موسي البحر
أين راح العابرون
طفلاً صغيراً ذاب عشقاً في العراق
يتعانق الطفل الصغير مع التراب …. يطول بينهما العناق
خيطُ من الدم الغزير يسيل من فمه
يذوب الصوت من فمه المراق … و الطفل يهمس في أسي
اشتاق يا عراق تمرك في فمي
من قال إن النفط … أغلي من دمي
بغداد لا تتألمي
مهما تعالت صيحة الطغيان في الزمن العمى
مهما توارى الحلم عن عينيك
يا بغداد قومي واحلمي.
000فاروق جويده
قليله هي تلك الأسماء التي استطاعت بجداره أن… تتسرمد في ذاكرة الغناء…تلك
الأسماء هي التي أبدعت تجارب خلاقه … أثرت به الإبداع الإنساني العريض.
فكلما تراكمت التجارب الإنسانية المبدعة كلما كان هنالك إرهاص بائتلاق نجم
جديد علي سموات هذا الفن أو ذاك … ففي الشمال مثلاً الفيس بروسلي … جيمي مغني
البوب … بوب ماري … وجاكسون …الخ وهنا في الجنوب : الموصلي و زرياب قديماً … و
محمد عبدالوهاب و الست أم كلثوم و عبدالحليم حافظ …الخ . بالطبع هنالك
مغنين كثر … غنوا وأطربوا و أسكروا غير أنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا شيئا ًيذكر
لهذا الضرب من الفن … فمثلاً في فن الرواية عالمياً .. نجد الذين كتبوا في هذا
المجال يكادون يستعصون علي الإحصاء لكن الأسماء التي سطعت في هذا المجال حتى
الآن لا تتعدي المائة … و قس علي ذلك.
فالإبداع في أي مجال هو عصارة تجارب البشرية … و نتائج رحلتها الشاقة و
البحث الدائب.
عندما أرسل معروف الرصافى بعض قصائده لنشرها في الصحف المصرية … حيث كانت
مصر ساعتها بؤرة الإشعاع الثقافي التي منها تبدأ الشهرة و ذيوع الصوت … لم يصدق
المثقفين آنذاك أن الموهبة أن تكون قد نبعت من أرض دجلة و الفرات … إذا كانوا
يستكثرون علي العراق … موهبة معروف الرصافى و نضوج تجربته .. لكنها ما فتئت إن
جاءت بنازك الملائكة و بدر شاكر السياب والجواهرى و البردونى و مظفر النواب
وسعدي يوسف … و ها هي تأتي بكاظم الساهر …لتفغر الأفواه و تدهش الأخير – أي
كاظم الساهر – ذلك الفتي السامرائي البسيط الذي وُلد في أسرة رقيقة الحال كبيرة
من حيث العدد … تعاني البؤس الذي عانت منه كل الأُسر العراقية جراء نظام ما
جاء إلا ليجوع و يفقر و يشرد … . عاش طفولة بلا طفولة أو حلم يأُمل فيه و شباب
منبهم المصير … يَغِدُ نفسه للارتماء في أحضان الضياع . جند الساهر إجبارياً في
الحادي و العشرين من عمره … أثناء حرب الخليج الأولي (العراق * إيران ) .. حيث
بدأت موهبته تتلاوح له … فما كان منه إلا أن يترهن لإشارتها و كانت الظروف
الاقتصادية و السياسية بالعراق لا تسمح حتى بمجرد التفكير في الغناء ناهيك عن
الممارسة…فغادر بغداد عام 1992 م ترك والديه و إخوته السبعة هناك … ليبدأ
رحلته مع … الغناء في طريق واعي محفوف بالمخاطرة و المغامرة … . فالعالم العربي
كله وقت ذاك من المغرب حتى الكويت .. قد تنمط على شكل غناء محدد و موسيقي
استطاعت أن تغوى الناس بإيقاعاتها السريعة … الخفيفة … فكانت من العسير علي
شاب كالساهر أن يلفت إليه الناس و يخرجهم من نمطيتهم تلك إلي فضاءته الجديدة .
كانت المساحة العربية كلها قد درجت علي التراقص مع الأغنيات المصرية التي
كانت تفرض نفسها بقوة و تجتاح الحدود و ربما لغاية الآن … و هذه حالة لا يسع
المجال للغوص فيها .
لقد تغني الساهر عند بواكيره ببغض الاغتيالات الفصيحة و تعامل أيضاً مع
الشاعر كريم العراقي في كثير من الاغتيالات العامية :
اشرب مر و أكل مر و لا تعاشرك مـر
يشيب قلبك و الله وبلوعتك ما يشعر
عاشر حبيبه تراعيك لا تنام لو مسك هم
تفرشلك الدنيا ورود تسهرك بمهجة أم
تتحملك و تدللك ليلةبألف ليلة بألف
هذا الأنموذج الرائع من إحدى الأغنيات التي شدي بها كاظم … و رغم بساطة
مفرداتها العامية إلا أنها غنية ذات بعد تنغيمي جمالي شائق .
لكن مع ذلك (النمطية) و إدمات المعتاد جعلان المستمع يغفل عنه و لا يعيره وافى
الاهتمام عند البدايات فلم يك الطريق أمامه معبداً مفروشاً بالورد فعاني و
أصطلي … و هذا أمر طبيعي أن يعاني المبدع في حال عدم تجاب (الجمهور ) معه … لأن
لعمل الإبداعي لا بد له من ثمة متلقين حتى ليكمل دورته الطبيعية تلك … و مثلما
ذاع حيث الرصافي في أرض كنانة و في كل أرجاء الوطن العربي … فقد ذهب كاظم
الساهر إلي مصر كي يصقل ميلاده من جديد حيث كَتَبَ عنه الناقد المصري مفيد فوزي
قائلاً : (إن الساهر هالة من الإبداع و تجربة ينبغي الالتفات إليها ) فكان هذا
الرأي بمثابة الفتح الجديد و الحلم الذي لطول ما انتظره الساهر.
يدك التي حطت علي كتفي
كحمامة نزلت كي تشرب
عندي تساوي ألف أمنية
يا ليتها تبقي و لم تذهب
أنا ساهر و معي يد معك
بيضاء ها الأشهى و ها الأطيب
و دخل كاظم جمهورية نزار قباني ليُتحف إيانا بالعذب … المشتهي … و لكأنه خبر
مفتاح التفرد و أين هي موضوعة و يا للجمال … حينها تتوحد المفردة مع الإحساس في
تلاقِ حميم (مدرسة الحب ) (قصة حبيبي) (قولي أحبك) و يزداد النجم في الائتلاق
ليصنع البهره والإدهاش .
و هنالك ثمة وقفة في تعامل الساهر مع الشاعر نزار قباني و لماذا نزار بالذات ؟
نعلم أن نزار كشاعر … كان هنالك لقط و سخط كبيرين عليه من جراء تمرده علي
المألوف و اختراقه لجدارات السائد إلي المفارقة و الاختلاف في زمانه … لقد أتي
بالا مألوف في نصوصه و أحدث انقلاباً علنياً علي شكل القصيدة المتعارف عليها و
مضمونها … مما حدا ببعض النقاد إلي اعتبار قصيده لا تعدو في أن تكون مسخ شائه
في الشعر العربي .
إننا نقول إن الساهر إلي القصيدة النزاريه بذوقه و حسه الرهيف و اجتهاده
الفردي في تغير (بواصل)
الأغنية العربية التي دهست في تيه الغث و الممجوج .
وهنا لا نجد بداً غير الاستشهاد بما ذكره ميشيل نبيون … (Michael Bin yon)
في مقال له بعنوان ((نداء بغداد)) في صحيفة التايمز :-
((….His Song Is About Nostalgia –Love – loss – Pain & Longing .
His most famous are based on the poetry of Nizar Qabbani the celebrated
late Syrian
Poet whose mastery of Arabic old man rich vocabulary stirs profound emotion
.
Such lines as:
,, my love dance bare foot al at the entrance of my veins ,,
AND ,, tell me you love me , so that my fingers will become as gold ,,
ربما اتجاه الساهر لنزار تحديداً هو لأنه وجد فيه ضالته و مشد مبتغاة … فبالرغم
من السخط الذي جُوبه به نزار إلا إنه قَدر أن يحفر اسمه في ذاكرة القصيدة
العربية ... و أن ينتزع الاعتراف به كشاعر غير مسبوغ المقال شاقاً عصي
الفراهيدي متحلحلاً عن سطحية المضامين التي كانت تسكن روح القصيدة العربية .
و لربما تحققت هنا نبوءة الناقد مفيد فوزي عدما قال عن الساهر أنه هالة من
الإبداع و شعلة موهبة لإتطفأها أعاصير الرفض لما هو مغاير غير مألوف .. فكاظم
له قدرة عظيمة في الانتقاء والتلحين و تميز الأداء وكل ذلك لا نجده الآن في
مغنين الميوعه اليوم .
إن حركة الإبداع لها وثيق الصلة بالحياة العامة و ما يعتورها من مجمل عوامل
اقتصادية و اجتماعية و سياسية هذه العوامل دوماً بظلالها علي مطلق إبداع … لذا
نجد -* كما كانت المجتمعات تعاني من إشكالات سياسية أو اقتصادية *- نجد أن حركة
الإبداع تتراجع تبعاً لذلك و حينها يصير الإبداع الراقي العميق استثناء في سوحٍ
يسود فيها السائد و … المطروق و المجتر … فبتشابه المنجز الإبداعي لكأنه صادر
من شخص واحد … و يعجز أصحاب المواهب الضئيلة عن الخلق و الخروج عن المعتاد و
تبدو مهمة الإبداع هنا جد صعيبة و تكون الإشكالية هنا مزدوجة … إشكالية الذوات
التي تبدع من جهه … و إشكالية العوامل المتذكرة آنفاً من جهة أخري … هذه الحالة
… هي التي يمكن أن نضعها كتوصيفاً لحالة المجتمعات العربية … أزمات سياسية ..
مقاساة و بؤس ..و تردي اقتصادي ..تراكمات هزائم .. و إخفاقات علي كافة الصُعد و
عجز تام عن تقديم أُنموذج متكامل لمجتمع داقٍ … متعافٍ للعالم .
كل هذا انعكس علي فن الغناء و زاد من ضحالته (شنكوتي) (آه و نص) و هل من داع
للغوص في هذه الأمثلة ؟
إن الساهر قد تأثر كثيراً بالظروف السياسية و الاقتصادية بالعراق تحديداً(حرب
الخليج الأولي و الثانية) وانعكست تلك الإختزانات المحزنة الدامية علي نتائجه
الفنية و هذا لا يعني أن الأزمة هي التي أفرزته و عرفته إلي الناس فالأزمة لا
توجب الموهبة و النبوغ الإبداعي لأنهما الاثنان (الموهبة و النبوغ الإبداعي)
يكونان موضوعان في الإنسان منذ التكوين أي سلفاً فيه قبل أن يلوث … ولكن هنالك
الانفعال و التأثير فالساهر كظاهرة استطاع بوعي اختراق ما يمكن أن نسميه
الفضاء المعتاد … نائياً بفنه عن ضآلة التجربة و الهشاشة فصار الاستثناء بما
يقدم من تجربة واعية ناضجة تغوص في العمق و المستتبع لمسيرة كاظم الفنية يلحظ
ذلك التفرد و العمق سواء أكان ذلك في انتقاء المفردة أو التلحين أو الأداء ،
وخير شاهد علي ذلك تعاملة مع الشاعر الفذ غازي القصيبى (أبحث عنك)و قصائد نزار
قباني .. وأغانيه الأخيرة عن الحرب في العراق مثل (الحرب انتهت) التي أداها مع
المغنية الأوبرالية سارة بريتمان … و ( نريد السلام) مع نجم الروك ليني كرافبتز
هذا فضلاً عن (تذكر) و (آه و نص) و (كثير الكلام) …و أخرها رائعته التي تفطر
ألماً و يتفطر معها هو إحساساً صادقاً..
(أطفال بغداد الحزينة يسألون بأي ذنب يقتلون) للشاعر المصري فاروق جويدة.
إن عملية التحكم في ذائقة المتلقي … هي عملية عسيرة لأن ذلك يعود إلي العامل
الثقافي و الوعي لديه … وعوامل أخري أيضاً .. و لكي يتم تهذيبها – أي الذائقة –
فهذا يحتاج إلي مشروع توعية واسعة النطاق ما نريد بذلك هو أن الذائقة اليوم
تتجه نحو الغناء الضحل .. و الفن المبتذل … و هذا ما يجعل أي محاولة خروج عن
ما ارتكن طلية الناس و اعتادوه … وهي مجازفة غير مأمونة العواقب .. وهنا يكون
الغناء الجاد ..الراقي الرصين هو للصفوة و القلة القليلة من الناس حصرياً …
فتزداد معدلات الأمية و الجهل في كل شئ .. وتنحط المجتمعات من درك إلي درك في
العمى و الجهل و كل ذلك يرجع إلي الوعي .
ما دعانا إلي قول ذلك هو إن تجربة كتجربة الساهر يجب أن تكون هي السائدة في
المجتمعات و ليست الاستثناء.
إن بوابة الإبداع سوف لن توصد أبداً طالما الإنسان هو محور الإبداع و
موضوعه … و ستظل مشرعة هكذا للذي بيده النظر خلف الأشياء و الانفعال و التفاعل
مع الآهات الحزينة أو النفسات الراضية … الســــــــــــــــــــاهر مبدع جدير
يتلقي ما يبدعه .
موسي البحر
musabhr@hotmailcom