بقلم مصطفى محمد أبكر أبو الجاز الدوحة / قطر
قديفيق المرء من نشوته ولو شرب حتى الثُمالة ، لكن نشوى غرامها وحنينها ليس له آخر , هكذا تعلمنا منها معانى العشق والحب الذى لايرحل ولايغيب فأصبحنا لا نعرف غيرها عزاءاً ولا سلوى.
سماؤها صافية وأرضها ضاحية , هواؤها رقراق عليل , تفكّهنا بثمارها وتفّيأنا بظلالها فأصبح لنا فى كل ركنٍ منها حكاياتٌ وذكرى.
رجالها كُرماء وأهلها حُكماء , الذى يدخلها لايخرج منها إلا وهو مُحّمل بالهدايا من مراكيب وعطور وذبائح وغيرها.
نساؤها الطيبات الغانيات تبدو عليهن مظاهر الطهر والعفاف .
ليلها يسوده الهدؤ والسكون غير صفير تلك اللوارى و البصات التى تملأ الأفق صخباً مدوزنةً بتراتيل الوداع ولهيف اللقاء.
الكلام عنها موشى بالحجى والتراث والأمثال الشعبية البسيطة ذات المدلول الكبير ( اب صلمبويتى ولا كدكاى زول).
أشجار المانجو والذرة تمتد فيها وتتطاول لتوارى الناس سوءة الفقر .
تعلمنا منها سحر البيان وحزم الزمان ، ذلك السحر الذى يبعث فى النفس روح الإبداع والتفرد فى شخص إنسانها الرقيق المسالم ، ونسيجها الإجتماعى المتماسك الذى يمثل كافة قبائل السودان بسحناتهم المختلفة ولهجاتهم المتداخلة من نوبة وعرب ، بجة وحلب ، زرقة وزنوج .
إنها مدينة الجنينة ، دار أندوكة ، ثغر السودان الباسم وميناءه البرّى من جهة الغرب ، تنام على حضن وادى كجا كعروس فى ليلة زفافها الأول ، متوجةً بمناظرها الخلابة وطبيعتها الجذّابة ، يحرسها جبل السلطان بحر الدين بقصره المنيف ، شامخاً كشموخ أهلها .
تلك المدينة التى زُرعت فى قلبى كالشمس وأنا طفلاً ونقشت فىّ تمثالاً من الشعور بالفخر وروح الإنتماء لأرضها الحلوب الخصوب.
حكايات :
والدى عليه الرحمة، كان هادئ الطبع لكنه عصبى أحيانا ، علّمنى أن لا أمد يدى لأحد ، ينفق علىّ الجنيهات غير عابئٍ بشئ ، يشترى لى كل جميلٍ تقع عليه عينى .
وأمى كانت ولا تزال تخاف علىّ حتى من النسمة الخجلى ، فهداياها دائماً تناسب جميع أهوائى و أزواقى والتى ريثما كنت أباهى بها بين أقرانى حينما كنا ندعو لبعض المناسبات أو ختان أحد الأتراب ، فكثيراً ما كنت ألاقى بسببها موجاً من القرص والضرب حقداً من بعض الذين يكبرونى سناً .
خلوة الفكى (طاهر)
والفكى (عبدو) وسياط العنج وتدابير ( الشرافة ) أحاديث يتداولها الأنداد.
طائرات الورق ومطاردة الزنابير (أبودنّان ) كثيرا ما تجعلنى خارج المنزل ، فحينما يهّل الهلال وتقمّر الليال كنا نأخذ أدراجنا إلى ساحة الحى لنشهد شتى صنوف اللعب
شليل وينو أكلو الدودو
شليل وين راح أكلو التمساح
وتيلم تيلم
والفات الفات
وكديس من نطّاك
واللانقا وغيرها ونسمع حكايات البعّاتى والأم بردوبردو التى تملأ النفس ُرعباً ورهباً .
شئ للتاريخ :
لم أنسى يوماً حينما همّ فيه الوالد بضربى بسبب ذهابى إلى رهد (دانكورو ) الذى أودع بحياة إبن خالى ( يوسف) وهو يرفل فى أعوامه الأحدى عشر حاملاً فى قلبه كل أحلام الطفولة والبراءة .
فينما كنت أصرخ وأحاول الإنفلات من يده قدُمت إلىّ جدتى كالطوفان وأنا منغمساً فى نهرٍ من البكاء ، وأخذت تضمنى إليها بشدة وتدُس فى جيبى شئٌ من الحلوى و الفول المدمس و أسمعها فى التو تستأذن والدى فى أن تصحبنى معها للمبيت بدارها الذى لا يبعد عنا كثيراً ، وقتها كم كدت أن أضحك وأنا باكياً .
كانت جدتى مشهورة بحبها للتاريخ والفكاهة والتراث.
بدأت لى بكل ما هوطريف حتى ساقها الحديث فى أن تصف لى كل من ملاحم ( كرندنق و دروتى ودرجيل )
ودروتى هذى لا يعرفها الكثيرون من أبناء هذا الجيل فهى لا تبعد كثيرا عن مدينة الجنينة ، إستشهد فيها السلطان تاج الدين فى أوائل العقد الأول من القرن الماضى ضد الفرنسيين الغزاة ، والتى صاغها شاعرها الفذ محمد مفتاح الفيتورى فى لحنٍ بطولى ( مقتل السلطان تاج الدين ) فى ديوانه أغانى إفريقيا ، ثم أخذت تحدثنى عن ملكه الذى إشتهر بالعدل و الحكمة والمحبة بين الناس ، وقتها كنت كأننى أعيش بين تلك العصور .
( ركب الطيارة ودلة فى دار النصارى . . ) هكذا كانت قائلةً عنه بكل تحسّر وألم وشوق ، عن إبنها الذى بعث للدراسة بمصر وبعدها هاجر إلى سويسرا وأقام فيها زهاء الخمسة وعشرون عاما ، تحكى وكأنها تخاف على هذا الصبى أن يركب مطية خاله.
وحينما تنفّس الصباح وبدأت الشمس ترسل أشعتها الدافئة على الكون معلنة قدوم يومٍِ جديد ، أخذت جدتى تعُد لنا الشاى وتفتح قُفالتها المحكمة من صندوقها الخشبى لتخرج لنا شيئا من الفطير و( العجينة الزرقاء ) وشلوٍ من الدجاج ( المكرفس ) مسترسلةً (فك الريق أخير من راس رقيق ) هكذا كان أبناء السلاطين يضربون المثل .
حلة الفكى جمالى
وحلة مرفأ
وحلة جلابة
وحلةعصارة وحارة الشيخ صالح أبو التيمان تظل بتلك الملامح وإن أخذت أسماء غيرها .
سوق البروش وسوق الرملة والعرضيباى وسوق أم دفسو التى جسدت فينا معانى الكفاح .
طاحونة تِك تِك وجيوكو و طاحونة أبّو محمد التى كانت تطرب لأصواتها المدينة ، تبكى الآن على مجدها كما يبكى الشيخ المأفون على أيام شبابه .
نقعة ( شرّامة ) ونقعة ( ستين) ورهد ( كلنجى ) كلها الآن تنتقل إلى ضباب المجهول .
ما أشد الفرح وما أبلغ السعادة حينما تأتى إلينا مواسم الأعياد أو مختلف المناسبات ، كنا نختلف إلى ساحة المدينة ( النقعة ) حيث الرقصات الشعبية وسباق الخيل وترانيم البرامكة والحكامات .
حبابة بت العسيل
وفاطمة الكظمة
وحواية أم شليل . .
صوت النقّارة و( الِدنقِر) و(البردية ) و( الدينارية ) التى كانت تروئ ظمأ النفس وتطفئ نار الهوى .
بيوت الأعراس و الأفراح التى غالبا ما أكون فيها بصحبة والدتى ، يتجاذبنى فيها الفرح و أنا أتابع فيها جميع طقوس أهل البلد من حنة وضريرة وجرتك وقطع الرهد وشبّال وأكثر ما يشدنى هو تراتيل العديل والزين المصحوبة بالمدح والدعاء الجميل للعروسين وعبارات مناحية تُحرّض الشباب لهذه السنة الشريفة
( عديلة ليك يا الغالى ، يا النجومو فى السماء تلالى ، أختو بتقول ود أمى بلالى وبت عمو بتقول سافر بجيب مالى
يالعديل والزين إنشاء العديلة تقدم وتبرا ).
الأستاذ عثمان تنقو
ومولانا إبراهيم أبو القاسم والأستاذ حسين التعايشى وغيرهم من الذين عاشوا مثالا للتربية والتعليم بالمدينة .
مكتبة بولاد الثقافية . . جنة وارفة الظلال ، يرتع فيها العقل الجنيناوى ، كنت أرتادها ولهاً كل يوم كفتاةٍ ملكت حياتى و صبوتى .
ليالى الشعر بدار المعلمين ، التى كانت تدفء الروح من صقيع الحياة بكلمات أولئك الفحول من شعراءها
الأستاذ هارون شرف الدين
والأستاذ الحضرى
والأستاذ محمد الشيخ السنوسى شاعر الثراث الأصيل الذى تغنى له الفنان عمر إحساس ، فكلهم الآن إنتقلوا إلى رحمة مولاهم ولكن كما قيل :
ما مات من حاز الثرى آثاره
واستولت الدنيا على آدابه . .
الدورات المدرسية و مهرجانات الإبداع التى كانت تنظمها إدارة النشاط التربوى .
مسرح المزدوجة بنات ودارمساليت التى كانت تورد كبار الفنانين أمثال محمد وردى وابراهيم عوض وزيدان ابراهيم وغيرهم
رحلات فنية متواصلة ينظمها إتحاد الفنانين السودانيين.
زملاء الدراسة وجميع الأصدقاء الذين تفرقت بنا السبل فى شتى فجاج الأرض سوى كنا نطلب الحياة أو العلم ، ذكرياتهم لا تزال عالقة بفكرى ، وتلك الفصول التى تنقلنا فيها والكنبات التى تشاجرنا عليها وإن كانت بقايا أحلام قديمة ومغامرات.
أردمتا الطابية . .
بوابة المدينة وعينها الساهرة ، تختلج فيها أصوات الذكر بأجراس الكنيسة فتجتمع فى لحن إلهى بديع يعكس روح التسامح والأخاء .
يأتون إليها من كل أغوار المدينة
من أربطنى
ومن جاكواى
وتباريك
ليتقاسموا الإبتسامة الحلوة ولقمة العيش الحلال بسوقها الكبير.
خواجة بيترو
وكوستكاى
والعم عبدو صالح
وحبوبة عجينة
وغيرهم من الذين سقوا الأرض قيماً ونبلا .
مجتمع الجنينة بالعاصمة وغيرها من المدن لاينفكون يدينون لها الوفاء والولاء ، يحبونها مثل جنا الحشا ، يندفعون إليك كالسيل إزراً فى جميع الأفراح والأتراح .
هذى هى مدينتى بكل تواضعها وكبريائها وأصالة إنسانها الذى لايعرف الحقد ولا يبيت الضغينة صافياً كصفاء كجا الزلال ، فأنا لا أستطيع أن أنصفها القول مهما كتبت ، فهل يضيف الفيض للغيض شئ . .
لا أملك لها إلا الوفاء والحب . .
ستظل فينا شموساً ياقوتية الملامح مكانها العين والقلب
وستظل بنفس اللون والطعم والرائحة وإن أصابها ما أصابها من مكروه
فأنا أعلم أن إنسانها أقوى من كل الظروف
صابراً
جلداً
صنديداً
عنيداً كطائر السمندل الذى كلما كلما دفن فى الرماد وظن أنه قد مات إنتفض بجناحيه وخرج كأن لا شئ .
فلماذا هكذا
ولماذا أرادو لك ذلك ؟
فأسمحى لى أن أقول فيك
شغل القلـــــــــــب حبها فتساما
وأضرمت نار عشقها إضرامــــا
لست أدرى متى وكيف رمتنى
غير أن الفؤاد قد أصيب ِسهامــا
وسرت نشوة النديم ولكــــــــن
نشوة الحب فيها مدامـــــــــــا
فأرتشفنا من الحنــــان رضاياً
وزرعنا بأرضها الأحلامـــــــا
والأماسى بصدرها جاثمــــــاتٍ
عطرت ذكرها الأيامـــــــــــــا
لا تظنى النوى عليكى جفــــــاءٌ
أى طفلٍ يروم منكِى فطامـــــــــــا
ما نأيت إلا لكى أكون قريـــــباً
من وداد بقربكم ومقامـــــــــــــا
فإليكى النســـــــيم يحمل شوقى
وإليكى الطيور تهدى السـلاما