استيف وأفلام الكاوبوي
هلال زاهر الساداتي - القاهرة
وتتري الذكريات متلاحقة من آن لآخر تجسد لنا ما مضى من مشاهد حلوة وتجارب جميلة طالما سعدنا بها فقد كانت الحياة سهلة بدون تعقيد ومنسابة في هدوء كانسياب النهر دون جنادل تعترضه في مسيره , وكانت النفوس عامرة بالصفاء وكان البال خالياً من الهموم وكان الحب يحتضن القلوب .. تلك الأيام قد خلت وهيهات هيهات أن تعود ! كانت تسليتنا هي الذهاب إلى السينما في آخر الأسبوع أو دخول دار الرياضة بأمدرمان لمشاهدة مباريات كرة القدم فلم يكن هناك تلفزيون وكان الراديو يقتنيه قلة من الناس , وكانت السينما الوحيدة في أمدرمان قبل أن تنشأ السينما الوطنية هي سينما برمبل أو سينما قديس وهو أسم صاحبها القبطي السوداني وكانت تقع في الميدان الواقع شرق مبنى بوستة أمدرمان الآن والذي تشغله حالياً موقف حافلات الخرطوم وسيارات أمجاد وعربات بائعي الفاكهة ومنظفو الأحذية . وكانت سينما قديس رائعة تمتاز بالنظام والنظافة وبعرضها للأفلام الجيدة من مصرية وأمريكية وهندية , وعلى ما أذكر أنه كان هناك ثلاث درجات هي اللوج وبه أربعة كراسي وهو بجنيه واحد وكان يشغلها كرام العائلات من السودانيين والأجانب وبه أربعة كراسي ويمكن إضافة كراسي إليها نظير خمسة وعشرين قرشاً للكرسي الإضافي والدرجة الأولى وتذكرتها بعشرة قروش ودرجة الشعب وتذكرتها بخمسة قروش أو شلن وهنا يجلس الرواد على كنبات من الخشب قريباً من شاشة العرض وكنا كطلبة في الثانوي مقرنا الدائم في كنبات الشعب ثم عندما توظفنا تحركنا إلى درجتي الأولى فاللوج .. وكانت احب الأفلام إلى الشعب هي أفلام الكاوبوي أو كما يقولها العامة الكايبوي وهي أفلام رعاة البقر الأمريكية أو ال Western , وكذلك أفلام يوسف وهبي وكان أشهر فيلم مصري نال إعجاباً منقطع النظير هو فيلم عنتر وعبله وبطلاه الممثلان المصريان سراج منير وكوكا واستمر عرض هذا الفيلم مدة طويلة تلبية لرغبة الجمهور ولقد شاهد البعض ذلك الفيلم كل ليلة وكانوا يحفظون ويرددون أجزاء كثيرة من حوار الفيلم حتى أنه كان هناك شخصية معروفة من الشعب حفظ حوار الفيلم كله عن ظهر قلب وكان الناس يستدعونه ليحكي لهم الفيلم فيفعل ذلك وهو يشخص مندمجاً في الأدوار إلى حد الإعجاز .. وأما أفلام الكاوبوي فقد كانت مفضلة لدي الأكثرية من الرواد وكان هناك ممثلون مشهورون يقومون بدور البطل في هذه الأفلام ومنهم جاري كوبر والآن لاد وجاك بالانس وجون وآين وكانوا يعبرون عن إعجابهم الشديد عن البطل أو الفيلم بقولهم (( ده كايبوي غوى )) أي كاوبوي قوي أو (( الفيلم بطله كايبوي وسخان )) وكل قصة فيلم كاوبوي تدور بين البطل والخائن وتنتهي بمبارزة بالمسدسات يقتل فيها البطل الخائن بعد أن يقضي على عصابته ويكون الكاوبوي البطل دائماً سريعاً وماهراً في استعمال المسدس وإصابة الهدف بدقة . وبلغ هوس الإعجاب بالكاوبوي أن صار البعض يقلدونهم ومن هؤلاء بطلنا السوداني الذي سأحكي عنه فهو شاب في العشرينات من عمره طويل القامة معتدل القوام قوي البنية وقد اشتهر في حي الموردة وفي مدينة أمدرمان باسم استيف واستيف هذا كان اشهر كاوبوي في السينما , وقد فصَّل بطلنا بنطلون ضيق من قماش يشبه قماش بنطلون الكاوبوي وتمنطق في وسطه حزاماً جلدياً عريضاً مرصع بحلقات معدنية وارتدى قميصاً خاطه بما يشبه قميص الكاوبوي واشترى حذاء (( بوت )) ولا أدري من أين جاء به ولم ينقص لبسه سوى قبعة (( كاسكتة )) الكاوبوي العريضة والمسدسات وطبعاً الحصان .. ولعله لو أدرك سوق ليبيا الذي يباع فيه كل شيء ويعمل فيه أي شيء حتى دق زبيبة الصلاة على جبهة المرائي , لاشترى منه مسدساً حقيقياً !وكان في مشيته يقلد مشية الكاوبوي المميزة , كما أنه عوج لسانه ببعض الكلمات الإنجليزية وصار يتحدث بلهجة الكاوبوي , ولكن استيف السوداني كان مسالماً ولم يدخل في معارك مع أحد واكتفى من الكاوبوي بهيئته دون أفعاله .. وأخذ الشاب يمثل دور الكاوبوي بكل اقتدار وغطى اسم استيف على اسمه الحقيقي وكان يجد متعة في تقمصه لهذا الدور , و أصبحنا ذات يوم وافتقدنا استيف في الحلة ولم يبن له أثر بعد ذلك , واغلب الظن أنه وجد طريقة للذهاب إلى أمريكا حيث حقق حلم عمره والتحق بالكاوبويات الأصليين في الغرب الأمريكي . ومن المصادفات الجميلة أن التلفزيون المصري عاد إلى عرض أفلام الكاوبوي مرة أخرى والتي لها معجبوها ولا اخفي أننا كنا في صبانا نستمتع بهذا النوع من الأفلام ولا زلت فقد كان الكاوبوي البطل يمثل لنا قيمة سامية وهي الدفاع عن الضعفاء والتصدي للأشرار والانتصار للحق ..
وشتان بين الكاوبوي الأمريكي القديم والكاوبوي السياسي الجديد الذي يدوس على القيم ويعتدي ويدمر !!