الذي كان و ما زال يدور بي الشرق و
الغرب و مدي انعكاس ذلك الصراع علي الصُعد الاجتماعية و السياسية و الثقافية و
النفسية ... و أمام تلك المشاهدالتي تمر بها القصة و التي كلها حيوية و ارتباطا
بالقاري التي تجعل من القصة نصاً سرمدياً خالداً يتجدد كلما قرأت فهي تلامس وعي
الناس الحاضر و مدي علاقتهم بالذات الجمعية و التصاقهم بها من جانب و علاقتهم
بالآخر من جانب آخر في حال خروجهم إليه مثلما حدث لإسماعيل بطل (القنديل) .
...قلبت هذه السنوات السبع حياته رأساً علي عقب … أخرجته من الوخم و الخمول
إلي النشاط و الوثوق. كان طيباً مترهلاً . كان من قبل يبحث دائماً خارج نفسه عن
شئ يتمسك به و يستند إليه : دينه … عبادته …و تربيته و أصولها ، فأصبح ذاتاً
واعية تتحرك من قدره و قهم … و بقدر ما كان بالدين أصبح الآن
يؤمن بالعلم … لم يأتِ هذا الانقلاب في حياته عفو الخاطر … إنما كان طريقاً
وعراً شائكاً … و كان الفضل فيه كثيراً ل (ماري) صديقته … و زميلته في الدراسة
التي قادته علي هذا الطريق كانت هي التي فضت (قضت براءته العزراء) .
يقول الكاتب الكبير يحيى حقي: [ و حين أحاول البحث عن سبب قوة تأثير
(قنديل أم هاشم) لا أجد ما أقوله سوي إنها خرجت من قلبي مباشرةً كالرصاصة و
ربما لهذا السبب استقرت في قلوب الناس بذات الطريقة.]
إن السحرية الموجودة في (قنديل أم هاشم) هي التي أعطتها كل هذه الاستمرارية و
الانطباع الدامغ في النفوس في كل المنطقة العربية من المحيط إلي الخليج – إن
جاز التعبير – بغض النظر عن الموضوع الذي نُقوش في هذه القصة … فهناك خواص
أُخري وجدت بين تضاعيف النص أضفت له كل تلك الحيوية … و التجدد … و هي تلك
اللغة الخاصة جداً التي تميز بها كل أعمال يحيى حقي … فحقي … كما هو معروف عنه
مغرم أيما غرام بالعامية البسيطة لغة المواطن (المصري) البسيط … لغة أهله الذين
عاش معهم من رحاب - الست – و الحلاق – بائعة الطعمية – و الشحاذ … و إلي آخر
عناصر هذه الكيميائية العجيبة … تلك العناصر التي دخلت بشكل مباشر في تكوينه
الأديب الكبير و صاروا نَفَسَاً طيباً يتنفسه حينما يخلو بالكتابة ... فهم
حاضرون لا يبارحون ... فهذه هي الواقعية الحسية - علي حد تعبير الدكتور ناجي
بخيت -هي لغة التفاصيل التي لا غني عنها التي تمثل المشهد دون غناء و ترفع من
حركيته … حتى ليتخيل المتلقي أنه أمام جملة من الأحداث التي تتحرك أمامه رأي
عين حقيقي و ليست سطور عليه تخيلها كما وردت … و في ذلك يقول يحيى حقي : ] … لم
تكن الفصحى قد أفلحت بعد أن تسمي لنا أشياء فلمسها بأيدينا أو أفكاراً مجردة
تطوف بعقولنا .. أو ظلال عواطف تلم قلوبنا
وقد داعيتنا اللغة العامية … أول الأمر فهمنا أن نجري إليها لأننا .. كنا نتلهف
الأدب الصادق هو الأدب الذي يعبر عن المجتمع.[
إن ما يميز الكاتب الكبير حقي عن محمود تيمور – أحمد خيري – حسين فوزي – و
إبراهيم المصري – و محمود عزمي … و آخرين من كتاب القصة و الأُدباء الذين
عاصروه هو توق حقي الدائم لاكتشاف جسر خفي بيه و بين المتلقي و هيامه المفرط
باللغة العامية و تغلغله فيها كما تغلغلت هي فيه … هذا مما جعله ذو إحساس عال
باللغة العربية و مراميها و مدي تأثيرها في النفس و الوجدان لقد استطاع حقي دون
كل القصاصين في مصر الوصول إلي تلك المرامي بحذف … ومهارة غير عادية … كما
استطاع أن يؤسس مدرسة فريدة في الوطن العربي … في مجال القصة و الرواية … وهذه
المدرسة التي كان يطلق عليها اسم (القلبيين) و هي ذاتها التي منها انطلق نجيب
محفوظ في الحرافيش و أولاد حارتنا و بذات الواقعية التي نجدها تتلامس تفاصيل
الناس و تقف مع همومهم بطريقة واعية و عمق هادف.
أعتقد أن حقي لم يتوصل إلي كل هذه الشهرة و التفرد إلا بطرقه لإيذاب العامية
و التي ما حبه الشديد لها يحذر من الوقوع في حبائلها فيقول : ] إنها غايته لعوب
لا يؤمن لها جانب … كما يقول إنها لغة موجودة و حية. [
و هذا كله علي المستوي الفني و مستوي القالب القصصي أما هنالك الجانب المهم
في تجربة حقي و هو الرغبة العارمة في خلق فن قصصي مصري خالص و النزول إلي الناس
و إلي حياتهم و تلمس آهاتهم و مواجعهم و هذا كله لحظه بشكل واضح في قصصه خصوصاً
في مجموعة أم العواجز (دلالة الاسم) و قصة ((تنوعت الأسباب)) يقول :
) إنني شغوف بتتبع أخبار الجلاء … فليس كمثلهم جنس من الناس يثير الاشمئزاز
و الابتسام في وقت واحد … و يقال:( لعل أبلغ ما أعلك شفاكا) و هكذا أنا شقيت من
هذا الهوس منذ أن سكنت دارنا هذه في حارة الشيخ البقال … وتعرفت إلي جارتنا
زليخة … وإن كان الحق إنها هي التي سعت إلينا و طلبت معرفتنا … و لم تكتم عنا
سر مودتها لنا و ترحيبها بنا راجع إلي إننا نملك بقية الجيران جهاز راديو و قد
علمت فيما بعد أنها كانت أمسيتها بالمناوبة عند الجيران … راديو أو لا راديو ….
توفيراً لنقصان الإضاءة في دارها.(
إن هذا يعود إلي نظرة حقي نفسه للأدب في مجمله … قبل أن يشعب. فهو
يري إن الأدب في جوهره هو التزام حاد … بالخاص و المحدد .. ونبضاً متجاوباً مع
الناس … بمختلف تلاوين حيواتهم و مشاربهم ولا يكون الأدب أدباً حقيقياً ما لم
يكن اليد التي توضع في مكان الألم و التي تتحسس أوجاع الناس و همومهم و علي
الرغم من أنه _ أي حقي _ كان مسكوناً بهواجس جيله المتشوف إلي العالمية … و ما
كان مسوق من فكرة اتجاه الأدب إلي ما يسمي (بالأدب العالمي) .. إلا أنه كان يري
أن الأدب لم يعد عالمياً إلا عندما ألتزم التحديد المكاني و غاص في أعماق الناس
و في ذلك يقول حقي : [ … لا وصول من الخاص إلي العام إلا بعد الوصول أولاً من
العام إلي الخاص … فلا قيام صدق العام إلا بقيام صدق الخاص محدد تمام التحديد …
بل لعل هيامي بهذا التحديد مرجعه هو الوصول إلي العام الخاضع لما يلزمه من
التجريد … التملص من قيود الزمان و المكان … بل ومن خصائص اللغة فصائد السمك
عند همنجواي هو صادقة محددة لصياد من جنوب أمريكا … و 0زوج الأحذية القديمة عند
الفنان
فإن جورج لا مثيل له في العالم و الفلاح الذي رسمه جريجسكو … ينطق كل خط فيه
إنه في رومانيا من أجل هذه وحده بلغت الصورة جرئيه الدلالة العامة.]
إن حقي في الفراش الشاغر يبدأ بوصف دقائق التفاصيل لحانوت عموم قسم
الإمامين … وصفاً دقيقاً جداً و كل مفردة لها دلالتها الخاصة جداً … ثم بعد ذلك
يصف المتجاورين مع الحانوت و يغوص ليتعمق أكثر فيقول : (( و مرت بالطريق عربة
كارو تشع بصيصاً من رائحة حمار ذكر النخيل و هي كقفص دجاج بلا سقف أو سياج تكتظ
داخله في ملابس سود تحت كل منه بيضة و الويل لهن أن تفقس … فهم في سباق مع حدأة
لصة لا ينقطع نهمها .. ولا دأبها علي الترصد لفراريجهن و اختطافها … أمام حمار
فمحروم …))
ليحكي لنا ببراعة … ورعة شائقة بعد ذلك فها هي قصة ذلك الفراش الشاغر … وما
هي العلاقة بين الصبي و الحانوتي و الضحية (الولد المأزوم) بعقدة أو أديب
والربط المبهر بين كل الأحداث و قسم الإمامين (الشافعي – و الليث ).
لقد استفاد حقي كثيراً من الأدب الرومي (المدرسة الواقعية) … لكن ذلك لم
ينساق وراء ما يسمي بالأدب العالمي بل علي تطوير تلك (الواقعية) … لتصبح عنده
واقعية التركيب و الكتابة بجميع الحواس و إثارة الخيال عن طريق التركيز و الحذف
و اللمحة الساخرة و الخيال و الفطنة و التعبير المحكم المختزل … و هي في ذات
الآن واقعية حسية لا تخلو من لمحة جمالية صوفية علي حد قول الدكتور ناجي نجيب
في كتابه النزوع إلي العالمية و نشأة الواقعية الحسية فيحيى حقي لم يستعمل
العامية كأداة للتعبير لأنها هي الأسهل و الأيسر من الفصحى … بل لأنه : أولاً:
لمس فيها النضوج و الحيوية و القرب من نبض الشارع و قلوب الناس … ثانياً : لأنه
بها يستطيع الخروج من دائرة المحلي إلي فضاءات العالمية. فالعمق في العامية ليس
من أجل العامية لذاتها إنما من أجل خلق أدب أي كان نوعه فإنه لا يستطيع التملص
من ثوب زمانه و مكانه و بيئته و إنسانه الخاضع للمتغيرات الاجتماعية و
الاقتصادية و الهزات النفسية الخطيرة فالأدب الذي يهوم بعيداً في الخيال و
الرومانسية لا تُكتب له الديمومة و الاستمرار.
إن حقي مع موضوع ((الأدب العالمي)) و ما كان يُثار حوله وقت ذلك … تعاملاً
جدياً و بوعي ناقد متفتح و ربما هذا ما جعل إنتاجه يحمل كثيراً من سمات
العالمية رغم أن معظم الأحداث التي كانت تفتح بها حكاياته معظمها كانت تدور في
صعيد مصر و كانت شخوصه كلها أو معظمها في الصعيد المصري أيضاً تناوله لمجتمع
القاهرة مجاريها و أزقتها كان تناول المبدع الغائص في غور مجتمع البساطة في مصر
(السيدة زينب) … لذا كانت العملية الإبداعية عده هي عملية ارتقاء و صعود من
أسفل إلي أعلي حيث تحل مسألة (الأدب العالمي) …حيث هذه العملية _ أي الصعود من
أسفل إلي أعلي _ هذه هي التي توصله إلي العالمية التي كما كان يقول :يتشوفها و
يتهجس بها.
إذن فرسالة يحيى حقي … هي الواقعية الحسية و التي تقود عن طريق التلقاء إلي
فضاء الأدب العالمي الرحيب بعيداً عن التمنيات و الطوباويات و الرومانسيات و
التي في كثير م الأحاديث بعيده عن الإنسان و اعتداءاته.
لقد أوفي حقي و اعتقد أنه بذلك الخط الذي التزمه و النقد الصارم الذي كان
يجريه علي نفسه قد انفرد دون غيره من الأدباء و القصاصين بالخصوصية و الاستمرار
و الديمومة … وهذا ما جعل أدبه حتى الآن طازجاً يصلح للقراءة في أي زمان.
موسي البحر